إدريس الخضراوي*
من المؤكّدِ أن التجربة الروائية للكاتب المغربي محمد برادة تعدّ تجربة غنية وضافية، ليس فقط من حيث عدد النصوص التي كتبها منذ أن أطلق روايته الأولى «لعبة النسيان» (1987)، وإنما كذلك من حيث القيمة الفنية التي تنطوي عليها، وإصراره في كل نصّ جديد على إرساء جماليات يُمكنُ اعتبارها من أبرز الإضافات التي ما فتئت الرواية المغربية تسهم بها في تطوير المشهد الروائي العربي. وإذا كان من الصّعب في هذه الورقة أن نحيطَ بهذه النصوص كلّها، وأن نستكشفَ الأبواب المختلفة التي تفتحها لإضاءة مناطق الوجود المجهولة، أو للتعبير عن العلائق المتوترة بين الفرد ومؤسسات المجتمع، فإننا نقترحُ مصاحبة روايته الأخيرة «رسائل من امرأة مختفية» الصادرة عن دار الفنيك (2019)، والتي تعدّ، من حيث الترتيب، الرواية الثامنة ضمن أعمال الكاتب السردية وهي: «لعبة النسيان»(1987)، «الضوء الهارب»(1993)، «مثل صيف لن يتكرر»(1999)، «امرأة النسيان»(2001)، «حيوات متجاورة»(2009)، «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات»(2014)، «موت مختلف»(2017).
في هذه الرواية الجديدة بالمعنى الفني، التي يتغيا فيها الروائي هتك الستار المنسوج حول سنوات الستينات التي تعدّ فترة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، يشيدُ محمد برادة عالما متخيلا يَنتهِلُ عناصره ومكوناته من التوغلُ في التاريخ الرّاهن، وتحديدا فترة الستينات التي اشتد فيها الصراع بين «المخزن» والقوى السياسية المتطلعة إلى القطع مع الماضي والبناء من جديد، من خلال شخصيات شبابية مبدعة تجسّد بأفكارها وأحلامها وطموحها إلى الاكتمال عبر اختبار الحبّ اختبارا شخصيا فريدا، ذلك المناخ «الثوري» الذي غمر المغرب مع حكومة عبدالله إبراهيم. هذه الشخصيات الممتلئة بالعالم، والكاشفة عن انشغالات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة، لا تنهضُ فقط بتكثيف تطلعات تلك المرحلة إلى التغيير الجذري الذي يَضعُ البلاد على سكة الحداثة والديمقراطية، وإن كان الحلم بأن الاستقلال سيحقق الحرية والتغيير قد غدا مجرد وهم، وإنما تُمثلُ أيضا رسالة للأجيال المعاصرة، في سياق تطبعه تحولات متسارعة تكرّسُ الهيمنة على السياسة، وتَعصفُ بما ناضلت من أجله الجماهير المتعطشة إلى الحرية والانعتاق.
لا تتكونُ الروايةُ من فصول محددة على النحو الذي نجدهُ في عدد من الروايات، بل تتشكلُ من محطات يختلفُ فضاؤها النصي باختلافِ الشخصيات التي تَنهضُ فيها بالسّرد، والوقائع التي يتمُّ سردها أو النصوص المضمّنة(الرسائل). وعلى هذا الأساس، تُشكلُ الروايةُ مجموعة من المشاهدِ السرديةِ التي يَتحكمُ فيها عنصر التجاور. في مستهلّ الرواية يَتحدثُ «الكاتبُ الضمني» ويمكنُ وصفه بالراوي المشكّل، عن ظروف إنجاز الرواية مشددا على أن الأمر يتمحورُ حول رسائل من جاذبية عبد العزيز التي يرغبُ الخبير الاقتصادي هيمان السبتي في استعادة التجربة التي عاشها معها عقبَ استقلالِ المغرب وإلى نهاية الثمانينات، لأنها تجربة تكتسبُ راهنيتها من حيث إنها مفيدة لفهم ما يعيشهُ المغربُ في الحاضر. وعليه، يشارك في كتابة الرواية كل من هيمان السبتي العارف بتفاصيل الحكاية، والحائز للوثائق التي تؤكدُ واقعيتها، والكاتب الضمني أو الذات الثانية لبرادة. هكذا يوفرُ هيمان للراوي الضمني مادة شفوية ومكتوبة شديدة الغنى تتيحُ له كتابة سيرة بيوغرافية له ولجاذبية. ومن خلال هذا السرد الاستعادي نلمسُ عند محمد برادة في هذا النص، وفي أعماله الروائية السابقة، ذلك المفهوم المميز عن الرواية بوصفها فن التذكر.
هذه التقنية المتولّدة من حساسية روائية جديدة تمثلُ تمرّدا على الدور التقليدي للسارد الذي يكتفي فيه بسرد ما حدث، وبحثا عن منفذ يُتيحُ له المشاركة في تصميمِ العالم وتشييده. وعليه، فالتموضعُ قريبا من عالم الرواية يُتيحُ للكاتب الاندساس بين الشخصيات، وفي العالم الذي تتحرك فيه لدعم وتعزيز القيم التي يتطلّع النص إلى إظهارها: قيم الحرية، والحلم، والبحث عن المستحيل في مقابل الضرورة، والقيم المضادة الماسكة بخناق الفرد والمجتمع. وبهذا المعنى يَكونُ عنوان هذه الرواية «رسائل من امرأة مختفية» دالاًّ لا على الاختفاء المادي لجاذبية وحسب، وإنما أيضا على اختفاء وتبدّد القيم التي كانت تدافعُ عنها باسم كل النساء، وتُناضلُ، عبر الكتابة والأدب، من أجل غرسها وترسيخِهَا في مغرب ما بعد الاستقلال المشدود إلى الماضي، والتقاليد القديمة.
في السّرد الذي يضطلعُ هيمان السبتي بإنجازه بضمير المتكلم عن علاقته بجاذبية، والظروف التي أحاطت بالمغربِ خلال سنوات الستينيات، وبعد مرور عقود على اختفائها، تَبرزُ شخصية جاذبية عبد العزيز الشابة العشرينية المتشبعة بالحرّياتية والمتطلعة إلى اختبار الحدود القصوى في البحث عن كينونتها رغم التقاليد والممنوعات التي تعيقُ مغرب تلك المرحلة. الاعتدادُ بالنفس، والمواظبةُ على القراءة، والتطلعُ إلى أن تكون كاتبة، والإيمانُ بأهمية الانتماء إلى اللحظة الانتقالية التي يعيشها المغرب، خاصة في ما يتعلق بالإسهامِ في بلورة الوعي الجديد، ووصفِ التبدّلات التي تُطاولُ القيم والسلوكات، هي الأهداف الكبرى التي ندرت لها جاذبية مسيرتها الحياتية رغم فشلها في الزواج ثلاث مرات: من ابن خالتها الفدائي الذي نجا من الإعدام لصغر سنه، وآثر أن يعيش المنفى بعد أن «أصبح متابعا من عيون السلطة بسبب ماضيه في المقاومة» وقد كتبت عن هذه التجربة القاسية روايتين قرّرت عدم نشرهما بسبب التقاليد الذكورية التي تمنعُ المرأة من التعبير عن مكنوناتها، ثم من مهندس معماري تعرّفت عليه في إحدى المناسبات، وقد شدّها إليه احترامه المرأة ومراعاته لمشاعرها. وهذا مقياس أساس في اختيار جاذبية لزوجها. والتجربة الثالثة مع كاتب يَنحدرُ من قبيلة أولاد حريز يدعى حميد زيدان، وكان يَترددُ على مستشفى الأمراض العقلية بسلا، ويتطلعُ إلى إكمال رواية بعنوان: «قرية الحيران».
هذه العناصر السيرذاتية لا يتعرّف عليها القارئ فقط من خلال منظور هيمان، وإنما أيضا من خلال المحكي الذي تنجزه جاذبية أثناء اللقاء الذي جمعها بهيمان قارئها المتيقظ بمطعم الصخرة بالدار البيضاء مطلع الستينات. هاتان الشخصيتان يأتي حديثهما بضمير المتكلم، وبشكل مباشر، بالإضافة إلى نجاة وزيدان وهاديا، ما يعني أن من عاش الحدث هو نفسه من يرويه، وهذا ما يعطي للرواية نبرة أكثر إقناعا. وعلى هذا الأساس فالتقنيات الأسلوبية التي تقومُ عليها كتابة الذات، تعني أن رواية «رسائل من امرأة مختفية» إذ تنفتحُ على مقتضيات السيرة الذاتية، وتستعيرُ بعض مستلزماتها مثل التركيز على الحياة الفردية للشخصية الروائية وتاريخها، فلكي تضطلعَ بتعميق الرؤية الذاتية وإبرازها، ووصل القارئ بهمسات الشخصية الروائية وسط ذلك المناخ الهارب الذي يحفّزها على الإقبال على الحياة، وعيشها برغبة وحلم. في الرواية يبدو هيمان متابعا جيدا لما تكتبه جاذبية في مجلة «هنا الآن» من مقالات تنبش ما هو تحت القشرة السميكة للمجتمع، لهذا قرّر التعرّف إليها، لتنتسج بينهما علاقة عشق يتداخل فيها الحبّ والجسدُ بالرغبة في التحقّقِ وارتيادِ المجهولات، وتنتهي باختفاء جاذبية بعد انجلاء وهم التحرّر بعد الاستقلال، وإحساسها بصعوبة العيش داخل قوقعة «المخزن» الكابسة على الأجساد والأرواح والرغبات، وقرار هيمان البحث عنها بعد تجربة الزواج الفاشلة من د. نعمت الصرداوي مديرة شركة أدوية، وتنتمي إلى تلك الطبقة النافذة من المجتمع التي تزاوج بين المال والسلطة لفرض هيمنتها وسطوتها على الطبقات المحرومة. بعد ثلاث سنوات على هذا الزواج، يَستشعرُ الخبير الاقتصادي هيمان فداحة التنكر لمواقفه وقناعاته السابقة، ويستبدّ به الشوق من جديد إلى جاذبية التي كان يجدُ معها من تشاطره التحليل، وتتقاسم معه القلق مما آل إليه المجتمع. هكذا يتشكلُ هيمان وجاذبية في هويتيهما من خلال استغراقهما في سرد الأحداث والوقائع والتجارب التي عاشاها، وتُمثلُ تاريخيهما الفعلي.
إذا كانت أحداث الرواية تَعودُ إلى مغرب مطلع الستينيات، فإنّ السرد يتم في أواخر التسعينيات من شقة هيمان السبتي بحي حسّان بالرباط حيث يستعيدُ الأجواء التي انغمرَ فيها مع جاذبية متأثرا بفداحة التحولات التي يَمورُ بها المغرب المعاصر، وبالحاجة الملحة إلى مثقفين وكتاب من طراز هذه المرأة المغربية المختلفة التي كانت مقالاتها تُزحزحُ المألوف، وتستنطقُ الأشياء التي تبدو عادية. وإذا كانت محكيات هيمان تضعنا في قلب الأحداث والصراعات والتوترات التي طبعت المغرب خلال منتصف الستينات، واتساع الفجوة بين القصر والجماهير الشعبية الباحثة عن أفق جديد، فإن الرسائل المتبادلة مع جاذبية تعزز البعد الواقعي، وتقرّبنا مما هو حميمي بين الفرد وذاته. وهذه الرؤية الذاتية إلى العالم والأشياء والأمكنة، تعدّ من السّمات التي تتميزُ بها الشخصيات الروائية عند محمد برادة، إذ يتعذّر على القارئ فهم مواقفها وسلوكاتها إذا لم يصل ذلك بعوالم اللاشعور الخفية.
لنقل إن اختيار هذه الشخصيات الشابّة من مغرب ما بعد الاستقلال، يعكسُ الرّغبة القوية عند محمد برادة في الكشفِ عن كثافة الظل الذي يغشى هذه المرحلة المعاصرة، والإسهامِ في بث شعاع من ضوء في قلب مجتمع أضحى في منظور أفراده لغزيا ومتاهيا. ولا شك أن المرأة تُمثلُ بجرأتها، قياسا إلى الرجل، أهم عنصر يُسهمُ في الكشفِ عن التناقضات، وتعرية ضروب الزيف التي تخنق أنفاس المجتمع. وأعتقد أن القارئ الذي احتك بنصوص محمد برادة منذ روايته الأولى «لعبة النسيان» مرورا بنصوصه التالية «الضوء الهارب»، و»امرأة النسيان»، و»حيوات متجاورة»، و»قريبا من الضوضاء بعيدا من السكات» و»موت مختلف»، سوف يدركُ أسرار هذا الاهتمام الذي يوليه الروائي للمرأة، ولحضورها المؤثر في المجتمع. ويكفي ها هنا أن نلحظ أن جاذبية تلتقي على مستوى الوعي بقيمة الحرية والتمرد على التقاليد البالية المحاصرة، بفاطمة ابنة غيلانة بطلة رواية «الضوء الهارب». كلاهما تصرّ على الحرية، والجسارة، والمثابرة على توسيع الهامش المتاح لكسر الطقوس البالية، والحدودِ الخانقة للأنفاسِ والرغبات رغم الاختلاف بينهما. ونحسب أن محمد برادة وهو ينمي لدى الشخصيات الوعي بما يعيقُ تطلعاتها، ويقوضُ أحلامها، إنما يشددُ على أحد الأدوار الأساسية التي تنهضُ بها الرواية، بخلاف مؤسسات المجتمع المعنية بالأخلاق، وهي تحرير الغرائز بدل كبتها. وهذا ما يجعلُ منها (الرواية) بيئة ثقافية ملائمة للإنسان في هذا الزمن الراهن الذي تخترقه تحولات متسارعة وضبابية، تحجبُ الرؤية وتعطلُ إمكانياته على السبر والفهم. ومن المؤكد أن الروائي، داخل هذه الدوامة، يدرك أنه، قياسا إلى الآخرين، الأقدر على فكّ الشفرات، والغور في الدهاليز العميقة، وتعرية الأقنعة كشفا عن الأعماق والسطوح.
لا شك في أن شكل الرواية يلتحمُ بقوة بمضمونها، ومن ثم فهو عنصر أساس في فهمها وإدراك أبعادها ودلالاتها. وكأي رواية جديدة يتطلعُ كاتبها إلى الإسهام في الفورة الروائية، فإن إنجاز هذا الفعل لا يكتملُ إلا من خلال الشكل الفني الذي يبرزُ تضاريس الرواية والقيم التي تستبطنها محكياتها مما يسهمُ في تغييرِ الرؤية، وفتحِ المنافذ إلى مسارات جديدة لفهم الذات والعالم. ومحمد برادة باعتباره ناقدا روائيا وكاتبا، نجده دائما يؤكدُ على القيمة التي يكتسيها الشكل الروائي، لا باعتباره مجموعة من التقنيات التي يَتعينُ على الكاتب أن يتحكم فيها، وإنما بوصفه الصياغة التي نَلمسُ انطلاقا منها روح الكاتب في النص، لذلك فشكلُ الرواية منغرسٌ في البنية الاجتماعية، ومشدودُ إلى المغامرة التي تنهضُ عليها الرواية. وإذا كان العملُ على الشكل الفني للرواية هو فعل جمالي وثقافي في جوهره، لأنه مرتبط بثقافة الروائي، وبزاده الجمالي، أي بمدى اطلاعه على ما يَتحققُ في بيئة الرواية العالمية من نصوص جيدة توسّع مفهومنا عن المتخيل، وقدرته على تشييد عوالم ممكنة، فإن قيمته تكمنُ في بلورة أفكار تؤثر في المجتمع والسياسة وعلاقات الأفراد، كلما كانت الرواية أقدر على البوح، والكشف، والتعرية، واحتضان الشيء ونقيضه. وهذا ما تلتقي حوله النصوص الروائية الجيدة التي كلما حاورها القارئ، عثر فيها على ما يغني رؤيته، ويوسّع فهمه للذات والعالم، لأن الشكل الفني فيها قوامه الانتهاك لما هو راسخ، سواء على مستوى الجنس الأدبي أو على مستوى علاقة الفرد بالعالم، ما يعني أن قيمة الرواية وجدواها تتصلُ بالممكن، أي بالعوالم الممكنة التخييلية التي كلما نأت عن العالم المدرك، ازدادت قدرة على توليد التأويلات المتعددة، وبلورة المعرفة التي تلتصقُ بما يشغلُ بال الناس على امتداد العصور.
من هذه الزاوية يبدو أن رواية «رسائل من امرأة مختفية» تمثلُ تجربة جديدة في المنجز الروائي لبرادة. فالشكل الفني فيها يَنهضُ بوظائف شديدة الفعالية في حفز القارئ على توليد الأسئلة، والتفكير في الافتراضات الملائمة لفهم الكتابة، والتقاط دلالات رموزها وإشاراتها. ولا تَرتدُّ هذه الوظائف إلى اللغة باعتبارها المادة الأولى التي لا نلج الرواية إلا من بابها، حيث الخاصية الشعرية، وموسيقى الكلمة، وقدرتها على إثارة مخيلة القارئ بعيدا عن التلذذِ الهوسي باللغة، بل تتعدى ذلك إلى البنية متعددة الأصوات. فالشخصيات التي تتحرك في عالم الرواية، ونظراتها للإنسان والعالم تضفي، من خلال ملفوظاتها، على السرد تنوعا مدهشا. وما نلاحظه هو ذلك التناغم بين مواقف الشخصيات ورؤياتها للعالم وما تستشعره من ضروبِ الاغترابِ واللّاانتماء، والمرجعيات التي انتهلت منها، والتي تضمنت أعمال كبار الكتاب والمبدعين العرب والعالميين الذين ألهبوا بأفكارهم شعور جاذبية ونجاة أختها وهيمان وهاديا وزيدان، وأوحوا إليهم برغبات مماثلة في فضح الأقنعة والهشاشة التي تنطوي عليها التقاليد والممارسات البالية التي تخيّم على الحياة، وتعكر صفو جمالها. ويُضافُ إلى هذا تنويع ضمائر السرد، والمراوحة بين المرجعي والتخييلي، وتضمين خطاب الرسالة، خاصة رسائل جاذبية التي تضفي لغتها على وجودها مسحة من العمق والاندفاع الذي يتعذر سبره أو محاصرته. فالرسائل تنهضُ بالكشف عن ذلك الوهم الجميل الذي يشدّ جاذبية إلى الحياة، ويخلصها من تيار عقل يفسد عليها هذا الحلم. ومن ثم فالرسالة، مثل الكتابة، تمثل لقاء أساسيا، وبحثا قاسيا عن ذلك المماثل الذي تحلم جاذبية بأن تجعل منه المؤتمن عن جراحها وأحلامها. هكذا لا تَعملُ الرسالة فقط على تعقيد بناء الرواية، وإنما تَضطلعُ أيضا بخلخلة المعايير التي درج عليها القارئ في تلقي النصوص وتأويلها. إنها تُعيّنُ الكتابة بوصفها ذلك الفعل العلاجي الذي يسند الشخصيات في بحثها اللاهث عن الحقيقة، واندفاعها نحو ذلك المجهول الذي يشعرها بالوجود والتحقق. ومن المؤكد أن مفهوم محمد برادة عن الكتابة المستظل بفهم حداثي للرواية، هو المسؤول عن حرصه على تفاصيل البناء السردي، ابتداء من الشخصيات وانتهاء بعتبات الرواية، والتي تشكل مكونا سرديا موازيا دالا على رؤية برادة التي تتسم بالعمق والجذرية والشمولية.
يَجبُ أن نسجل لمحمد برادة في ختام هذه القراءة أنه من رواية لأخرى يَحرصُ على ارتياد أفق جديد يضفي على الكتابة سمات التميز والاختلاف. فإذا كانت أعماله الروائية السابقة، على مستوى الأحداث والوقائع المتصلة بالتاريخ الراهن، تلتقي بالعديد من التجارب الروائية لكتاب مغاربة انتهلوا من معين الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن هذه الأحداث والتجارب تأخذ في رواياته أبعادا متميزة، بفعل تصوره المختلف للشكل الفني، وحرصه المتواصل على تنويع طرائق الصوغ والتشكيل، واحتضان المغامرة الكاشفة عن لغزية العالم، وحيرة الإنسان فيه. وهذا ما يتيح للرواية من خلال تلك اللحظة التي تتجمع فيها كامل حياة الشخصيات ومعناها وجوهرها، أن تتوغل في المناطق الداجية للذات والعالم. وفي رواية «رسائل من امرأة مختفية» تتعددُ العناصر الفنية والجمالية التي توسّع ممكناتها التخييلية، أما العناصر الواقعية التي ينفتحُ عليها السرد فتنهضُ بتجذير الرواية في البنية الاجتماعية والسياسية للمغرب المعاصر. فالإشارات المكثفة إلى فضاءات بعينها كمطعم الصخرة والحي المحمدي بالدار البيضاء، وحي حسان بالرباط، كما أن الإحالة إلى ما عرفه المغرب من أحداث بعد الاستقلال، وتجربة حكومة عبدالله إبراهيم المجهضة والتي لم تدم أكثر من سنتين، ومظاهرات 1965، وسنوات الرصاص، وغيرها من الأحداث المرتبطة بالتاريخ الراهن، وبالذاكرة السياسية والثقافية، كل ذلك يجعلُ من هذه الرواية ليس فقط تمثيلا لما عاشه المغرب بعد الاستقلال، وإنما نافذة مشرعة على الحاضر، وما يشهده من تحولات. ومن المؤكد أن هذه الإحالة إلى ما هو مرجعي لا تتم بشكل مباشر، وإنما من خلال الشكل الفني الذي يستمدّ ألقه من اللغة، والتخييل، وتنويع السرد، وتعدد الأصوات، لإنتاج عالم مغاير يكتسبُ قيمته من رموزه وإشاراته. وهذا ما يؤكد المفهوم عن الرواية بوصفها جنسا أدبيا يلتقطُ التوتر بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية، كما يحتضنُ ما هو حميم بين الفرد ونفسه بشكل مغاير لما هو سائد في الخطابات الأخرى.