– الزمن والدلالة:
يرتبط الشعر بالزمن ارتباطا عميقا، يصل لحد التماهي الكامل بين مكنونات الشاعر والعالم الخارجي، فهو يظهر الاستخدام المكثف لصور الزمن في النص الواحد؛ حيث يتلاحم الماضي مع الحاضر والمستقبل في بنية واحدة متماسكة، تعبر عن اجتياز الشعر لبنى الزمان المتقطعة، محاولة لدمجها معا واستحضار زمن مختلف مبني على ظاهرة فريدة للشعر الموسوم بالرؤيا، والخارج عن النظر الزمني المحدود، الكاشف عن مناطق مجهولة، وغائرة في البعد التي كلما حاولنا أن نسبر ملامحها تنبثق دلالات وعلامات أخرى أكثر ملامسة لحاضر الشاعر ومناخاته المتعددة؛ إذ يغالب الزمن ويترامى مع أشكاله كي يجد طريقة مختلفة للتفاعل مع العالم المحيط به، وليؤسس وجودا صريحا وغامضا في الوقت ذاته، مماثلا لقضية الزمن التي أيضا تتصف بالواضح والمبهم، ذلك لأن الرؤيا الشعرية على حد تعبير علي جعفر العلاق” تغير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها، وهذا النظام المختلف في النظر إلى الأشياء يعمق صلة الشاعر بتجربته ويبرهن رابطته بالكون، وبالحياة والأشياء، فيجعل من هذه الصلة، لا نقاط تماس مجردة، بل انصهارا حادا واندماجا في تيار جارف، شديد الفرادة، ولا يمكن لصلة الشاعر بعالمه أن تكون على هذا المستوى إلا إذا كان مسكونا برؤيا حقة، تتيح له تمثل العالم، والانغمار فيه والتفاعل معه تفاعلا داخلا وهاجا “(1).
بناء على الرابط بين الشاعر وشبكة العلامات الموجودة في الفضاء الخارجي تتكون صياغة الأشياء فكريا وعاطفيا، في ضوء ما تقدمه دلالات النص من أنساق ذاتية وموضوعية متعلقة بالجانبين، النفسي، والثقافي؛ أي وجود المعنى الشعري يقتضي حالة من الانصهار في المكنونات الداخلية، والتأثر بها بشدة ثم تتنامى شيئا فشيئا نتيجة الصدام بينها وبين المثيرات الثقافية المختلفة الحاضرة في التجربة الإنسانية بصورة عامة، ويؤكد باختين أن “النص هو بنية قائمة على التداخل والتفاعل بين أصوات وأساليب وخطابات”.(2) تلك المؤثرات الثقافية بتعدد أبعادها الوجودية تخلق نوعا من العصف الحاد الذي يجعل الشاعر رهينا لذاكرة مكتظة بالقلق حيال زمن متحول غير ثابت، ومحاصر بالتفاعلات الثنائية، لذلك ينبري الصراع الدينامي بين دلالة النص والزمن بأشكاله المتنوعة، بدءا من الزمن الذاتي والنفسي؛ الفعل الأول لمعنى النص والمترجم الأساسي للدلالات المتغيرة عند محاولة التأويل والتفسير، فحين نفكك بنية النص من أجل الشروع في معرفة آفاقه يتجلى لنا الزمن الشعوري الذي جعل الشاعر حثيثا في معالجة دواخله عن الكتابة الشعرية، والزمن الكامن في الصورة المجسدة المتحركة للفعل والحدث، وكأن ثمة ترادفا بين الذات وتشظيها الحارق والزمن وتقلباته المفاجئة، مما يجعل الدلالة متشابكة تماما مع الصور الحركية للزمن.
وهذا التشابك هو الذي يمنح الشاعر الرغبة العارمة في إخراج نصه إلى حيز الوجود، فهو يكتب أولا نتيجة صدامه مع الزمن الذاتي الخاص وتوغله المتوهج في الأعماق،ثم تندرج الأزمنة الأخرى مصاحبة لحالة النزف التعبيري، وإن كانت المدة الفاصلة بين الأزمنة قصيرة جدا في حضورها؛ بمعنى أنها متلاحمة ومتلاحقة على هيئة دائرية، فالزمن الذاتي والجماعي والطبيعي واللغوي والفسيولوجي وغيرها تلتحم جنبا إلى جنب لتنتج دلالة النص وفضاءاته .
ويرى هانز جادمير(1900 – 2002)GadamerHans أن تفسير النص حوار نجرب من خلاله انصهار الآفاق والتحامها، وذلك أن أفق المعنى غير محدود، وانفتاح النص والمفسر كل منها على الآخر يؤسس العنصر البنيوي في اندماج الآفاق، وفي هذا الفهم الحواري نكتسب من جديد التصورات التي يستخدمها الآخر لأنها تصير متضمنة في إدراك المفسر.إننا إذ نفهم ما يطرح النص نسأل أنفسنا، وبذلك تتيح للمعنى أن يتفتح ويفصح عن إمكاناته،(3) وتنمو هذه الإمكانات عن طريق استقراء العلاقة بين الزمن المؤثر الفعال ذي المعنى الإيجابي، والزمن الجامد السلبي الكاشف عن قراءة الجانب المظلم للعالم، وكأن هناك نزوع نحو ضمان استقرار الأشياء في الزمن؛(4) لأن الاستقرار يأتي من الصدام الكبير مع ثنائيات الوجود ومواجهة حقيقتها، وبهذا يكون الصراع محتدما في النص الشعري بين الزمن المتحرك والزمن الجامد؛ فالأول يعرب عن حضور الشاعر في زمن مليء بالصور ذات الطابع الحسي الحيوي، فهي تحمل معنى إيجابيا مشرقا في النظر للواقع، والآخر يمثل الزمن الفارغ من الحركة الذي يصور العلاقة الخائبة مع الأشياء؛ إذ الشاعر خارج زمن التفاعل، وراكد في منفاه الداخلي، وكأنه يعيش فقدان الرابط مع الكائنات مسكونا بحالة سلبية قاتمة، وتكون دلالة النص أكثر توهجا وعمقا كلما كان الجدل بين الزمنين حاضرا بقوة لتصبح هناك حالة من التراوح الحركي بينهما، بحيث ترتبط حركية الدلالة مع حركية الزمن، ويغدو النص الشعري منطلقا للخارج، لوصف استمرارية النمو الزمني، والتفاعل مع العالم في ظواهره ورموزه.
يقول بينيدتو كروتشة (1866 – 1956) Benedetto Croce في علم (الجمال): فإننا نعثر في الحال على عنصرين ضروريين ومكرسين: مركب من الصور وشعور مفعمين بالحياة . والأكثر من هذا، فإن هذين قد يبدوان عنصرين اثنين في التحليل التجريدي الأولي ولكن ليس بالإمكان اعتبارهما خيطين متمايزين، مهما كان انضفارهما، ذلك أنه في التأثير يتحول الشعور بكليته إلى صور، إلى هذا المركب من الصور. بهذا السياق، يفترض الفيلسوف الجمالي الوحدة الكلية للأثر المتخيل المشتبك بالزمن دائما من أجل اختراق ذاكرة الوجود إلى آفاق غير محصورة، وهنا متعة النص، فبقدر ما تكون الدلالة ضد الحواجز الزمنية، يكون التلقي مشبعا بدلالات متنوعة،لا نهائية(5)، وهكذا تتميز النصوص الخلاقة في مدى قدرتها على مجابهة الأزمنة ومدى الولوج العميق في المجاهيل؛ فبذلك تترك التأويل مفتوحا لفلسفة القارئ، وتتمكن من زحزحة مفاهيمه حولها كلما أعاد قراءتها من جديد في زمن آخر.ويجدر القول هنا إن النص الأكثر دهشة هو النص الذي تكون دلالته مفتوحة العلامات والعلاقات الزمنية.
– الزمن والصورة الشعرية:
تمثل الصورة الشعرية ركنا أساسيا مهما في تكوين النص الشعري، وتأسيس تجربة إبداعية مختلفة في صياغتها للصور والظواهر المتعددة في العالم الخارجي، فهي تقوم بنقل اللغة من صفتها الاجتماعية المتداولة إلى لغة أخرى مرتكزة إلى العلاقة بين الأشياء المرئية واللامرئية والحسية واللاحسية، وهنا محور الفرق بين الشاعر والآخر، في كيفية معالجة المشاهد الحياتية برؤية قائمة على تفجير المدلول، وذلك من خلال إيجاد صور مختلفة للمعنى، خارج السياق المتعارف عليه خاصة في الزمن المعاصر وتحديدا لدى شعراء الحداثة؛(6) فإنهم يذهبون بالنص إلى رموز مفتوحة لا حدود لها معتمدين على كثافة التصوير والتخييل، فيصبح النص مركزا لاكتشاف مرايا الواقع وظواهره، ويشير رولان بارت Barthes(1915-1980)Roland أن النص الواحد يقوم على كتابات متعددة مأخوذة من ثقافات عدة تدخل في علاقات متبادلة من المحادثة والسخرية والمنافسة، لكن هناك موقع واحد تتجمع فيه هذه الأوجه المتعددة من الكتابة، وهذا الموقع هو القارئ وليس الكاتب، والقارئ هو الموقع الذي تنقش فوقه المقتطفات جميعها التي تكون كتابة ما دون فقدان واحدة منها، ووحدة النص لا تكمن في أصله بل في اتجاهه؛(7) أي أن النص يذهب مباشرة بعد انتهائه إلى سلطة القارئ(8) الذي بدوره يعيد ترجمة النص وفق إمكاناته الثقافية وتجربته الوجودية، فهناك صدام بين لغة الشعر وما تكنه من خصائص تصويرية، ولغة الواقع التفاعلي، وما تحمله من علاقات مباشرة نتيجة الممارسة المتكررة بين الأفراد، ففلسفة الشعر تعتمد على مرجعيات مختلفة نظرا إلى تعدد الرؤى المتخيلة. وبهذا يكون القارئ مطالبا برفع مستوى قدرته على اكتشاف فضاءات اللغة وتأويلها؛ لأنه لم يعد خارج النص بل هو مكون مهم في تشكيل الرؤية الكاملة للعمل الأدبي.
ونجد صورة التفاعل جلية بين النص والمتلقي، فيما يسمى نظرية التلقي(9) المنغرسة بدورها في طلب نظرية أكثر شمولا هي نظرية الاتصال، القائمة على التراسل بين قطبين: أحدهما يركب رسالة ويقوم بإرسالها والآخر يتلقاها، ويقوم بفك شفراتها وإعادة بنائها بصورة عالم متخيل، ثم تفعيل دلالتها النصية؛ حيث إن الاتصال في حقيقته ليس مجرد نقل المعلومة من طرف إلى آخر، لكنه أكثر من ذلك تحقيق للمعنى عبر التفاعل بين الطرفين في عملية تنتظم من تلقاء نفسها.(10)
ويعرف تشارلز هوكيت (1916 – 2000) الاتصال بأنه المؤشر على إحداث استجابة، ويقره على هذا التعريف كلايد كلاكهون(11) Clyde Kluckhohn 1905-1960 بمعنى أن الاستجابة هي التعبير عن وجود اتصال بين الأشياء، ومعيار أول لفهم ظلال المعنى وخلق صور عديدة للتحاور الذي يقوم على إدراك صور التعبير الحسية والمتخيلة، فأول عملية للمتلقي عند استقبال النص هي الاستمتاع بالصور المحسوسة اعتمادا على مرجعيته الواقعية في تحسس الأشياء من حوله، ثم تأتي العملية الأخرى المتمثلة في ترجمة الصور الرؤيوية اللامرئية التي تحتاج إلى فك العلائق المتشابكة بين عناصر النص لفهم المعنى الخفي للصورة باعتبار أن اللغة الإنسانية شبكة من العلامات الدالة وامتلاك المعنى، وهو العلم بالعلامة.(12)نتيجة للاشتباك بين المشهد المادي والمشهد المتخيل تتكون الصورة الشعرية انعكاسا لما يحدث في الفضاء الوجودي والفضاء الحلمي، ومدى حضور الشاعر في المحيط، وقوة الحدس لديه، حيث يتم التراوح بين الصورتين في النص الواحد؛ الصورة البصرية والصورة الرؤيوية؛ الجمع بين الرؤية والرؤيا؛ إذ الرؤية حالة من المشاهد الواقعية مؤسسها آليات العين والرؤيا حالة من المشاهدة الحلمية ترتبها آليات القلب.(13)فالشعر الذي يقتصر على الوصف التصويري للطبيعة، أو على سرد الأحداث والمجريات ويكاد لا يعدو نطاق الرؤية،(14) بينما الكشف عن العوالم الخارجة عن النطاق المرئي الواقعي يشكل مفهوما آخر للتصوير، وهو التصوير اللافيزيقي الذي يعبر عن الحالة الإنسانية المتصدعة المتشظية في الزمن نتيجة التغيرات المستمرة والتحولات اللامحدودة .
إذاً، تتعلق الصورة الشعرية مباشرة بعامل الزمن، وحضور الأشياء وغيابها، فإدراك الموجودات حسيا يقتضي المثول أمام الزمن الطبيعي حتى تتفاعل الحواس مع المدركات جميعها ذات الصفة الملموسة، فالصورة الشعرية الواقعية خارجة عن نطاق التفكير المطلق؛ لأنها تتطلب اتصالا بأزمنة مختلفة في لحظة إنتاجها بل تعتمد على اختزال الزمن، وتقيده من خلال وصف الأشياء بدلالتها الفعلية واتصالها بالزمن مباشرة (15) محاولة الدخول في عوالم الزمن المختلفة، ويعبر الشاعر الأمريكي أزرا باوند (1885 – Ezra pound (1972) عن الصورة أنها ” تلك التي تقوم على تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن والصورة لا تنفصل عن اللغة لأنها انبثاق عن اللغة، ومعنى هذا أن الصورة لا تتقرر بمحض الصدفة بل تولد من جهد الشاعر الفنان على وفق انتقائية دقيقة تقررها الخصال الشخصية؛ لأنها عميقة الجذور في التجربة المحسوسة،(16) وهي أداة تتبع لأثر الزمن، وما يحدثه من تغيير في بنية المكان وأشيائه، فهي ترجمة للملامح الحسية عبر سطوة الزمن وقوته الجارفة في صياغة الصور برؤية مختلفة في كل لحظة عابرة، والشاعر هنا – بهذا النظر الحسي- يظل يعيد التفاعلات الطبيعية القائمة في كل فترة زمنية كما هي تماما دون أن يضيف رؤيا للعناصر والأحداث وأن يحطم الصور التعبيرية المكرورة خلال الأزمنة،فبنية اللغة تعبر عن عالم مغلق جامد غير دينامي، وهناك إمكانات للتعبير اللغوي تعكس العالم بوصفه فضاء دلاليا يعيش الفرد داخله،(17) وعلى ذلك تكون الصورة الشعرية غالبا في ظل التعبير الحسي نمطا متوارثا منسجما مع ثقافة المجتمع المتداولة، أو بعبارة أخرى ترتبط الصورة الوصفية المعتمدة على تبادل الحواس في معالجة صور المكان بنسيج وسياقات الثقافة الاجتماعية ارتباطا وثيقا ولهذا لا تفتح مجالا رحبا لعلامات الزمن .
وفي المقابل ترتبط الصورة الفنية الرؤيوية ذات البعد الزمني المفتوح بقدرة الشاعر على تكوين الشعر المتخيل الذي يشبه الحلم عبر صور غير متصلة بدلالة محددة، أو وصف معين بذاته، تذهب إلى وجود شبكة مترامية من العلامات حول المعنى، وأكثر من ذلك فإنها تبهر المتلقي بأسلوب تقديمها الفكرة أو المعنى في حيوية وإثارة. وأهميتها التعبيرية تكمن في مجافاتها للأداء المباشر في التعبير . والشعر يتخذ طريقه إلى التأثير في متلقيه بالصورة التي تأخذ بالإيحاء،(18) فالصورة تتوقد حيويتها في ضوء ما تحمله من إيحاء فاعل بين أشياء المكان وصور الزمن الذي يضم تحت لوائه المدركات الحسية والنفسية التي تعمل في سبيل رسم مشهد شعري آسر؛ يلجأ الشاعر إلى إضفاء الصفات المعنوية على المحسوسات فيما يشكل انهيارا للفوارق بين الطرفين: المعنوي المجرد والمادي الملموس،(19)ويعبر جهاد الترك عن ذلك بأنه” الانتقال من الزمن المغلق للحدث إلى الزمن المشرع على الرؤية للصورة الشعرية .الفضاء العابر للنص وإشكالية فض الاشتباك بين المشهد بثقله الواقعي وبين اللغة المتفتحة على ذاكرتها .التقاط اللحظة المتوهجة وإدراجها في الحالة الشعرية لإخراج الصورة من رتابة المشهد إلى أبعادها المتمثلة في الدهشة المشوقة، “(20) بوصفها جمرة ملتهبة من الدلالات والتحولات في الذهن، والمدمرة لقضية الزمن الجامد،(21) وجعله زمنا منفلتا من دائرة الواقع، ومفتوحا للمطلق، وغير مرتبط مباشرة بحدث الصورة وفعلها نتيجة تلاحق الصور، مما يؤدي إلى انزياحات مختلفة(22) لا تعبر عن شيء مفرد فقط، بل تترجم ملامح وأحداثا قادمة لم تحدث بعد، وهنا تكمن جمالية الشعر المتعدد الصور، في استنطاق أزمنة مختلفة تظهر بالتحليل والتأويل .
إذا، العلاقة بين الصورة الشعرية والزمن علاقة قائمة على كثافة الرموز، فكلما تعددت الرؤى والأخيلة سيظل النص يقرأ بأشكال مختلفة عبر الزمن وكلما قلت، ضاقت مساحة قراءتها من جديد، وكانت محصورة في القراءة الأولية لها.
– الزمن والأسلوب:
تختلف طرائق تقديم الخطاب الأدبي باختلاف سمات وخصائص الأساليب التعبيرية المستخدمة أو حسب اختلاف المواقف وفقا لما يمتلكه الكاتب من ثقافة وفكر في كيفية إنتاج الدلالات المختلفة في طرح المعنى، المترابطة في بنيتها الأسلوبية . والأسلوب يعتمد على فكرة الثنائية اللغوية التي تقسم النظام اللغوي إلى مستويين: مستوى اللغة، ويقصد به بنية اللغة الأساسية، ومستوى الكلام، ويعني اللغة في حالة التعامل الفعلي بها، وينقسم المستوى الثاني إلى قسمين آخرين: أولهما المستوى العادي للغة، وثانيهما الاستعمال الأدبي لها، وهذا المستوى الثاني هو مجال البحث الأسلوبي باعتبار أن الفرق بين الاستخدام العادي والاستخدام للغة والاستخدام الأدبي لها يكمن في أن هناك انحرافا(23) في المستوى الثاني عن النمط العادي. والانحراف – هنا – يعني الخروج على مألوف الاستعمال اللغوي،(24) ذلك أن الاستعمال اللغوي يختلف عن الاستعمال العادي في إمكانات طرح الفكرة بأساليب غير مألوفة لدى الفئة العامة، وهي أساليب مرتكزة إلى التصوير والخيال، بينما الاستعمال العادي يعتمد على سيرورة السياق الجمعي في التعبير عن الأشياء.
ولذلك ننظر إلى الأسلوب من زاوية النظر إلى المخاطب على أساس التوحيد بين المنشئ وأسلوبه، بحيث لا انفصال بينهما ولا انفصام، ومن شأن هذه النظرة أن تؤدي بنا إلى الإيمان بالتلاحم بين الأسلوب ومنشئه إلى الحد الذي يصبح فيه الأسلوب كاشفا عن مكنونات صاحبه ومعبرا عن سريرته(25)، ولهذا يكون الأسلوب المرآة الأولى الكاشفة عن سمات الطرائق التي يستخدمها الكاتب في طرح أفكاره ورؤاه، وبناء على العوامل المنتجة للأساليب المتنوعة تتجه اللغة إلى وصف حالات حضوره في السياق الزماني والمكاني، وامتثاله لحركة الواقع المنبثقة من خطابين؛ خطاب يحمل طابعا مألوفا وسائدا، وخطاب متوافق مع الصورة الجمعية للأفراد بوصفها صورة مباشرة في إحداث المعنى اللغوي، فهو يندرج ضمن المنظور الأسلوبي العام المتجه إلى وصف العلاقات القائمة داخل السياق الاجتماعي، وخطاب آخر يصف الانفعال النفسي والفكري نحو كل ما هو موجود في الوجود، وهو الخطاب المتعلق باللغة الأدبية ذات الرؤية الذاتية نحو الموجودات.
والحق أن اللغة الشعرية ذات كثافة عالية في استخدام الأساليب المتعددة لإنتاج الدلالة المقصودة، والذهاب إلى ما يعكس الحالة المضطربة التي يعيشها الشاعر، فالأساليب تتعدد وتتكاثف طبقا لما يكنه الشاعر من ثنائية مزدوجة، بين محاولة إيصال معناه الداخلي وحدة قلقه وتوتره لحظة إنتاج النص؛ لأن الدلالة الشعرية لا تختص بمعطيات الدلالة اللغوية العامة، بل تتمثل في محصلة التداخل البنيوي لمجموعة الأبنية التعبيرية المتعالقة التي تتيح حدوث إمكانات كثيرة لتأويل المعنى.(26) وعلى ذلك نستنتج وظيفتين تقوم اللغة بهما: الأولى الاتصال، وذلك حين تكون العناية فيها متجهة نحو المدلول في العقل، والثانية الوظيفة الشعرية، حين تكون العناية فيها متجهة نحو الإشارة الدالة، فاللغة الشعرية حسب رومان جاكسون (1896 – 1982)Roman Jackson هي المنظومة الكلامية التي حملت الوظيفة الشعرية فيها أقصى درجة من الحدة، فهي تقابل لغة الإيصال العادية، ولا التوحيد بينهما؛(27) لأن اللغة الشعرية تختلف في ارتباطها بالزمن، وفي وصفها لحقائق وحوادث الكون، فهي ذات إيقاع مشدود ومتوتر نتيجة التعلق والالتحام مع حيثيات الزمن، فالزمن بتنوعه وحركته المضطربة يخلق مدا من العصف النفسي الذي يقود لاحقا إلى تنوع الأساليب التعبيرية.
ولهذا كلما انفعل الكاتب وازدادت حساسيته جراء الزمن غير المستقر، تجلى ذلك في أساليبه المتنوعة في طرح الفكرة، وكانت هناك أساليب متغيرة من مقطع إلى آخر ومن مشهد إلى مشهد، وعلى هذا النحو، يكون تنوع الأساليب مرهونا على التوافق مع الصفة غير المنتظمة للزمن، ومن هنا فإن هذه النصوص تتجاوز نفسها دائما بأكثر مما تعكف فيه على نفسها نتيجة عامل الزمن.(28) ولذلك عندما ننظر إلى الزمن الذاتي الذي يأخذ المساحة الأكبر في تحريك الشاعر نحو التعبير عن هواجسه وكوامنه، بأدوات مختلفة تدل على وجوده المتغير في اللحظة نفسها، فسنلحظ أنه يعبر عن امتزاج كامل للزمن بحالاته جميعها: الماضية والحاضرة والآتية. فالزمن الذي يشير إلى عالم داخلي مضطرب، يتفرد به الشاعر عن غيره ومن ثمَّ، ستنبري جمل وتراكيب موازية لهذا الترواح الزمني المتداخل في النفس، فالشاعر حين يكرر فعلا ما، أو جملة معينة أو يستخدم صورة فنية ذات النسق نفسه بشكل متقطع، فإنه بذلك يحاول استعادة صور الزمن المتضاربة في ذاكرته، خاصة عندما يتعلق الأمر بالزمن الذاتي النفسي الذي عادة ما يكون صاخبا لدى الشعراء نتيجة حساسيتهم الشديدة نحو الزمن والموجودات، ونتيجة تناقضهم المستمر بين العزلة والضجيج؛ لأن “الكينونة الإنسانية في رؤيا الشاعر كينونته في سياق من التوتر الحاد الممزق الذي ينشد إلى قطبين يستقطبان الحس والانفعال والإدراك وهما، لذلك يستقطبان اللغة نفسها”؛(29) بمعنى أن هناك علاقة بين توتر اللغة الشعرية وجرسها الدائري الذي يعلو ليعود إلى نقطة البداية ثانية؛ وكأن تكويناتها الصوتية المتقطعة هي نفسها تكوينات الزمن وملامحه المتغيرة في كل لحظة، وخلاصة القول في هذه النقطة إن اللغة تتعامل مع الزمن بوصفه قيمة محسوسة مقطعة إلى خانات؛ أي بنية واحدة بصور متقطعة في كل صورة تمثل شيئا مختلفا عن الآخر، وبأسلوب مغاير يطرح فكرة الاستمرار والتعاقب في الكون.(30)
إن حدة الوعي بالزمن أو الذهول عنه ليسا راجعين لا إلى طبيعة الحضارة ولا إلى نوع العقلية وإنما مدارهما حول أحوال النفس، ووجدانها، والإرادات، وألوان النزوع، ومهما تكن الوسائل في التعبير عن ذلك الوعي ومهما تكن الطرائق في تقدير المدد في حساب الزمان، أو مهما تكن طرائق التنظيم للوقت في حياة الأفراد والجماعات، وبقدر ما يتعلق الشاعر ويتضمخ بأنواع الزمن المختلفة، تنشأ في داخله علاقة حميمة مع كل لحظة تمر عليه، ومنها يصعدها إلى عوالم تعبيرية متغيرة نتيجة اختلاف التجربة.(31) ويعبر أدونيس في ضوء ذلك الوعي بالزمن بقوله: ” إن مسألة التعبير الشعري مسألة انفعال وحساسية وتوتر ورؤيا، لا مسألة نحو وقواعد، ويعود جمال اللغة في الشعر إلى نظام المفردات وعلاقاتها وهو نظام لا يتحكم فيه النحو، بل الانفعال أو التجربة”.(32) وعلى هذا الأساس تكون التجربة الشعرية قائمة على أساس اختزال الزمن وتكثيفه، فالأساليب الشعرية لا تصف المرحلة الزمنية لكل موقف أو حدث ما، قدر ما تذهب إلى وصف الفعل وصورته في إطار تماهيه المطلق مع الزمن؛ أي أنها تقدم المعنى في فترات اندماجه مع الماضي والحاضر والمستقبل برؤية واحدة، وهذا الامتزاج يصف الزمن على أنه مدار واسع تتجمع فيه ملامح الذاكرة العاطفية، وهي ذاكرة تختزن الأحداث النفسية التي مرت وستمر بوصف أن الشاعر قادر على التنبؤ بالصور الميتافيزيقية الخارجة عن المألوف العام.
وهذه العلاقة الجدلية بين تعدد الأساليب الشعرية واختلاف صور الزمن بتعاقب مستمر، تظهر لنا بوضوح مدى اغتراب الشاعر داخل الزمن اعتمادا على فكرة أن التنوع الخارجي يسفر عنه تنوع داخلي في مكنونات الشاعر. ذلك أن عنصر الزمن يتخلل العناصر الأخرى، ويكون إطارا لظهورها وتأثيرها بقدر ما يظهر هو نفسه من خلال تأثيره فيها، ومن هنا يتشكل النص الأدبي على الكيفية التي يتم بها تقديم عنصر الزمن ومعالجته؛ لأن طريقة تجسيد الزمن ستغدو تجسيدا للمشكلات التي يتناولها العالم الأدبي، ومؤشرا على فهم خاص لها.(33)
يمكننا القول في ضوء ما ذكرناه بأن الممارسة الأدبية هي ممارسة داخل الأزمنة المختلفة: الذاتي والجماعي والطبيعي وغيرها، وإنها ممارسة من أجل الكشف عن ظواهر الزمن وما تنتجه من فضاءات مفتوحة، ومتعددة المعنى والتأويل، فحين نذهب إلى مصطلحات اللغة وتراكيبها، يعني ذلك أننا نقوم بتفكيك الدلالة حسب التعايش الحياتي وسيره مع المراحل، والصور الزمنية المتغيرة، في ضوء التحولات الحثيثة، فلكل بيئة أو عصر أو حالة زمنية خصائصها وسماتها الأسلوبية الخاصة بها، وعلى هذا المنحى تكون الأساليب اللغوية بصورها المتنوعة في النص ترجمة لما يحس به الشاعر من هواجس عاطفية وحمولات انفعالية تجاه الأشياء التي يتفقدها عبر مظاهر الزمن. يقول الشاعر الألماني فريدرش هولدرلن (1770-1843)FriedrichHoelderlin: “إن وظيفة الشعر هي تحويل العالم إلى كلمات، فالشعر يمتلك الواقع إذ يرسم الحدود التي تفصله عن فهمنا،”(34) وهذا الواقع هو واقع الأحداث المقترنة بالزمن الذي يكشف دلالاتها وعلائقها في أنواع الزمن، ففي كل صورة زمنية تتوسع معاني الأشياء وأبعادها الدلالية من خلال تغير الأساليب التعبيرية، والأنماط اللغوية عند معالجة النص الأدبي.
– الزمن والإيقاع:
الشعر هو التعبير عن الأشياء والوجود بلغة إيقاعية حساسة، نتيجة تفاعلها مع عوالم الزمن المختلفة التي تمنح اللغة طبقات صوتية متعددة غير متشابهة، بوصفها المحرك الأساسي لخلق مادة الشعر؛ لأن الشعر قائم على الفضاء الموسيقي المتناغم، والمرتبط بأصغر جزء في الخارج لتشكيل اتساعه وعمقه؛ فهناك حركة درامية متنوعة في الإيقاع قائمة على الثنائيات بين الأحداث، كحالتي الصوت والصمت، أو النور والظلام، أو الحركة والسكون، أو القوة والضعف، أو الضغط واللين أو القصر والطول، أو الإسراع والإبطاء، أوالتوتر والاسترخاء … إلخ، فهو يعبر عن العلاقة بين الجزء والجزء الآخر، وبين الجزء وكل الأجزاء الأخرى للأثر الفني أو الأدبي، ويكون ذلك في قالب متحرك ومنتظم في الأسلوب الفني.(35)
ويمثل الإيقاع الصورة الصوتية العامة للنص بوصفه التشكيل النهائي للبنيات جميعها: الدلالية والأسلوبية والمعجمية والتصويرية والعروضية (إن وجدت)،(36) وهذه كلها تتكامل معا لتكوين الجرس الصوتي الذي يكوّن جمالية اللغة الشعرية، وهنا نؤكد على أن الإيقاع لا يتشكل من خاصية واحدة، بل من الخصائص المتعلقة بتجربة الشاعر الثقافية والنفسية وفق صراعاته مع الزمن ومظاهره؛ لذلك ينتج الإيقاع من تلاحم العلاقات الداخلية الكامنة في النص والعلاقات الخارجية المكونة لمرجعية التجربة الشعرية وعبرهما يكون الإيقاع عميقا ومحكما لمكونات النص الشعري. وهنا لا يكون “الشكل العروضي لتفعيلات الخليل وحده من أسهم في مد الإيقاع وجزره، ولا علوه وانخفاضه”،(37) بل تكاثف الملامح اللغوية والتصويرية والحسية جنبا إلى جنب لتفعيل حركة الإيقاع، وما الوزن العروضي إلا أحد الروافد المغذية لسيرورة الإيقاع، ويمكن الاستغناء عنه كما يحدث في قصيدة النثر، فإنها تعتمد على قوة التخيل، وسلطة التناغم الداخلي العميق دون الرضوخ إلى سلطة الوزن الخليلي.
والوزن هو الذي يلتزم به الشاعر من بحر وقافية، ويقوم على مجموعة من التفعيلات محكومة بعدد من السواكن والمتحركات، والبحر أيضا محكوم بعدد من التفعيلات، ولكن هذا العدد قابل للتغيير بحكم قانون العروض المتعارف عليه، يلتزم به الشاعر عكس ما سمي بالإيقاع الداخلي الذي يتضمن التكرار والتوازي وثقافات المنطقة البصرية وما إلى ذلك. وكثيرا ما نجد مصطلحات الموسيقى والوزن؛ الإيقاعية العروضية، والإيقاع الوزني، تتداخل فيما بينها، وكأنها تتساوى في الدلالة، وهذا ما جعل المصطلحات تتداخل حتى إنه ليطلق أحدها على الآخر إلا أنه لا يخلو من فوارق، ولعل أهمها أن العلاقة بين الوزن والإيقاع قائمة على مبدأ علاقة الكل بالجزء والاختلاف في الوقت نفسه،(38) فالشعر حالة متوهجة من التوتر الصوتي التي لا يمكن وصفها برؤية محددة في عدة تفعيلات .إنه الصراع والاحتدام بين الإيقاع والزمن، والإيقاع هو المظهر الخارجي الكامل للقصيدة في ضوء تفعيل اللغة وفق الانفعالات الداخلية للشاعر، بغض النظر عن نوعية الشعر(عامودي أو تفعيلة أو قصيدة نثر)، فلكل شاعر هاجسه المختلف في بناء النص، ويتوافق مع درجة إحساسه بالزمن، وتجليه المستمر بأشكاله وصفاته.
على ذلك ينتج الاختلاف في جمالية البناء الصوتي، فإذا كتب الشاعر نصه وفق تمازج عاطفته بالتحولات الزمنية، سيحدث التراوح الصوتي في النص تماشيا مع تحرك الزمن ونموه مع أشياء المكان، أما إذا ابتعد الشاعر عن ملامسة الزمن والذوبان في ماهيته، سيؤدي ذلك إلى ثقل رتيب في إيقاع النص نتيجة الصياغة الفكرية المقصودة الخارجة عن التأثر بالزمن والانسجام العميق بالخارج، لذلك يرى صلاح صالح أنه لابد من إخضاع المكان لعوامل الزمن حتى ينتج الإيقاع منسجما ومتناسقا في النص الشعري.(39) وانطلاقا من ذلك يذهب عبد الرحمن بدوي في كتابه الزمان الوجودي إلى: ” أن الروح والزمان معا يكونان التاريخ العام، وما التاريخ بمعناه الأسمى إلا الروح، وهي تعرض نفسها في الزمان، كما تعرض ” الصورة ” نفسها على هيئة الطبيعة في المكان . والزمان بهذا المعنى ليس بعد ذلك الزمان الفيزيائي الذي عرفناه من قبل على هيئة تخرج ذاتي وانفصال، “(40) وإنما الزمان ذو البعد الروحي المرتبط بعالم الروح عبر حضورها الوجودي في حالات الزمن كلها ماضيا وحاضرا ومستقبلا للوصول في نهاية الأمر إلى صفة المطابقة التامة بين الأقطاب الثلاثة: الجسد والروح والزمن؛ فالجسد هو شكل الفعل والحدث معا والروح والزمن يمثلان حركة إيقاع الحضور الحياتي.
وهكذا يتضح لنا أن وظيفة البعد النفسي للإيقاع تكمن في ترجمة المعنى الداخلي؛ أي من طبيعة عمق الانفعال الذي من شأنه أن يحدد جمال الصورة الشعرية التي تستكمل شروط نموها بتأثير الانفعال على خيال الشاعر، وذلك لأن الإيقاع الموسيقي؛(41) يتجاوب مع حالة التجربة العاطفية لدى الشاعر وانغماسها في صور الزمن وتقلباته؛ فهو المحرك الفاعل في إثارة التطور الصوتي وحركية الموسيقى لدى أجزاء النص كاملا؛ من جرس اللفظة إلى بنية الجملة ثم المستوى الأعلى، وهو حدود المقطع، صعودا إلى فضاء النص برمته.وهذه كلها عبارة عن أجراس موسيقية تعبيرية مرتبطة بالهاجس الداخلي، وقد عبَّر خليل ذياب عن الشعر بقوله: ” تجارب ذاتية يحياها الشاعر، وانفعال يحس به فيوصله إلى السامع والقارئ، خصوصا أن الدوافع النفسية هي في أساس كل فن، بفعل تحديدها الأطر التي تتطور وتنمو داخلها الاستجابات المثارة بجملة منبهات أبرزها في الشعر؛ الإيقاع، الوزن، والنغمة الموسيقية. “،(42) ويقول سعيد بنكراد:”هوية الجسد ليست شيئا سوى مجموع أشكاله وتجلياته “؛(43) أي أن الجسد إيقاع رمزي وإشاري لما يحدث في الخفاء، في العالم اللامرئي وشيئا فشيئا يكتسب الفعل مجموعة من الإيحاءات المنبثقة من الولوج في دلالات الزمن، وبعدها تخرج على هيئة لغة معبرة عن كيان العالم بل الكون كاملا فكل علامة جسدية هي علامة ذات قصد، وكل علامة هي قاصدة المعنى يقف وراءه قاصد ما، باث، منتج، وضمن نظام تواصلي مشترك، وكل منتج للعلامة الجسدية يخلق منها وحدة مرئية، ويضعها لوحات مرئية تكوّن جسدية العلامة، وإيقاع الزمن.(44)
إن اللغة الشعرية أحد مظاهر التآلف مع الزمن في علاقاته الظاهرية والباطنية فما يحدث من أشكال أو أوصاف تتجمع بذاكرة الشاعر ودواخله على هيئة إيقاعات وأصوات ثم بعد ذلك تخرج في قالب شعري متنوع الطبقات الموسيقية التي تأتي بأنماط مختلفة (45) وتؤدي إلى السرعة أو الهدوء أو الوقوف أحيانا، أو معاودة التدفق والجريان في ضوء الشعور النفسي وصور الترواح الزمني. ويشير أدونيس إلى حركية الإيقاع وتموجه بقوله:”إيقاع الجملة، وعلائق الأصوات والمعاني والصور وطاقة الكلام الإيحائية والذبول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتكونة المتعددة. هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن موسيقى الشكل المنظوم،”(46) ويرى جان كوهن Jean cohen (1919-1994) أن البث الشعري بناء صوتي ومعنوي، له علاقة بين المعنى والنغم، وهي علاقة مرتبطة بين اللغة والحدث الخارجي المؤثر في هاجس الشاعر وصدامه مع علامات الزمن،(47) ووفق هذه العلاقة الصوتية المتذبذبة في تكوينها نتيجة الظروف النفسية التي يكنها الشاعر في أعماقه يتشكل الإيقاع. وعلى هذا فإن الشعر يقترن اقترانا وثيقا بالإيقاع والموسيقى الشعرية، وأن الإيقاع الشعري ليس شيئا عرضيا أو زينة خارجية يمكن تركها بكل سهولة.(48) فهو الصورة الكاملة لعمق التجربة الشعرية وتوافقها مع الحضور الزمني.
الهوامش:
1- علي جعفر العلاق، في حداثة النص النص الشعري، (عمان: دار فضاءات، ط3، 2013م)، ص11.2
2- أسمية درويش، مسار التحولات، قراءة في شعر أدونيس، (بيروت: دارالآداب، ط1، 1992م)، ص58.
3- انظر ما ذكره عن قول جادمير: عاطف جودة، النص الشعري ومشكلات التفسير، (القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1، 1996م)، ص95.
4- انظر: سلام الكندي، الراحل على غير هدى، شعر وفلسفة ما قبل الإسلام، (بغداد: منشورات الجمل، ط1)، ص166.
5- انظر: سمير الشيخ، القصائد المائية، دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني، (بيروت: دار الفارابي، ط1، 2008م)، ص14.
6- الشعراء الذين ينادون بتجديد النص، في ضوء الدخول إلى عالم الرؤيا الحديثة، التي تقتضي فعل التجديد في مناحي الحياة، وهم عادة لا يستهدفون واقع النص فحسب، بل يذهبون إلى التمرد على المناخ الواقعي كاملا، من خلال وجود نزعة الرفض، والانقلاب على معظم الرؤى الواقعية السائدة في المجتمع. انظر: جعفرالعلاق، في حداثة النص الشعري، ص5.
7- انظر: محمد شاهين، الأدب والأسطورة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1996م)، ص31.
8- تسمى بنظرية موت المؤلف، تذهب إلى عزل المؤلف تماما عند النظر إلى بنية النص وفضاءاته. انظر: كمال أبو ديب، جدلية الخفاء و التجلي، (بيروت: دار العلم للملايين، ط3، 1984م).
9- نظرية تهتم بالقارئ، وما يكونه من رؤى وتصورات حول النص، بعيدا عن كيان النص نفسه، أو حضور المؤلف، باعتبار القارئ هو الركيزة المقصودة لمحاورة النص، و الدخول في عوالمه، و يتحول فعل التلقي إلى بنية نصية أخرى، نستطيع أن ندركها عبر المكاشفة و التأويل و “عند قراءة تراثنا النقدي و البلاغي بفرضيات حديثة ينبغي أن يراعي خصوصية هذا التراث؛ لأنه نتاج واقع اجتماعي وحضاري وثقافي متميز، وهذا بدوره يؤدي إلى مسلمة مفادها عدم توقع التطابق الكربوني بين هذه الفرضيات و المعطيات التراثية . فالمنهج الجديد كما يرى ياوس – أحد أقطاب نظرية التلقي – لا يسقط من السماء، ولكن له جذور في التاريخ”. انظر: شعبان عبدالحكيم محمد، نظرية التلقي في تراثنا النقدي والبلاغي، (دسوق: دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، ط1، 2009م)، ص7.
10- انظر: محمد ولد عبدي، تفكيكات،(الشارقة: منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ط1، 2005م)، ص12.
11- انظر: محمد العبد، العبارة والإشارة، دراسة في نظرية الاتصال، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1995م)، ص13.
12- المرجع نفسه، ص16.
13- انظر: عبد الإله الصائغ، الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، (بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م)، ص145
14- انظر: جعفر العلاق، في حداثة النص الشعري، ص11.
15- حين يذكر الشاعر الليل مثلا، تكون دلالته، بمفهومها الفيزيقي المحصور في ساعات الظلام، وحين يذكر النهار تكون دلالته مرتبطة بفترة الضوء وكلاهما تمثلان حالة واقعية.
16- الموسوعة الحرة، (عطاف سالم، أبعاد الصورة الشعرية في قصيدة (النسر) لعمر أبي ريشة، منتدى القصيدة العربية www.a/qaseda.net.
17- انظر: سعيد الحنصالي، الاستعارات، الشعر العربي الحديث، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط1، 1996م)، ص22.
18- انظر: جمال يونس، لغة الشعر عند سميح القاسم، (دمشق: مؤسسة النوري، ط1، 1991م)، ص157.
19- هيثم يحيى الخواجه، مدخل إلى قراءة القصيدة المعاصرة في الإمارات، (الإمارات: وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، ط1، 2009م)، ص27.
20- الموسوعة الحرة، جهاد الترك، مقاربات مبتكرة في اللغة، والمشهد لثلاث مجموعات شعرية جديدة من الزمن المغلق للحدث إلى الصورة العابرة للنصوص، مجلة المستقبلwww.almustagbal.com.
21- الزمن الجامد/ يصبح الزمن ساكنا نتيجة انعدام الحركة داخله، وهذا أيضا يشير إلى فكرة التناسب الزمني مع الحركة والأبعاد الهندسية؛ فكلما تضاعفت حركة الأشياء، أصبح الزمن سريع في حركته.
22- انظر: يونس، لغة الشعر عند سميح القاسم، ص165.
23- تقوم استراتيجية الانحراف على تحويل مسار اللغة الشعرية من طريقة إلى أخرى، وذلك من أجل تنويع الخطاب الاتصالي؛ إذ يتم طرح المعنى بطرق مختلفة عبر أساليب متنوعة تنحرف عن لغة التداول اليومي. انظر: عبدالعزيز موافي، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، (القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، 2006م)، ص253.
24- انظر: فتح الله أحمد سليمان، الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية، (القاهرة: مكتبة الآداب، 2004م)، ص7.
25- انظر:المرجع نفسه، ص12.
26- انظر: صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م)، ص19.
27- انظر: عدنان ذريل، النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق، (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1989م)، ص18.
28- انظر: مصطفى ناصف، الدراسة الأدبية والوعي الثقافي، (دبي: مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، ط1، 2004م)، ص13.
29- أبو ديب، جدلية الخفاء و التجلي، ص65.
30- انظر: يوسف المطلبي، الزمن و اللغة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1981م)، ص13.
31- انظر: علي الغيضاوي، الإحساس بالزمان في الشعر العربي من الأصول حتى نهاية القرن الثاني للهجرة، (تونس: منشورات كلية الآداب بمنوبة، ط1،2001م)، ص428.
32- أدونيس، زمن الشعر، (بيروت: دار الساقي، ط6، 2005م)، ص176.
33- وفيق سليطين، الزمن الأبدي الشعر الصوفي الزمان، الفضاء، الرؤيا، (سوريا: دار نون للدراسات والنشر، ط1، 1997م)، ص13.
34- فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، ص83.
35- انظر:محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة، (دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، 2001م)، ص12.
36- باعتبار أن قصيد النثر لا توجد بها البنية العروضية، وهنا نشير أن المبنى العروضي ليس مهما في النص الشعري، قدر أهمية وجود الإيقاع الصوتي للغة الذي يتشكل من بنيات النص جميعها.
37- محمد يونس صالح، فضاء التشكيل الشعري إيقاع الرؤية وإيقاع الدلالة، (عمان: عالم الكتب الحديث، 2013م)، ص104.
38- انظر:المرجع نفسه، ص36.
39- انظر: صلاح صالح، قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، (القاهرة: دار شرقيات للنشر والتوزيع)، ط1، 1997م)، ص129.
40- انظر: عبدالرحمن بدوي، الزمان الوجودي، (بيروت: دار الثقافة، ط1، 1973م)، ص21.
41- انظر: عبد القادر فيدوح، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، (عمان: دار صفاء للنشر والتوزيع)، ط1، 1998م)، ص 461.
42- خليل ذياب أبو جهجه، الحداثة الشعرية بين الإبداع والتنظير والنقد، (بيروت: دار الفكر اللبناني، ط1، 1995م)، ص101.
43- مجلة دراسات، (الإمارات: اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، العدد28، 2010م)، ص53.
44- المرجع نفسه: ص62.
45- يستطيع الفنان أو الأديب أن يعتمد على الإيقاع باتباع طريقة من ثلاث: التكرار أو التعاقب، أو الترابط وغيرها. انظر: صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة، ص12.
46- سامي مهدي، أفق الحداثة وحداثة النمط، (بغداد: دار الشؤون الثقافية، ط1، 1988م)، ص98.
47- انظر: عبد الحميد جيدة، الاتجاهات الجديدة في الشعر المعاصر، (بيروت: مؤسسة نوفل، 1980م)، ص 356.
48- انظر: فاضل ثامر، الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1992م)، ص287.
إسحاق الخنجري *