السرد موجود أبدا ، يقول بارث . إنه يوجد حيثما وجدت الحياة . لكن الوعي به ، حتى في الغرب ، لم يتحقق إلا مع تطور تحليل الخطاب السردي وظهور علمين يهتمان به ، منذ الستينيات من القرن العشرين ، في الدراسات الغربية نفسها . هذان العلمان هما : السرديات والسيميائيات الحكائية .
منذ بداية انتقال هذه النظريات السردية الغربية إلى الثقافة العربية ، عن طريق الترجمة ، أو من خلال دراسات سردية أو تطبيقات على الرواية العربية في ضوء تلك النظريات السردية ، بدأت تتعالى أطروحات تنادي بـ: المحاكاة والتطبيق الحرفي لهذه النظريات على النص العربي ، وتطالب بالوقف الفوري لهذه الضلالات النقدية العربية ، تحت ذريعة أساسية نلخصها في كلمتين اثنتين هما “ المطابقة” تارة و”الاختلاف” طورا.
حسب هذه الأطروحات :
أ ـ النص السردي العربي مختلف عن السرد الغربي. وعلينا، تبعا لذلك، عدم تطبيق هذه النظريات الغربية لأنها صيغت لـتتطابق مع السرد الغربي.
ب ـ إن الدراسات السردية العربية، وهي تطبق تلك النظريات السردية التي تأسست في الغرب، تتطابق مع هذه النظريات مطابقة تامة، وهي بذلك تكرس «ثقافة المطابقة» ولا تؤسس للثقافة المطلوبة : «ثقافة الاختلاف».
أمام هذه الأمشاج من الأطروحات المتفقة والمختلفة، والتي تتزيا أحيانا بزي الدفاع عن التراث، أو تتستر أحيانا أخرى تحت رداء الحداثة، نجدها، جميعا، رغم الاختلاف بينها في المنطلقات والغايات، تشدد، بكيفيات متفاوتة على مبدأي :الاختلاف والمطابقة بصدد السرد والسرديات، في المجال العربي، وتكاد تلتقي، بصورة أو بأخرى، ضمنا أو مباشرة، في المطالبة الملحة بضرورة ميلاد : نظرية سردية عربية خالصة، تراعي خصوصيته وتشدد على اختلافه.
نسعى في هذه الدراسة إلى مناقشة مدلولات الاختلاف والمطابقة في علاقتهما بالسرد والسرديات مبرزين اختلافنا مع هذه الأطروحات، ومتوقفين على الكيفية التي بواسطتها يمكننا أن نكون فاعلين في تحليل السرد العربي، ومساهمين في تطوير الوعي بالسرد على الوجه الأمثل ليكون لنا إسهام في الفكر الإنساني عن طريق الاستيعاب الجيد للمنجزات العالمية والإضافة إليها.
2. طرح الإشكال :
تتعدد الآراء والتصورات التي تطالعنا في شكل مقالات أو كتب تتناول بالبحث والدراسة واقع النقد العربي المعاصر، والروائي منه على وجه خاص. وهي تنطلق في ذلك من نقد المسار الذي اختطه في علاقته بالنقد الغربي الحديث، من جهة، وبالنص العربي، من جهة ثانية، مركزة تارة على :
ـ مقولة استيراد النظريات الغربية وتطبيقها على النص العربي. والنقد الروائي بذلك يروج لثقافة الآخر، ويسهم، بذلك أيضا، في القضاء على الثقافة العربية.
ـ مطابقة النقد العربي الجديد مع النظريات الغربية يقلل من إسهامها في بناء ثقافة عربية خاصة ومختلفة عن الثقافة الغربية ومتميزة عنها.
إن هناك فرقا بين التصورين، على المستوى الظاهري، لأن الأول يظل مستندا إلى «الأصالة» في حين يبدو الثاني وكأنه مشدود إلى «المعاصرة» لو أردنا استعمال هذين المفهومين المعروفين جدا لدى القارئ العربي واللذين يعكسان تصورين مختلفين تجاه الواقع والثقافة العربيين في علاقتهما بالعصر.
سبق لي الدخول في حوار مع الاتجاه الأول ( 1)، ويهمني الآن مناقشة التصور الثاني، لأني أرى أنه لا يختلف، في العمق، عن التصور الأول، وإن كان يعتمد في حجاجه على لغة ومفاهيم مغايرة لما نراه لدى أنصار الاتجاه المختلف.
إن المطابقة والاختلاف يضعان الثقافة العربية الحديثة في مرتكز جوهري يحدد واقعها وآفاقها. وبدون إزالة اللبس المتصل بهما بسبب نوعية السجال القائم بصددهما، والذي تغيب فيه عناصر شتى تتعلق بمعرفة ماذا نريد، ونحن نعيش عصرنا،وبأي موقف أو تصور، سيظل حديثنا بلا مركز توجيه يحدد الأسئلة، ويسعى لتدقيق الأجوبة، من جهة. كما أنه، من جهة أخرى، سيوجه نقدنا للعلاقة بينهما توجيها لا يخدم القضية الأساس، وهي كيف نكون أبناء عصرنا، بشكل ملائم، ونسهم فيه بشكل إيجابي عن طريق تحديد إشكالاتنا بصورة واضحة لا ملتبسة ولا مبهمة، ونختط لنا المسار الملائم للإجابة عنها وفتح مسارات مولدة للتطور والتجديد.
لتناول هذه الإشكالات، بصدد السرديات، بقصد إبراز الموقف من تصوراتها وتطبيقاتها، كما كرسنا لذلك كل جهودنا، وما نزال وسنظل، نروم فتح حوار علمي مع أطروحة عبدالله إبراهيم حول المطابقة والاختلاف، من خلال قراءته لإنجازاتنا التي تعرض لها بالتحليل في كتابه الموسوم ب «الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة : تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة» (2)، وذلك للكشف عن «زيف» المطابقة و«وهم الاختلاف»، وأن نقد الممارسة الإيجابي هو نقد للتصور الذي تبنى عليه بعد العلم به والكشف عن أبعاده ومراميه. وما خلا ذلك سجال لا يمكن أن يفتح آفاقا أو ينتج معرفة.
3 – المطابقة والاختلاف :
يقدم عبدالله إبراهيم في تصدير الكتاب تصوره للإشكال العام الذي تعرفه الثقافة العربية الحديثة. في هذا التصور يقدم لنا صورة قاتمة، وله الحق في تقديمه على النحو الذي يبدو له، ونحن نتفق معه في عناصر التشخيص التي يلجأ إليها، وإن كانت لنا طريقة أخرى في رصد ملامح الصورة العامة للثقافة العربية الحديثة.
يبدأ أولا بالحديث عن كون تطور هذه الثقافة يكشف عن صورة تتقاطع فيها التصورات والمناهج. غير أن هذا التقاطع لا يأخذ شكل الحوار والتفاعل. وهنا نسجل أول نقطة للاختلاف معه في التشخيص لأن كل ما سيبنى على هذه الفكرة سيحرف مجرى التحليل عن مساره الحقيقي، ويدخله في أفكار جاهزة ومسبقة. إن التفاعل والحوار قائمان منذ عصر النهضة إلى الآن. لكن السؤال الذي غيبه هو ما هي طبيعة هذا التفاعل والحوار ؟ فالمشكل هنا ليس مشكل «فعل» أو حدث، ولكنه يتصل بنوعيته وطبيعته.
لقد أدى به إلغاء التفاعل والحوار، وعدم التساؤل عن طبيعتهما إلى تأكيد أن التعارض الذي تحكم بالأنساق الثقافية العربية أفضى إلى نتيجة «خطيرة» حسب تعبيره. هذه النتيجة الخطيرة يلخصها لنا في العبارة التالية: «الثقافة العربية الحديثة أصبحت ثقافة «مطابقة» وليست ثقافة «اختلاف». (ص.7).
إنه حكم عام ومطلق. ومثل هذه الأحكام المطلقة والعامة لا يمكنها إلا أن تكون وليدة البدايات العامة والمطلقة والتي تنبني على عدم الانتباه إلى الجزئيات والتفاصيل وأدت به إلى القول بغياب التفاعل والحوار، رغم أنهما قائمان وثابتان واقعيا وموضوعيا. إذ لو كانا غائبين فعلا ما أمكن الحديث عن الـ« مطابقة» البتة. وسنلاحظ أنه في مفاصل متعددة من الكتاب يومئ إلى هذا التفاعل والحوار. ولو أن صاحب الكتاب وجه عنايته إلى إثباتهما مع التساؤل عن طبيعتهما وكيفية ممارستهما لكان أمسك، من خلال التحليل الملائم، بنتائج التفاعل والحوار، وبين إلى أي حد ساهما في تشكيل الثقافة العربية الحديثة، وجعلاها ثقافة مطابقة لا اختلاف ولكان بذلك يقدم لنا تصورا مختلفا عن الذي تبناه واتبعه في التشخيص والتقويم.
يسوغ عبدالله إبراهيم الحكم المطلق الذي انطلق منه بذهابه إلى أن الثقافة العربية «تهتدي ب«مرجعيات» متصلة بظروف تاريخية مختلفة عن ظروفها». وليفسر لنا ذلك يبين أن الثقافة العربية:
أ- تتطابق مرة مع مرجعيات ثقافية أفرزتها منظومات حضارية لها شروطها الخاصة (يقصد الغرب).
ب- تتطابق مرة أخرى، مع مرجعيات ذاتية تجريدية وقارة متصلة بنموذج فكري قديم (يقصد التراث العربي).
بناء على هذين الضربين من المطابقة يستخلص أن الثقافة العربية الحديثة صارت تندرج في نوع من العلاقة الملتبسة التي يشوبها الإغواء الإيديولوجي مع «الآخر» و«الماضي». ولقد أدى هذا إلى أن أصبح حضورها «استعارة» جردت من شروطها التاريخية ووظفت في سياقات مختلفة.
لقد تولد عن هذه المطابقة المزدوجة أن استعارت الثقافة العربية «ثقافة» أخرى (غربية حديثة وعربية قديمة )، ولم يبق لها من وجود سوى أنها «استعارة». ومعنى ذلك، بتعبير آخر، أن الثقافة العربية ليست سوى «صورة» مستعارة من غيرها. ويؤول الواقع الثقافي العربي الذي تسود فيه التناقضات والتعارضات التي تمزق نسيجه الداخلي إلى هذا البعد الاستعاري المسؤول، هل لنا أن نقول الوحيد ؟ عن هذه الانعكاسات السلبية التي تغمر الثقافة العربية.
كما أن المطابقة نفسها كانت لها تجليات تتبدى من خلال صور النبذ والإقصاء والاستبعاد المتبادل بين الممارسات الفكرية التي تستثمر هذه المرجعية أو تلك. ونجم عن كل ذلك نوع من القيم يبدو من خلال بروز التمويه والتخفي والإكراه والتنكر والتي نجدها كامنة في المفاهيم والمناهج والرؤى التي توظف بأساليب لا تأخذ في عين الاعتبار درجة الملاءمة بين هذه العناصر والسياقات التي تستعمل فيها. كما أن التعسف كان يمارس بهدف إخضاع أنساق لا صلة لها بأنساقها الأصلية. وكانت النتيجة أن ساد الإبهام والالتباس وأدى كل ذلك إلى تعميق نوع من الثقافة المسطحة التي تغيب فيها الفرضيات الكبرى والأسئلة الجوهرية.
هذه هي مجمل الإشكالات التي حاول عبدالله إبراهيم تشخيصها بالانطلاق من واقع الثقافة العربية الحديثة، والتي عمل على التدليل عليها من خلال رصد نماذج من هذه الممارسة الثقافية العربية الحديثة القائمة على المطابقة مع الآخر أو الماضي بهدف واحد يعبر عنه بقوله : «بيان الكيفية التي تغلغلت فيها المرجعيات والمؤثرات في صلب الثقافة العربية الحديثة، والآثار التي ترتبت على ذلك انطلاقا من رؤيتنا إلى أن نقد «ثقافة المطابقة «هو السبيل إلى ظهور ثقافة الاختلاف». التشديد مني (ص. 9).
إن الإطار الذي يحكم الكتاب هو : رصد واقع ثقافي من خلال ممارسات منهجية ورؤى فكرية مع نقد مظاهر ثقافة المطابقة التي تتجلى في كل هذه الممارسات لتحقيق هدف واحد هو العمل على تحقيق ثقافة الاختلاف.
لا أريد التوقف عند مختلف مظاهر التشخيص المعتمدة سواء من خلال مقدماتها أو نتائجها ودعواها لأن ذلك سيدخلنا في سجال نظري لم يوفر له صاحبه أي ملمح معرفي أو إبستيمولوجي يمكن أن يشكل خلفية لحوار علمي جاد، ولذلك فإننا نؤثر التوقف معه، وعلى قاعدة المطابقة والاختلاف، أمام القضايا المتصلة بالسرد والسرديات في الثقافة العربية، ومن خلالها نناقش تصوراته الخاصة والعامة. وسنعمل على استعراض آرائه بموضوعية، في مستوى أول، ونناقش تصوراته عن السرد والسرديات في علاقتهما بالمرجعية المستعارة، وأشكال التفاعل والحوار وآلياته وانعكاس ذلك على السرديات في الممارسة العربية كما أتصورها وأدافع عنها في مستوى ثان.
4 – السرديات والمطابقة :
4 – 1. النموذج والسجال :
يجعل عبدالله إبراهيم قراءته لكتابي «تحليل الخطاب الروائي» ( 3 ) وانفتاح النص الروائي» (4) تحت عنوان دال» سعيد يقطين : السردية واستبداد النموذج الغربي»، وينطلق من مفهوم «النموذج» جاعلا إياه محور اهتمامه لإبراز المطابقة مع النظريات السردية الغربية. يقول : «مع الناقد سعيد يقطين في كتابيه تحليل الخطاب وانفتاح النص نواجه بهيمنة» النموذج «الذي أنتجه السجال بين الآراء التي اعتنت بمكونات الخطاب السردي». (ص. 77).
ويحدد النظريات التي مورس معها السجال في السرديات مع جنيت والنظرية السردية الدلالية مع غريماس، مبينا أن كثيرا من المفاهيم والإجراءات التي تم الانتهاء إليها أمدتني بها هاتان النظريتان التي خصصت أجزاء كبيرة من الكتابين لعرض مفاهيمها ومقولاتها. لقد عملت، كما يتصور الباحث، على تخصيص حيز كبير لاستعراض الآراء لتحقيق هدفين اثنين : كشف جهود الآخرين في هذا الميدان من جهة، وتعقب التطور التاريخي للسرديات من جهة ثانية.
وصولا إلى هذه النقطة من التحليل، يستخلص عبدالله إبراهيم حكما على العمل بقوله : «إن الكتابين يحتشدان بالسجال والانتقاء والاستخلاص، ثم التبني أو الرفض، بهدف الاطمئنان إلى نموذج ينطوي على كفاية منهجية وتحليلية». (ص.78). معتبرا أن المطلوب، في هذه الحالة، ليس استنباط «النموذج» عن طريق «السجال»، ولكن عن طريق الاستقراء.
هذه هي الفكرة الأساسية التي يرتكز عليها لإبراز «المطابقة» مع النظريات السردية الغربية. وهو يعبر عنها مرارا بتعبيرات مختلفة : «إذا كان الباحث في حقل السردية ( يقصد السرديات (Narratologie ) وليس السردية (Narrativité)؟) بإزاء جهود خصبة، عنيت بتفاصيل الموضوع، فهل سجال الباحث معها فقط هو الذي يمكنه من بلوغ أهدافه ؟ أم أن الأمر يستدعي، قبل كل شيء، بل ويلزم، أن يقدم البحث على استقراء دقيق وشامل لمكونات موضوع الاشتغال، أقصد : مكونات الخطاب السردي الذي يعمل الباحث عليه». ص. 78.
4 – 2 – المتن والانتقاء :
إن بناء نموذج عن طريق السجال لا الاستقراء، يرى عبدالله إبراهيم، أدى بي إلى القيام بعملية الانتقاء على مستويين : نظري وتطبيقي. يبدو المستوى الأول من خلال انتقائي النظريات والآراء السردية التي كنت أتساجل معها، فأقبل بعضها رافضا بعضها الآخر، لأصل في النهاية إلى نموذج من خلال الانتقاء. وهو يستنتج أن هذا الأمر لا يخلو من مخاطر، وقد تكون أحيانا مهلكة.
أما الانتقاء الثاني على المستوى التطبيقي فيبدو من خلال انتخابي خطابا روائيا واحدا هو الزيني بركات للتحليل مردفا إياه بأربعة خطابات روائية أخرى لا تستأثر بالاهتمام. ويبين إبراهيم عملية الانتقاء النظري والاختيار التطبيقي، كما اشتغلت بذلك، في تصوره، بالوصف التالي : «وقد بدأ بحثه في المداخل التمهيدية التي خصصت للزمن والصيغة والرؤية والبناء النصي والتفاعل النصي والبنية السوسيونصية، كأنه من أجل إيجاد تطابق بين بنية النموذج الذي استقاه من الدراسات السردية الغربية وبنية الخطاب الذي انتخبه للتحليل، وكأن بحثه لا يهدف إلى استنباط «سردية» الخطاب الذي درسه. إنما هو إنشاء هيكل يصلح لتحليل الخطابات السردية.
لقد نجم عن هذا العمل الذي يسعى إلى إقامة نموذج بالسجال والانتقاء، غياب «الكفاية المنهجية» ؟ لأن نتيجة العمل، كما يستخلص، ليست سوى مطابقة مع المرجعيات التي اعتمدتها. وبذلك، لا يمكن الحديث إلا عن تطبيق لنموذج أجنبي. يقول : «إن تعميم نموذج ما، يتحدر من المضاهاة والمساجلة، ثم انتخاب خطاب يسوغ علميته، أمر محفوف بكثير من الأخطار، ذلك أن موضوع الكفاية المنهجية، سيثار مجددا في ميدان البحث الأدبي». ص. 79.
إن ما يؤكد هذا الحكم الذي يستنتجه إبراهيم يرتهن إلى تأكيد أن «الموجهات الخارجية في حقل السردية (؟)، كما تبلورت خاصة في البحوث الفرنسية قد استأثرت كثيرا باهتمام يقطين، ووجهت كثيرا من النتائج التي توصل إليها، وترددت في صفحات كتابيه، ووجهت توصلاته إلى الجهة التي تكونت فيها بما يطابق المرجعيات التي صدرت عنها». ص. 79.
تبعا لهذه القراءة التي قدمها إبراهيم للكتابين، يمكننا أن نستخلص ما يلي :
أ. هناك اعتماد على النظريات السردية الغربية.
ب. هناك سجال وانتقاء نظري وتطبيقي.
ج. هناك رغبة في الوصول إلى نموذج قابل للتعميم.
غير أنه لم ينجم عن كل هذا سوى «مطابقة» السرديات، كما اشتغلت بها، مع المرجعيات الأجنبية، فغابت الكفاية المنهجية. وبذلك لم تكن كل النتائج التي توصلت إليها سوى إسقاط على النص العربي لأن العمل استند، حسب وجهة نظر إبراهيم، على استنساخ النموذج الغربي عن طريق السجال والانتقاء نظريا وعمليا.
4 – 3 – الهيكل العام والنص الخاص :
بناء على ما سجلناه أعلاه من أفكار قدمها إبراهيم لتبرير« المطابقة «، نجده يسير في الاتجاه نفسه، محاولا تلمس طريقة اشتغالي نظريا وتطبيقيا من خلال قوله :» إن سعيد يقطين كان يريد تقديم هيكل عام يكون صالحا لتحليل الخطابات السردية، وأنه انتخب نموذجا لتسويغ أهدافه.إن جهدا مثل هذا يعنى بالطرائق أكثر مما يعنى بالنصوص، هو أدخل في السردية (؟) التي تريد تحديد أنظمة عامة. ولهذا فإن رواية الزيني بركات استخدمت لتأكيد صحة التوصلات النظرية التي كان الناقد قد توصل إليها نتيجة مضاربة الآراء ببعضها البعض. ولم تفلح الرواية بتحوير أو تغيير الآراء المقررة سلفا. فقد صيغت قوالب وفراغات وأدخل الخطاب فيها. وهذا يبرهن على ما كنا قد أكدناه، من قبل، من أن المكونات التي توصل إليها يقطين، قد تشكلت بسبب من العرض والسجال، لا الاستقراء الدقيق لمكونات الرواية».
لقد جئت بهذا الشاهد على طوله لأنه يبين لنا بجلاء كيفية فهم إبراهيم للأمور وقراءتها لها. فهو يبين أني أميل إلى العناية بتحديد الأنظمة العامة، وأن عملي يدخل في نطاق السرديات، ويطالبني بالاهتمام بالنصوص اهتمام الناقد بها، وليس اهتمام السردي. ويكرر ما سبق أن قاله عن السجال والمكونات والقوالب. وإلى جانب ما حاولنا تلخيصه سابقا، يمكن أن نضيف :
ـ تحليل النص كان فقط ذريعة لتأكيد صحة النظرية.
ـ إقامة قوالب جاهزة وقوالب وفراغات أدخل فيها النص.
وهذا هو الكلام الذي سمعناه منذ أواسط الثمانينيات عن طريقة عملنا وعمل من سار في الاتجاه نفسه.
4 – 4 – المعرفة العلمية : والمرجعية المستعارة :
بعد هذا التحليل يربط ما انتهى إليه من خلاصات في الكتابين تحت مفهوم «النموذج» بما سبق أن حلل به مؤلفات أخرى تحت عنوان «الرؤية». وبإضافة اللاحق إلى السابق يرى أن الرؤية والنموذج معا، ليسا سوى «مطابقة» مع المرجعيات المستعارة، ولذلك فقد ساهما في إشاعة «ثقافة المطابقة» لا «الاختلاف». يقول : «وإذا كانت رؤية الآخر، من قبل قد أثرت في عمل النقاد العرب، فإننا نجد الآن ( أي بصدد السرديات ) أن «نموذج الآخر» قد أصبح مثار اهتمام النقاد العرب المعاصرين. وإذا كانت الرؤية مفهوما ملتبسا مع المعطيات الإيديولوجية، فإن «النموذج» قد قدم بوصفه معيارا قياسيا، لا خلاف حوله، لأنه ضرب من المعرفة العلمية التي لا هوية لها. ورتب ذلك تضليلا من نوع أخطر. إن النموذج الذي تنتجه مرجعيات، طبقا لرؤى معينة سيظل لصيقا ومعبرا عن تلك المرجعيات والرؤى «.ص.80
كنت أتمنى أن يجعل إبراهيم هذه الخلاصة بداية للتحليل ومنطلقا لإبراز خصوصية المرجعية المستعارة، وعلاقتها بالعمل الذي قدمت. ولو فعل ذلك لدفعه إلى إجراء تحليل علمي لا الانطلاق من مسبقات والعمل على قراءة التحليلات في ضوئها.
إنه هنا يقدم النموذج بوصفه علما لا هوية له، كما ندعي، لأنه يرى أن النموذج الذي أنتجته المرجعيات الغربية، هو وليد رؤية معينة ( غربية )، وسيظل لصيقا بها. وكأنه يريد أن يقول لنا : لو ادعيتم الاشتغال في أفق علمي، فإن النماذج العلمية الغربية هي خاصة بالثقافة الغربية. ونحن كي لا نمارس «المطابقة» مع المرجعيات الغربية، علينا «الاختلاف» معها، ونبني «العلم» العربي «بناء على «النص العربي».
إن عبدالله إبراهيم، لا يختلف، فيما يدافع عنه، عن الأطروحات التقليدية التي تتحدث عن استيراد النظريات وتطبيقها على النص العربي. والحل الذي يقترحه، على غرارها، هو إقامة «نظرية سردية عربية «تنطلق من خصوصية، أي اختلاف، السرد العربي عن نظيره الغربي.
5. السرد، السرديات، الاختلاف :
5. 1. التصور والمنطلق :
لا بد لي أولا من توضيح نقطتين أساسيتين بدونهما يستحيل فهم العمل الذي قمت به في دراساتي النقدية المختلفة منذ القراءة والتجربة إلى الآن وأنا أبحث عن تطوير السرديات إلى سرديات تفاعلية تمكننا من فهم آليات اشتغال النص السردي الرقمي. شكلت هاتان النقطتان تصوري للعمل ومنطلقات تفكيري وكتاباتي منذ ذلك الوقت إلى الآن وستظل رغم حديث البعض عن موت السرديات أو موت النقد الأدبي. هاتان النقطتان هما :
5 – 1 – 1 – العصر المعرفي :
إننا معرفيا، لا يمكننا أن نشتغل أو نفكر خارج العصر الذي نعيش فيه. وبما أننا نشتغل كباحثين ومثقفين لا يمكننا التفكير خارج إطار «العصر المعرفي «المتحقق بإبدالاته وتصوراته وتناقضات اتجاهاته وتياراته، هذا إذا كنا فعلا ندرك أننا نعيش في عصر معرفي محدد، وأننا نعرفه حق المعرفة، وقادرون على تمثل إنجازاته من جهة، والإحاطة بمختلف ما يعتمل فيه من فروقات، ولو طفيفة، من جهة أخرى، ولنا إمكانية التمييز بينها بوضوح من جهة ثالثة. أما إذا كنا نرى ونتحدث عن «الآخر» بهذه «الرؤية« فهذا بالنسبة الى وهم، وهو لا يساعدنا على الفهم.
يبدو لي أن الحديث عن «الآخر» والمطابقة والاختلاف «مضيعة للوقت وتسجيل أباطيل على أنها حقائق. وما دمنا نفكر بهذه الطريقة فنحن خارج العصر الذي نعيش فيه. ونحن فعلا كذلك لأننا لم نندمج فيه معرفيا، ولذلك فنحن نجهله، وإن كنا نريد وضع المسافة معه.
5 – 1 – 2 – الثقافة العربية والعصر :
إننا بسبب انتمائنا إلى ثقافة متأخرة عن العصر المعرفي الذي نعيش فيه، أبذل جهدا مضاعفا : محاولة مواكبة العصر المعرفي من جهة، والعمل على جعل ثقافتنا التي نكتب بلغتها قابلة للارتقاء إلى ما يعرفه العصر ولإدراك ما يحتدم فيه من جهة ثانية، والانخراط في مشكلاته المعرفية الكبرى بوعي ومسؤولية، من جهة ثالثة، لا الانعزال عنه بوهم الخصوصية والمغايرة والاختلاف.
هذا الوضع المزدوج الذي أحسست به منذ كتاباتي الأولى، جعلني أشتغل في منحيين اثنين أحاول من خلالهما اتخاذ موقف محدد من مختلف الأمور : التفاعل مع الفكر الغربي الذي هو امتداد تاريخي للفكر الإنساني، من أجل الفعل في الثقافة العربية لتنتقل من تأخرها، وتنخرط في الوعي بالعصر، إلى المستوى الذي يؤهلها للارتقاء إلى الأفق المعرفي الذي يزخر به العصر، لتكون مؤهلة للإسهام فيه في مرحلة لاحقة.
5. 2. البنيوية والوضوح النظري :
تشكل وعيي النظري والمعرفي، وأنا تلميذ، في نطاق الماركسية ـ اللينينة. لكن وعيي الكتابي تطور في الأفق المعرفي الذي تبلور مع البنيوية باعتبارها إبدالا جديدا جاء ليجدد النظر إلى الإنسان والمجتمع والتاريخ على أنقاض الوجودية والماركسية. اشتغلت البنيوية بالنص الأدبي وبغيره من النصوص. وكان لها هدف واحد، استفادته من اللسانيات ومن الممارسة العلمية بوجه عام. وهو : فهم البنية بهدف الوصول إلى إدراك كيفية اشتغالها من داخلها أولا، قبل التفكير في العوامل المحيطة بها، عكس ما كنا نفكر به حيث كان شعارنا : تغيير العالم لا تفسيره. وانتهيت بعد معاينة نتائج هذا الوعي وزيفه، أن التغيير لا يمكن أن يكون بدون التفسير. كما أن التفسير لا يمكن أن يكون بدون الفهم. والفهم وليد البحث العلمي وليس التأمل النظري. من هنا جاء انحيازي إلى البنيوية باعتبارها «أداة للفهم». وهذا هو المنطلق الذي جعلني أقتنع باجتهادات الشكلانيين الروس، وبعمل دو سوسير وهو يؤسس اللسانيات. مع البنيوية أرى أننا في أفق معرفي جديد لأنه يدفعنا إلى إعادة التفكير في مختلف الأشياء من أجل فهمها من داخلها عكس ما كان عليه الوضع سابقا حيث كان الاهتمام منصبا على ما هو خارجي، مع جهل تام، بل وتجاهل وإقصاء لكل ما هو داخلي.
انحزت إلى البنيوية، على الصعيد الأدبي، لأني كنت أرى النقد العربي إيديولوجيا يفضل شاعرا أو روائيا تافها فقط لأنه ثوري، ويرفض الشاعر أو الروائي الجيد فقط لأنه غير ثوري. فبدا لي أن الخلل في الرؤية والتصور لأنه يرتهن إلى مقدمات وآراء جاهزة، فكفرت بالمسبقات وبفكر القطيع.
عندما اطلعت على الأدبيات البنيوية، تبين لي أنه رغم الالتقاء حول الاهتمام ب«البنية» كقاسم مشترك، كانت الاجتهادات متعددة ومختلفة. فميزت من خلال قراءتي العميقة والمتأنية لعدد مجلة تواصلات 1966 ( وكان هذا العدد نقطة الصفر في التحليل السردي ) بين طرائق الاشتغال التي ينهجها كل باحث، ومن خلال متابعة أعمال كل واحد منهم انتهيت إلى أن عمل جنيت وتودوروف ليس هو عمل غريماس، وليس هو عمل بارث ولا عمل إيكو،،، وانحزت إلى أعمال السرديين لأنني كنت أراهم أقرب الى من السيميائيين.
كان الاختيار، وليس الانتقاء كما يدعي إبراهيم، والاختيار قطعة من عقل المختار، كما يقول العرب القدماء، مبنيا على أسس واعية. ومنذ كتابي الأول القراءة والتجربة (1985)، قلت إني سأشتغل بالسرديات، وكل همي تأسيس السرديات في التربة العربية باعتبارها اختصاصا علميا بكل حيثياته وأبعاده مع التفكير في آفاقه. وكنت في هذه العملية أنطلق من التفكير العلمي الذي يؤمن بالعمل باعتباره مشروعا قابلا للتطور والإغناء والتجاوز، وليس قوالب وصيغا جاهزة، تستورد من الآخر؟ وتطبق على النص العربي كما يدعي إبراهيم.
عندما كنت أفكر في نطاق هذا الأفق المعرفي، كنت أرى النقد العربي يتعامل مع البنيوية، وكأنها شيء واحد، فيوظف الراوي إلى جانب العوامل والوصف إلى جانب التأويل،،، هنا فعلا يمكننا الحديث عن الانتقاء، بل عن الفوضى : المزج بين التصورات المختلفة بلا تمييز ولا تفريق.
أمام هذا الوضع ارتأيت، إلى جانب التحليل، العمل على مناقشة المفاهيم والتعريف بالإجراءات والتمايزات، ومن هنا جاءت المقدمات النظرية الطويلة في الكتابين وفيما سيظهر بعدهما، بهدف الارتقاء إلى الاستيعاب الجيد للنظريات ولتحقيق الوضوح النظري المفقود.
لم يكن عندي هدف كشف جهود الآخرين، كما يدعي إبراهيم، ولا تعقب التطور التاريخي للسرديات. فهذا ما يطفو على السطح. كان الهدف الأساس هو : مواجهة التسيب النظري والفوضى المعرفية، والعمل على دفع المشتغلين بالسرد إلى التمييز بين الإطارات النظرية والاجتهادات المختلفة من أجل تشكيل اختصاصات محددة في ثقافتنا، لأنه، كما أعتقد دائما، لا يمكننا تكوين اختصاصات ضيقة متعددة، وظهور مختصين بدون معرفة دقيقة وعميقة. وبدون ذلك لا يمكننا أبدا تطوير النظر والعمل. لهذا كنت، أبدا، أرى أن مقولة «الناقد الأدبي «بهذا الإطلاق لا تعني شيئا لأنها تعني كل شيء.
بدون الاستيعاب الدقيق لا يمكننا التمييز بين «الاختلاف» بين المجتهدين من أجل الوصول إلى معرفة دقيقة بالمصطلحات والمفاهيم ودلالاتها التي تختلف باختلاف الإطار المرجعي الذي تعتمده.
إن مفاهيم مثل الخطاب والنص والتناص،،، وأخرى مثل الصيغة والسرد، والشخصية،،،هي في السرديات غيرها في السميائيات الحكائية، بل إن دلالاتها تختلف لدى السرديين أنفسهم. وباختصار إن معجم السرديات ليس هو معجم السيميائيات، وإن كان المعجمان يوظفان المادة الاصطلاحية نفسها. ويبدو لي أن واحدة من كبريات مشكلات التحليل السردي العربي تكمن في هذا الخلط والفوضى. فكانت المفاهيم والمصطلحات ملتبسة وغير واضحة. كان هذا هو الهدف الأول، وهو ذو بعد إبستيمولوجي وتربوي في آن.
أما الهدف الأساسي الثاني فيتمثل في جعل القارئ الذي يتعامل مع التحليل الذي أقوم به في الكتاب الأول والثاني وكل كتبي اللاحقة ( لأني كنت بصدد مشروع بعيد المدى مخطط ومدروس ) على معرفة بالإجراءات والمصطلحات التي أوظف. إنني كنت حريصا على فهم النظرية جيدا، وعلى ممارسة الوضوح النظري في أقصى مداه وعلى توظيف المصطلحات والمفاهيم بوعي بفروقاتها البسيطة والدقيقة.
فكيف، بناء على كل هذا، يقول إبراهيم، بأنه ليس هناك حوار وتفاعل ؟ وعندما يستدرك يقول هناك سجال لا استقراء ؟
5. 3. السجال والتفاعل :
كنت واعيا في الاختيار ومدركا للتمايزات على الصعيد النظري. وكنت مطلعا على النصوص التي اخترتها بناء على محددين اثنين : التجديد على مستوى البنية الروائية واتخاذ هزيمة 67 موضوعا للاشتغال. وعلاقة النظرية بالتطبيق علاقة حوار دائم. إنني لم أكتب المقدمات النظرية إلا بعد أن أكون قد انتهيت من التطبيق. لذلك لم أختلف مع جنيت في التبئير وفي التفريق بين المسافة والصوت، والانحياز إلى تصور ميك بال ضد جنيت، إلا بعد أن اشتغلت على النصوص ( هل هذا هو الاستقراء ؟ ).
كما أنني لم أقل إني مع التقسيم الثلاثي للعمل الحكائي، عكس تودوروف وجنيت (المدرسة الفرنسية )، اللذين يميزان فقط بين القصة والخطاب، وأتبنى : القصة الخطاب والنص إلا لأني كنت في مشروعي، أرى أن الوقوف عند الحد التركيبي ليس أقصى طموحي لأني كنت أرى أن السرديات يمكنها أن تنفتح في مرحلة من تطورها على مجالات أوسع، وعلى علوم أخرى غير اللسانيات. وهذا ما جعلني متفقا مع التقسيم الثلاثي لدى الدارسين الأنجلو ساكسونيين لاعتبارات مختلفة عن التي بنوا عليها تقسيمهم الثلاثي.
إن هذا التميز في فهم السرد وفق التقسيم الثلاثي الذي ارتضيته منذ البداية كانت تتدخل فيه، إلى جانب الملمح العلمي الذي أومأت إليه، رواسب تفكيري الماركسي أو قل الاجتماعي والإيديولوجي لأنها ظلت حاضرة، ولكني كنت أعمل على عقلنتها وعدم تركها تتصرف بدون أرضية علمية. وهنا رغم اتفاقي مع التقسيم الثلاثي، كنت أختلف مع أصحابه. وهذا ما طبقته في «انفتاح النص الروائي» حيث جعلته مدخلا لسرديات اجتماعية ( أسميتها سوسيو سرديات )، قبل أن أجد، بعد ذلك، باحثين أمريكيين يتحدثون عنها. لم يتساءل إبراهيم ما علاقة الانفتاح بالتحليل ؟ ولماذا البحث في البنيات الاجتماعية ؟ ولماذا ميزت بين «الخطاب» و« النص» ؟
في «قال الراوي» بينت المشروع السردي الكبير الذي يمكننا الانفتاح عليه لفتح آفاق للسرديات، ويؤدي إلى ظهور سرديات فرعية : أنثروبولوجية، ونفسية، تاريخية،،، وها أنا الآن أجد ( في الكتابات الأجنبية) من يتحدث عن سرديات رقمية…
كان المشروع واضحا، ولم أكن أسير المدرسة الفرنسية، كما يدعي. كان انفتاح النص منفتحا على «سوسيولوجيا النص» كما نظر لها بيير زيما الماركسي السيميائي. فلماذا لم ألتزم بتصور جنيت في تحليل السرد، وجعلت انفتاح النص امتدادا لتحليل الخطاب ؟
لم تكن أبدا لـ« انفتاح النص الروائي« أية علاقة بالسرديات المنجزة، حصريا أو توسيعيا. والمكونات التي بنيت عليها «النص» من حيث هو بناء، وتفاعل نص، وبنيات سوسيو نصية لم يتعرض إليها أي من الدارسين الذين اهتموا بالسرد، سواء كانوا فرنسيين أو ألمانيين أوغيرهم.
وعندما قلت : إن جنيت وسع مفهوم التناص، واختلفت معه في استعمال «المتعاليات النصية»، وقلت بأني أفضل عليه لأسباب خاصة :« التفاعل النصي «لأني كنت أرى العلاقات النصية تنبني على التفاعل، وجدت بعد زمن، جنيت يقول بأن مصطلح «المتعاليات» غير مناسب ؟ وها أنت ترى «التفاعل» مع النص الرقمي يأخذ كل مداه. وصرنا نتحدث عن «التفاعل» بأنه جوهر العلاقات بين الكاتب والقارئ والنص. وبذلك، وسعت ما أسميته في «الانفتاح» بنظرية التفاعل النصي«، وأدخلت ضمنها «النص المترابط».
لا أريد تعداد الأمثلة التي تبين أني حين أختلف مع هذا الباحث أو ذاك، أو أفضل هذا الاجتهاد أو ذاك، أني كنت أساجل. وأنا أسأل إبراهيم :هل يمكن أن يتم السجال بدون رؤية أو تصور مسبق ؟ لماذا كنت، منذ البداية، مع توسيع السرديات لا حصرها ؟ هل لأني أفضل ميك بال وشلوميث كينان الإسرائيلية،،، على جنيت الذي أعتبره دائما عالم السرديات الحقيقي وبدون منازع ؟ أم هذا اختيار واع، جاء من أني مقتنع بفتح السرديات على الخلفية الاجتماعية والإيديولوجية التي أراها في خلفيتي المعرفية، وأريد تأسيسها على ركائز علمية، وليس على مسبقات سياسية ؟
كنت أستعرض النظريات، واقول هذا تصوري الذي بنيته من خلال «المعرفة» بالنظريات، ومن خلال اشتغالي بالنصوص في علاقة مستمرة ومتواصلة. والأمثلة الدالة على ذلك لا حصر لها سواء في اقتراحاتي المتصلة بالصيغة أو التبئير أو انفتاح السرديات على المجتمع ( السوسيو سرديات ) أي كل ما يتعلق بالنص ومتفاعلاته. فهل هذا سجال ؟ أم حوار وتفاعل ؟ وحين يكون عندنا وعي بهذه القضايا هل يمكننا أن نتحدث عن «مطابقة» أم «اختلاف» بحسب تصور إبراهيم ؟
5 – 3- السرد والنموذج السردي والاستقراء:
5. 3. 1. السرد فعل إنساني. هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته من البنيوية. إنه تماما كاللغة والحياة. والخطاطات السردية إنسانية كما تعلمنا حاليا النظريات المعرفية ونظريات الذهن والدماغ. والنموذج السردي لا يمكن أن يكون إلا علميا أي إنسانيا، اللهم إلا إذا كنا نؤمن بعلم فرنسي وآخر عربي في مجال الطب مثلا.
وجد السرديون أنفسهم، في البداية، أمام سرد متنوع ومتعدد، تماما كما وجد دوسوسير نفسه ( وهو يسعى لتأسيس علم للسان ) إزاء العديد من اللغات الإنسانية. فماذا فعلوا ؟ هل مارسوا الاستقراء أم الاستنباط ؟
لنترك بارث (1966) يجيب، وهو البارع في هذا المجال : «إنهم يطالبون بإلحاح أن نطبق على السرد منهجا استقرائيا محضا، وأن نبدأ بدراسة كل سرود جنس ما لفترة ما، ولمجتمع ما ثم ننتقل بعد ذلك إلى تهيئ مخطط إجمالي لنموذج عام. إن هذه النظرة السليمة الطوية طوباوية. فحتى اللسانيات نفسها، والتي ليس أمامها سوى نحو ثلاثة آلاف لغة عليها أن تحيط بها، لا تستطيع ذلك. وهكذا جعلت من نفسها وبحكمة منهجا استنباطيا. وبالفعل، فمنذ ذلك اليوم تم تشكيلها بطريقة جدية، وتطورت بخطى عملاقة، بل إنها وصلت إلى التكهن بوقائع لم تكن قد اكتشفت بعد. فماذا يمكن القول إذن عن التحليل السردي المواجه بملايين السرود ؟ إنه محكوم عليه إذن، وبالضرورة، اتباع إجراء استنباطي، وهو مضطر بادئ ذي بدء لتصور نموذج افتراضي للوصف ( والذي يسميه الأمريكيون «نظرية« )، ثم النزول بعد ذلك شيئا فشيئا انطلاقا من هذا النموذج باتجاه الأنواع التي تشارك فيه وتنزاح عنه في الوقت نفسه : إنه فقط في مستوى هذه التوافقات والانزياحات وبمساعدة أداة وحيدة للوصف حيث سيقف هذا النموذج على تعددية السرود وتنوعها التاريخي والجغرافي والثقافي،،،» ( 5 ).
أدعو الزميل إبراهيم، أن يقرأ هذا الشاهد بتأمل عميق لأنه يبين كيف يشتغل العالم الذي يؤسس للمعرفة، ويميزه عن الحالم الطوباوي الذي يتحدث من منظور غير علمي.
ولتجسيد الفكرة التي يدافع عنها بارث باسم كل البنيويين الذين شاركوا في العدد، أبين الفرق بين عمل بروب وعمل غريماس. لقد انطلق الأول من متن واسع من الحكايات الشعبية ليصل إلى إحدى وثلاثين وظيفة . أما غريماس التي اشتغل في أفق صار الحديث فيه عن «النموذج» واقعا معرفيا، فقد اختزل كل الوظائف في ست فقط، وقدمها لنا باعتبارها اختزالا لكل البنيات العاملية في أي نص أو مجال، مهما كان الزمان أو المكان.
هذا هو الأفق المعرفي الذي كنت أنطلق منه. وهو الذي دفعني إلى الاشتغال برواية مركزية ( الزيني بركات )، وبروايات محيطة ( الروايات الأربع ). وبعد انتهائي من الاشتغال بالرواية انتقلت إلى البحث في السرد العربي القديم، وأنا الآن بصدد الاهتمام بالسرد الأوروبي في العصور الوسطى، وبالسرد الرقمي. كل ذلك بهدف تطوير المشروع الذي دشنته منذ القراءة التجربة.
أما حديث إبراهيم عن المكونات فغير واضح. إن المكونات محدودة. لكن ما يمكن أن نطوره بصددها فهو ما تمدنا به النصوص. وإذا كان جنيت بناء على الاشتغال ب« البحث عن الزمن الضائع «، انتهى إلى بناء تحليل زمن الخطاب بشكل متكامل، فإن نظرية التبئير كانت في حاجة إلى تطوير، وكانت اجتهادات ميك بال في هذا الاتجاه تطويرا لما ابتدأ به جنيت لأنها اشتغلت بنصوص أخرى. وملاحظاتي التي يعتبرها إبراهيم سجالا هي وليدة قراءة للزيني بركات، وهكذا. ومن يطور المفاهيم، فإنه لا يبني ذلك من خلال السجال، ولكن من خلال التدليل على ما يقدم من خلال الأمثلة الدالة.
إن المسألة إذن ليست تطبيقا لقوالب وصيغ على الرواية العربية. فهذا تبسيط واختزال. ولكنها بحث دائم عن تطوير النموذج لأن من أوليات سماته أنه منفتح أبدا. ماذا يسمي إبراهيم اشتغال تودوروف على الليالي ( وهي نص عربي ) ؟ وغريماس على الأساطير والخرافات الشعبية. هل هذا النموذج الذي يريدون الوصول إليه إنساني أم أنه خاص بالثقافة الفرنسية؟ وإذا ما اشتغلت، كما أفعل الآن، بنصوص أجنبية، باستعمال الإجراءات والمفاهيم التي وظفتها في مختلف كتبي هل أطبق نموذجا أجنبيا على نص أجنبي ؟ وهل عملي يدخل في نطاق المطابقة أم الاختلاف ؟
6 – تركيب : الاختلاف مرة أخرى:
لا يفرق إبراهيم بين السرديات والنقد السردي ( أي بين العلم والنقد ). ولهذا كان كل حديثه عن المطابقة والاختلاف والسجال والاستقراء وخصوصية النص العربي كلها وليدة هذا التصور. يمكن للناقد السردي أن يشتغل بالنصوص ولكن من منظور سردي معين، ويمكنه الاشتغال بالأدوات التي يقدمها السردي بهدف التطوير والإغناء. هذا هو الدرس الأساس الذي استفدته كذلك من السرديات. السرديات تنطلق من نموذج ومن محاولة البحث عن النسق العام لإنتاج السرد وتلقيه. أما النقد السردي فيستفيد من المنجزات السردية لقراءة النصوص. ولقد اشتغلت بالسرديات والنقد السردي وحاولت المزج بينهما، وأول كتبي كان ( القراءة والتجربة ) كان نقدا سرديا، وكل ما استخلصته فيه من نتائج صارت هي المتداولة في مختلف الكتابات النقدية التي تناولت التجريب في الرواية العربية. والكتابان اللذان درسهما إبراهيم جاءا بعد هذا الكتاب الذي مارست فيه تحليل النصوص وعرفت مشاكلها النظرية والعملية. ولذلك كان اتفاقي واختلافي وانحيازي مبنيا على دراية، وليس على سجال.
لا يمكن الحديث عن المطابقة والاختلاف، إذا كنا ننطلق من عصر معرفي ومن دراية بما يجري في عصرنا. أما إذا كنا نتوهم أننا في كوكب خاص. فيمكننا أن ندافع عن «اختلاف» وهمي، وعن «نظرية عربية وهمية». وكل الذين ينادون بالاختلاف بهذه الصورة هم أعجز الناس عن فهم ما يجري، فبالأحرى إبداع شيء ما. ولذلك نظل نلوك الكلام الذي لا ينتج غير الكلام.
إن الروائي العربي ينتج رواياته وهو يتفاعل مع السرد العربي والسرد الغربي ومع العصر الذي نعيش فيه. كما أن الروائي الأجنبي ينتج رواياته وهو يتفاعل مع السرد الأجنبي والعربي، ومع القديم والحديث. ولذلك يمكننا أن نتفاعل كقراء مع الرواية الأجنبية تفاعلنا مع الرواية العربية. وكما نقرأ الملاحم اليونانية القديمة والسير الشعبية نقرأ الأعمال السردية الجديدة. أين تكمن الخصوصية النصية ؟
كما ينتج الروائي سرده، ينتج السردي نظريته السردية، في تفاعله مع مختلف الإنجازات السردية الإنسانية. لا يمكن، والحالة هذه، إذا أردت قراءة الرواية العربية أن أقرأ بأدوات وإجراءات «عربية»، وإلا فأنا أمارس ثقافة المطابقة. وإذا أردت قراءة وكتابة دراسة عن رواية أجنبية علي أن أبحث عن الأدوات الأجنبية لقراءتها. وكذلك من أراد قراءة الليالي من الأجانب فما عليهم سوى الانطلاق من النظرية السردية العربية التي هي وحدها القادرة على قراءة الليالي، وإلا فهم بعداء عن فهمها، ويمارسون «المطابقة« لا الاختلاف.
إن الاختلاف الحقيقي، وأنا في مضمار البحث لا أحب مثل هذه المصطلحات، يبدو من خلال الفهم والاستيعاب والاجتهاد. إذا تحقق هذا فهذا هو الاختلاف الحقيقي، سواء كان ذلك مع الآخر أو مع الماضي. فالمشتغل ( كيفما كانت جنسيته ) في نطاق العلم، سواء كان تجريبيا أو إنسانيا، ينطلق من الإنجازات العلمية المتحققة، ويسعى للارتقاء بها وتطويرها. إن نجح في ذلك فهو يسهم في تطوير المعرفة الإنسانية، وإن لم ينجح فهو على الأقل يشارك في البحث العلمي، ويمكن لأعماله أن تفيد أعمالا أخرى قابلة للمساهمة في التطور. لقد اجتهدت، وما أزال أفعل بذهنية الطالب الباحث، وسأظل أفعل، لأني لا أومن بالمطلقات ولا بالقوالب ولا بالمسبقات. وأرى أن ما قدمته للسرديات هو دون طموحي، لمراغمات وإكراهات شتى، ولذلك فأنا ما أزال أعتقد أن للسرديات مجالا واسعا للبحث والاختبار والتطور. وأن ما أنجز فيها، عالميا وعربيا، ما يزال يتطلب الكثير من الاجتهاد والعمل، ولهذا السبب تقام، في أروبا وأمريكا، مؤتمرات وتؤسس مختبرات حول السرديات وهي تبحث لها عن آفاق أرحب لمعانقة القضايا السردية الكبرى،لأن السرد فعل إنساني تماما كالحياة.
إن البحث العربي في مضمار السرد والأدب والثقافة والمجتمع والسياسة،،، مدعو إلى التفكير في مختلف هذه القضايا من منظور إنساني وعلمي وعملي، ويدرك أن البحث عن المطابقة والاختلاف ، بالشكل الذي مورس إلى الآن عندنا ليس سوى وهم. إنه وهم لأنه يجعل تفكيرنا أبدا ليس «رد فعل» على «فعل» الآخر. وصاحب رد الفعل مدعو أبدا إلى رد الفعل، لأنه غير قادر على «الفعل». إن «الفعل» الممكن لا يتأتى إلا بالانخراط الواعي والإيجابي في الفعل الإنساني، قد يتأخر في الوصول، ولكنه سيصل يوما ما، لأنه وضع نفسه في سكة العمل الملائم. أما صاحب رد الفعل فإنه سيظل أبدا لا ينتج غير ردود أفعال، لأنه خارج النسق العصري الذي يعيش فيه. وهذه هي المعضلة الجوهرية لتفكيرنا في العالم الذي نعيش فيه منذ عصر النهضة إلى الآن. ولذلك يستوي في هذه المسألة «التقليدي» و« الحداثي» في رأيي. إن فكرنا العربي، في مختلف تجلياته، في الأدب والثقافة والسياسة والاقتصاد،،، يراوح المكان، ولذلك لا يتطور، لأنه لم يجد السكة التي يمكن أن يستوي عليها للانطلاق. وهنا يمكن القول إنني «أتطابق« مع زميلي عبدالله إبراهيم في تشخيص واقع «الأزمة»، ولكني «أختلف» معه في تشخيصها، لأن منطلقاتنا مختلفة جذريا. ولو بحثت في المطابقة والاختلاف في الفكر العربي الحديث من عصر النهضة إلى الآن لوقفت على قضايا غير التي وقف عندها لاختلاف منظوراتنا بصدد منهج التفكير وإجراءاته، سواء تعلق الأمر بالاستقراء أو الاستنباط أو غيرها من الأمور ذات الطبيعة الإبستيمولوجية والمعرفية.
هوامش :
1.نقاش مع حسن الهويمل، نشر في حلقات في ملحق الأربعاء، 2000
2.عبدالله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة : تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1999، ص. 77ـ80
3. سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي : الزمن، السرد، التبئير، المركز الثقافي العربي، بيروت /الدار البيضاء، ط. 3. 1997
4. سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي : النص والسياق، المركز الثقافي العربي، بيروت /الدار البيضاء، ط. 2. 1997
5. R.Barthes,Introduction à l’analyse structurale des récits, in Communications,8-1966,P.8
وانظر ترجمة هذه الدراسة في «طرائق تحليل السرد العربي» تر.حسن بحراوي وبشير القمري وعبد الحميد عقار، في : آفاق، عدد 8-9/1988، ص. 8
سعيــد يقطين ناقد واكاديمي من المغرب