نبيل منصر
الرِّيحُ لا تَعشَقُ لِأنَّها لا تَلْتَفتْ إلى الوراء
وهي إذ تُمَرِّرُ أصابعَها على النايات فهي تُدمِّرها
حتَّى دون أن تَرغبَ في ذلك.
الرِّيح لا تَغضَب لِأنها مُنذُ تَكَوَّرتْ في رَحم الرِّمال القديمة،
عَثرتْ على صَوتِها الذي يَمزجُ بين عُواء الذئاب،
وانتحابِ نِساء النَّخل.
عَثرتْ عليه في هَدْرِ المياه الطويلة المُنبسِطة على الأحجار،
ودَمْدَمةِ الزَّمنِ في سُهوبِ الخَريف.
الرِّيحُ تَختلِف إلى مَلابِسنا،
وتَركضُ بها فوقَ السُّطوح
كامرأة مَجنونة
تُطلِقُ حُنجرَتها لِلغِناء، وهي تَدفعُ عَربة الأيام القديمة،
في مُنحدَر لا يُرى بالعَين،
وكلَّما عَثرتْ على بابٍ أغلقتْه
على أشباحِه المُتَحصِّنة بالخزانات
والمَزاريب
وبَراميل الخَمر.
هي تَضحَكُ بينما نحن المُحبَطين
بِرومانسيتنا القديمة نَظُنُّها تبكي.
هي تَضحك عندما تُمرِّر أصابعَها الطويلة
على ضفائر المُتوحِّدات،
وعلى القياتِر المُمزَّقة الحِبال،
وعلى الأجراس القديمة لِلمُصابين بالجُذام.
تَضحكَ ليس لأنها لا تَعرف الألم،
تَضحكُ لِأنها تأتي مِن مكان أبعدَ،
هي الخَبيرةُ بدَبيب الدَّم في يَدِ الشُّعراء
بتفاصيل كِتاب الأحياء والمَوتى،
بِعُزلة الله
وبِفَراغ قلوب القياصرة والمَجانين.
الرِّياحُ الَّتي إذْ تَتْعَبُ لا تَستطيعُ الوُقوفَ
وإنْ اعتَرَضْتَ طريقَها بالمَتاريس والجُدران.
وإن سَرَّحْتَ أمامَها البَحْرَ الهادر،
طَوتْه بِلَفَّةٍ إلى جِبال،
وكَنَست المدينة.
الرياحُ ليسَتْ مروحةً هائلة،
وهي لا تطمئنُّ إلاَّ لِلمَراجيح
والكُتب والمعاطف الثقيلة.
تمشي عارية إلا مِن الغُبار
وإذا مَرَّتْ بِغابة
جَعلتْ حيواناتِها تَجفَلُ، وأطلقتْ عِنان أنهارِها الصفراء،
تَحني رِقابَ أشجارها المُعمِّرة
وتُحوِّل تَسبيحَ طيورِها الصغيرة
إلى خَرَس ومَوت.
الرِّيحُ لا تريدُ أن تكون كذلك
لكنَّها ابنةُ الصحراء،
لا تعرف المَشيَ بأيديها العملاقة
وأقدامِها التي تَخبط خبط عشواء.
وكُلما أرادَتْ أنْ تلمَس شيئا
اقتلعَته من جذورِه.
كلما ابتسمتْ مزقتْ أجنحةَ مَركَب أوْ لَوَتْ عُنق طائر
كلما دَمعتْ أغرقت المدينةَ في طوفان.
هي لا تتألَّم، لأنها قادمة من منطقة أبعد.
هي تُدركُ أنها مُختلفةٌ،
وأنَّ مِن بين ملاطفاتِ يَديْها تطفر لعنةً كبيرة.
تُدركُ أن لا بيت لها،
لا صديق بانتظارها
لا في الليل ولا في النهار.
تُدركُ أنها مهما طال بها الزمان
ستبقى شريدةً،
تَضحكُ لِوحدِها، فيما يَبكي الجميع.
يَبكي الجميع، فيما تضحك وَحدَها،
لوَحدِها تضحك.