تقديم:
ما «الرّوح الطّارق»؟ إنّه، أوّلا، عنوانُ كتابٍ للشّاعر والكاتب المصري، الفرنكوفونيّ(أساسًا)، جورج حنين (هذا العنوان هو، في الفرنسيّة،«L’esprit frappeur»)، والكتابُ نشرتْه، سنة 1980، أي بعد وفاة صاحبه بسبع سنوات، أرملتُه إقبال (أو بولا، كما كان يُسَمّيها هو والأصدقاء المُقَرّبون)، عنْ منشورات «آنكر» (Encre) بباريس. أمّا معنى المقابل الفرنسيِّ لتعبير «الرّوح الطّارق»، فهو، كما وَرَدَ في معجم «لوپتي روبير»: «الرّوح الذي يُعْلِنُ عن حضوره، خلال جلسات تحضير الأرواح، بطَرَقاتٍ [أو ضَرَباتٍ ] على شيءٍ ما ». هكذا، يُوحي التّعبير – فيما يخصّ هذا الكتاب- باللامنتظر، اللامتوقّع، الخَفِيّ الذي ينبثق على غير انتظار، ما يُفاجئ ويَخرق المألوف ويُثيرُ الانتباهَ إلى حُضُورِه بشيء من الصَّخب…
يتشكَّلُ «الرّوح الطّارق» من عددٍ من «الدفاتر» المتوالية، يُغَطّي كُلٌّ منها فترةً معيّنة تمتدّ عددًا من السّنوات، ويضُمُّ كُلٌّ من تلك الدّفاتر شذراتٍ متتابعةً، يحدثُ، أحيانًا، أنْ يطولَ بعْضُها فيحتلّ أكثر من صفحة، والغالبُ أنْ تكونَ الواحدة منها إلماعةً شاعريّة تتعلّق بالكتابة، أو بشأن من شؤون حياة الفرد في زمن تفاقَمَ فيه الحضور العاتي لمؤسّسات الدّولة والمجتمع، أو بكتاب، أو بشاعر أو روائيّ، أو ببعضٍ من مظاهر الحياة الاجتماعية والسّياسية في مصر أو في غيرها من بلدان العالم… وإذا شئنا أن نعتبر تلك «الدّفاتر» ضَرْبًا من المذكّرات، فعلينا أنْ نأخُذَ بعين الاعتبار أَنّها لا تسردُ لنا الجزئيّات الواقعيّة للحياة اليوميّة لصاحبها، كفردٍ مُحَدّدٍ أساسًا بسِماتِه الفيزيقية، كما هو مألوف في ما نُسمّيه عادة بالمذكّرات، بقدر ما تُسَجّل للقارئ، بشاعريّة وعمق وحركِيّة، لحظاتٍ مُركّزة وغنيّة من الحياة الذّهنيّة – الاجتماعيّة- الإبداعيّة لكاتبها باعتباره «طاقةً إبداعيّة» تتفاعل مع زمانها وأحداثِ زمانها، ومع محيطها الفكريّ والفنّيّ والإيديولوجيّ والاجتماعي والسّياسيّ… وبإيجاز، نقول إنّ كُلاًّ من «الدّفاتر» التي تُشَكِّل، في مجموعها، «الرّوح الطّارق»، يُقَدِّمُ لنا شذراتٍ عميقة، غنيّة، شاعريّة، مُتَعَدِّدة الأبعاد…
وإذا قُلنا إنّ جورج حنين (1914- 1973) كان قد اختار، خلال حياته، الابتعاد عن الأضواء، فهذا لا يعني أنَّنا نُريدُ، فحسب، أنْ نُلْصِقَ بشخصه عبارةً تكادُ تكون قد فقدتْ كُلّ دلالة لِفرط ما أصبحتْ مكرورة… بَلْ ربّما تُوجِزُ قَصْدَنا، بِشكلٍ أدقّ، قولةُ صديقٍ له هو الشّاعر الفرنسي إيف بونفوا. عن جورج حنين، يقولُ إيف بونفوا، في كتابٍ له يَحْمل عنوان: «الغيمة الحمراء» (ميركور دو فرانس، 1977. ص 287): « « إنّ طريقته – هذا ما كتبه [جورج حنين ] عن بطل «المُضاربين»، الذي بالكاد كان قدْ رَسَمَ ملامحه – تَشِي بِحَرجِ شخصٍ كانتْ أهمّيتُه أكبرَ بكثير من أنْ تُمَكِّنَه منْ لعب الدّور الأوّل»… كانَ جورج حنين شديدَ التّحَفُّظ، وكان أيضا شديد التّواضُع، فلمْ يَشْعُرْ أنّه، بهذه الصّورة، كان يتحدّثُ عن نَفْسِه ».
كان والِدُ جورج حنين، صادق باشا حنين، أرستقراطيًّا ودبلوماسيا في عهد المَلكيّة في مصر، أمّا أُمُّه فسيّدة إيطاليّة اسمُها ماريا زانيلّي… واعتنق جورج، في شبابه، الفكر الاشتراكيّ، وتابع دراساته العليا في السّوربون بباريس. كما أنّه كان، في بدايات ثلاثينيّات القرن العشرين، يعمل على نشر السّوريالية والفكر الاشتراكيّ في مصر، فأسّسَ جماعة «الفنّ والحُرّيّة» رفقة رمسيس يونان وأنور كامل وكامل التّلمساني(وكان من المنتمين إلى الجماعة ألبير قصيري، أيضا) – وكان حنين هو الذي اختار للجماعة هذا الاسم. ولا شكّ أنّ تشكُّلَ الجماعة كان على ارتباط بظهور بيانِِ تروتسكي – أندري بريتون الذي دعا إلى «فَنٍّ ثَوْرِيٍّ حُرّ»، والذي حَمَلَ توقيعَي بريتون والرّسّام التّشكيلي المكسيكي دييغو ريبيرا(ولم يشأْ تروتسكي، لأسباب عديدة، أن يضع توقيعَه الشّخصيّ عليه). ومنذ أوائل أربعينيّات القرن العشرين، بدأت جماعة «الفنّ والحُرّية» تنشر مطبوعةً، بالعربيّة، اسْمُها «التّطوّر»، وهدفُها «محاربة الفكر الرّجعيّ»…(ظهرَ منها سبعةُ أعداد)… بعد ذلك، سيؤسّس جورج حنين مجلّة «حِصَّة الرَّمل»، رفقة الشّاعر إدمون جابيس والرّسّام التّشكيلي رمسيس يونان(الذي كان أيضًا كاتبا ومترجما، وترجمتُه الممتازة لنصّ رامبو الشِّعْري، «فصل في الجحيم»، معروفة)… وقد انتمى جورج حنين إلى الجماعة السّوريالية بباريس، حتّى 1948، وكان صديقًا لبريتون وشعراء وكتّاب فرنسيين معروفين آخرين… وفي السّتّينيّات من القرن الماضي، انصرفَ إلى العمل الصّحفي (اشْتغل في «جون أفريك»، ثمّ في «ليكسپريس»)، وفي تلك المرحلة أيضًا، لم يَعُدْ مُرَحّبًا به في مصر (فهو أرستقراطيّ الأصل، من جهة، اشتراكيّ التّوجّه، من جهة ثانية، لكنْ ليس على الطّريق الشّعبويّة)، فاضطُرّ إلى حياة المنفى، أمّا قبل هذا، فقدْ كانَ يُوزِّعُ أوقاته بين مصر وفرنسا…
من أعماله التي نُشِرَتْ في حياته: «لامُبَرّرات الوجود» (1938)، «طَقْسُ طِفْلَةٍ صغيرة» (1947)، العتبة الممنوعة (1965)… ومن تلك التي نشرتْها، بعد وفاته، أرملته بولا (وهي حفيدةٌ لأحمد شوقي): «أكثرُ العلامات غموضًا» (1977)، «الرّوح الطّارق» (1980)…
كان جورج حنين (1914- 1973) يعرف العربية والفرنسيّة والإنجليزية والإيطالية، وإلى حدٍّ ما الإسبانية، ولكنّه كتب كُلَّ آثاره الأدبيّة بالفرنسيّة. ولأنّه كان من الصّعب، بعد وفاته، وخلال زمن طويل نسبيًّا، العثُورُ على أعماله، أو على أكثرِها على الأقلّ، فقد كادَ الرّجل يدخل في طيّ النّسيان. وأخيرًا، في بداية سنة 2006، صدرتْ عن منشورات دُنُويل، بفرنسا، «أعمال جورج حنين»، في 1062 صفحة، بمُقَدِّمتين، واحدة لإيف بونفوا، والثّانية لصديق حنين، الصّحفيّ المصريّ، بِرْطُو فَرْحي. وتضمّ «الأعمال» آثارَهُ الشِّعْرِيّة والقصصيّة، ومختارات ضافية من مقالاته ودراساته ومقالاته السِّجاليّة…
وهذه بعضٌ من الشّذرات التي يضمّها، بين دَفَّتيه، «الرّوح الطّارق» (مترجمة عن الأصل المنشور سنة 1980):
من: «اختبار الضّباب» (1940- 1945)
عن دوستويفسكي: لديّ مشروع: أنْ أُصْبِحَ مجنونًا.
لفرط ما يُعيد البيروقراطي كتابة: « العلامات المميّزة: لا شيء »، تراه يُوحي للشَّخص الذي هو ضحيّتُه بأنّه لا يتميّز بشيء، وأكثرَ من ذلك، أنّه لا ينبغي له أن يتميّز. فهل يُمكن أن نتصوّر بطاقة هُويّة كُتِبَ عليها:
العلامات المميّزة: شخص خطير؛ يتصوّر أنّ طفولته تَسْتمرّ.
أو: العلامات المُمَيّزة: عند طلوعِ النّهار، يضع بنفسجا على مخدّات النّسوة المجهولات.
بين نظرتين، قد نحسِبُ أنّ الأفق لم يعُدْ محروسًا.
أُحِبّ أنْ أتخيّل أنّ في بيوت السّاحل التي تكون، أكثر من غيرِها، مَحَطًّا للأنظار، موائدَ كبيرةً فاتحة اللون، مُهَيّأ ما عليها للمسافرين الذين تأخّروا، والمعلوم عنهم أنّهم، رغم كلّ شيء، سينتصِرون على العاصِفة.
حَسَنٌ ذِكْرُ الآلهة، التّواريخ، بني الإنسان. فصِيغَةُ الجمع، هنا، تُوَفِّرُ أمانًا نِسْبِيًّا، تُغْدِقُ بِطَلٍّ طيّبِ المفعول.
أعتقد أنّه مُلائمٌ جِدًّا، فيما يخصُّ الشِّعر على الأقلّ، تهنئةُ الذّات على كون الإنسان لم يستسلِم، بعدَ مغامرة بُرج بابل المشؤومة، لليأس من إمكانية التّصالُح مع الكلمات. ولرُبّما تَوَجّب أنْ يعترف المرءُ لنفسِه بأنّ الشِّعر يُشَكِّل المسعى إلى المُصالحة، الوحيدَ المثمر، الذي تمّ تجريبُه عبر العصور. ففي الشّعر، لا تعودُ الكلمة تنقلبُ ضِدّ الإنسان، بل هي، على العكس، تُشَكِّلُ لهُ امتدادًا من كلّ جوانبه، وتنتزعُه من هزيمته اليوميّة. إنّ الكلمة تُساهم، تقريبًا بنفس الدَّرَجة التي للأشياءِ المحسوسة والحياةِ الجسديّة الواقعيّة، في إكسابِه وعيا بِعَرامةِ رغباته، وفي الإيحاءِ إليه دونما توقُّف – وكأنّما لجعله يؤدّي ثمنا باهظا بشكل شيطانيّ لانتصارِه الأوّل ذاك – برغباتٍ أكثر إغواءً.
ولتلك المُصالحة الفضل في تمكين الشّاعر من أنْ يرى ما وراء المرئيّ، وفي أنْ يُعيد النَّظر باستمرار في أبعاد حياته، وأنْ يُسْقِطَ صورةَ قَصْره على شاشة الأُناسِ الآخرين، المثيرة للشّفقة، ويجذبهمْ بدورهم نحو كلّ ما هو خليقٌ بأنْ يُرْغَبَ فيه، وما هو جديرٌ بأنْ يُحْلَمَ به، وما هو قمينٌ بأنْ يُمتلَك أو بأنْ يُنْسَف، وما تستفيدُ منه الحياة. ومثلما السّاحِر الذي ينطق بعبارات التّعزيم فينبثق ما يُريدُ له أن يظهر، يُسمّي الشّاعر الكائنات، والأشياءَ التي يتوجّه إليها انطلاقًا من حضوره على الأرض وانشقاقِه في آن واحد، وهو يُسمّيها بطريقة خاصّة، بِجَرْسٍ يتراوح بين الرِّقَّة والاهتياج، ويُشَكِّلُ النَّبْر الشِّعْريّ.
ينبغي أن تكون القصيدة قابِلَةً لأنْ يُضافَ إليها، لأنْ يُتابَعَ إِنْشاؤُها، لأنْ يطبعَها كلُّ وافِدٍ عليْها وكلُّ كائنٍٍ حيٍّ بطابعِه النّغميّ. فلنا نحن أنْ نجعلها تمتدّ، وربّما أنْ نُنْهِيَها، لا على الفور ولا بصوتٍ مرتفع، لكن في يومٍ ما، في الحُلْم أو بالأفعال، في مكانٍ ما وبطريقةٍ ما، في ساعةِ فِرارِها منفلتةً من المكتبات التي نملك أو التي هي نحن.
إنّ الرّوح الطّارق لينثرُ نجوما على ما يطالُه، وإنّه لضحوك.
في حضرة الفنّ، تصيرُ للوجود بأكمله انحناءةٌ شبيهةٌ بتلك التي لمركبٍ شراعيٍّ يتمرَّس على عَصْفِ الرّيح.
يذوب الحُلْم في راحة اليد كحَفنة ثلجٍ ويجدُ المرءُ نفسه مُجَدّدا، مُفتقرًا إلى كلّ شيء، يسيرُ في الطّريق التي ستُعيدُه إلى ذاته.
يَدٌ تنثقبُ لينفذَ عبرها شُعاعُ كَسَلٍ.
اللهب والملح. إنّه منتصفُ النّهار في كُلِّ وقت.
من:
«الاستسلام المُخَرِّب» (1946- 1960)
مُتَطَلَّبُ البطولة النّهائيّ: أنْ تكون للمرءِ طريقةٌ لا تقبل المحاكاة في أنْ يكونَ مِنْ سوادِ النّاس.
يجري النّاسُ إلى النّوافذ، لكن ليس في وجوههم ثَنْيَةُ فضولٍ واحدة.
ربّما كان الإسكندر الأكبر، مُحطِّمُ المرايا، طوباويًّا لم يتوخَّ سِوى ازدراء الخلود أو الوصول إلى حيثُ يُوجَدُ منظرٌ طبيعي مُختلِج سبقَ أنْ لمحهُ في مُنْعَرَج حُلْم.
المَيْلُ الطّيّب الأثر إلى السّرِّيّ وإلى الحساسيّاتِ المُفرِطة الجميلة المرتبطة به.
لَمْ ينسحب السّر أبدًا من الوجود. وسواء لاحقتْه محاكمُ التّفتيش أو جَدَّ في طلبه التّحليل النّفسيّ، فهو يتشَكَّلُ مُجَدَّدًا في نُقطةٍ ما، في مُؤَخَّرِ حجرةٍ مُعتمة ومُحْكَمَة الإغلاق، وهنالك، بالتّحديد، هنالك، في يومٍ ما، ستعلو الجَلَبة ويَدُقُّ ناقوسُ الخطر.
قرأْتُ «المُذْنِب» لجورج باطاي. إنّ كتابة هذا الكتاب هي من بابِ كراهيّة كُلِّ أشكالِ الخَلاص. فالحصافة، عند باطاي، لا تنفصل عن الانتشاء. بل إنّها تُهَيِّئُ إليه السُّبُل. والأجوبة التي يُقَدِّم، وكما لو أنّ الأمر مقصود، تُضَلِّل أكثرَ من الأسئلة التي يطرحُها على نفسِه. وربّما في هذا سيتمّ التّعرّف يومًا ما على مدى شاعِرِيّة باطاي.
بالنِّسْبة لباطاي، ليس اليأسُ مُعْطًى يُسْتثْمَرُ أَدبِيًّا، بل هو، بصورةٍ ما، جوهرُ الحياةِ نفسِها، وهو حالةٌ أساسِيّة وأَوّليّةٌ لا داعي للعودة لتوضيحِها أو التّأْكيدِ عليها. « ما مِنْ أحَدٍ هو أقلُّ منّي عَزْمًا على النَّأْيِ بالذّات عن انعدامِ المنْفذ ». ومهما كانَ حِرصُنا، فقد لا نولي هذا التَّصْريح ما يستحِقُّهُ من أهمّية، ذلك أَنّهُ بمثابة مُصادَرَةٍ على المطلوب ينجم عنها نِظامٌ شديد الخُصوصيّة للانتظار، وللحركات والطُّموحات. ولا نُخْطِئَنْ في هذا الصَّدَد، فليس هنالك استسلام مُتَصَنَّع ولا اتّباع لعُرْفٍ في التّواضُعٍ في ذلك التَّعبير عن التَّخَلّي الذي لا يتعلّقُ بالمنفذ في دلالته المادّية فحسب، بل يمتدّ حتّى إلى فكرة منفذٍ مُمكن، وحَتَّى إلى ما قدْ يلوح من سرابٍ في هيئةِ منفذ (مهما يكن ذلك السّرابُ بعيدا). في قلعةٍ مُحاصَرَةٍ منذ الأزل، وَحْدَها القوارض – من فئران، ومُحاربين تبنّاهُمْ الحجر – يستطيعون الانتقال من الدّاخل إلى الخارج. ولكنْ لِمَ الانحدار إلى تلك الحال، ما دامَ جلِيًّا أنّ حُرِّية الخارج ليست أقلَّ قسوةً من لاحُرّية الدّاخل؟ « خارج المظهر، لا يُمكنُ تصوّر أيّ شيء؛ والمجهود الذي نبذله للانفلات من المظهر لا يُقَرِّبنا من حقيقة غير موجودة. ذلك لأنّه، خارج المظهر، لا يوجد شيء. أوْ: خارج المظهر، هنالك الليل. وفي الليل، ليس هنالك سوى الليل ». إنّ ما يَجلب لباطاي النّشوة في تجربته، فيما يبدو لي، هو كونُه لا يحدثُ خلال تلك التّجربة، أبدًا، أنْ يُتَوَخَّى من الحُرّية إظهارَ قُدرتِها المنقذة، وحَلَّ ما هو غيرُ قابل للحَلّ، وجَعْلَ الفرد يتملَّكُ صواعِقَه من جديد… : « لن يكون لِقيمتي أنْ تُغَيِّر العالم. العالم ليس أنا. إنّي لا شيء »، يكتبُ باطاي، ولا نعرف إن كان يفعلُ ذلك ببطولِيّة أو لِيُعَزِّيَ نفسَه. لكنّ الافتراض الأوّل هو الذي يفرِضُ نفسَه إذا أعدْنا وضع تينك الجملتين، في سِياقِ السّيرورة العامّة، الأكثر جموحًا، والأكثر إثارة للانتباه، التي يضَعُ باطاي حياتَهُ داخِلَها، كما لو أنّها وِعاءُ جواهرَ بَرِّيٌ. إنّه الافتراضُ الذي يفرِضُ نفسَه ويُعيدُ فرْضَها علينا إذا ما بذلْنا جُهْدًا لنتذكّر نصَّ هنري ميشو المُحَرّك للمشاعر، الذي يتحدّثُ فيه عن « الضَّرْبِ من الشّجاعة اللازم للمرء ليكون لا شيء، ولا شيء عَدَا اللاشيء…». ولكنّنا لن نبالغَ أبدًا مهما كرَّرْنا أنّ هذا اللاشيء هو القِمَّة التي أوصلتْ إليها رِحلةٌ ارتِقائيّة فعليّة. إنّ هنالك متاهةً للذُّرى.
نفيُ إمكان أيّ فعل يؤثِّرُ في العالَم، غيابُ المنفذِ المُعْلنُ بِقُوّة، هذان، بالفعل، هما العنصران الكلاسيكيان لأزمةٍ ما في الحُرّية. لكنْ بمقياسِ هذه الحُرّية الغائبة، فإنّ أنشِطةَ باطاي تضطلعُ بِعظمةٍ مريرة. فإلامَ تعمدُ تلك الأنشطة، إجْمالا؟ إلى محاولة اهتبالِ أيِّ فُرْصَة يُتيحُها مجالٌ مختومٌ بالرَّصاص، وإنسانٌ منغلق، ونظرةٌ حارقة تحتَ جفونٍ مُحكمة الإطباق. وإلى البرهنة على وجود حالةٍ للإنسان، لا ينجم فيها امِّحاءُ الكينونة بالنّسبة إليه عن النَّقصِ في الاقتناع بالحُرّية، بل، على العكس، تَعْزيزُها. وهكذا يُسَلّم باطاي مقاليدَ نفْسِه إلى « إله الضّحك »، وفي هذا الضّحك، وليس من دون التذاذ سِرِّي، يُلاحقُ « نجاحَ الفَشَلِ» ذاك، الذي يرى فيه الحالة القُصوى لِجعل كُلِّ شيء موضِعَ تساؤل.
مع هذا، فإنّ الضّحك الذي يَهُزُّ باطاي، هذا الضّحك، الفلسفيّ بصورةٍ مُبَرِّحة، ليس فيه بتاتا ما يمنحُ خلاصًا. إنّهُ ضَحِكٌ يُسْهِمُ في الحدّ من مجالِ التّعويض بالنّسبة للإنسان. فبقدر ما يزدادُ ضَحِكُ الإنسان، يَصْغُرُ ما يتبقّى له من أفق. عند باطاي، يُصبحُ الضّحك – وهو ينبثق لدى بلوغ الإنسان حدًّا أقصى، بل وينتجُ عن بلوغِ ذلك الحدّ الأقصى نفسِه – سلوكًا فائقَ الانضباط تحترقُ فيه شيئا فشيئا، بلَهبٍ متغيِّرِ المظهر، كلُّ مُمكناتِ الحياة وكلُّ ما تُبقيه الحياةُ مُعَلَّقًا. ضَحِكٌ وخوفٌ من الضَّحك، وخوف من اكتشاف أنّه هو « الضّحكُ نفسُه » – لقدْ تراجعتُ دائما لدى حلول لحظة الاستحقاق – (في هذا حاجةٌ إلى الحظّ ورهبةٌ منه) – لماذا أنا هو أنا؟… رهبتي كبيرة: لا أعرفُ شيئًا، أمسِكُ بقبضةِ دُرْجٍ لأَتماسك، أَشُدُّها بين عظامي وأصابعي.. لا يسعى باطاي بتاتًا إلى تجاوز هذه التّناقُضات، بل إنّه يتنقَّلُ بينها مثلما رَاجَا [أمير هنديّ ] لا تكفيه حياةٌ واحدةٌ لِيقفَ على مدى شُسُوع ثرواته. صحيحٌ أنّهُ يبقى لثروات باطاي الحقّ في أن تذوب في ما يُسَمِّيه «ليل اللامعرفة». وهنا نبلغ المرحلة الأخيرة من الرّحلة، نلمسُ إرادة الانتشاء.
تُجيبُني ابنةُ باطاي التي أتحدّثُ إليها عن مكامن الجمال في ثانويّة ميشْليه: نعم، ولكنّنا كُنّا أقصر من أن نستطيع الإطلال من النّوافذ.
إنّ مُنْحنى صوتٍ ما يُعيدُ لِكُلِّ كلمة الظِلّ الذي يُساعِدُها على الاستمرار في الوجود.
القاهرة
لقدْ ظهرتْ الكوليرا. نوعٌ من العزلِ الأخلاقيّ بدأ يفصلُنا بشكل لامحسوسٍ عن الغرب. وكما هو الحال دائمًا في فترات الدّواهي، أشْعُرُ بأنّي خفيف وأنّ مزاجيَ رائقٌ بشكلٍ بديع. آملُ أن يكتسب الأمر، في القريب العاجل، هيئةً إغرابِيّة متلائمة مع اللوحات التي تُصَوِّرُ الأوبِئة الفادحة المُكتسِحة. لا يبدو في أيّ مكان ما يُمكن أنْ نتعزّى به، فيما عدا الكوليرا، التي تبقى مِلْكًا لنا ومفخرة وطنِيّة. إنّ مداشر بأكملِها تُحيطُ نفسها بالمتاريس لدى دُنُوّ الأطبّاءِ منها، وتُقامُ فيها حصونٌ صغيرة، وتُحفَرُ خنادق، ويَرْفُضُ أهلها تسليم موتاهم، ويَحْدِجُون جالبي اللقاحات من علياءِ جراثيمهم.
إنّها اللَّحظة المُلائمة بامتياز لزعزعة يقينِ الجميع إزاءَ كُلِّ الأشياء. هذا سيكون الهدف المُبْتغى مِنْ [مجلّة] حِصّة الرّمل. لقد طلبتُ من مِيشو أنْ ينضَمّ إلينا، وكان جوابُه: ما عُدتُ أُمارِسُ الرَّسْم التّشكيليّ، ولذا فإنّي على وشك أنْ آخُذَ بِجِدّية اقتراحك المتعلّق بالكلمات المطبوعة… لَرُبّما ينبغي أنْ نُوافق على ما قاله… أمّا جان غرونييه، رجُلُ الوساوس، المُنَظِّر للتّردُّد، فإنّ مُقدّماتٍ طويلة وصَعبة تفرضُ عليه نفسَها حين يرغب في اختيار وجبةٍ في مطعم، أو في تحديد ما يُفضّله من بين ما تعْرِضُه قاعةُ سينما من برامج. في أيّ جانب من الحاجز يُوجَد الشَّرّ؟ أمّا إذا لمْ يكنْ هنالك حاجز، فالاختيار يُسَبّبُ له قلقًا أكبر. إنّه من ذلك النّوع من النّاس الذين ينبغي لهم أنْ يتزوّجوا راقِصاتٍ على رؤوسِ الأصابع مُصاباتٍ بالرَّبو وأنْ يقضوا شَهْر العسل على رِمالٍ متحرّكة.
الحياة، من دون إخضاعها للحسابات، ومن دون تأجيل ولا ضمانات.
يصعب عليّ أكثر فأكثر أنْ أُمسِكَ قلمًا لغاية أدبيّة. ففي أوقاتٍ متباعدة، أطلق العنان لخاطرة أو شذرة، وبي حنينٌ مِمَّا قبل الولادة، إلى كتاباتٍ نُقِشَتْ على الصّخور، يبدو لي أنّهُ آن حقًّا أوانُ العودة إليها.
قرأتُ [مجموعة]صرخات لجويس منصور.
بلا تهيّؤ، وبالقُوّة التي تستمِدُّها من لامبالاتها بِما يخصّ المعايير في الشِّعْر، تمنح جويس منصور صوتًا لِرُدود فعلها. نحنُ فعلا أمامَ مجالٍ للكلام الفَوريّ الذي يُشكِّلُ امتدادًا للجسد لا انقطاعَ فيه. فلِكُلِّ عُضو كَلِمُهُ الشّبيه باندفاعةِ نُسغٍ، ببقعةِ دم. في هذه النّصوص اللذيذة والمتوحِّشة، كلُّ تعريَةٍ هي إماتَةٌ. وتنتظم الصّور من خلال ارتباطها بِعنفِ حياةٍ فيزيقيّة وَلِعَةٍ بتدمير ذاتِها.
هكذا نقفز من ردّ فعل كابوسِيّ:
كُنْتُ أصرخ من دون أن أفتح فمي
كيْ أفتح رأسي لِلَّيْل
إلى البورتريه البرقيّ الطّابع لكائن ما:
… امرأة غنيّة بلا نقيصة ولا صدر.
في كُلِّ هذا فظاظةٌ وضربٌ بالمطرقة، ممّا يؤدّي إلى مواقف اسْتِبْداديّة لا يَبُتُّ فيها إلا ما يُشْبِه محكمةَ تفتيش. وهكذا، فنحن نقرأ السَّطرين الآسِرين الآتيين(2):
لقدْ رأيْتُكَ تذبحُ الدّيك.
هنا، نجد أنفُسنا في قلب التّحقيق الجنائي. والقسوة الطِّفلِيّة الضّارية، التي تُلْجَم أحيانًا ولكنّها غالبًا ما تكون منبعَ جَذَل، تتركُ آثار مِخْلبها على كلّ قصائد المجموعة. أترغبُ في رحلة بَحرية تَرفيهية بِأوقيانوسيا؟ رَهْن إشارتِك، إذن، جزُرُ الأمراض:
حيثُ مجذومون هم الببّغاوات.
لا يحدثُ في أَيّ لحظة أنْ تَسقُط جويس منصور في الخَطابة أو اسْتثارة العواطف، بل ولا يستميلُهَا حتّى الاجتهاد الشِّعْرِيّ الجِدّي. إنّها تأخذُ مكانَها بيُسْرٍ مُذْهِل في جمعيّة الفُكاهة السّوداء تلك، التي، بِحبورٍ، وبِتفصيلٍ، تُكافئ الحياة على شرورِها.
لقدْ عَرَفْتُ إيف تانغي(1) جيِّدًا ويبدو لي من غير المعقول أنْ يكونَ قد مات. لقدْ رأيْتُه وهو يتقدّم في خطٍّ مُستقيم، من دون أنْ يرى الأشياء ذاتِ الحضور المباشر، كما لو أنّ العالَمَ بابٌ مفتوح. فلرُبّما بدا له أنّ الموت هو أيضًا بابٌ مفتوح، أو مسألةُ منظورٍ مُسْتَحَبَّة. والكحول، الذي كان يتعاطاه، بلا تَصَنُّعٍ وبكمّياتٍ لا تُضاهى، كانَ يجعلُ غَيمًا خفيفًا يُجَلِّلُ دخيلتَه، ويُضَبِّبُ رؤيَتُنا نحن لا رؤيتُه هو.
فليتكرّم العقل المُتأَجّج بترك المكان، لوقت ما، للعقل المُتَحَفِّظ.
جاءنا [هنري] ميشُو مُتَجَهِّمًا ومُتَحَرِّزًا، ولتنبسطَ أساريرُه، لزمت أيّامٌ مُشْمِسة عديدة. وقد مضى، قبل عشرة أيّام، في اتّجاه السّودان، يحدوه أَمَلٌ مكتوم في أنْ يَتِمَّ اخْتِيارُهُ كمستشارٍ-ساحِرٍ. أُحِبُّ فيه كونَه لا يغفِرُ للنّاس التّباعُد الذي يُقيمونه مع الفنّ (…).
هَدْمُ قَصْرٍ من أجْلِ أخْذِ مِسْمار، تلكَ خاصّيةُ المُتوحِّش. (تِيوفيل غوتييه)
في اليابان وفي روما القديمة، كان ذَوُو الرِّفْعة من النّاس يستطيعون التّعرّف على تلك اللّحظة وتمييزَها: أعني اللحظة التي ينبغي خلالها أنْ يختفوا بِصورة مُرهَفة، قبل أنْ يَهْوِيَ الحُلم إلى الحَضيض. أمّا مُجتمَعُنا، الذي يُشْهِر طيلةَ الوقتِ أسلحتَه في وجهِ الفرد، فهو لا يغْفِرُ له أنْ يتوخّى الانسحاب بإرادته، فَيَضَعَ لِذاتِه نهايةً مُتحضِّرة. إنّنا نعلم أنّ المجتمع يرتابُ في ذوي الكينونة المُتناغِمة، ذلك أنّهُ يُفَضِّل تعاسَةً يُمكنُهُ فهمُها على سعادةٍ تبقى دلالتُها خَفِيَّةً عليه. لكنْ لا شيْءَ يُكَدِّرُ صَفْوَه، في الحقيقة، أكثر من حِوارٍ تَقْطَعُهُ مَوْتَةٌ مُتَرَفِّعة.
لا شيء يستحقّ أن يُعادَ مرّةً أُخرى. فما هو طيِّب في الإنسان، يقول جُوهَانْدُو، هو دائمًا اسْتِثْنائيّ.
المُشكل، رُبّما، ليسَ في إعادة إنشاء حضارة على خرائب حضارتنا، ولكنْ في منع الإنسان من أن يُصبِح، بالنّسبة لنفسِه، نقيضًا لوعودِه، وفي الحيلولة دون أن تدهمه المجتمعات التي يعمل على إنشائها، بِحركةِ بابٍ أرضي ينغلق عليه. فإذا كان على بني الإنسان أن يحلموا أوَّلا من أجل أنْ يسعوا إلى تحقيق رغباتهم، فلا يجبُ، بعدُ، أنْ يستيقظ الحالمون فيجدوا أنفسهم في قفص. لا أحد يعرف ما الذي سيكونه أناسُ ما بعد نهاية عالَمنا. أَيَسَعُهُمْ أنْ يتجاهلوا، لزمن طويل، الجوانب المُضْحِكة في ضروبِ تراتُباتنا الاجتماعيّة، والطّابعِ المُحْزن للحدود المُنْشَأَة بين مجتمعاتنا. سيَكُونون حقًّا، من سلالةِ اللاأحد، وبصفتهم كذلك، ينبغي أنْ يكونوا ذوي مناعة إزاء الأعمال التي تتِمّ على إيقاع قَرْعِ الطُّبول.
مِن: «تأمّل في قاعة انتظار» (1960- 1973)
هوميروس، من كان؟ شيخٌ مُسِنّ؟ دَعْكَ منْ هذا. لقد كان شخصا يتقدَّم في وَحل زمانه وهو يُغنّي. إنّهُ في سِنِّ الطَّيْش الذي لِنجمة الصُّبْح المُعلنة عن بدءِ الأشياء.
ودانْتي؟ عاشِقٌ لا يجرؤ على مَسِّ جميلته، وتجتاحُه رعشةٌ لا تنتهي ما إنْ يقترب من مسكنها.
أمّا شكسبير، فالجميع يعلم أنّهُ كان يتمرّغُ في العشب متلفّظًا بكلماتٍ مُبْهَمة.
(…) في حدائق «الفيلا بورغيزي»(3)، قريبًا جِدًّا من البُحيرة الصّغيرة التي تُبقبقُ مياهُها بفعل حركة البطّ، ومنفصلا عن الفردوسيّ(4) بِحاجِزٍ من الخُضْرة، يجلس أحمد شوقي5 على العُشب ويبدو أنّهُ يُحاول، دون جدوى، أنْ يُحيطَ ببصره، من خلف ستارة من الأغصان، بما تبدو عليه روما. والمرء يتوجَّسُ من أنْ يَقترِبَ منهُ كثيرًا، فكما لو أنّ حركةً ما، خرقاء أو غير مُلائمة، ستكون كافيةً لإخراجه من تأمُّلِه.
لقد قامتْ بلديّة روما منذ وقت قريب بتثْبيتِ أحمد شوقي في هذا الوضع الملائم للانصراف إلى الحُلم، مُحاطًا بمَرْجاتٍ عابقةٍ، غيرَ بعيدٍ عن غوته وبايرونْ. وفيما وراء هذا التَّقدير المُزْجَى إلى الشّاعر، فإنّ اللغة العربيّة هي التي تُكَرَّمُ في شخصه (…).
الهوامش
1- إيف تانغي: رسّامٌ تشكيليٌّ ورسّامٌ فرنسي سورّيالي، تجنَّسَ بالجنسيّة الأمريكية.
2- السّطران المقصودان، هما: – « لقدْ رأيْتُكَ تذبحُ الدّيك» و- «حيثُ مجذومون هم الببّغاوات»، وهما ليسا متواليين تماما.
3- حدائق الفيلا بورغيزي: هذه تسمية حدائق متلاحمة بمدينة روما، امتدادُها ثمانون هكتارا.
4- الفردوسي: شاعر فارسي شهير (932 – 1020م)، مؤلِّف «الشّاهنامة».
5- المقصود، طبعًا، تمثالٌ لأحمد شوقي.
جورج حنين – تقديم وترجمة: مبارك وساط
شاعر ومترجم من المغرب