السؤال الذي ننطلق منه في هذا التناول، سؤال سهل وبسيط، ويتمثل في الاستفهام عن ماهية السخرية؟ وكيف تم تناولها واستحضار أبعادها في سياق الاشتغال الفلسفي؟ وأن ننطلق من استفهام في مستوى هذا الوضوح، لا يعني ذلك أن الجواب عنه سيكون أمرا سهلا، أو أنه سيكون جوابا نهائيا. لكنه سيكون بصيغة من الصيغ مقاربة، لا نملك بدء الدخول في تبريرات لنقائصها. ولعل مقاربة المفاهيم دونما حسم في الجواب على إشكالاتها لهو واحد من وجوه عديدة تمهر الفلسفة فن إنجازها. وليس هذا وارد في اصطلاح الفلاسفة افتعالا، وإنما هو من باب الحقيقة التي لا سبيل إلى ادعاء نقيضها.
و لنتأمل افتتاحا هذه المتن: يحكى أن أحد الملوك، احتال عليه خياط فأقنعه بأنه سيصنع له ثوبا عظيما لا يراه سوى الحكماء. اقتنع الملك بمهارة الخياط المحتال، وخرج على وزرائه عاريا تماما، وقال لهم: «انظروا.. ما رأيكم في هذا الثوب السحري الذي لا يراه سوى الحكماء؟»
بعض الوزراء خافوا من غضب الملك فقالوا: «هذا ثوب عظيم يا مولاي». وبعض الوزراء كانوا طامعين في عطايا الملك، فقالوا: «يا مولانا، لم نر في حياتنا أجمل ولا أروع من هذا الثوب».
كان هناك طفل صغير في القاعة، قال ببراءة: «أين الثوب الذي تتحدثون عنه، إني أرى الملك عاريا. حاول الوزراء إسكات الطفل بأي طريقة.. لكزوه وبخوه وهددوه، لكنه ظل يصيح: إني أرى الملك عاريا. عندئذ أخرجوه من القاعة».
تستبطن هذه الحكاية موقفا ساخرا من الملك ووزرائه، بقدر ما تتجاوز سخريتها شخصيات الحكاية كي تقصد كل فعل مداهن منافق من الأفعال التي يأتيها الناس بشكل عام. فهل من الممكن أن تيسر هذه الحكاية المهمة أمامنا من أجل تعريف السخرية؟
إذا تأملنا النص الحكائي فإننا سنجد أداء هزليا تؤديه الحكاية فور تعقيب الوزراء على عري الملك. لكن سحابة محملة بشحنة كهربائية صاعقة تنال المتلقي فور يظهر الطفل بين أبطال الحكاية. وهو ما يعني من ناحية أولية أن السخرية ومض خاطف يشق سبيله في ردهات الإجماع بما يفيد الفضح. فهل فعلا السخرية هي كذلك؟
يقر سيربر Arié serper في معرض تعريفه للسخرية، أن السخرية مثلها مثل الحب، من السهل ادعاء معرفته، ولكن من الصعب تعريفه. ويقترح أن نتمثل صورة سحابات محملة بشحنة كهربائية تتلاقى فوق رؤوسنا، بحيث أننا نجهل الشحنات السالبة التي تتجول عبر الأرض على شكل ينابيع سرية. وهو ما يعني أن السخرية هي إضاءة. وهذه الإضاءة أو الكشف الناتج عن صعقة، إثر اجتماع نقائض لم يتحقق من قبل الوعي بها، وقد أمسى بالوسع تدارك ذلك الجهل. وهو ما يضفي على المتن بعدا جديدا، لأن السخرية تسهم في تركيب بنية العمل الفني وتجعله أكثر تشابكا، مما يجعل قراءة واحدة للعمل تعتبر غير كافية(1).
وقد تحصل السخرية دونما حاجة إلى الانتقال سواء على مستوى الإنتاج أو التأويل من المعنى الحرفي الأول إلى المعنى المشتق الثاني. وهذا ما يجعل السخرية تنفتح على المفارقة، وتمتد خارج حيز التعارض البسيط(2). يقول كيركجارد: «إن جدية السخرية ليست جادة، إن ما يقوله الساخر قد يكون جادا بحيث يبدو كلامه صادقا للمستمع، لكن هذا المستمع عندما يكون عارفا بما يقصده الساخر، فإنه يشاركه ذلك السر الدفين الذي يكمن خلف هذا الكذب، ومن ثم يتم إلغاء السخرية أو نفيها مرة بعد مرة»(3). إن السخرية تفترض تواطؤا خفيا بين ما هو جد: يختفي وراء معنى ظاهر، قريب من أنف المتلقي، لكنه لا يشكل على الإطلاق غاية المتكلم، ولعل هذا ما يؤصل المفارقة.
إن الملك مثلا في الحكاية، راح ضحية خياط محتال، وكونه مغفلا فحاشيته طمعا في مصالحها ملزمة بمجاراته على ما هو عليه من ضلال. لكن الطفل ببراءته: كان لزناد المفارقة بالمرصاد، وكي لا يعود على القوم بما فيه وبال أمرهم، فقد تجندوا لإلغائه. وضوح كهذا الذي أبداه الطفل هو أقل ما تستدعيه السخرية كي تتفجر. فالنص الحكائي اكتسب نجاعته التهكمية من خلال موقف الطفل. وهو وضوح_ ولو أن السخرية ليست مشروطة به دائما إلا أنه هنا_ يعتبر فاعلا في النهوض بمهمة إرباك شبكة العلاقات القائمة في النص الحكائي، وتوطيد هوية النص الساخرة.
كاتب هذا النص، أو موظفه بحسب المقام، يجعل وظيفة النيل من متلق في مقام مفترض غايته، وهو ما يجعل عامل القصدية شرطا لابد منه إلى جانب تابت المفارقة، والمقام. وفي ذلك يقول أحد الباحثين(4): إن كل ما يمزق الإنسان، وكل تناقضاته ووعوده الصادقة غير الموفاة، ومثاليته المتضاربة مع سلوكه، تكون مصدرا للسخرية. إن السخرية توجد في المجتمع حين تسود عدالة الإنسان المقلوبة، وتكون في الذات الإنسانية حين تخون الإنسان ملكاته. ويضيف صاحب كتاب «السخرية والسلطة بالمغرب»: السخرية هي شكل من أشكال التعبير السياسي، وكلما كان النظام أكثر احتقانا، إلا وازدهرت السخرية السياسية بشكل أكبر وأكثر ذكاء وإبداعا وحذرا»5. أما رائد السخرية السياسية في المغرب:أحمد السنوسي «بزيز» فيعرف السخرية قائلا: «إن السخرية معدية وتعري وتفضح، وتزيل القدسية وقناع الهيبة، وتسقط ورقة التوت التي تخفي عري أنظمة الاستبداد… إن السخرية تعطي المتلقي سلاحا خطيرا وتريه أن السياسيين ليسوا سوى فزاعات. إنها نوع من المقاومة وسلاح الانتصار على الخوف، لا سلاح الخوف من الانتصار».(6)
إن كلمة Eiron في اشتقاقها اللاتيني تعني: «أنا أتكلم». بهذا المعنى تحضر الكلمة في استعمال هوميروس Himère، بالصيغة التفاعلية: Eiron أي: «هذا الذي يتكلم»، ثم: «هذا الذي يتكلم بصيغة خاصة، هذا الذي يقول أقل مما يفكر فيه، هذا الذي يتظاهر، هذا الذي يقول بأنه لا يعرف بينما هو يعرف، وأنه لا يقدر بينما هو يقدر.. ونفس الصيغة Eironeia تعني: «خطاب أو لغة خادعة».(7)
و يشير سيربر إلى أن أفلاطون استعمل Eironeia أساسا للإشارة إلى أسلوب سقراط، الذي يدعي عدم المعرفة ويبدي الرغبة الجامحة في التعلم من محاوره العالم بكل شيء omniscient. لقد كان سقراط سباقا إلى ابتداع نوع من السخرية الفلسفية، يحقر من خلالها مجتمع اثينا، بطريقة التبالة وادعاء الجهل. ومحاولة إثارة الموضوع الذي يتكلم فيه بطريقة ساخرة. وقد شاعت هذه الطريقة في الكوميديا اليونانية التي تتناول بالنقد البرجوازيات الناشئة وتحالفاتها مع طبقة النبلاء. ثم تسربت إلى بشكل أو آخر إلى آداب أوروبا في القرن السادس عشر(8).
ويوجد خلف الذيوع الذي أصبح يحتله مفهوم السخرية في الأدبيات المعاصرة- خصوصا منها الغربية- مسار طويل، يمكن التأصيل له انطلاقا من السخرية التي تحضر في الإنجيل، في ملحمة جلجامش، وفي ملاحم وأساطير الشرق الأدنى والأقصى. ففي الالياذة والأوديسة، السخرية ترد مشخصة في المشاجرات التي جرت مثلا بين زوس وهيرة، كما أنها محور خلافات بين الآلهة في علاقتهم بالبشر: فزوس مثلا رغم حبه لطروادة، ضحى بها، وهيرة قبلت دمار ثلات مدن كانت بالنسبة لها عزيزة هي: أركون، سبارط ، وميسين، لمجرد تبادل السلم.(9) إن السخرية بهذا ليست اكتشافا لم يمهره الإنسان إلا حديثا، ارتباطا بما حققه ذكاؤه من تسام ورقي، على ضوء ما أحرزه من معارف. بل إنها سلوك إنساني، وطاقة يفترضها التفاعل الوجودي ذاته. في هذا الصدد يقول كيرجارد :» حيث توجد حياة، يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض، يكون المضحك موجودا»(10).
و التناقض في أجلى وجوهه يحضر مستترا ليجسد المفارقة باعتباره شرطا لابد منه، حتى أن معنى مصطلح Irony الإنجليزي(11) يعني ذاته لفظ: المفارقة، كما أن الكلمة نفسها تعني عند أرسطو الاستخدام المراوغ للغة.
يعرف الفيلسوف الألماني شلنج(12)السخرية باعتبارها مفارقة. والمفارقة هنا تحيل على ما لا يمكن تلخيصه بأي حال في بادئ الرأي «Doxa». فإذا كان هذا الأخير لا يستند في بنائه على أي مسوغ منطقي أو عقلاني، نظرا لكونه معرفة عاطفية، معرفة زاخرة بالأحكام المتسرعة، معرفة عنوانها الافتعال والادعاء الكاذب. فهل معنى ذلك أن السخرية أمست مع هذا التحديد معادلا طبيعيا للفلسفة؟ إن الفلسفة لا توجد إلا من أجل هدم بادئ الرأي وتجاوزه. لأنه مشاد فوق أرض تربتها الادعاء وعنوانها التناقض. فهل غاية السخرية هي نفض الغبار على تناقضات المعتقد والوقوف على قيود الإنسان، بغاية تطهيره وتحريره أيضا؟
هذا السؤال يستدعي ضرورة مقاربة الفعل الفلسفي كما سنت تقاليده الممارسة الحوارية التي باشرها يوما ما سقراط في اثينا، باعتباره فعلا امتزج بالسخرية، وانقاد لقناتها، وكل أمل هذا الفعل تجاوز ما اصطلح شلنج على تسميته ببادئ الرأي «Doxa».
السخرية السقراطية:
في كتاب الجمهورية لأفلاطون، يتوجه سقراط إلى تراسيماخوس وهو سفسطائي شاب بالقول: «لا تكن قاسيا علينا! لأنه لو ارتكبنا خطأ في الحكم فعليك أن تكون متأكدا من أن ذلك راجع إلى جهلنا». فيعقب تراسيماخوس كالتالي: «لاحظ السخرية المعهودة على سقراط ، إني أعرفه، وتوقعت أن ترفض الجواب، إنك تمارس السخرية، ولا تدخر جهدا سوى بهدف الهروب من الجواب»(13)..
إن مفهوم السخرية دخل إلى دائرة الوجود من خلال طريقة سقراط، حسب هيجل، وذلك حين وظف أفلاطون مفهوم السخرية لوصف أسلوب سقراط(14). ترى من هو سقراط؟ إنه ابن مولدة، سمى فنه المايوطيقا، أي فن التوليد. أمه كانت تعنى بتوليد بطون النساء فانبرى في آتينا إلى توليد العقول. والصورة المعهودة التي يرسمها أفلاطون لسقراط هي كالتالي: سقراط يتطلع للاجابة على سؤال يوجهه إلى ذاك الذي يدعي الوعي. إنه يعطي الانطباع بأنه لا يعرف شيئا، وذلك لا يتم منه برغبة في الكوميديا. ويمكن القول أنه يبغض كل كوميديا، مثلما يبغض الأشخاص الذين يتظاهرون على نحو كاذب. والذين يريدون إعطاء الانطباع الجيد -سيما أمام الجهال. يقول كيركجارد: «إن جوهر السخرية ألا تكشف عن نفسها،إنها تغير الأقنعة باستمرار»(15).
إذا كان سقراط ينتفض في محاوراته خصوصا ضد فن السفسطائيين الذي يتلخص في أن: «الإنسان هو مقياس كل حقيقة، ما يوجد منها، ومالا يوجد»، وهو ما يعني أن الحقيقة متعددة بحسب الذين يعتقدون فيها، فالرسالة التي يريد توجيهها تفترض نوعا من التظاهر بالجهل. وذلك من أجل إفساح المجال أمام الخصم، حتى تنكشف حججه ومعارفه، وتظهر كل ما تنطوي عليه. حينئذ نشهد نهاية التدمير الذي يحتاجه هذا الادعاء المعرفي. لأن سقراط يعطي مند البدء الانطباع أنه لا يعرف أي شيء، إنه يطرح الأسئلة التي لا تطرح عادة بسبب بساطتها.(16)
يقول ميرلوبنتي في هذا الصدد: «سخرية سقراط هي علاقة بعدية DISTANTE لكنها واقعية، ففي علاقته بالغير فهو يعبر عن الحدث المهم الذي عبره لا يمكن أن يجسد الشخص إلا ذاته، بشكل حتمي ولكنه يعرف في الآخر. مثلما الأمر عليه في المأساة (التراجيديا) حيث أطراف الصراع جميعهم على حق. والسخرية الحق هي التي تستعين بمعنى مزدوج يتأسس في الأشياء. ليس هناك في الأمر أي كفاية Suffisance. إنها سخرية تستهدف الذات وليست أقل_في ذلك_ من استهدافها للآخر. إنها ساذجة_ حسب هيجل_ . ففي الأسطر الأساسية من فلسفة الحق، نجد هيجل يقول أن سقراط يجمع بين الميل Tendance والقصدية صوب الباطن الذي يدفع إلى البحث في الذات وإلى معرفة وتحديد ما هو خير وجميل من خلال هذه الذات»(17)..
إن ما يؤهل سقراط للبدء في محاورته هو بالتأكيد طور السخرية، فالسخرية ليست بأقل ارتباطا بالممارسة الجدلية مادامت تدفع المخاطب إلى إنتاج مبادئه، على غير ما يتيحه ويشجع عليه بادئ الرأي_ وهو ما يسمح بإيقاع فصل داخل المناقشة الجدلية_ وذلك بالطريقة التي لو ألغينا البعد الشخصي وبعد الخفوت والاضمحلال في المحاورة وجها لوجه مع الأشخاص فإن حركية التفكير هي الجدل. لهذا يرى هيجل أن السخرية صورة ذاتية للجدل، ومعنى مفردة جدل يجب أن يكون محددا. في هذا الإطار يوجهنا أرسطو إلى أن الجدل لم يكن في زمن سقراط قوة فعالة من شأنها أن تختبر متناقضات الجوهر المعزولة. أما أفلاطون فيؤكد على أن: «الذين كانوا قبل سقرط لم يملكوا أي معرفة جدلية»(18).
يوجد في قلب الرؤية السقراطية إذن لحظة أولى: يمكن نعتها باليقظة الذاتية، أو يقظة الوعي الذاتي. فأن أوجد في كل ما أفكر فيه لهو التفكير الحق. كما توجد لحظة ثانية: تخص محتوى التفكير الذي لا ينبغي أن يكون ذاتيا، ولكن ينبغي أن يكون موضوعيا. إذ على الفكر أن ينفتح للكونية الروحية، ويتعلم التركيز والإمساك بالمبادئ الحقة. في هذا السياق ينسب أرسطو لسقراط في كتابه «الميتافيزيقا» اكتشافين جد مهمين: الأول هو الخطاب القياسي، والثاني هو التعريف الكلي(19). .
السخرية الرومانسية:
الصعوبة التي يمكن أن تنشأ بصدد تعريف السخرية الرومانسية مع شلنج تعود أساسا إلى طبيعتها، لأن أحد خصائص هذه السخرية هو نزوعها إلى أن لا تكون محددة، واضحة، ممسوك بأطراف خيوطها. رغم أن الطابع المفارق للمفهوم لا يدمر المفهوم إطلاقا. فالسخرية كمفارقة تتناقض وبادئ الرأي، قول كهذا، يزيده شلنج غموضا، حين يعرف المفارق باعتباره: «كل ما كان في نفس الوقت خيرا وكبيرا». هذا التأويل الذي اتخذه المفارق يمكن أن يتلخص في كل ما كان مناقضا للبادئ الرأي. لأن هذا الأخير وحده يوجد فاقدا للخير إلا ما كان من أمر ما يوفره للساسة، حين يعمل بمنطقه القطيعي على سد كل أنواع الخلل التي من شأنها جعل مسببات الوعي تشرئب. إن السخرية هي شكل من أشكال النقد، شكل من أشكال تجاوز المحدود والنهائي. إذ كل سخرية هازئة، وكل هزء satire ليس بالضرورة سخرية. يقول سيربر: «مند الرمنسيين الألمان والكلمة واحدة من المفردات الأكثر غموضا والأكثر فتنة وإثارة للنقد والتحليل الأدبي»(20).
إن شلنج يدعم الطرح الذي مفاده أن الفلسفة هي الوطن المقدس la patrie divine للسخرية ويصنف السخرية انطلاقا من وظيفتها الشعرية. يقول شلنج: «هناك قصائد قديمة وأخرى حديثة تتنفس في كليتها النفس المقدس للسخرية، مَسخَرَة bouffonnerie متعالية تحيى فيها، بداخلها العاطفة التي تحلق بالكل، تتجاوز مطلقا كل ما هو محدود، وأيضا تتجاوز بالفن، والفضيلة، حيث النبوغ الخالص»(21). ما يثير في هذا الكلام_بالاضافة إلى التأكيد على مسألة العاطفة_ هو التلاحم الحاصل بين «النفس المقدس» وكلمة «مسخرة». هذا التعارض لا يمكن رده إلا إلى السخرية ذاتها باعتبارها تأليف بين المتناقضات.
ينظر شلنج إلى السخرية على أنها حالة سامية، تصدر عن الذات في صيغة فعل، من خلالها يختبر الإنسان حريته. يقول شلنج عن السخرية: «إنها الرخصة الأكثر حرية، وذلك لأن بفضلها يمكن تجاوز دواتنا. وهي الأكثر مشروعية، لأنها توجد بشكل مطلق وحتمي». في السخرية يختبر الإنسان حريته، فمن جهة غياب الحرية لا يمكن أحدا من الاجتراء على السخرية. ومن جهة أخرى فالسخرية ليست شيئا سوى طريقة في تحقيق الحرية. والحرية مشروطة بالهدم الذاتي، يقول شلنج: «إن مظهر الهدم الذاتي يجعل انبثاق الحرية غير المشروطة، وإبداع الذات، مسألة ممكنة»(22).
هكذا يتحول الهدم الذاتي إلى إبداع ذاتي، من خلاله أبتعد عن نفسي، وفي هذا الفعل أحيا حريتي. مسألة مفهومة أن الهدم ينصب دائما على ما استطعت إبداعه، وعلى ما أنا به أعْرَف، فلو أني تمكنت من هدم ما أبدعته، أكون بذلك قد هدمت جزءا من ذاتي الخاصة، وحققت التجاوز الذي يجعلني أضمن وجودي ككائن حر. إن السخرية كإبداع ذاتي وهدم ذاتي في نفس الوقت، اهتم بها الرومانسيون دون غيرها من القضايا المفارقة للواقع نظرا لكونها الرخصة الأرفع، أو نظرا لكونها التجسيد المطلق ذاته للحرية. يقول شلنج: «هناك فنانون لا يعطون قيمة عليا للفن_وهذا مستحيل_ لكنهم ليسوا على درجة من الحرية إلى الحد الذي يتمكنون معه على الارتفاع فوق ما هو أعلى عندهم». مما يدل على أن الإبداع الذاتي auto_creation لا يوجد باعتباره فعلا سخريا، وتمظهرا حرا إلا بقدر المسافة التي ينجزها المبدع في علاقته بما يخلق. إنه بحسب قدرته على إخراج نفسه مما ينتج يكون حرا. وهو حقا يختبر حينئذ حريته»(23).
إن كل ما يبدع بحسب السخرية الرومانسية، جار فعل تمامه واكتماله، وفي ذلك حتمية تحدده ونهايته وانتهائه، لذلك ينبغي تجاوزه والتعالي عليه بشكل ذاتي، لأن وجهة الرومانسية هو المطلق واللانهائي. والسخرية هي أداة للتعالي على ما هو محدود من أجل الوصول إلى اللانهائي. فالفكرة ينبغي أن تتنازل عن وجودها الأصلي من أجل أن تتجسد، وما ضياعها سوى السخرية. وهذا يذكرنا بالسخرية في معناها التقليدي حيث السخرية تهدم ما هو غير مكتمل وغلط. ومعناها يصبح متلخصا في التحول الذي لا مفر منه للفكرة التي تتحقق.هذا التحويل هو في نفس الوقت نقص من القيمة(24).
السخرية بين هيجل وكيرجارد
التحليل الهيجلي لمسألة السخرية يلتقي مع الصياغات الأساسية للسخرية كما تبلورت في الفلسفة الرومانسية، لقد رأى هيجل في السخرية الرومانسية التأكيد المطلق على الذاتية. واعتبر تلك السخرية مخالفة للموضوعية الأخلاقية(25).
ولنتأمل على سبيل المثال نقده للفلسفة الرومانسية كما تجسدت مع شيلنج، يقول: إنه لا يوجد أبدا وجود في ذاته ولأجل ذاته، كل ما هنالك أن فاعلا مطلقا يتمثل في «الأنا» ينجز أثره كشيء، أي كوجود، وهو وجود ليس سوى تمظهر يوضع من طرف هذه الأنا، التي بإمكانها تدميره متى شاءت ذلك. إن كل العلاقات الإنسانية في خطر، وحتى وجود الإنسان ذاته، لأنه لا يوجد شيء بإمكانه أن يقوى على الاستمرار في جو المظاهر ويكون قادرا على تدمير المظاهر»(26). وهو ما يعني أن هيجل يرفض التأليف بين السخرية بمعناها السقراطي، والسخرية الرومانسية. إننا نجد هيجل يتبنى بشكل خاص في كتابه «فينومينولوجيا الروح» طريقة سقراط المتمثلة في جعل الخصم يتكلم وتركه يعرض تصوره بكل حرية، من أجل_ في أحسن الأحوال_ تدمير هذا التصور لاحقا. إننا نجده يدع في كل مرة الكلام عن بعض أشكال الوعي من أجل تجاوزها فيما بعد. لننظر على سبيل المثال إلى مسألة اليقين الحسي الذي يظهر أنه المعرفة الأكثر غنى والأكثر صدقا. ليبدو عنده لاحقا في صيغة المعرفة الأكثر تجريدا وفقرا.
ربما التقارب بين هجل وسقراط ليس عشوائيا، إذ في كتاب «تاريخ الفلسفة» نجد هيجل يؤسس هو ذاته علاقة بين المنهج الجدلي والمنهج السقراطي، فيقول: «كل جدل يدع تقييم من يسعى إلى تقييم شيء ما، كما لو أن هذا الشيء يملك في الحقيقة قيمة، إنه يتركه ينمي هدمه الداخلي ذاتيا_ وهذا ما نسميه السخرية الكونية l›ironie generale du monde»(27). هيجل يؤكد إذن تعبيريا وجود علاقة بين منهجه الجدلي ومنهج سقراط، وهو ما تصرح به وظيفة الجدل، التي لا تهدف إلى هدم جزئيات الاستدلال الذي يبنيه المتكلم، ما يعني أن الجدل يستبطن ذات الوظيفة التي تنجزها السخرية في الممارسة السقراطية.
إن السخرية حسب أحد الدارسين تعمل باستمرار في خدمة الجواب عن السؤال: ما الإنسان؟ ما الوجود البشري الحق والأصيل؟ ولا يمكن أن ننتقل إلى هذا الوجود الأصيل فنصير ما لم نكنه من قبل إلا إذا هدمنا وجودنا الزائف. ذلك أن السخرية تسير بنا إلى عتبة الوجود الأخلاقي: «الدور الايجابي للساخر هو أن يعيد الفرد من جديد إلى نفسه، وأن يخلق فيه اهتماما بوجوده الأخلاقي، فلا يمكن أن تكون هناك حياة بشرية أصيلة بغير التهكم»(28).
في الأسطر الأساسية من «فلسفة الحق» عند هيجل تشكل السخرية الرتبة الدنيا في سلم الأخلاقية الذاتية، أي اللحظة التي تنضبط فيها الذاتية وتتجلى عبر نفيها المطلق. ذلك لأن السخرية توجد مسبوقة باعتقاد يدرك باعتباره يقينا ذاتيا خالصا ومطلق. يستبطن نقطة رسو مقصودة. ففي التحليل يتمظهر الاعتقاد فعليا باعتباره عَرْْضا للغلط ثم تاليا يتضح باعتباره تعسفا(29). إن الذات تستثمر في السخرية بكل قصدية، انشغالها الخاص، إنها تريد الخروج به كليا من كل موضوعية، وجعله بالنسبة للجميع في استقلالية سلبية. من السهل الاستنتاج إذن: أن الاعتقاد لا يستحق أن يحمل على محمل الجد وبأن الخير ليس سوى إنتاجي أنا من دون أي ثبات: «فأنا سيد ما هو خير، وبمقدوري جعله يتجلى أو يختفي بحسب ما يحلو لي»(30).
إذا كان هيجل قد اعتبر أن الذاتية هي فقط لحظة داخل نظام أكبر، فإن كيركجارد ذهب إلى أنها مقولة وجودية لا تسمح بأي بناء أو تركيب(31). عدا أن السخرية ذات طابع ميتافيزيقي وتأملي. وهو ما يجرد السخرية من تقل الدلالة الأخلاقية التي منحها هيجل.(32) لكن كيركجارد تبنى ما سبق لهيجل أن تمسك به عندما قال أن السخرية نوع من النفي أو السلب الذي يحدد معالم البداية. ومع أنه انتقد فلسفة هيجل، خاصة ما يتعلق منها بالسخرية، إلا أنه لم يستطع قط أن يتحرر من أسرها. فمن خلال إعادة تقويمه للسخرية لدى سقراط قام بالرد على هيجل مباشرة. فسقراط في رأيه هو أول من بدأ هذا التراث، وهو أول من قدم النص الأصلي فيه، وهو الذي قام بدور الرائد الكبير في الإعلاء من شأن هذه «البداية المغلقة الخاصة للحياة الشخصية».(33)
ومن واقع اهتمامه «بمفهوم السخرية» قدم كركجارد تحليلا مفصلا لخمس محاورات أفلاطونية، خلص من خلالها إلى القول إن الطبيعة الحقيقية لسقراط يمكن أن تعرف بأنها «السخرية»، لكنه ميز عند سقراط بين نوعين من السخرية: السخرية بوصفها طريقة في الحوار، والسخرية بوصفها أسلوبا في الحياة وطريقة في الوجود. وتنتهي السخرية في الحالين، إلى ضرب من «العدمية» عندما يفضي إلى نتيجة واحدة هي «السلبية اللامتناهية المطلقة».(34).
هناك ثلاث مراحل للوجود البشري لدى كركجارد، وهي عبارة عن ثلاث صور من الذات البشرية: 1 ــ الذات المنغمسة في الحس أو التي تضيع بين الجماهير.2 ــ الذات الملتزمة بمبادئ أخلاقية.3ــ الذات التي تشعر بنفسها حاضرة أمام الله. هذه المراحل الثلاث يمكن أن تفهم على أنها مراحل في تطور العالم. وقد كان عصر السفسطائيين وما قبله في العالم اليوناني القديم يمثل المرحلة الحسية من تاريخ البشرية. ثم كان سقراط من خلال «اكتشافه للذات بوصفها تعيينا ذاتيا أو تحديدا ذاتيا أي بوصفها: «إرادة» نقطة تحول تاريخية35. رغم أن سقراط حسب كيركجارد لم يمتلك «جدل الفكرة» وقد وصل إلى «فكرة الجدل»، لأنه قنع بأن يلمس الفكرة من أعلى، وأن يلاحظ التناقض فيها، وهو التناقض الذي لا تتفق خلاله الظاهرة مع الفكرة ولا الفكرة مع الظاهرة.(36).
يقول كيرجارد: «إن جوهر السخرية ألا تكشف عن نفسها، إنها تغير الأقنعة باستمرار». فكلما «نجح المتهكم في الخداع، وكلما كان كذبه يتقدم تدريجيا على نحو ناجح، زاد الرضا الذي يشعر به. لكنه يعايش خلال هذا الرضا حالة خاصة من العزلة، ويكون همه متعلقا تماما هنا بأن أحدا لم يلاحظ خداعه». فالذي يسخر يشبه الملوك والحكام الذين يتحدثون الفرنسية كي لا يفهم العامة ما يقولونه، ومن تم فإن الساخر يكون موجودا في قلب عملية خاصة يعزل من خلالها، وذلك لأنه لا يريد ــ بشكل عام ــ أن يفهم.(37)
إن السخرية تحرر صاحبها_كما يقول كركجارد_ من أعباء المعيش والواقع الامبريقي العملي، ولكن هذه الحرية تظل من النوع السلبي نسبيا. لأن السخرية لها جانبها الايجابي، يقوم على أساس تلك اللذة التي يسميها كركجارد:الاستمتاع. أي تلك الحرية الداخلية التي تتيح شكلا من أشكال الاكتفاء بالذات.» فإذا كان ما يقال ليس هو المعنى الذي أقصده، أو كان عكس المعنى الذي أقصده، فإنني أكون حرا». إن «السخرية ليس لها هدف، إن هدفها متأصل فيها، ملازم لها في ذاتها… فعندما يعرض المتهكم نفسه على نحو مغاير لما هو عليه فعلا قد يبدو أن هدفه هو حث الآخرين على الاعتقاد بما يقدمه، لكن الهدف الفعلي له، على أي حال، هو مجرد الشعور بالحرية… إن هدفه موجود في ذاته».(38) «إن السخرية لا تحتاج لأن تفهم»، إنها ينبغي أن تعمل في صمت، إنها تفقد قدرتها الخاصة التي تجعلنا إذا تم التعبير عنها بشكل صريح، أو تم فهمها من قبل المجتمع ككل. وأشكال السخرية الأكثر شيوعا في رأي كرجارد هي: 1- أن يقول المرء شيئا على نحو جاد، في حين أنه يقصد عكس ذلك. أما الشكل2- من السخرية فيتمثل في أن يتحدث المرء بشكل هازل أو مضحك عن شيء قصد منه أن يبدو جادا.(39)
إن الشكل السخري ينفي من الكلام نفسه بنفسه، إنه يلغي نفسه بنفسه مثل قائل اللغز الذي يعرف حله في الوقت نفسه الذي يطرحه فيه أمام الآخرين، إنه لا يكون لغزا بالنسبة إليه، لكنه لغز أمام الاخرين، كذلك صاحب التهكم يعرف أنه ليس جادا، في حين يعتقد الآخرون أنه كذلك. ويتسم الشكل السخري في رأي كركجارد بخاصية مميزة: ألا وهي وجود نوع من أنواع التفوق أو السيطرة، يستمدها الساخر من كونه لا يريد أن يفهم على نحو مباشر، حتى لو كان في أعماقه يتوق بصدق إلى أن يتم فهمه، ونتيجة لذلك يبدو المتهكم كما لو كان يتجول هنا وهناك. ومن خلال حالة استثنائية من التخفي يطل من عليائه، ويتظاهر بالشفقة أو الحنو على كلام الآخرين العادي.(40)
الهوامش
1 – le concept d`irone, de platon au moyen age. Arié serper Cahiers de l›association internationale des études françaises. 1986/ N:38 / PP:7-25
2 _ سميرة الكنوسي، «بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي»_ محلة فكر ونقد ع :
3 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:101
4 _ سميرة الكنوسي،»بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي»_ محلة فكر ونقد ع :
5 _ محمد شقير_ حوار_ جريدة أخبار اليوم العدد:59 بتاريخ :13_14/02/2010
6 _ نفس المرجع
7 _ le concept d`irone, de platon au moyen age. Arié serper: Cahiers de l›association internationale des études françaises. 1986/ N:38 / PP:7-25
8 _ علي بدر _ من الضاحك إلى الساخر_ مجلة الدوحة_ عدد: 36 أكتوبر 2010
9 _ le concept d`irone, de platon au moyen age. Arié serper. Cahiers de l›association internationale des études françaises. 1986/ N:38 / PP:7-25
10 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:100
11 _ سميرة الكنوسي، «بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي»_ محلة فكر ونقد ع :35
12_ L›ironie romantique et la philosophie de l›idealisme allmand. Walter biemel. Revue philosophique de louvain. Serie:3 tome:61; N:72;1963;PP:627_643
13 _ ن. م
14 _HEGEL ET KE IRKEGAARD:L›ironie comme thème philosophique_ camillia larouche_ tanguay et lionel ponton _ laval théologique et philosophique: N°:3_ vol.39 _ 1983 P:269/282
15 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:104
16 _ L›ironie romantique et la philosophie de l›idealisme allmand. Walter biemel. Revue philosophique de louvain. Serie:3 tome:61; N:72;1963;PP:627_643
17 _HEGEL ET KE IRKEGAARD:L›ironie comme thème philosophique_ camillia larouche_ tanguay et lionel ponton _ laval théologique et philosophique: N°:3_ vol.39 _ 1983 P:269/282
18 _ ن م س
19 _ ن م س
20 _ le concept d`irone, de platon au moyen age. Arié serper: Cahiers de l›association internationale des études françaises. 1986/ N:38 / PP:7-25
21 _ L›ironie romantique et la philosophie de l›idealisme allmand. Walter biemel. Revue philosophique de louvain. Serie:3 tome:61; N:72;1963;PP:627_643
22 _ ن . م. س
23 _ ن. م. س
24 _ ن. م. س
25 _HEGEL ET KE IRKEGAARD:L›ironie comme thème philosophique_ camillia larouche_ tanguay et lionel ponton _ laval théologique et philosophique: N°:3_ vol.39 _ 1983 P:269/282
26 _ L›ironie romantique et la philosophie de l›idealisme allmand. Walter biemel. Revue philosophique de louvain. Serie:3 tome:61; N:72;1963;PP:627_643
27 _ ن. م. س
28 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:100
29 _HEGEL ET KE IRKEGAARD:L›ironie comme thème philosophique_ camillia larouche_ tanguay et lionel ponton _ laval théologique et philosophique: N°:3_ vol.39 _ 1983 P:269/282
30 _ن م س
31 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:106
32 _ HEGEL ET KE IRKEGAARD:L›ironie comme thème philosophique_ camillia larouche_ tanguay et lionel ponton _ laval théologique et philosophique: N°:3_ vol.39 _ 1983 P:269/282
33 _ شاكر ع الحميد _ الفكاهة والضحك_ عالم المعرفة _ عدد:2003 ص:101
34 _ ن م س ص:103
35 _ ن م س ص:100
36 _ ن م س ص: 103
37 _ ن م س ص: 104
38 _ ن م س ص: 105-106
39 _ ن م س ص:101
40 _ ن م س ص: 102