سيد عبد الحميد
صحفي وروائي مصري
تظهر الألوان الفنية المختلفة في كل فترة، كالموضة في عالم الأزياء، وخطط المدربين في عالم الرياضة؛ أحيانًا لقتل الملل، وفي أغلب الأحيان لعدم ملاءمة القديم لعصرنا الحالي. وفي عالم الموسيقى العربية الذي شهد تحولات جذرية مع بداية الألفية لأسبابٍ متعددة ظهر الراب، فن عصر السرعة، الأمريكي في نشأته، والعربي في كل دولة من الشرق الأوسط.
للنشأة قصص مختلفة، وروايات ملتبسة، ولكن الأكثر شيوعًا منها هو أنه فن الاشتباكات العنيفة والألفاظ النابية والأصوات الرديئة!
من المفردة التي تطورت كثيرًا حتى وقتنا الحالي، وخرج منها موجات أخرى، يُعرف الراب – Rap بأنه امتزاج الإيقاع بالشِعر Rhythm and Poetry وبحسب تعريف قاموس جامعة كامبريدج للمفردة فهو كلمات يتم غناؤها على إيقاع موسيقي قوي. بدأ الراب العربي في الظهور بتسعينيات القرن الماضي. والنشأة العربية هنا أيضًا محل التباس تمامًا كالنسخة الإنجليزية، غير معروف من أي ولاية أمريكية انطلق الراب لأن البعض يقول إن الأصول من “جامايكا” والبعض الآخر يقول إنه بدأ من أفريقيا نسبة للأفارقة الأمريكان Afro-American الذين نزعوا فتيل الشرارة الأولى. المهم هو أن الراب بدأ في الظهور عربيًا من المغرب العربي وحتى دول الخليج بالتفاوت ومع اختلافات بسيطة في التوقيتات، وزادت شهرته مع مطلع الألفية وظهور الإنترنت والمُنتديات التي جمعت أغلب المحبين لهذا اللون الفني في مكانٍ واحد.
سنذهب معًا في رحلة عربية داخل عالم الراب، بخلافاته المتعددة ولهجاته المتلونة.
نشأ الراب باعتباره فنا فوضويا، غير معني بالتعريفات الأكاديمية على صعيد اللحن أو الكلمة، غير مشذب في كلماته لأن مؤدّي هذا اللون تحديدًا ليسوا أبناء طبقة أرستقراطية أو خريجي التعليم العالي والجامعات، فهم أبناء طبقة متوسطة ظهرت قدرتهم الفطرية على الهجاء نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب. في كل دولة من دول الشرق الأوسط يوجد أبناء ينتمون لهذا اللون الموسيقي، كلهم اختاروا أن يكونوا أبناء الهامش المنبوذ اجتماعيًا لصالح فئة قليلة ظلت مغلقة على نفسها يؤدي أصحابها الراب ويستمعون لبعضهم البعض في حلقات مغلقة، حدث هذا في عالم المنتديات قبل الانفتاح العربي على الإنترنت بعد الربيع العربي، وحدث هذا في الشارع، في شوارع القاهرة والإسكندرية وعدة شوارع أخرى في تونس والمغرب. ظل الراب منبوذًا لوقتٍ طويل باعتباره ابنا غير شرعي للتراث الموسيقي العربي في كل صوره الشعبية أو الأكاديمية، ولكن في لحظة ما اشتعلت شرارة القبول الاجتماعي لعدة عوامل أبرزها سيطرة أبناء Generation Z وجيل ما بعد الثورات على منصات التواصل الاجتماعي، ومع كثرة التطبيقات الموسيقية التي كانت مؤشرًا شديد الشفافية على التأثير الكبير لموجات الراب المتتالية مما أدى لهذا الاكتساح على حساب موجات موسيقية أخرى استمرت لسنواتٍ طويلة بنفس نجومها وصُناعها الذين توقفوا عن تطوير منتجهم الفني وتوقف زمان رواجهم عند موضوعات بعينها مثل الفراق أو الحب، بنفس الكلمات وكادرات التصوير المكررة التي جعلت الراب أمام هذا المنتج الردئ فنًا شديد الاختلاف على أصعدة الصوت والصورة المقتبسة أحيانًا والمتجددة أحيانًا، بالإضافة لتنوع الموضوعات التي شملت طبقات اجتماعية متنوعة أكثر ذاتية بالنسبة للفنان وللمتلقي، في عالم نيوليبرالي يسعى أفراده الجدد للاحتفاء بقدرتهم على الصمود في وجه العالم بكل تعقيداته، وفي وجه صراع الأجيال الذي يعاني منه الفنان والمتلقي في نفس الوقت.
مصر:التضييق الأمني الخانق
ظهر الراب في مصر مع بداية الألفية مع المحاولات الأولى لصنع منتج فني يشبه كلاسيكيات الراب الأمريكي وطموحات شباب حلموا بالتعبير عن هموم اجتماعية عديدة. في العقد الأول ظهر العديد من مؤدّي الراب، لا يوجد منهم حاليًا إلا قلة قليلة ما زالوا في المشهد الموسيقي المصري والعربي عن جدارة، بعد سنوات طويلة من الخبرة، وإنتاج موسيقي ضخم.
في أحدث أعماله الفنية يُشير أحمد ناصر، المعروف إعلاميًا باسم “الجوكر” لصعوبة العملية الإبداعية والخروج بمنتج فني في الوقت الحالي. أحمد ناصر الذي ظهر في المشهد الموسيقي المصري في عام 2009 باعتباره مؤدي راب سليط اللسان يستخدم موهبته في الكتابة لذم أعدائه وهزيمة “رابرز – Rappers” آخرين. يستعرض الجوكر مسيرته الفنية في ألبومه الأحدث “تلاتيني”، يتذكر عقبات الطريق في الماضي ويُشير لواقع حياتي ضاغط ويؤكد على أنه واحد من الناس الذين يغني لهم، لا ينفصل عن واقعهم ولا يتجاهل مطالبهم المستمرة له في إنتاج أعمال جديدة، ولكن ما يمنع هذا بالنسبة له هو كثرة المتطلبات الحياتية اليومية. يعتمد كل مغني راب على قاموس خاص به، معجم من المصطلحات النابعة من خبراته الخاصة ومن خلفيته الاجتماعية حتى يُحدِث تماسًّا بين منتجه وبين المستمعين. للجوكر تاريخ حافل في الغناء خلال أعوام 2011 – 2015 من خلال عدة أغنيات انتقد فيها الأنظمة المصرية الحاكمة خلال هذه المدة. في مصر لا يوجد مساحة كبرى للموضوعات السياسية داخل عالم الراب بسبب التضييق الأمني الخانق، باستثناء الجوكر لا يوجد من تطرق للصراعات السياسية أو الاجتماعية الكبرى في مصر لأن الأغلبية تتعامل مع المنتج الفني باعتباره منتجا ترفيهيا، بالإضافة لذاتية الموضوعات ونرجسية المؤدي، لذا فإن الإشارة للمحتوى السياسي نادرًا ما تحضر داخل المشهد المصري.
في الفترة الماضية زادت الأحاديث حول الأقدمية والرسوخ. في العادة حينما تظهر مواهب جديدة على الساحة يسعى نجوم المرحلة الأحدث للتقليل من السابقين عن طريق نقد مُنتجهم الفني والذم في جودته ورسوخه، يحدث هذا لعدة أسباب أبرزها هو الظهور على الساحة بمظهر شرس واستعراض قدرات الكتابة والامكانيات الفنية.
يختلف “شاهين” عن “الجوكر” من حيث آلية الإنتاج وظروفه. يظهر من جديد بألبوم مُصغر يستعرض فيه إمكانياته الفنية، وفي أول أغنيات الألبوم التي حملت عنوان “2007” يُشير للماضي الذي بدأ فيه كتابة الراب. في فترات الركود والتوقف الكبرى التي حدثت في مشهد الراب المصري ظهر واختفى أكثر من مغني راب. يستعيد شاهين ذكرى ثورة يناير عام 2011 وما تلاها في بودكاست “مع عباس” من تقديم الفنان “عباس أبو الحسن”، ويُشير إلى فيلم “ميكروفون” الذي ظهر فيه شاهين بشخصيته الحقيقية بصحبة فريق “ Y- Crew” أول فرق الراب في مصر. في الفيلم الذي يوثق أغلب المظاهر والمشكلات التي تواجه الغناء المستقل في مصر يظهر شاهين كشاب يقترب من بداية العشرينيات يسعى ليصبح مغني راب ناجحًا ويعاني بسبب رفض أسرته، وتعنت المراكز الثقافية ضده هو ورفاقه وعدم وجود أي مساحة لتقديم الفن الذي يريده بسبب رفض الذوق العام. يقول شاهين إن نزول الفيلم في يناير/ 2011 وقت الثورة تسبب في هدم كل أحلام الشهرة والنجومية المتوقعة. ستتعثر حياة شاهين فيما بعد أكثر حينما ينفصل عن الفريق بسبب عدة خلافات، وحينما يتوفى والده فيما بعد ويعجز عن كتابة الراب من جديد ويسافر للعمل في دبي لمدة عامين سيقول عنهما إنهما أسوأ سنواته لأنهما كانتا فترة عدم التفكير في الموسيقى التي يعشقها. سيعود شاهين فيما بعد ويقرر أنه لن يتوقف مرة أخرى لأنه لن يستطيع التوقف، وأن الراب يجب أن يظل في الإسكندرية ولا يبدأ من أي مكان آخر، وأن الإسكندرية هي عاصمة الراب المصري. سيؤكد هذا خروج عدة نجوم آخرين فيما بعد مثل “ويجز”، “مروان بابلو”، “عفروتو”، “دارين” وغيرهم ظهروا واختفوا. التأكيد على الرسوخ يأتي من أسماء أخرى ربما تكون غير رائجة بشكلٍ مستمر -تريند- مثل “ويجز” و “بابلو” رواد الموجة الأحدث للراب المصري، ولكنْ للأقدمية دور هام لأنها تُبرز حجم الموهبة وقيمتها. في مصر والوطن العربي لا يمكن تجاهل “أبيوسف’’ مؤدي الراب متعدد الوجوه الذي يملك تاريخا فنيا يقترب من 15 عاما، تاريخ حافل بالنزاعات والاشتباكات الفنية مع مؤدّين آخرين أو مع الجمهور غير الواعي بما أنه ساهم في تغيير النظرة المصرية والعربية للراب. تأتي الإشارة في أغنيات “أبيوسف” واضحة كالشمس أحيانًا وفي أحيانٍ أخرى ملغزة كأحجية. يتقاطع فن الراب المصري مع الهموم الفردية، ولكنه لا يحتك بها في سياق سياسي بسبب التضييق الأمني كحال أغلب الدول العربية التي لا نجد فيها أي هامش للتعبير عن حرية الرأي حتى ولو ظهرت اختلافات بسيطة في بعض الدول!
فلسطين : الراب داخل النسيج الاجتماعي
يقول “تامر نفار” أول مغني راب فلسطيني في مقاله المنشور في مجلة “+972” بتاريخ 11 يوليو 2024: كنت أعتقد أن الفن قادر على تغيير العالم. أما الآن فقد أصبح أشبه بالصندوق الأسود للطائرة: فهو لا يستطيع تحديد مسار الهبوط، بل يستطيع فقط توثيق الحادث.
تامر ابن مدينة “اللد” الفلسطينية التي أصبحت تحت سلطة الاحتلال الصهيوني مثلها مثل كل المدن بعد الإبادة العرقية وحرب 1948. وُلد تامر في عام 1979 وبدأت مسيرته الفنية في نهايات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة بتأسيس فريق “دام” الغنائي ومن وقتها وهو يُعرف بالمغني الفلسطيني الإسرائيلي باعتباره ابن فلسطين الذي وُلد ويعيش تحت سلطة الاحتلال. يستخدم تامر كل أشكال الفنون لمقاومة الاحتلال والتعبير عن نفسه، يكتب الرواية والسيناريو ويؤدي الراب غير المتحفظ، يكتب المقال كصحفي ويعبر عن آرائه السياسية التي تهاجم الاحتلال الصهيوني بلا تحفظ، يشتبك مع الواقع المعقد بدون براجماتية: بصفتي مغني راب فلسطينيا، كان التعبير الإبداعي لديّ متجذرًا دائمًا في القمع والصدمات الجماعية التي نتعرض لها. لكن الأشهر التسعة الماضية أجبرتني على التساؤل حول الغرض من فني وإمكانياته، بل وحتى وجودي بالكامل. يقول نفار في أغنيته التي صدرت في شهر مايو/ آيار الماضي بعد مرور أكثر من 8 شهور على الإبادة التي يتعرض لها أهل فلسطين:
وما تمنيت ولا شي في حياتي
غير مليون دولار قاعدات في حسابي
واشوف خواني وخواتي في بلادي
ما تستحقي غير الخير يا بلادي
مرة برفع إيدي مرة برفع راسي أنا
مرة مهاجر مرة بقرر إني باقي أنا
حتى لو ما بفهم بالسياسة ولا حبة
يُعارض تامر بالسُبل المتاحة ويراوغ حتى لا يكون مُعرضًا للتوقيف من قبل سلطة الاحتلال التي تعتقل كل من يدون بأي رأي معارض لمنهج الإبادة الجماعية التي تطبقه بحق الفلسطينيين. في حوار سابق لي مع “تامر نفار” يقول تامر ردًا على سؤال: ما هو شعورك وأنت تكتب وتغني في محاولة منك لإيصال صوتك للعالم في وقت الحرب؟
وضعنا في الـ٤٨ -أي في فلسطين الداخل- مختلف، حدثت أشياء عديدة تجعلك تغير مسارك بطريقة أو بأخرى، واحد من هذه الأشياء التي حدثت، الهجوم على دلال أبو آمنة. اعتقلوها خمسة أيام، وميساء عبدالهادي، صديقاتي اعتقلوهن أيضا. انتبهتُ آنذاك أنّ لعالم السوشيال ميديا مليون عين، وهناك تكمن الخطورة. وتساءلتُ: إذا كتبتُ “بوست” هل سأحرر أحدا؟ أو سيكون ما أفعله مجرد كتابة في النهاية! لذلك تمسكتُ بجملة أحبها لبروس لي: “Be Water my Friend” إذا سدوا عليك النفق، ستجد المياه طريقها للعبور. كان لابد أن أجد Format مختلف، كان في رأيي ذلك أهم من السوشيال ميديا، قررتُ أن أذهب إلى المقالات والمقابلات، وبدأتُ أكثفُ كتابتي في الجارديان وجريدة +972، وكنتُ أكتبُ في هآرتس “Haaretz” بالعبري. الناس تعتقد أن جزءا من السكان الأصليين بفلسطين بعد 1948 تخاذل “نخ” لأنّ اليهود يطالبوننا بالسكوت ولكني كنتُ أكتب بالعبري وهذا في رأيي سباحة في قلب الخطر نفسه. وكنتُ أفكر في ماذا أكتب، كنتُ أريد التعبير عن الغضب، كل شيء كان سريعا بعد السابع من أكتوبر، ولم يكن لديّ القدرة للمرور إلى الاستوديو لتسجيل أغنية أو اختيار موسيقى وإيجاد ميكس ولحن، وإذا كنتُ أسجل مثلا يوم 1 وأنشر يوم 15 كان مليون شيء يحدث خلال هذه الفترة. في الصباح حينما يحدث أي شيء، كنتُ أكتبُ وأرسلُ للجارديان، أخدتُ كتيرا من الوقت لأنّي أردتُ أن أخرج شيئا مختلفا، لأن كل الأغاني التي كانت تخرج كانت حزينة.
ربما يفسر هذا حالات الهجوم والعدائية على مغنّي الراب الفلسطينيين تحديدًا على مواقع التواصل الاجتماعي في ظل الحرب وهو ما أكده آخرون في حوارات قريبة.
في سياق متقارب نشأت “بلاتنم” شركة الإنتاج الموسيقي بجهود “شب موري”، “الناظر”، و”شب جديد”. ذاع صيت “شب جديد” و”ضبور” وقت أحداث الشيخ جراح في مايو/ آيار 2021، ولكن من قبلها بسنوات بدأ العنصر الموسيقي الأبرز في الفرقة بالتعبير عن نفسه من خلال كتابة كلمات جافة تخلو من البكائيات على الوطن أو استجداء التعاطف العربي. تأسست بلاتنم في “2015” بقيادة “الناظر” (محمد مسروجي) وهو المنتج الموسيقي، و”شب جديد” (عُدي عباس)، الكاتب والمؤدي الرئيس، و”شب موري” (أحمد زغموري).
يقول شب جديد في حوار سابق مع منصة معازف بتاريخ 24 فبراير/ شباط:
“ليش ما منتمسكن؟ لأنه عيب الواحد يتمسكن، والإنسان الفلسطيني فخور بطبعه لكونه فلسطيني”.
في حوار سابق مع صحيفة “الجارديان” البريطانية رد “شب جديد” على السؤال النمطي الذي وجهه له الصحفي عن طابع أغنية “كحل وعتمة” التي يسرد فيها تعسف قوات الاحتلال تجاهه يوميًا هو وسكان بلدته حينما يمرون من الحاجز، رد شب على السؤال بسؤال، بطريقة ندّية جدًا: “كيف تشعر أنت بالعيش تحت الاحتلال؟ لقد وُلدت هنا.. تعودنا على ذلك.. يمكن للجنود الإسرائيليين القدوم هنا، والبدء في إطلاق النار، ولن نوقف المقابلة حتى.. الأمر مثل حركة مرور مكدّسة في لندن.. الأمر مزعج للغاية، لكننا لا نسأل: ما شعورك عندما تعيش في حركة مرور مكدّسة؟”.
في لقاء تم تسجيله في مارس 2024 بعمَّان بواسطة قناة stereo على اليوتيوب بعد إطلاق ألبوم “سلطان” للثلاثي الشاب، يُجيب شب جديد/ عُدي على سؤال المذيع الذي يُشير للاتهامات العديدة التي تعرض لها فريق بلاتنم لكونهم لم يتحدثوا عن أي شيء يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر وحتى صدور الألبوم، يُجيب عُدي على سؤال: هل تريد أن تحكي شيئا عن الصمت الذي اتهموك به؟ . ها أنا ذا أخرجتُ الألبوم، لكن المشكلة إذا حكى الواحد منا يُقال حكى،وإذا لم يقل شيئا يقال صمت! من أنا؟ وسكتُ عن ماذا ؟ وإذا حكيت ماذا كنتُ سأقول؟
وعن سؤال أين موقع الألبوم من الأحداث الحالية يقول: أريد الاشتغال على ألبوم يصف الأحداث؟ ولكن من أنا؟ وهل للألبوم الخاص بي أي أهمية مقارنة بالأحداث؟ ليس مهما… الأحداث شيء ضخم، حدث ضخم، ولا يمكن للبني آدم تصور الشيء، لا يمكن للانسان وصف ما يجيش بداخله.
تجذّر الراب في النسيج الموسيقي العربي بفعل العولمة وانفتاح العالم بأكمله على نفس الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي التي لم تتسبب فقط في محو الحواجز الاجتماعية بين سكان البلد الواحد، بل إنها أيضًا تسببت في خلق حالات هجينة للفنون بشكلٍ عالمي. في كل دولة تعاون نجوم الراب مع موسيقيين لخلق حالة خاصة بالاستناد إلى موسيقى إلكترونية غير حية عن طريق مزج الترددات الصوتية بعدة إيقاعات مختلفة السرعة أو عن طريق العودة للتراث الموسيقى الأفريقي أو اللاتيني بحسب الموقع الجغرافي. كل موجة شهدها عالم الراب اعتمدت على طفرة فنية على صعيد الكتابة أو الإنتاج الموسيقي.
يتفرع من الراب ألوان موسيقية أكثر حداثة مثل الـ Trap Music الموسيقى الإلكترونية متعددة الوسائط والتي يعتمد صاحبها على كلمات أكثر بساطة من راب الأوائل بالإضافة للاهتمام الكبير في هذا اللون للحن على حساب الكلمة، أو Drill Music المعروف بمزجه لكلمات الراب القوية والموسيقى الإلكترونية الصاخبة. اجتماعيًا نجح الراب في فرض نفسه بعدما اجتاز عدة مراحل أبرزها كان عدم التنازل عن الإطار العام الذي نشأ عليه. في المراحل الأولى تم نبذ الراب باعتباره كلمات بذيئة ممزوجة بإيقاع غير موسيقي، ورغم ذلك لم يتوقف رواد الموجات الأولى عن فعل ما يؤمنون به بالرغم من تضررهم البالغ بسبب عدم الانتشار الفني أو التحقق المادي بسبب هذا النبذ الإجتماعي، ومع التطور الإلكتروني والانفتاح كما ذكرت وظهور شباب أكثر قدرة على التأثير في غيرهم وفرض أذواقهم الفنية استمر الراب في الصعود إلى القمة، ببعض التعديلات البسيطة وبعض التنازلات ولكن في سياق الحفاظ على الهوية العامة التي تستخدم مصطلحات عامية تتماس أكثر مع نفس الطبقة التي يرغب أبناؤها في التعبير عنها.
تونس: الراب نشيد الثورة
في تونس مهد الربيع العربي ظهرت أسماء عديدة على مدار السنوات الماضية، أسماء قدمت الراب في شكله المحلي وسعى أصحابها للوصول للانتشار عربيًا وعالميًا. ومن بين الأشهر تونسيًا وعربيًا “محمد صالح بلطي” المعروف باسم “بلطي”. مسيرة حافلة بدأت منذ أكثر من 20 عاما، مليئة بالتحديات والتعاونات الكبرى، مليئة بالتجريب والتطوير والاشتباك مع واقع اجتماعي وسياسي متوتر.
اشتهر اسم “بلطي” بعد النجاح الساحق لأغنية “يا ليلي ويا ليلة” في عام 2017 والتي تحكي عن العنف الأسري والأطفال الذين ينشأون في بيوت مليئة بالخلافات والتعنيف.
النجاح الكبير الذي جعل الأغنية تتجاوز أكثر من 750 مليون مشاهدة على موقع اليوتيوب منذ صدور الأغنية وحتى الوقت الحالي وضع “بلطي” في مكانة أبعد من حيث الانتشار والتحقق الفني إضافة للفيديو المرئي الذي عزز من قيمتها الفنية، ووجود الطفل “حمودة” الذي ساهم بصوته وصورته في إيصال المعنى الكامن خلف كلمات “بلطي”. ترشح بلطي في نفس عام صدور الأغنية لجائزة الموسيقى الأفريقية AFRIMA المتخصصة في توزيع جوائز نجوم الموسيقى في القارة الأفريقية.
تونسنا تعيش في برشة جوع وبرشة خوف
تونسنا تجري عل قوت هاربة مل ماتراك والكفوف
تونسنا عريانة تحب شكون اللي يجي يسترها
تونسنا اغتصبوها تحب تشكي باللي كسرها
أما تونسهم ترقد وتقوم في قصرها مطمنة
تونسهم تلعب بتونسنا تلعب بالأمانة
يقول بلطي في مقارنة عن الاستمرارية أو الانتشار إن الاستمرارية أهم مُشيرًا لتاريخه الطويل الذي بدأ مع فرقة “أولاد البلد” قبل أن يصدر ألبومه الأول عام 2002. أما عن التعاونات فهو يسعى دائمًا لمزج الراب بألوان أخرى ويهدف بهذا لخلق ألوان موسيقية متجانسة ومتجددة والتعبير عن قضايا اجتماعية وسياسية هامة. أما من حيث الأقدمية فيوجد في تونس “حمادة بن عمر” المعروف باسم “الجنرال” وهو واحد من أقدم مغنّي الراب في تونس والعالم العربي. ذاع صيت “الجنرال” قبل أيام قليلة من ثورة الياسمين في تونس عام 2011 بسبب أغنية “ريس البلاد” التي صدرت في أواخر عام 2010 في نقد النظام التونسي وعلى رأسه الرئيس المخلوع “زين العابدين بن علي”. اعتقل “الجنرال” قبل الثورة بأيامٍ قليلة واختفى ثم ظهر بعد أيام وقد تحولت أغنيته إلى نشيد ثوري مقدس.
رئيس البلاد هاني اليوم نحكي معاك
باسمي وباسم الشعب والكل اللي عايش في العذاب
٢٠١١ مازال فمّ شكون يموت بالجوع
يحبّ يخدم باش يعيش لكن صوته موش مسموع
اهبط للشارع وشوف العباد ولَّات وحوش
بعد سنوات طويلة، يقول الجنرال في حديثه مع صحيفة الـ BBC في يوليو 2023:
“نحن تحت الرقابة أكثر من أي وقت مضى. لا نعرف ما إذا كنا نعيش الحاضر أم في عام 2010. أنا واحد من كثيرين يشعرون أن بلدنا في خطر. ما زلنا في حالة صدمة، لم نكن نتوقع أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من القمع.
يعيش الجنرال الآن في مدينة صفاقس، يحلم بأن يأتي بعده من يفجر ثورة أخرى، وفي ظل المظاهرات المعارضة، ربما يعود الجنرال نفسه بنشيد جديد للثورة!
يعيش الراب على أسطورة أنه فن غير ملتزم اجتماعيًا. لا يلزمه صوت جيد لأن أصحاب الأصوات الجيدة يذهبون إلى الأوبرا أو بصورة أخرى يتحولون إلى نجوم تحت رعاية شركات الإنتاج الضخمة التي توفر لهم شهرةً ومجدًا معبأً وجاهزًا لخدمة الصوت الذي يطرب الذوق الكلاسيكي، لذلك يأتي الراب في كل مجتمع كنقيض، ويأتي نجمه كأحد أبناء عامة الشعب يستخدم عامية دارجة ويدخن بشراهة ويستخدم لغة جسد غير مهذبة كأي شاب عادي، يعتمد مغني الراب على مدى صلاحيته ليظل حقيقيًا أمام الجمهور الذي نصبه كصوتٍ لهم، ما إن يتحول هذا الصوت المحشرج إلى نجم بلاستيكي حتى يتم نبذه ويتحول إلى ضد!
المغرب: اجتماعي بكل اللغات!
بدأ الراب في المغرب بتعريفه بأنه “فن الزنقة” أي فن الشارع. فن بديل لكل كلاسيكيات الموسيقى المغربية الغنية والتاريخية، فن من لا صوت له، بلا قواعد وبلا قيود. هجاء علني يعتمد على كلمات فاحشة وبذيئة يمثل جانبًا مناقضًا للأشكال الموسيقية التقليدية. ظهر الراب المغربي في أواخر التسعينيات، ووجد موطئ قدم في ساحة تقدس الموسيقى الشعبية مع بدايات الألفية وبداية عصر جديد للفيديو كليب. يظهر الراب المغربي بجودة عالية في المشهد العربي للعوامل الجغرافية التي تميزه باعتبارهم على حدود قصيرة مع إسبانيا شمالًا، لذا ليس من الصعب أن ينطق اللسان المغربي الأمازيجي أحيانًا بالعربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية وبمزيجٍ من اللهجات في مقطع غنائي واحد!
في المغرب أصوات شابة وقوية وصلت للعالمية بمُنتج فني مبهر، متجدد، وذاتي. “طه فحصي” المعروف باسم “الجراندي طوطو” واحد من أشهر الأسماء العربية في الراب. فنيات مرنة وعنيفة، خروج عن المألوف ولغات متعددة في المقطع الصوتي الواحد، تعاونات عالمية وفنية شديدة الثراء، بركان فني متجدد عمره 28 عامًا فقط!
يمكن أن يعرف المصريين “الجراندي طوطو” بتعاونه مع “ويجز” مغني الراب الأشهر عربيًا في الوقت الحالي، يعرفه المهتمون بموسيقى الراب داخل قارة أفريقيا كونه أحد الحاصلين على جائزة أفضل مغني هيب هوب صاعد من مهرجان أفريما الدولي عام 2021 أو عالميًا بسبب حصوله على جائزة الأسطوانة الذهبية عام 2022، أو بسبب وصول ألبومه “الحرباء – Caméléon” للمركز السادس عالميًا في قائمة الأكثر استماعًا على تطبيق الموسيقى “سبوتيفاي” عام 2021. يمزج طوطو بين الراب الكلاسيكي الذي يعتمد على الفخر والهجاء ومدح الذات وبين -التراب – Trap- الذي يعتمد على الكلمات الخفيفة والأصوات الموسيقية المتنوعة التي تجذب الانتباه. يحكي طوطو عن نفسه، يعبر عن حاله في الفيديوهات المرئية بأداء جسدي راقص وحالة غناء احتفالية في أغلب الأحيان. ابن مدينة الدار البيضاء الذي يكتب بالعربية والإنجليزية والفرنسية لا ينسى أحزانه إلا بالموسيقى، يكتب ليوثق حزنه وهمومه الشخصية التي كان أبرزها وفاة والدته في عام 2020، يُلخص فلسفته في الحياة في حديثه مع وكالة المغرب العربي للأنباء ويقول: نحن نعيش عالمًا محفوفًا بالمخاطر وسيئًا أحيانًا، ولكننا نحاول التعبير عن كل ذلك لجعله أفضل بواسطة الفن”.
يختلف طوطو عن “ديزي دروس” المولود في نفس المدينة ولكن في 19 يوليو عام 1989. في بدايته أحدث “عمر سهيلي” المعروف بـ”ديزي” ثورة في المشهد المغربي حينما بدأ في 2011 واشتهر باسم “كازافونيا” اسم أول فيديو كليب له. يحظى الراب في المغرب حاليًا باهتمام بالغ بعدما بدأ متعثرًا، كحاله في كل البلاد يأتي الراب غريبًا وغربيًا ولكنه ينصهر في النسيج الثقافي والاجتماعي ليصبح أحد العناصر الأساسية داخل المشهد الموسيقي. تأثر الراب المغربي بالمصطلحات الفرنسية وليس المغربية، يُعرف العراك الغنائي بين مغني الراب عالميًا بالـBeef وهي كلمة عامية إنجليزية بمعنى شكوى، وتُشير في عالم الراب لخلاف بين اثنين، ولكن في المشهد المغربي يستخدمون تعريف “كلاشات” المُعربة من الفرنسية Clash. أحيانًا يبرز الراب كثورة فنية لأنه في أغلب المجتمعات يناقض الكلاسيكي والحداثي معًا. أحيانًا يبرز الراب قبل ظهور الثورة كما حدث في تونس، مصر، والسودان وغيرها من البلاد التي مسّها حلم التغيير، ليست الثورة السياسية هي المقصودة فقط، أحيانًا يحتاج الراب لثورة اجتماعية كبرى كالتي حدثت في السعودية.
السعودية: قيمة الكلمة وموهبة المؤدي
الراب السعودي أحد أبرز المشاهد العربية بل إنه يُعد من أقدم المشاهد. تبرز أسماء عديدة داخل المشهد الفني السعودي مثل “قُصي خضر”، و”كلاش”، و”شيبوبة” الذي دفع ثمن رفضه للواقع!
تبرز أخبار الراب السعودي غالبًا في حوادث الاختفاء والسجن. في 2007 تعرض “محمد الغامدي” المعروف إعلاميًا باسم “كلاش” للحبس والجلد بسبب أغانيه، وبقائمة اتهامات عديدة كان أبرزها السب والقذف وإهانة المجتمع. للمغني السعودي المولود في 1 مارس / آذار عام 1986 مسيرة طويلة ومبهرة، ومحبون من عصر المنتديات وزمن ما قبل مواقع التواصل الاجتماعي بسبب أسلوبه القوي الذي تأثر بتوباك وفيفتي سينت وغيرهم من نجوم التسعينيات الذين شكلوا هويته الموسيقية.
يعتمد كلاش كأغلب مغنّي الراب القدامى على المدرسة القديمة في الراب -Old School- باعتبارها تبرز قيمة الكلمة وموهبة المؤدي عكس المدرسة الحديثة التي انبثقت حديثًا والتي تُعرف بالـ -New School- والتي تهتم أكثر بالمؤثرات الصوتية واللحن الموسيقي. وفي نفس السياق القمعي يبرز اسم “شيبوبة” ولكن دون معلومات كثيرة بالرغم من أنه أحد أبرز نجوم الراب العربي.
في حوار سابق مع “مازن السيد” في عام 2015 على منصة “معازف” يقول “شيبوبة” في تعريفه عن فنه: “أسميه ثوريًا. نحن نحتاج إلى ثورة فكرية مستمرة عبر الأجيال ولا يمكن أن تنتهي هذه الثورة إلى مصير أو نهاية. مع تغير الأهداف والمفاهيم تَجِبُ الثورة المستمرة”. مع هذا الاقتباس غير المنسوب للحوار الصحفي أو لتاريخه وبعض أسماء الأغنيات التي أداها المغني الذي اشتهر بنبذ السلطة والعنصرية في مجتمع ظل مغلقًا على نفسه حتى وقت قريب، وبلا معلومات تقريبًا عن ظروف الاختفاء والحبس الذي تجاوز العامين تقريبًا يمكننا أن نفهم شيبوبة أكثر من خلال أغنياته.
اعتمد شيبوبة على اللعب بالكلمات، جمل قصيرة خُطافية على طريقة الملاكمة، وتضاد ما بين العناوين ومتن الأغنية التي يكتبها، وأداء اندفاعي خشن وعنيف. تبرز جمالية الجملة عند شيبوبة بانتقادها متن المجتمع الذي نشأ فيه، تبرز قبحه -من وجهة نظره- وتتعمق في كشف عيوبه. ينقد المظاهر الخارجية بعنف، يستخدم ألفاظًا غير محافظة لاستفزاز المستمع، لذا ليس من الغريب أن يتبع كل إصدار له العديد من الخلافات بين المستمعين على مواقع التواصل الاجتماعي أو في منصة “اليوتيوب” التي شهدت اكتساحه الكبير للمشهد الفني السعودي.
كل شيء عربي مو نافع
كل اللي سووه
زرعوا الكذبة في راسك
لين صارت حقيقة وواقع
حدد مصيرك
انزل الشارع واسمع معاناة الناس
وشوف كيف الظلم يستثيرك
لم ينجرف “شيبوبة” للموجات التجارية الاستهلاكية للراب، ولم يرضخ للتهذيب الإجباري الذي وقع على آخرين، وباعتباره غريبًا في أرضه -كونه غير سعودي الأصل- فإن أزمة تعريف الوطن ظلت حاضرة بقوة في محتواه.
قيادي، ما أكون انقيادي
فكري سادي، طبعي عنادي. إيجادي رابي من أهم مبادئي
عكاسة، تقول مربع أقول مثلث، تقول لي رجل أناديك (…)
مو على الشر حث؟ رابكم عبث، تخلف راب مكلف
هيب هوب مزيف، ﻻ مضمون من الداخل مجوف
هيب هوب مبهر، بألحان الديسكو والكلام مشفر
أحزن على المايك اللي مسكو وقال أنه رح يتفجر
يأتي الراب العربي من خلفية اجتماعية واحدة في الأغلب، باختلافات بسيطة بين مؤدّي الراب من كل دولة، ولكن كحال أغلب الدول يأتي الراب كعنفوان شبابي جامح وغير مهذب، غير متصل بألوان موسيقية كلاسيكية سابقة وأحيانًا بلا اتصال بين موجاته وبعضها البعض. من خلفيات اجتماعية فقيرة ومتوسطة ونادرًا ما تكون فوق ذلك بقليل، لنقد الظروف السياسية المقيدة للحريات أو المظاهر الاجتماعية المبهرجة. يظهر الراب أحيانًا قبل الثورة كما حدث في تونس ومصر وغيرها من دول الربيع العربي، أحيانًا تأتي الثورة فتكتم فمه كما حدث في اليمن الذي عجز أغلب نجومه عن التعبير عن أنفسهم بعد تمزق البلاد بين السلطات المتنازعة على الحكم، أو مثل السودان الذي هاجر منه “حليم تاج السر” المغني الشاب الذي يعيش في القاهرة حاليًا ويسعى لتقديم ثورة إيجابية عن الراب السوداني في مصر، أحيانًا ينبذ الراب العنف ويغني للقضية وأحيانًا ترتفع نبرة العنف في الأغنية لإشعال الحماس تجاه نفس القضية، يتعاون نجوم الراب بين بعضهم البعض من أجل تحسين جودة المحتوى ولكنهم في أغلب الوقت يتنازعون حول تعريفات الجودة والصدارة والانتشار. وكما نشأ الراب كفنٍ من الشارع، ومُعبرًا عن هموم أبنائه سيظل الراب هكذا، غريبًا عن الرافضين للتغيير وغير مهذب لمن لا يرون ما وراء النص والكلمة، سيظل ضجيجه أكثر من اتزانه لمن يُفضلون الطرب، ولكنه بالتأكيد سيظل طريقة قول “لا” في كل مرة يقول فيها الأغلبية نعم.