في زمن مُتقارب غيّب الموت ساردا مؤسسا وشاعرا مُهما من عُمان، وقد أحدث غيابهما أثرا كبيرا في أجيالٍ مُختلفة من المُتابعين والمُحبين على المستوى المحلي والعربي في آن. فقد رحلا بعد صراعٍ ليس بالقصير مع المرض. إنّهما الروائي أحمد الزبيدي، الذي نظر إلى العالم بعينِ السرد، والشاعر محمد الحارثي الذي امتطى صهوة المُغامرة صوب الشعر والنثر على حدٍ سواء.
كانت رؤية الزبيدي النقدية تجاه الحدث السياسي تنعكسُ بطريقة أو بأخرى على نتاجه الأدبي. فقد انتقل بالسياقات الجدلية من على أرض الواقع إلى بياض الورق. ولطالما كانت ظفار هي محور رواياته ومخزونها الحكائي الحي والذي لا ينضب بل يتغذى من وهج الذاكرة. بينما شِعرُ الحارثي يغرفُ من جدولِ التفاصيل الصغيرة والحميمة واليومية، تلك التي تبدو مُواربة أحيانا وكاشفة في أحايين أخرى.
أحبّ الحارثي بلدان شرق آسيا كثيرا وكانت محور كتاباته، تايلاند فيتنام الهند والنيبال وجبال الهيملايا، وهو يؤكد في حواراته دائما على أن: “المثقف في عُمان لم تصنعنه المؤسسات الثقافية بل الطموح الشخصي”، ولم يكن الزبيدي أقل ترحالا من الحارثي، فقد تنقل هو الآخر بين صلالة والخليج والقاهرة ومن ثمّ دمشق وبغداد وعدن. المدن التي شكّلت أفق أحلامه في الفترة الذهبية في الستينيات والسبعينيات، وإن اختلف سبب السفر بين الاضطرار أو قصد المُتعة. بين الحاجة أو الشغف.
ولذا فسوف نلاحظ حضور الشعر في أدب رحلاتِ الحارثي، كما سنلاحظ تلبس الرحلة بالشعر. فالشعر يتقاطع مع الرحلة. بينما يجمع الزبيدي بين كفتيّ السياسة والأدب، “مُتخذا من الجرأة وتسمية الأشياء بمسمياتها طريقا للكتابة” دون سأمٍ من ظروف النشر الصعبة آنذاك.
وبينما يتخلى الزبيدي عن الشعر ليخلص للحكاية والذاكرة، نرى أنّ الشعر بالنسبة إلى الحارثي، “أفقاً مفتوحاً على احتمالات كثيرة والتجريب هو جوهر الكتابة لديه”.
ذكرت الكاتبة البحرينية باسمة القصاب، المشاركة في كتاب “عبيد العماني حياً”، والصادر بمناسبة فوز الزبيدي بجائزة الإنجاز الثقافي البارز في عُمان عام 2013، “كل شيء في حياة الزبيدي قادمٌ من العزلة أو مهدّد بها. فقد لعبت العزلة دورها في حياته منذ ساعة ولادته، وفي المقابل، لعب الزبيدي دوره في التمرد عليها”.
يشير عبدالله حبيب في حوارٍ أُجري معه ضمن البرنامج الإذاعي “نوافذ ثقافية”، عقب وفاة الزبيدي إلى فكرة مفادها: “إذ احتسبنا الريادة الزمنية في كتابة القصة والرواية في عُمان تعود إلى عبدالله الطائي، فإننا نستطيع أن نحتسب الريادة الفنية لأحمد الزبيدي”. ورأى حبيب أنّ إصدار الكتاب الأول للزبيدي وإن جاء متأخرا كان بشارة خير مُنتظرة، “فتحٌ جديد لإمكانية أخرى لقول الصوت الإبداعي المُغاير”. وفي كتابه “اعدام الفراشة” أشار حبيب إلى الاتكاء على الموروث الأسطوري الكبير، نظرا لما تتمتع به ظفار من ثراء، “فهي ضاربة الجذور في حضارات قديمة، وليس من السهل استنطاق تلك الحكايات، إلا من قبل كاتب يتميز بالثراء المعرفي”. وتابع حبيب قائلا: “بأنّ الهم السياسي لم يُعِقه عن تقديم ما هو ذا بُعدٍ جمالي، وبالمقابل “تخلى الزبيدي عن الشعر عندما اكتشف أنّ أدواته غير مُتقدمة بما فيه الكفاية، فذهب للسرد لأنّه حكاءٌ كبير”. وكما أشار الشاعر سماء عيسى، “ليس غريبا أن يكون الزبيدي روائيا لأنّه في حياته العامّة روائيٌ بطبعه”.
من جهة أخرى حاول الحارثي جاهدا إعادة الأطراف المبتورة من جسد شعر الشاعر العُماني الرائد أبو مسلم البهلاني، وإن بدا ذلك غير مُقنعٍ للبعض، “فقد تعرَّض شعر البهلاني للحذف والبتر من المؤسسة الرسمية وبعض غلاة الشعر الجدد”، فقدّم الحارثي اشتغالا مُهما على صعيد لملمة المُتناثر من تجربة البهلاني في كتاب ضخم حمل عنوان: “الآثار الشعرية لأبي مُسلم البهلاني”، صدر عن دار الجمل عام 2010”.
بقيت الشخصيات الروائية تُطارد الزبيدي، وكان وفيا لها، وإن تغيرت أدوارها من رواية لأخرى. فهو يتغذى منها ويُغذيها. ويصر عبدالله حبيب على أنّ الزبيدي لم يكتب القصة وإنّما الرواية: “فاستدراج التاريخ واستدعاء الميثولوجيا، ليس مكانه القصة القصيرة وإنّما الرواية، ولذا أكاد أجزم أنّ الزبيدي لم يكتب قصة قصيرة بشروط القصة المُتعارف عليها، وإنّما النوفيلا القصيرة”.
بينما “المُتأمل في قصائد الحارثي يلحظُ ميلاد لغة جديدة تبادرك بغرائبيتها، إذ تعمد إلى الجمع بين معجم مُغرق في بداوته، ومعجم آخر ممعن في حداثته. لهذا كان الشعر عند محمد الحارثي، حركتين اثنتين مُتشابكتين، متداخلتين: حركة استرجاع، وهي حركة الذاكرة التي لا تفتأ تعود إلى الماضي، تلتقط شظاياه وتسعى إلى تركيبها من جديد، وحركة استباق، وهي حركة تتجه إلى المستقبل أي إلى الحلم تسعى إلى تهجي لغته وفك رموزها”، كان هذا مقطعا من المقال الذي نشرته جريدة الحياة عقب وفاة الحارثي.
بدأ الزبيدي الكتابة عام 1978م، إلا أنّ مشوار النشر جاء متأخرا في عام 1985م، وبعده بسبع سنوات تقريبا خطا الحارثي خطاه نحو الشعر وذلك عام 1992 م. وكما تزامن الموت وتتالى بينهما، فقد تزامن أيضا تكريمهما على مدى عامين مُتتاليين، في جائزة الإنجاز البارز، ضمن المشروع الذي تمنحه مبادرة “القراءة نور وبصيرة”. حيث فاز الزبيدي بها في عام 2013، ثم فاز بها الحارثي بها عام 2014. وقد نوهت لجنة التحكيم إلى أنّ الزبيدي فاز بهذه الجائزة، “نظراً لأصالته الإبداعية الرائدة عبر أعماله القصصية والروائية التأسيسية”، ومن أعماله نذكر: “انتحار عبيد العماني” (1985، 2008، 2013)، و”إعدام الفراشة” (2008)، و”أحوال القبائل” (2008)، و”سنوات النار” (2012)، و”امرأة من ظفار” (2013). وتضيف اللجنة: “اتكأ الزبيدي على السحر المفقود لجهة ارتباطه بالحكايا والأساطير الموروثة في محافظة ظفار، هذا فضلاً عن لجوئه إلى الكتب المقدسة والعالم الخصب الذي قدمته التجربة الصوفية في التراث العربي والإسلامي”. وأضافت اللجنة أيضا: “هذا الإبداع الكمي والنوعي المتميز جاء مُواكبة لعقود من الزمن قضاها في الاستبسال الميداني سرَّاً وعلانيةً دفاعاً وكرامة لأجل المواطن العُماني وحقوقه وذلك ضمن ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها صعبة جداً”. وبعده بعام فاز الحارثي بنفس الجائزة، تكريما لتجربته الشعرية اللافتة محليا وعربيا. وقالت اللجنة: “إنّه من الكُتاب القليلين الذي كتبوا أدب الرحلات، حيث ربط السفر والأمكنة بالسؤال وتوظيف المعرفة..”
صدر لمحمد الحارثي مجموعة من الكتب منها، “عيون طوال النهار” و”كل ليلة وضحاها” و “أبعد من زنجبار” و”فسيفساء حواء” و”لعبة لا تُمَلّ” و”عودة للكتابة بقلم رصاص” بالإضافة إلى كتابين في أدب الرحلات ورواية عنوانها “تنقيح المخطوطة” صدرت عن دار الجمل عام 2013 وكتاب مقالات بعنوان “ورشة الماضي” صدر عن الانتشار العربي ببيروت عام 2013. كما جمع مختارات من بعض قصائده الشعرية في كتاب أسماه “قارب الكلمات يرسو” صدر عن دار بيت الغشام للنشر والترجمة.
لقد عُرف الزبيدي بتكرار شخصياته والتي من أهمها شخصية عبيد العماني، الشخصية التي نظر إليها النقد باعتبارها: “الشخصية السلبية الناقصة اليائسة والبائسة، التي ستنتحر في نهاية المطاف وسط سرد درامي عميق ساخر ومكتظ بالرمزية التي تورد مواضع البؤس والإذلال وغياب الحرية والحقوق، وفي هذه الرمزية تنفتح التأويلات.. وهكذا يكون انتحار عبيد العماني هو قرار باعتزال الحياة التي لا تمثل بالنسبة له أكثر من رديف صارخ للعبودية وللإذلال والبؤس والشقاء”.
ولم يكن الحارثي بعيدا عن حقل السرد، فقد كتب رواية بعنوان، “تنقيح المخطوطة”، عن باحث وجيولوجي يفتحُ أمامنا عالماً مجهولا يتسمُ بطابعٍ علمي إلا أنّه لا يخلو من الامتاع.
ولأنّ محمد الحارثي “جمع بين أناقة اللغة وطرافتها وشاعريتها إلى دقَّة الملاحظة، والحضور الطَّاغي للخبرة الروحية والعمليَّة بالمكان والشَّغف به، وبقصصه، وبين اتساع رقعة التِّرحال ليشمل أربع قارات، من دون أن يكون الهدف من السَّفر غالباً إلا مغامرة السَّفر والشَّغف الخالص به”، كما ذكرت لجنة التحكيم، فقد فاز كتابه “عين وجناح” بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة عام 2003.
الزبيدي والحارثي.. لكلٍ منهما صمتٌ وضجيج، آراءٌ واشتغالات فارقة، محليا وعربيا، ومواقف سجلت على أرض الواقع لا تقل أهمية، وقد ترك كلُّ واحدٍ منهما فراغا شاحبا، وأعمالا تستحقُ المزيد من النبش والأسئلة.
وقد كتب الحارثي في ديوانه الأخير، “الناقة العمياء” نصوصا برائحة الموت:
“في غرف العمليات كان نِقابُ الأطباء أبيض، لونُ المعاطف أبيض، تاجُ الحكيمات أبيض، أردية الرّاهبات، المُلاءات، لونُ الأسرّة، أربطة الشاش والقطن، قرصُ المُنوِّم، أنبوبة المَصل، كوبُ اللبن.. كلُّ هذا يشيع بقلبي الوَهَنْ، كلّ هذا يذكِّرني بالكفن! فلماذا إذا مُتُّ يأتي المُعزون مُتشحين بشارات لون الحِدادْ؟.. هل لأنّ السّوادْ / هو لون النجاة من الموت؟ لونُ التميمة ضدّ الزمن؟
ضدّ منْ؟..
ومتى القلبُ -في الخفقان- اطمأن”.
كتبت: هدى حمد