علي البزّاز
كاتب وباحث عراقي
نشرت جارتي الهولندية “ياوكا” استغاثةً تلو الأخرى في أثناء الحجر الصحي، تطلب من الآخرين الاتّصال بها هاتفيًا، “ابتغاءً للحديث والسّرد وتداول المشاعر.. فأنا لم أتذوّق كلامي ولم أجربه”! ما جعلني أفكّر بموضوع “السرد والعيادة” وخاصة، تعني كورونا العيادة عن جدارةٍ.
تتضمّن البنية الدرامية للكلام المتحوّلة والمتلوّنة كالحرباء السرد، ما يجعل كلّ كلامٍ بما فيه الحديث اليومي قابلًا للسرد، ومستعملًا لتقنياته، إن توافرت الشروط له، مثل الحكاية والموضوع والرغبة في الإخبار والتوسّل بالاستماع والإقناع. فلا سرد من دون الرغبة في الروي، أو الإقناع، أي التواصل. السرد كما الكلام، يعني التوالي، التتابع في سلسلة من الدفقات. وأي إخلال بذلك، يُخضع الكلام إلى شبهة نقص العقل أو عدمه (الحُمق، السفه والجنون) وبالتالي إلى مفهوم العيادة. يقود الحرص على التتابع والتوالي إلى الإقناع؛ يقدّم المحامي قرائنه على شكل حكاية متسلسلة، والقاضي يسمعها، مثلما يسمع المُحلّل النفسي الكلام، وعلى ضوء التتابع أو ترتيب الحكاية (الإقناع)، يصدر كلّ من القاضي والمُحلّل حكمه بوصفه سلطة(2). يحبّ المرء بطبيعته الحكايات مهما كان منصبه، كما ويشدّه ترتيبها وفقًا لرغباته، وهكذا، نحكم بشروط الكلام ونحتكم إليه، ثمّ إلى توصيفات الحكاية والسرد، (التي أصبحت متجاوزة كما نبين ذلك لاحقًا)، نبرهنُ حينئذٍ على عدم كفاية درايتنا بالبنية الحربائية للكلام، الفاعلة في النفس والأدب والعمارة حتّى، كما بقولنا عن بناية جميلة “إنّها ناطقة”.
نحن لا نملك للأسف تجربة تفصيلية وشاملة مع كلامنا؛ نتكلّم وكفى.
عيادة يوميّة متجوّلة:
نعوّل على الكلام باعتباره مانعًا لزيارة العيادة، من خلال السرد والحديث اليومي، بما يشبه تنفيسًا عن الضغط؛ يقوم الكلام بعملية ترتيب تلقائي لذهن الإنسان، محاربًا إعاقته أو تشتيت نسقيّته، ما يشعر بأنّه معافى وصحيح من خلال تواتر كلامه.
تتمّ عملية التنفيس والتفريغ مع شريك -وسيط غالبًا-، فيشعر المرءُ بأنّه حيّ. لاحظنا في أثناء الحجر الصحي في أزمة كورونا، وحبس البشر في البيوت، حبسًا لكلامهم، بازدياد الإقبال على شبكات التواصل الاجتماعي، فحقّقت شركات الاتصال أرباحًا خيالية بسبب الكلام. لماذا؟ “عندما سجن المرء سجنت روحه وكلامه وتواصله معه، أي حُدّدت له صفات الموت مسبقًا، مُنعَ عن الكلام والقصّ والسرد.
يُعدّ شكل وطريقة الكلام من مُحدّدات العقل، هذا هو التشخيص السلبي والظاهري، وحجّة السلطة على المجانين (3)؛ يُستشفُ العاقلُ من كلامه المضبوط والتراتبي، وخلافه، أي عدم النسقية الكلامية، والتلكؤ وعدم تجميع الكلام، وخرق المألوف المجتمعي، كلّ ذلك، يعتبر تجهيزًا إلى مرحلة الجنون. وعليه، يعتبر الكلام هو الحلّ والعلاج من جهة، والمرض والعاهة من جهة أخرى، في صلة تعالق مُلتبسة، ومن هنا جاء شغل العيادة عليه. وما يهمنا في الجنون، هو لماذا تخاف السلطة من المجانين، وأين يكمن خوفها؟ والجواب، من كلامهم وتعبيراته وسلطته؛ انتقادات، سخرية، تمثيل كما في “أدب المجانين”(4) في التراث العربي، لا سيما وكما هو معروف ، بوجود حماية من نوعٍ ما للمجانين، ما يسمح لهم بالحرية الكلامية.(“في رواية دالّة أوردها المؤرخ ابن عبد ربّة عن بهلول متصوّف، عاش في فترة حكم المهدي، يقيم تمثيلية، يعرض فيها الخلفاء منذ الخليفة الأول إلى زمن المهدي ويحكم عليهم أمام جمهورٍ، يتحلّق حوله. كاشفًا عن:” مسار الصراع وعلاقة السلطة بالمجتمع في مرحلتي الخلافة الراشدية والأموية وشطر من الخلافة العباسية، بما يُشبه المحكمة الشعبية، المقامة في الهواء الطلق أمام الناس جميعًا، ينصب الصوفي المتجان قاضيًا يحاكم تاريخ السلطة باستحضار رموزها وبوثائق يقدّمها التاريخ نفسه. والشهود وهم الحشد المتقاطر ليسمع حكم الإدانة”(5). نستشف من ذلك: ثمّة سلطة رمزية للجنون ضدّ السلطة الرسمية، وهنا مكمن الخوف والتوجّس الرسمي من كلام المجانين، كما “يُهدّد” المجنون السلطة، على الأقلّ في التصوّر الأوروبي، بينما حظي بالحماية عربيًا بسبب ما أشاعت الثقافة الإسلامية من الرأفة والمُؤازرة. لكن ظلَّ الكلام في جانب ما تمييزًا للجنون وتهديدًا للسلطة أيًّا تكن.
(“.. بسبب المعاملة السمحة للمجنون في الثقافة العربية القديمة، فإنّ ما تجب الإشارة إليه هو، أنّ ثمّة فئات تهتم بالمجنون. أو بالأحرى يجذبها المجنون، وأولهم الصبيان الذين: “يولعون بتتبع المعاتيه ولوعًا منقطع النظير…إلخ، ولكن فإنّ الراشدين: “لا يرضون أن يعبث الصبيان بالمعتوه بل تراهم يهبون إلى نجدته على نحو من الأنحاء…إلخ” وتؤدي الشريعة الإسلامية في هذا المجال دورًا رئيسًا، وذلك أنّها تمنع قتل المجنون أو معاقبته بحكم فقدان العقل) (6). وكما قال فوكو” لقد كان المجتمع العربي على سبيل المثال، مجتمعًا متسامحًا جدًا مع المجانين، وفي القرن السادس عشر أصبح المجتمع الأوربي غير متسامح كليّة مع المجانين”.(7)
ألا تُعتبر”سفينة الحمقى”، هي أوّل نواة لمستشفى الجنون في أوروبا في القرن السادس عشر؟ بينما انتشرت البيمارستانات (المستشفيات) قبل ذاك التاريخ بكثير في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية. ومن “سفينة الحمقى”، وبدءًا من تاريخها، سيكون اهتمام السلطة في أوروبا بالمجانين وكلامهم.
إنّ السلطة -ولعلّة في بنيتها- هي التي أنشأت الأساس الأوّل للعيادة، الذي يعني عدم السماح بتجاوز المنطقة الفاصلة ما بين المسموح والممنوع، إلّا بجواز رغبتها، فأسهمت هكذا بتوسيع خطاب العيادة، ليشمل الأديان والفنّ والأدب والمجتمعات بل وحتّى العلم. فالكلّ قابعٌ لا محالة في المنطقة المُحرّمة، ومجهزٌ ذاته للعيادة بقدرٍ ما. لا مفرّ من منطقة التجاوز- المأزق؛ وهي قدر الإنسان، وفي الآن ذاته تدفعه إلى العيش بسعادة، أو إلى النكوص والمرض. لم بّنيت المصحات والسجون وسُنت القوانين؟ بنيت للمرء عملانيًا، ولكن رمزيًا إلى منطقة التجاوز تلك، فلم تبن بوصف الإنسان كفرد فحسب، إنّما كتطلّع وثورة وكتغيير وليس هذا فحسب، بل أسهم المصنع والمدرسة والتعليم والآداب والأديان، ماديًّا ورمزيًا بالعيادة، إضافة إلى الدولة بمؤسساتها من الشرطة والأمن والجيش، ما يجعل المرء في دورة من النكوص والاكتئاب، غداة التفكير بمجاوزة تلك المؤسّسات.(8)
في قصة” العنبر رقم 6 :”…حين يمرّ الدكتور أندريه أفيمفيتش بالعنبر، يدهشه أن يلتقي بواحد من المرضى ليكتشف أن هذا المريض ذكي واع، ومطّلع على أحوال العالم، حتى وإن كان يعاني من عقدة الاضطهاد. يصبحان صديقين، فيخوضان في مساجلات وحوارات متشعبة. ذات مرة يمر بهما مساعد للطبيب، ويفاجأ بهذا الحوار بين الطبيب والمجنون… ويستنتج من هذا أن رئيسه صار مجنونًا بدوره، إذ هل يمكن أن يتحدّث إلى مجنون سوى مجنون مثله”؟
وإذ ينقل المساعد هذا الخبر إلى الإدارة يكون موقفها مشابهًا لموقف المساعد، ما يجعل الطبيب، يُقدم على الاستقالة ثم بعد أحداث عدة ومتنوّعة، وبعد تصرفات من قبل الطبيب باتت تؤكّد ظاهريًا على الأقل ما يذهب إليه مساعده والإدارة. ينتهي الأمر به إلى أن يودع بدوره في العنبر رقم 6، كمريض هذه المرة… لا كطبيب، ففي ذهنية هؤلاء المسؤولين الريفيين لا يمكن لشخص أن يتحدّث بالعقل وبالحجة، وتحديدًا مع مريض مجنون، إلّا أن يكون فاقدًا عقله بدوره”.(9)
ألا يقود اختراق منظومة الأعراف والتقاليد والدولة، أكانت ديمقراطية أم ديكتاتورية، إلى العيادة؟ وما تعني عبارة “يغرّد، أو يكتب خارج السرب” سوى منطقة التجاوز التي تُهيئ الظروف لها، وتعني: الاختراق، التجاوز، عدم الترويض والجنون، وهذه من توصيفات السلطة- العيادة(10). ألم يُشخّص المبدعون بالعصاب والاكتئاب وبالجنون والعصيان؟
أينما يتّجه المرء فهو جاهز للعيادة، ناجحًا كان أم فاشلًا، وكل ما حولنا من قوانين وأديان وآداب تؤهّلنا إلى العيادة. ألا يعني الدواء والعقاقير واللقاحات، هي أساسات لقيام العيادة والقبول بها كفرض؟(11).
أُريدَ للإنسان منذ البدء أن يكون محكومًا وجاهزًا للعيادة، فالأساطير الأولى تُذكّره بعبوديته فحسب دون منزلة الآلهة، وقد سمحت لنفسها بالتلاعب بمشاعره، وجهّزته إلى المرض والخوف والخطر. الأديان مثل السلطة تجترح “أدبًا تأديبيًا” وتأنيبيًا، وسجلّاتها الثقافية ومصنفاتها التأديبية في: (المصحات والمشافي و”محتجزات” الطب النفسي والعقلي، حيث يجري تكميم الرغبات، وحجز الأجساد وصدّ الاندفاعات الحيوية وتحييدها، وحيث لا تعود السلطة مجرد “أنا أعلى” ميكروسكوبي، بل تتبدّد ميكروفيزيائيًا في كلّ تفاصيل معاش الكائن الاجتماعية، وفي جميع طقوس كينونته “فتستحوذ على الجسد، وتتملّكه وتنفذ إلى السلوك، وتمتزج بالرغبة واللذة” (12). وهذا الأمر لا يخلو منه الأدب حتّى، ألم ينظر “أدب الواقعية الاشتراكية” إلى أدباء” السريالية” باعتبارهم مجانين؟ يعتبر الأدب والأديان والفن سلطةً فرعية، أنتجتها السلطة الأعلى، والكلام بوصفه سلطةً شخصيةً، يُمارس دوره على الآخر مثلما تقتضي أي سلطة أخرى” ميكروفيزيائية الكلام”، والسرد باعتباره كلامًا مُرسلًا في التوصيف التقليدي، ليسا بمنأى عن العيادة والسلطة وفي حالة من التوافق مع شروطها.
(“… قد عمد دولوز وجتاري في كتابهما ” ضد أوديب” إلى مهاجمة مدرسة التحليل النفسي أشد المهاجمة في مسألة أساسية جوهرية، وهي ما أسمياه عبادة فرويد لمفهوم أوديب”؛ أي اختزاله للطاقة النفسية الجنسية -الليبيدو أو الرغبة- في نطاق ضيق محصور هو نطاق الأسرة، بحيث قصر فرويد الرغبة على الحياة الأسرية ثالوث: الأب، الأم، الابن.
وهذا تصور يرفضه المؤلفان ويدعوان، تلقاء هذا الرفض، إلى النظر إلى الرغبة نظرة أوسع وأعم وأشمل، أي النظر إليها من حيث كونها تسري، من جهة، في الجسد الاجتماعي بأكمله كرحالة لا يعرف الاستقرار؛ ومن حيث كونها، من جهة أخرى، تَعبُر جسد الفرد الواحد بأكمله من رأسه حتى أخمص قدميه.
وهكذا يتصوّر الكاتبان أن الحقل الاجتماعي بمجمله مجال لتجلّي الرغبة من حيث هي “سيولات آلية” مثلها في ذلك مثل الكهرباء تخترق آلة بأكملها فتبث فيها الحركة”).(13)
الكلام، كماهية وكرغبة، يتمركز حولها المرء، وهو وهي صلته بالوجود، باعتباره “مركزيًا” فيكون مركّبًا من صفاته ومُضافًا إليه صفات الرغبة، مُشتغلًا بأدواتهما في الحيّز الاجتماعي:
الحديث اليومي كرغبة وكتواصل واستثمار اقتصادي، كاستثمار الموبايل له مثلًا، فهو كموديل وكتقنية قائمٌ على الكلام أساسًا (وهذا ما ذهبنا إليه في دراسة “التليفون والسلطة”)، إضافة إلى استثمار الأديان والسلطة والآداب له، فلم يعد ممارسة يومية، بل سلوك كذلك؛ يرتبط بالاقتصاد والسياسة وبالأدب. يتمّ استعمال صفاته إذن كالتوالي والدفق والسرد، في الحقل السياسي والصناعي والأدبي. فكيف ينظر التحليل النفسي، سليل المدرسة الفرويدية للمجنون من طريقة كلامه، وبالتالي سرده؟:
حالما يجد المّحلّل الكلام غير نسقيّ في ما يخصّ تقنية السؤال والجواب عليه، متقطّعًا، غير مفهوم، أي يفحص الكلام من باب تقنيات السرد: فإنّ لم يكن الكلام سردًا متواليًا، فهو صادر من اختلال نفسي حينئذٍ ، وهذه نظرة نمطية للجنون وللسرد معًا متجاوزة، وتعني عدم فهم بنية الكلام تقنيًا(14):
إنّ البنية الدرامية للكلام متغيرّة ومتلوّنة كالحرباء بالضبط؛ تتوخّى من التوالي أو التتابع في الحديث- السرد، مفهومًا لها، كالحكاية أو نقل الأخبار، أو التوسّل بالإقناع أو إثارة الدهشة، كما لا يعني التقطيع أو التلعثم في الكلام أو عدم تجميعه مثلًا، توقّفًا عن الإيحاء والتعبير(هذا هو المهم)، لكنه هنا في شكل آخر غير مألوف سرديًا:
يعمل التقطيع أو البعثرة أو التلكؤ(هنّات)، على جعل الحكاية غير مطابقةٍ لشكل الكلام في اختلاف ظاهري ولكن في اتفاقٍ بنيوي درامي، أي يكون السرد- الكلام في تقنيات جديدة، يجهلها المحلّل، فيبدو التلعثم لديه في صورة عدم إقناع أو اختلال، ما يجعله يقع في فخاخ التوصيف التقليدي والمتجاوز للسرد، إن هو لم يكن ذا درايةٍ بالبينية الدرامية الحربائية للكلام. وهكذا، يصدر حكمه على الجنون فاحصًا إياه من الناحية السردية المتجاوزة، بينما الكلام هو إيحاء وكلّ إيحاءٍ يتوخّى المراوغة والمخاتلة، وفحص الكلام من دون بنيته الدرامية، مضرّ به وبالسرد معًا. فالكلام ينطق بكليَّانيته:
* اختلفت تقنيات السرد والرواية، فلم تعد الحبكة أو التتابع أو الروي المسترسل ذات أهميّة. وخصوصًا، قد غير الموبايل بوصفه السارد الأكبر في حياتنا، من تقنيات السرد، مستفيدًا من المونتاج السينمائي في التركيب والتقطيع والإعادة- التكرار، والاسترجاع- فلاش باك أسوة بعمل الذاكرة؛ فقدّم الكلام اليومي على أنّه سرد مختلف وجديد، مغاير عمّا تراه العيادة في الكلام المبعثر كدلالة جنون.
* نحن أمام تحوّل تاريخي وحاسم لتوصيفات الجنون والعقل والمثابرة واللامبالاة، يرفض التعالي والنمطية.
كرسيا السرد والعيادة، ومتى يُلتجأ إليهما؟ (15)
ينطوي كلّ نزوع بشري أو حيواني على التعبير، أكان بسبب الخطر أو الأمان؛ إمّا لدرئه أو لتعزيزه على التوالي، التعبير هبة وصفة بشرية وحيوانية بامتياز، ينوجد أينما يحلّ الخوف والطمأنينة، ولا تختلف تعبيرات الأول عن الثاني إلّا كإحساس وجودي؛ فالخطر ماثل ومتجسّد دائماً بخلاف الأحاسيس الأخرى، وهو إيجابيّ لديمومة الحياة، وإن حاز الموت. ينطوي الخطر ذاته على التعبير.(16)
يشي كلّ تعبير عن الحاجة إلى الاستعانة بشيء أو بوسيلة ما، ويمكن القول انطلاقًا من ذلك بتبعية الإنسان إلى الآخر سواء إلى العائلة أم إلى الأدب أم إلى الأحزاب والأديان. وهذه التبعية على البشر حصريًا. فلا تبعية لحيوان إلى آخر من جنسه أو مختلف عنه في وسائل تعبيره؛ إذ يعبّر تلقائيًا بطريقة حرّة، مقارنة بالبشر، إذ يبقى المرء تابعًا مهما كان طليقًا في معتقداته وأفكاره. يُلتجأ إلى التعبير حسيًا، وهو غير مستقلّ أصلًا، وهو ماهية مثل الكلام. من فينا يستغني عن التعبير؟ لا أحد! والكلام بما يحتوي من أفق درامي، يشمل وسائل تعبيرية متنوّعة ليست بالضرورة مفهومة كمنطوق أو كلغة، مثل الصرخة والتنهدات والنشيج، فهذه التعبيرات كلّها كلامية؛ لوحة الفنّان النرويجي إدوارد مونش 1892 والمسمّاة ” الصرخة” (17) يلتقي المرض والموت والخوف والخطر مع الكلام – السرد، عند وسائل التعبير، فالخطر، لا يُفهم أساسًا إلّا كتعبير، ينطوي على حالة نفسية أو بدنية؛ يستولي التعبير أكان فرحًا أم حزنًا على الشخص، فيقوم بدوره بإعطائه توصيفًا له مقروناً بالفزع أو الانشراح. الموت هو الآخر تعبير، يُستنبط من إحالات الهرم والملل والروتين والخريف. لولا الخطر لما عاش الإنسان ولما أبدع وشيّد، فهو مصنع من عِددٍ وأدوات لطالما استعمله الإنسان ورافقه في حياته. قامت الأساطير ولاحقًا الآداب والأديان بأدلجة أقدم صفة (الخطر)، وقدّمته مرضًا ينبغي معالجته، وموضوعًا، لا يزال يتمحوّر حوله البشر متوغّلة فيه أكثر من الفنون والآداب، فوصفته في تعليمات وكتب. استحقّت الأديان عن حقّ “أدب العيادة”(18) وذلك لاشتغالها على الخوف والهلع والموت وترويجه كوجود معوّض عن الأرضي، بشرط “التقوى” والصلاح والبرّ لكل ما هو ديني، ويكفي المرء أدبيات الجنّة والنار، كي يُصاب بالهلع والخوف، ما يجعل أمره سالكًا نحو العيادة، مهما كانت صفته ، مؤمنًا أم لا. أولت الأساطير قبل الأديان، اهتمامًا بأدب العيادة، من خلال الحكايات والروايات؛ جحيم العالم السفلي، عالم الأموات ورؤيا أنكيدو في أثناء مرضة، إضافة إلى وقائع العقاب الجماعي، من بينها ” الطوفان” وإرسال الأوبئة والأمراض إلى البشر، وهكذا، يرى المرء نفسه مُحاطًا بأسباب العيادة. فلو ارتضت الأديان أن تكون أدبًا فحسب كما الملاحم، لأمكن تفسيرها جماليًا كأدب، وبالتالي تحمّل عقوباتها وترهيبها كأدب، وهو ما ترفضه الأديان، فيحلّ الهلع على هذا المنوال مركبًا، كأساس ديني مُقيَّدٍ ومقيِّدٍ رافضًا التحويل، بينما يمكن تحمّل الفزع في الملاحم، (وهو هائل طبعًا)، عن طريق تحويله، وجعله رؤوفًا مستساغًا لأنّه أدب فحسب. وعلى أيٍّ، فنحن في معاشرة يومية للفزع دينيًا وأدبيًا وككوارث وأوبئة، علاوة على ما تنتجه السلطة من أهوالٍ.
قد تغيّر مفهوم الإنسان في الأساطير (ورثت الأديان جزءًا منه غير المتحوّل وهو العبد)، بعد حادثة “الطوفان” من العبد إلى السيّد، فلم تعد الكارثة التي كانت الآلهة تهدّد بها البشر، هي المأساة في جانبها التراجيدي الضار والقاتل، إنّما تحوّلت إلى استثمار في الوجود منتجة شكلًا جديدًا منه؛ كان يعني الطوفان الفناء، ولكنّه أسهم رغم ذلك بنقل الإنسان من طور العبودية إلى الحرية وامتلاك المصير. بينما اجترحت الأديان لمفاهيم من مثل الجنّة- السعادة، النار- المأساة، تصوّراتٍ غير متحوّلة وكأنّها مدونات وسجلّات عقائدية غير أدبية، والأنكى، تتّسع تلك الإكراهات وتتمدّد ضمن البنية الواحدة ولا تنتقل من طبقة إلى أخرى، فهي نظام مغلق من الأوامر والنواهي والعقوبات.(19)
إن بذرة الأدب والفن الموجودة في الحياة وفي المفاهيم، القابلة بالتحوّل والساعية إليه، لكفيلة بجعل الدولة والأجهزة والمفاهيم تتحوّل وتتغير اقتداءً بها، من حالة سياسية إلى أخرى ومن موديل إلى آخر، “الحياة تُقلّد الفنّ” كما قال أوسكار وايلد؛ تحوّلت الأساطير بما كانت تحمله من مفاهيم السعادة والموت والعبودية والطاعة، إلى أدبٍ لأنّها لم تقاوم صفة الفن في بنيتها، وكلّ شيء، يكمن الفن فيه ، فهو متحوّل وحديث، والفنّ والتحوّل هما ما يميزان مفهوم الحديث عن الجديد، وكما قال غوته “الكائن الذي لا يتحوّل مصيره الزوال”.(20)
تُزار العيادة من أجل التعبير (الكلام- السرد) بعد الاستسلام إلى تعبيرات الخطر- المرض، مثل السأم والكآبة والإحباط. تشترط العيادة الكلامَ توصيفًا للحالة وتنفيسًا عن الضغط النفسي معًا، فلا يُقبل الشرح كتابيًا أو عن طريق المراسلة، وذلك من أجل بناء علاقة معينة مع المريض، فيتكلّم واصفًا أزمته. تُبنى العلاقة على أساس الكلام وتعبيراته، حالما تظهر على شكل المريض كحركات على الوجه واليدين، التي تتطابقُ غالبًا مع الكلام وتعبيراته كالنشيج والبكاء والتنهدات، في صورةٍ تعطي توصيفًا دقيقًا، بما يجعل العلاج مبنيًّا على الكلام أصلًا: المحلّل يسمعه، ثمّ يرى تعبيراته على المريض كحركات أو كسيماء، وبالتالي يصفه مستنتجًا إياه من الكلام- السرد، وأحيانًا يكون التداوي بالكلام وتعبيراته، مثل الصرخات والبكاء والتنهدات، وهي تعبيرات كلامية. وعليه، يوفّر الكلام وتعبيراته علاجًا عن طريق السرد. ألا يتمّ العلاج بالموسيقى (تعبيرات صوتية ذات علاقة بالكلام) وبالرقص (تعبيرات حركية للكلام)؟ نعم يحصل ذلك، وهو علاج القوّة الناعمة متفوّقًا على الأدوية والعقاقير.
العلاج بالسرد، ترويحًا للنفس وانتقامًا من السلطة:
لماذا يزور الشخص حلقات السرد والحكايات؟ كما في زيارة الملك شهريار يوميًا (إدمان) إلى شهرزاد.
الغاية هي الاستماع والاستمتاع بالقصّ وبالحكايات، ثمّ التعبير من خلال ذلك عن حالاته الشخصية أو مطابقة وقائع حياته مع الحكايات، أو تمنيّ السعادة والجاه والمال والرجاء لمستقبله كأبطالها، يجد ذلك كلّه متاحًا في الكلام- السرد، كما ويجعله الاستماع مشارِكًا ذا قيمةٍ ومتكلّمًا على الرغم من أنّه لا يتكلّم فعليًا، لكنّه يتفاعل مُعبّرًا عما في نفسه. طبعًا سيكون المستمع في تبعية السارد، غير أنّها تبعية إيجابية تفاعلية باتجاهين، وقد يصبح المستمع ذاته ساردًا في وقت ما، بخلاف تبعية المريض من جانب واحد إلى العيادة. تُنظّمُ التبعية الإيجابية في حالة السارد ومستمعيه، والتبعية السلبية في حالة الطبيب ومريضه علاقةَ المعنيين بالسلطة وبالسرد معًا، كما وتحدّد شكلَ السرد- الكلام، وشكل الجلوس للطبيب وللسارد (الكرسي)، وهو بمثابة درء الخطر أو تعزيزه (كان الملك شهريار يشعر بالخطر، فعملت شهرزاد على تعزيزه لديه، وهكذا وجد في حكاياتها ملاذًا له، ما جعل سلطته رؤوفة؛ تصوره الحكايات مسترخيًا ومتبسّطًا في جلسته خلافًا لسلطته الرسمية عند مجلس الحكم، قاده ذلك إلى زواجه بها كما يشاع)، على شكل احتفالية في الحالة الأولى (السرد) أمّا في الثانية (العيادة)، فغابت خلف التستّر والسرية نوعًا ما؛ فلا المعني يريد المشاركة في المجتمع بكونه مريضًا ولا الطبيب باعتباره طبيبًا، على خلاف ما يظهره أقرانه من الأطباء من حظوة وإشهار لذواتهم في المجتمع.
“… إنَّ راوي الحكايات كان يجلسُ فوق كرسيٍّ على قارعة الطَّريق، والناس تتحلَّقُ حوله، ثمَّ يشرع برواية الحكايات قبل غروب الشَّمس. وليس من الواضح ما إذا كان يتلقَّى أجورًا على ما يرويه، كما هو الحال مع الرُّواة الرُّومانيين. ولكنْ من المحتمل أنَّ الناس كانت تتبرَّعُ له طوعًا، كلٌّ بما يستطيع. ومن الثابت أنَّه كان يبيع النُّصوص المكتوبة بأثمانٍ مرتفعةٍ في بعض الأحيان. وهنا نلاحظ نوعًا من المفارقة؛ فالحكايات المسموعة مجانيَّة تمامًا، في حين أنَّ الحكايات المكتوبة ذاتُ أثمانٍ باهظة.(21)
في جلسة الحكواتي أو القصّاص، وهو في الوسط والناس متحلّقون حوله، ما يشي بالحميمية والصداقة، فيكون الكلام شفيفًا صادقًا ليس فيه إكراه أو إخافة؛ يكون تداوليًّا ما بين الجميع. يقود تداول الاستماع والكلام في ما بينهم، إلى نوعٍ من التشاركية في السلطة بشكل جماعي؛ إذ يفرض الكلام ذاته بوصفه سلطةً متاحة ومتداولة ما بين الجميع، شكل الحلقة الدائرية المحيطة بالراوي أو بالحكواتي، والناس من حوله (22) ، ثمّ يعيّن بدوره نوع وحجم السلطة ما بينهم. يؤدي السرد، إلى ما يشبه السيطرة الإيجابية على المستمعين، “النوم المغناطيسي”، علاجًا وعوضًا عن العيادة، في تنفيسٍ عن الغبن الاجتماعي (السلطة)، وفي ترويحٍ عن الرغبات والأهواء، بما يسمّى “العلاج بالسرد”، وذاك ما فعلته شهرزاد مع شهريار.
كان شهريار ملكًا، لكنّه نسي بسبب الحكايات أنّه الملك؛ تطبّب بالسرد وبالنسيان إذن؛ نسيان ذاته وسلطته، بمعنى: تحتاج السلطة أيّا تكن إلى الحكايات والقصّ. يمثّل الراوي العيادةَ الإيجابية إذن، مزيحًا عن ذهن جلسائه الصورة النمطية لكل من المرض والسلطة معًا في الآن ذاته.
يستسلم المريض كلّيًا في أثناء العلاج حتّى في شكل جلسته، متمدّدًا أو جالسًا، في استجابة لشكل الأعزل. الطبيب أكان واقفًا أم جالسًا في خلافٍ مع السارد الحكواتي(23) ؛ وهناك بعض القصّاصين مَنْ يستجيب لطلب مستمعيه بتغيير وضعيته، من الجلوس إلى المشي أو الانبطاح، أو يقوم بتمثيل ما يرويه شكلًا وصوتًا، في مشاركة مع جُلسائه(24)، بينما لا يوجد ذلك البتة في العيادة التي -والأنكى- كلّ من يزورها هو مشتبه فيه عقليًا، ناقص الأهلية، فلا يُعطى السلطة أو يشترك بها، أو يسألُ قسمًا منها. الطبيب وحده ذو السلطة وفي اتّجاه واحدٍ، وأحيانًا يكون في تعاقد مع رأس المال.(25)
يكشف دولوز عالم بروست من خلال إشارات الجنون التي تُحرِّك أبطاله، هو غير مشغول بكشف حقيقة ما إذا كان بروست مجنونًا أم لا، فهذا لا يفيده بشيء. يدرس شخصيات أبطاله، فإذا كانوا مجانين، تحقَّق الجنون حينئذ في شخصية بروست استعاريًا بحسب تحليل نظام العلامات. “منذ الظهور الأوّل لغارليس ونظرته غريبة، وعيناه أشبه بعينَي جاسوس، لص، تاجر، شرطي أو مجنون”… نعوت غير مستقرّة في تحديد كنه الشخصيات توحي بارتباك شخصية جارليس. لقد تمّ فرض هذه الأوصاف من طريق الراوي الذي أشاع حضور الجنون في توصيفاته لجارليس، فهو مشارك في هذا الجنون هكذا، ممهَّدًا بكلماته لإشاراته في وصف العينَين بعينَي لص أو تاجر. (“مَنْ هو هذا الراوي، الغيور على إلبرتين، والمؤوِّل لغارليس؟ نحن لا نعتقد أبدًا بضرورة التمييز “بين الراوي والبطل باعتبارهما ذاتَين: ذات تتملّك القول وذات يتملّكها القول”)، في معنى أن هذه الأوصاف هي شخصية الراوي ملقاة على سيكولوجية غارليس، وبالتالي على شخصية بروست نفسه.(26)
نحن هنا أمام عيادة في كل مكان(27)، تستثمر الكلام والسرد والعقاقير، أسوة بما فعلته الأساطير والأديان والآداب، ذلك الفعل، قد وجدت فيه السلطة غاياتها، بوصفها مستثمرة للكلام وللعيادة.
إشارات وملاحظات:
إشارة 1
قد تأسّست سيرة كاملة لرواة الحكايات (لا نعرّف سوى النزر اليسير عن سيرة المُحلّلين النفسانيين)؛ تشرح آدابهم وطريقة عيشهم، ما يسمّى بأدب السيرة، وقد تناوله التراث العربي في كتب “السيرة النبوية” وغيرها، وعليه، ثمّة مكانة بارزة لها، بحيث يتمّ الرجوع إليها والاستشهاد بها دائمًا، ما يقود إلى السؤال التالي: هل كان للرواة منزلة اجتماعية وأدبية، بحيث تتابعهم كتب السير، فتجعل منهم مؤلفين؟ والجواب، نعم، وإلّا لما كانت تلك الكتب تنظر إليهم في شأن عظيم، وفي مستوى من المقدّس أحيانًا. اكتسبت شهرزاد مكانتها من كتاب “ألف ليلة وليلة” ونال ابن عباس، منزلة رفيعة محفوظة له كراوٍ أدبي وكمؤرخ دولة، وحمّاد الراوية مثله. وليس الرواة فحسب على قدر الأهمية والانتشار والاحترام، بل أصبحت عباراتهم، التي قيلت شفاهيًا (كلاميا)، أساسًا يُحتكم إليه في الفقه والتراث والأدب من أمثال “حدثنا فلان عن فلان” أي “العنعنة”، “بلغني أيّها الملك السعيد”، والعبارة الشهيرة “قال الراوي”. أمّا عبارة قيس بن ساعدة “أمّا بعد” أفلا تعني الروي والقصّ؟ باعتبار أنّ ثمة شيئًا قد قيل أو حدث سابقًا، وعليه، ارتأى قيس بن ساعدة، البدء من حيث انتهى ذلك، وكأنّه ينطلق منه، أو يستعمله كإيجاز لما يريد قوله. وهكذا، فنحن أمام كتب سِيَرٍ للرواة كأشخاص وكمبدعين من حيث طرق استعمالهم لأساليب الروي إبداعيًا، أي أسلوب كلامهم عند الروي.
إشارة 2
أوّل من قال أمّا بعد:
(“لم يتم الاتفاق على أول قائل لعبارة أما بعد، فقد وصل عدد من يُعتقد أنه قائلها لأول مرة إلى سبعة أشخاص؛ وهم آدم، وداود، ويعقوب عليهم السلام، بالإضافة إلى قس بن ساعدة، وكعب بن لؤي، ويعرب بن قحطان، وسحبان بن وائل، أما عن كون أول من نطق بها آدم عليه السلام فيمكن تعليل ذلك بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (28)
تنال عبارة واحدة، قسمًا كبيرًا من الاحترام والنقل والروي، ما يجعلها أساساً لتأليف كتابٍ حولها، والمراد هنا، هو إعلاء شأن الكلام، بسبب قيمة الأشخاص المنقول عنهم، أو الذين أُلحقوا بالكلام، والعكس صحيح؛ إعلاء لمكانة الشخص من مكانة كلامه، الذي أصبح توثيقًا وتاريخًا وحكمًا لاحقًا.
إشارة 3
الرواة كرماء بمثل كرم الكلام؛ فهم لا يشترطون المال مقابل الروي، بل إشاعة ما يسميّه باختين “المبدأ الحواري”(29). بينما عندما تصير الحكاية- الكلام مكتوبة، يُشترط وجود المال حينئذٍ. أي يدفع المال للمكتوب وليس للمحكي، فلا يدفع للنصيحة والاستشارة.
الهوامش
العنوان هو استعارة من كتاب فوكو “ولادة الطب السريري”. “…إنّ البنى المادية الجسدية والبنى الفكرية المعنوية التي تسمح بتحليل الجسد مُزجت بالمصالح السلطوية. فبدخوله حقل المعرفة، دخل الجسد البشري أيضًا حقل السلطة وصار بالتالي هدفًا محتملًا للاستغلال والتلاعب”. ترجمة إياس حسن ومراجعة سعد المولى. المركز العربي- بيروت. والعيادة، نظرت إلى الكلام بالمفهوم التقليدي، فعزلته عن بنياته الدرامية في السرد والقصّ، لم تنظر إليه كإبداع إذن، فعدم نسقيته مثلًا، تنطوي على غاية إبداعية وليس مرضية، ما صار حجّة لها وللسلطة في تصنيف المجانين والحمقى على أساس كلامهم.
ثمّة قضايا شائكة في الغرب لا يحّلها الوزير، ولا حتّى رئيس البلاد، سوى الطبيب النفسي: ما يتعلّق بالإعفاء من امتحان الّلغة لنيل الجنسية مثلًا، ومنح “الأفضلية” للحصول على السكن، والإجازة من العمل مع سريان الراتب، وصولًا إلى التقاعد المبكّر. العيادة سلطة بامتياز، تفوق أحيانًا في بعض القضايا سلطة الدولة.
وفقًا لمعطيات التحليل النفسي، يبدو عالمنا كلّه مصابًا بالجنون والاكتئاب في أثناء أزمة كورونا وبعدها (بالفعل، يتمّ الحديث عن الأعراض النفسية الرهيبة)؛ فهناك “قيل وقال” بشأن اللقاحات وعدم الثقة بالمختبرات، إضافة إلى فقدان الوظائف والمشاعر نتيجة حبس المجتمعات. ألا يشي ذلك بالعيادة اليومية المتنقّلة ؟ فلا سليم ولا معافى إذن. لكن هذا التحليل النفسي للأزمات لهو قديم ومتجاوز، وينبغي الإتيان بتوصيفات جديدة ، سيّما وقد تغير العالم تمامًا بسبب كورونا، وسيتغيّر أكثر بعد خدمة (5 جي).
لا نتوخّى هنا دراسة “أدب الجنون” وسبق أن تطرّق إليه الجاحظ والتوحيدي والنيسابوري في “عقلاء المجانين”، إنّما نأخذ كلام “المجانين” اعتبارًا للسرد وللقصّ وللحكي، لا اعتبارًا للمرض، وما يمثّل ذلك من تنفيس شخصي واجتماعي وسياسي، في علاقة مع السلطة.
الزواوي بغورة. الأنطولوجيا التاريخية بين التلقي والتوظيف في الثقافة العربية المعاصرة. الجنون أنموذجًا .مجلة “إحالات” العدد 6 ديسمبر 2020، والإحالات إلى كتاب”خطاب الجنون في الثقافة العربية”. محمد حيان السمّان. رياض الريس للكتب والنشر. لندن- قبرص 1993
المصدر السابق والإحالات هي إلى كتاب “الحمق والجنون في التراث العربي من الجاهلية إلى أواخر القرن الرابع”. أحمد خصخوصي. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت
ميشيل فوكو. الجنون والمجتمع. في: ما التنوير. ترجمة الزواوي بغورة. دار التكوين.
إشارة:
نستنتج من ذلك، أنّ تسامحية العرب مع الجنون سبقت أوروبا، وفوكو ذاته وضّح ذلك عندما تطرّق إلى البيمارستانات عند العرب، وهكذا كانت السلطة الإسلامية متسامحة مع الجنون أيضًا بخلاف مثيلتها في أوروبا.
فالبيمارستانات هي مستشفيات للمجانين وهي من إنشاء وبناء الدولة يومذاك. شمل الجنون بالتراث العربي المتصوّفة والبهاليل والحمقى والمُتطفّلين في تصانيف متنوّعة سبقت أوروبا. بينما نوّه فوكو بأنّ “سفينة الحمقى” قد توسّعت أغراضها عن ذي بدء فشملت بالتالي الحمقى والفنانين ومنتقدي السلطة وغير المرغوب فيهم. فوكو “الجنون في العصر الكلاسيكي” ترجمة سعيد بنكراد” المركز الثقافي العربي” الدار البيضاء- المغرب، وبيروت- لبنان. بمعنى عرفت أوروبا تراث وتصانيف الجنون من- وبعد سفينة الحمقى تحديدًا، مقارنة بالتراث العربي، الذي عرفه وصنّفه في أدب وتقاليد اجتماعية:
“… ويبدو أن أحمد خصخوصي مهتّمٌ بفئة المُهمّشين في التراث العربي، ذاك ما يستشف من مقدمته التي كشف فيها عن اهتمامه بالتطفيل والمُتطفّلين. وبالتالي يُعدّ بحثه لموضوع الحمق والجنون استمرارًا لهذه الرغبة البحثية التي ظهرت في كتاب تاريخي، يبدأ من العصر الجاهلي وينتهي في نهاية القرن الرابع الهجري، .. فاصلًا بين الحمق والجنون، ومُقدّمًا للحمق على الجنون في كلّ فصول الكتاب. فضلًا عن أن طائفة الحمقى والمجانين أنتجت أدبًا، نفترض أن له مميِّزاته وخصائصه، وفي هذا السياق يعترف باستلهامه دراسة ميشيل فوكو للجنون. الزواوي بغورة. الأنطولوجيا التاريخية بين التلقّي والتوظيف في الثقافة العربية المعاصرة. الجنون أنموذجًا مجلة” إحالات” العدد 6 ديسمبر 2020.
كان حضور الشرطة في هولندا على الشارع معدوماً تماماً، مقارنة بالوضع الراهن؛ تواجد مدجّج بالسلاح والعدّة الدفاعية ولعلّها هجومية أيضاً، في إثارة لمشاعر العيادة، وفي تواطؤ مع الفيلم الوثائقي” أحب الفن” (عرض على قناة الجزيرة الوثائقية)، يبدأ الفيلم بمخاض على سريرأبيض في مستشفى، ثمّ يقوم مخرجه طوال العرض، بسحب السرير الأبيض في شوارع المدن التي يزورها. أليست الشرطة على هذا النحو كسرير أبيض لعيادة متجوّلة؟ وذلك ما فضحته المظاهرات الفرنسية ضدّ قانون” الأمن الشامل” إذ تعرّض المتظاهرون إلى العنف المفرط؛ أصيب مصوّر سوري بجروح بليغة، وقبل ذاك، اعتدت الشرطة الفرنسية من دون حقّ على منتج موسيقي فرنسي من أصول أفريقية.
رواية للكاتب الروسي أنطوان تشيخوف. المصدر موقع “روايات عالمية”. بالتصرّف.
تطلب السلطة من المُحلّل تشخيص الحالة، وهنا تتّحدُ جهودهما، وكأنّهما من منبع واحد؛ “المريض- المجنون” خطرُ على المجتمع (يسترشد المحلّل وقتذاك بتوصيفات السلطة: الخطر الاجتماعي إلى جانب أدبياتها الأخرى، كقانون الطوارئ التجنيد. ألم يقل الرئيس ماكرون في أثناء أزمة كورونا، وفي مواجهة ما يقول “الإسلام المتطرّف” بأنّ فرنسا تخوض حربًا، وتُشنّ حربٌ عليها؟ يقرّر تلقائيًا وشخصيًا الحرب من دون الرجوع إلى البرلمان)، تتوخّى العقاقير سلب الإرادة جاعلة “المريض” أعزل “مسالمًا” وفي خضوع مطلق، وهكذا يدخل الجنون حقل السلطة لتتلاعب به عبر اتفاقها مع سلطة العيادة.
يشكّك المواطن في نجاعة لقاحات فيروس كورونا. ولديه ريبة تعزّز شعورًا بالتواطؤ ما بين الشركات والسلطة، بغية “المراقبة والتجسّس”، ما يسبّب الذعر بشأن السلامة الشخصية، وبالتالي يقود ذلك إلى اضطرابات نفسية. أمّا العلماء والمختبرات راهنًا، فينطبق على القسم الأكبر منهم “وعّاظ الشركات” استعارة من كتاب عالم الاجتماع العراقي “وعّاظ السلاطين”. وكأنّ العلماء فقهاء المال.
محمد الشيكر. “فوكو والثورة الإيرانية” دار مخطوطات هولندا- المعقدين العراق .
إشارة: يُمارس نوعٌ معيّن من الأدب -بوحي من السلطة- حالةً من التأديب، مثلما تفرضها الأديان بواسطة نظام كامل من العقاب والثواب، فيكون الأدب تأديبيًا ومعياريًا عندئذٍ كالأديان وتشريعات السلطة.
نشر المقال في موقع ” مباهج الفلسفة” في 30-07-2019.
لقد تغيّر العالم تمامًا على كافة النواحي بعد جائحة كورونا، وسيتغير أكثر بعد دخول خدمة (5 جي)، فلم يعد السجن هو السجن القديم الذي نعرفه، ولا الوردة تلك المّحبّبة؛ إذ ستكون المفاهيم في تبادل صفاتٍ واستعاراتٍ من ومع أضدادها. باختصار، نحن أمام شيء جديد علينا كالمباغتة ولم نحسب له اعتبارًا، وذاك ما ينطبق على السرد والجنون والعيادة .
يمثّل الكرسي السلطة رمزيًا شاهدًا على تحولاتها ؛ فمنذ البدء، حكمت الآلهة الإنسان من كرسيها الموجود بحسب الأساطير السومرية في السماء، فحازت المكان العلوي، بينما البشر في الأرض أسفلها، وكان التقسيم سماء- أرض وفقًا للكرسي- السلطة. لم يكن للإنسان كرسي يومذاك، لأنّه من دون سلطة، لكنّه حاز عليه لاحقًا مع الأديان والآداب والفن والإعمار. انظر دراستنا “الكراسي.. من الزهد والتقشف إلى القيادة والسيطرة”. مجلة نزوى العدد 104 -2020.
تكوّن التعبيرات الإنسانية إيجابية أم سلبية، شكلًا من أشكال الوجود. يتآلف المرء مع الخطر والموت إجباريًا، كما يندمج في الّلذة والرغبة والسلطة بسبب الموت ورغما عليه. لا تظل التعبيرات نمطية، إنّما تتجاوز نفسها باستمرار إلى تصنيفات وجودية متنوّعة: الخطر كصيرورة كما الرغبة كصيرورة …إلخ. أي، يتعدّد الوجود متنوّعًا إلى “وجودات” إن أمكن جمع المفهوم هكذا.
اشتهرت بصرخة مونش على اسمه، وتعبّر عن الخطر والخوف، تقفز اللوحة إلى الذهن حالما يرسم أي شخص حركة اليدين على الوجه ذي الفم الفاغر. تشكيل الوجه هكذا يوحي به كجمجمة لا غير. وضع اليدين على الأذن، جاء نتيجة استشعار القلق. الحركة هي نتيجة لسماع دوي- صوت، وتمارس عند القصف في الحروب أو الضجيج أو الدوي في ذهن المريض. تأتي اللوحة برمتها، من الكلام- الصوت الخطر وتعبيراتهما.
سنعالج هنا أدبيات العيادة كما جاءت في الأساطير الأديان رمزيًا ، وسنتناول في دراسات أخرى “التشكيل والعيادة”، و”السينما والعيادة” والأدب والعيادة”، ضمن كتاب بعنوان” العيادة اليومية: من الكلام إلى السلطة.
“نجد في نظام الخطايا الذي وجد في كل الديانات التوحيدية عقوبات لكلِّ من اختار أن يسلك سلوكًا مشينًا في عرف العقائد الدينية. من أهم تلك الخطايا هناك سبعٌ نذكرها على النحو التالي:
الكبرياء-الرغبة- الغضب- الكسل- البخل- الجشع- الشهوة”. فالح مهدي ” تاريخ الخوف” نقد المشاعر في الحيز الدائري “بيت الياسمين” للنشر والتوزيع 2020 .القاهرة.
كاظم جهاد في “حصّة الغريب” ترجمة محمد آيت حنا. منشورات دار “الجمل”. بيروت
سعيد الغانمي في “رواة سيرة الحكايات”.
وقوف الرؤساء أمام أعضاء البرلمان رأسيًا محاكاة للسلطة المباشرة، كوقوف الطبيب أمام المريض. لم نشهد بتاتًا، أن تحلّقَ النوّاب حول الرئيس، خلافاً لجلسة الحكواتي ، عندما يتحلّق مستمعوه حوله. السلطة الرأسية ترفض شكل الحلقة، بمعنى تدوير للسلطة وللصلاحيات.
يتّخذ السارد راهنًا شخصيةً تقنية له في الهاتف، متقمّصًا شخصية السارد، وهما في استعانة سردية، تساعدهما على توزيع الأدوار؛ يقصّ ويسرد ويحكي الهاتف في علاقة إيجابية، بحيث يكون المستمع ذاته ساردًا وذا سلطة. اختلف السرد والسارد عن ذي قبل باستعمال الهاتف إذن، الذي حلّ هكذا عوض كرسي السرد والعيادة مُغيّرًا من شكل السلطة والسرد.
المريض ليس من جلساء الطبيب، ، بينما يعتبر الحكواتي الحضور جلساء له.
ننظر إلى السجل التجاري للعيادة مثلًا، الذي يكشف عن إنفاق الإنسان المعاصر على مُسكنّات الألم بـ (600 مليار دولار) علاجًا من الصداع والملل، فأين ذهبت القوّة الروحية للإنسان؟ وكيف لا يستطيع تحمّل الصداع مثلًا من دون عقاقير؟
“بروست والإشارات” لدولوز. ترجمة حسين عجّة. دار “أدب فن” هولندا.
العنوان، استعارة من كتاب هيروشيما في كل مكان. المؤلف غونتر انديرس
نشر المقال في موقع” “موضوع”.
ميخائيل باختين، المبدأ الحواري. تأليف تودوروف، ترجمة فخري صالح. المؤسّسة العربية للدراسات والنشر.