1 بالنظر إلى الرواية المغربية المكتوبة باللغة العربية، يمكن أن نسجّل أن هناك اليوم حيوية أكيدة في الإنتاج الروائي بالمغرب، فقد صدرت في السنوات الأولى من الألفية الثالثة أكثر من مائتي رواية مكتوبة باللغة العربية.
وهذا مؤشر ايجابي على أن الرواية تعرف بالمغرب تراكما كمّـيا ملحوظا، فمن الثمانينات إلى اليوم أصدر الكتّاب المغاربة ما يقارب الخمسمائة رواية باللغة العربية، وهو عدد يفوق، بعشر مرات ربما، ما صدر من روايات في مرحلة تمتدّ من الأربعينات إلى السبعينات، والتي قد لايتجاوز عددها الخمسين رواية. مع الإشارة إلى أن سنوات التسعين وبداية الألفية الثالثة تستحوذ على الجزء الأكبر من هذه الأعمال الروائية، بما يقارب الأربعمائة رواية.
ما ينبغي تسجيله إذا هو تدفّق النصوص الروائية على المستوى الكمّي في السنوات الأخيرة من القرن الماضي والسنوات الأولى من القرن الجديد. ومن الضروري أن يلقى هذا التدفّـق ما يكفي من الاهتمام والدرس والنقاش، بتنظيم لقاءات وندوات وتأليف دراسات وأبحاث حول الرواية المغربية الآن، بالشكل الذي يدفع إلى طرح أسئلة أساسية لا تقف عند حدّ الاحتفاء بهذا التقدّم على المستوى الكمّي، بل تتجاوزه إلى مساءلة المستوى النوعي.
ومن أهم هذه الأسئلة في تقديرنا: ماذا عن المستوى النوعي لهذه الأعمال الروائية التي تتزايد يوما بعد يوم؟ ما هي أهم خصائص الأدب الروائي بالمغرب أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة؟ هل تعرف الرواية المغربية في الزمن الحاضر فعلا تحولا نوعيا يستدعي أن نوليه الاهتمام والدرس والبحث والنقاش؟ ماهو هذا الشيء الجديد الذي تعرفه اليوم الرواية بالمغرب؟ بماذا نصف الرواية بمغرب اليوم؟ إذا كنّا بالأمس نتحدث عن الرواية التقليدية، أو الرواية الواقعية، ثم عن الرواية التجريبية أو الرواية الجديدة أو الرواية الحداثية، فما هو الوصف الملائم للرواية في مغرب الألفية الثالثة؟ أيتعلق الأمر، على مستوى النوعية والجودة، بحركة تقدم أم بحركة تقهقر وتراجع؟
والملاحظ من ناحية ثانية هو تعدد وتنوع المساهمين في الإنتاج الروائي، بشكل يبدو معه الأمر كأن الرواية المغربية الآن تختزل ماضيها أو تاريخها كله، فبعض مؤسّـسي الرواية المغربية في الستينات( عبد الكريم غلاب مثلا)، وبعض مؤسسي حركة التجديد أو التجريب في السبعينات والثمانينات(عبد الله العروي ومبارك ربيع وأحمد المديني ومحمد عز الدين التازي ومحمد برادة والميلودي شغموم ومحمد الهرادي..)، أغلبهم إن لم يكن كلّـهم يواصلون الإنتاج والإبداع إلى اليوم.
وفوق ذلك، فالملاحظ اليوم كذلك هو تكاثر وتزايد كتّاب الرواية بالمغرب، رجالا ونساء. فقد ازداد عدد الروائيات في السنوات الأخيرة، خلافا للعقود السابقة، وبشكل لافت للنظر. نستحضر منهن خديجة مروازي والمرحومة مليكة مستظرف، منهن من وصلت إلى العمل الروائي الثاني كزهور كرام التي تجمع بين النقد والإبداع، ومنهن من وصلت إلى العمل الروائي الثالث كزهرة المنصوري، ومنهن من جاءت من القصة إلى الرواية، وأصدرت روايتها الأولى كوفاء مليح، ومنهن من جاءت من الشعر إلى الرواية كفاتحة مرشيد التي أصدرت روايتها الأولى، ومنهن من تمتح من مصادر إبداعية ومرجعيات نقدية مغايرة، كاسمهان الزعيم التي أنجزت رسالتها لنيل الدكتوراه حول الأدب الاسباني في اسبانيا وأمريكا اللاتينية، وأصدرت روايتها الأولى…
أما كتّاب الرواية الجدد من الرجال، فهم كتّاب ينتمون إلى فضاءات اجتماعية وثقافية ومعرفية مختلفة ومتنوعة، أصدروا رواياتهم الأولى أواخر الثمانينات أو في التسعينات أو في بداية القرن الجديد، ونذكر منهم بنسالم حميش ويوسف فاضل وأحمد التوفيق ومحمد الأشعري وحسن نجمي وشعيب حليفي وعبد الحي مودن وبهاء الدين الطود ومحمد غرناط ومحمد أنقار والحبيب الدايم ربي وعبد الكريم الجويطي وجلول قاسمي ونور الدين وحيد ومحمد أمنصور وجمال بوطيب وأحمد الكبيري وحسن طارق وأحمد اللويزي ومصطفى الغتيري وعبد العزيز الراشدي…
وبالنظر إلى وضعية جنس الرواية بالمغرب في الوقت الراهن، يمكن أن نتقدم بافتراض أن الرواية المغربية الآن تشهد عودة الحكاية، وهي عودة تستدعي العودة إلى الذات والمجتمع والتاريخ والذاكرة، وتقتضي أن لا تبقى الكتابة منشغلة بذاتها فحسب، بل أن تعيد الاعتبار للمرجع. وهذا افتراض يستدعي أكثر من سؤال: ماذا نعني بالعودة إلى الحكاية؟ أتعني حركة ارتداد وتقهقر؟ أم أنها تعني حركة إلى الوراء من أجل حركتين إلى الأمام؟ هل تعني العودة مثلا أننا عدنا إلى قول الذات أو المجتمع أو التاريخ بالطرق التقليدية المألوفة؟ أم أن العودة تعني طرقا جديدة في بناء الحكاية وقولها،كما تعني أننا صرنا ندرك الذات أو العالم أو التاريخ بطريقة أو برؤية مغايرة للمألوف في الروايات التقليدية؟
ويمكن أن نصوغ ذلك الافتراض بطريقة أخرى: ألا يمكن أن نصف اللحظة الراهنة، بالنسبة إلى الرواية بالمغرب، بأنها لحظة انتقال وتحول، ربما في اتجاه رواية يبدو أنها منشغلة في الوقت ذاته بسؤال الكتابة كما بسؤال الحكاية. فبفضل إسهامات الكتّاب، من الأجيال السابقة أو اللاحقة، لم يعد الأدب الروائي اليوم يكتفي بكتابة لا تنشغل إلا بذاتها، ولم يعد يقتصد في الحديث لا عن العالم الاجتماعي والنفسي، ولا عن الشيء السياسي. وبعبارة أوضح، فقد بدأت الرواية بالمغرب تعرف، منذ سنوات، لحظة انتقال وتحول، وهي على ما يبدو لحظة تحول في اتجاه البحث عن توازن بين الانشغال بسؤال الكتابة دون التضحية بالحكاية، أو لنقل في اتجاه تأصيل التجريب دون التفريط في أصول التخييل التي بدونها لا يمكن الحديث عن شيء اسمه رواية.
وقبل أن نتوقف أساسا عند بعض الروايات الحديثة الصدور لبعض الكتّاب من جيل الكتّاب الذي دشّن قبل عقدين أو أكثر حركة التجديد أو التجريب، ويحاول اليوم أن يدفع الرواية في اتجاه انشغال مزدوج متوازن بهذين السؤالين الأساسين: سؤال الكتابة(كيف نكتب؟)، وسؤال الحكاية(ماذا نكتب؟)، ينبغي أن نسجّـل أن الجيل الجديد الذي بدأ الكتابة في التسعينات وبداية الألفية الثالثة هو جيل يتميّـز بالتعدد والتنوع، ويغني اليوم بالفعل الأدب الروائي المكتوب باللغة العربية بشخصيات وموضوعات من نمط جديد، وباشتغال جديد على الذات والمجتمع والتاريخ، وبعمله من أجل أن يستعيد العمل الروائي قدراته على إظهار الحضور الفعلي لمرجعه(الذات، المجتمع، التاريخ..)، دون أن يهمل الانشغال بطرائق التخييل وأشكال السرد وجماليات القول.
نقترح أن نتوقف في هذه المحاولة عند عملين روائيين حديثين لروائيين من الأجيال التي بدأت الكتابة منذ عقود، ومازالت تثري الحقل الروائي المغربي بإسهاماتها. والسؤال الذي يشغلنا هو: ماذا عن أعمال حديثة لكتّاب من الأجيال السابقة؟، على أن صورة الرواية المغربية الآن لن تكتمل إلا بالنظر في روايات الكتّاب الجدد، الرجال والنساء منهم، وطرح السؤال الآخر: ماذا عن أعمال الكتّاب الجدد الذين بدأوا الكتابة في التسعينات وبداية الألفية الثالثة؟وهذا السؤال هو ما نتمنى أن تسمح الظروف بالاشتغال عليه مستقبلا حتى نقدم صورة متكاملة تقريبية عن الرواية المغربية في تحولاتها الراهنة.
أما الآن، فالرواية الأولى التي نقترحها هي رواية: أيام جبلية الصادرة سنة 2003 للأستاذ مبارك ربيع الذي لعبت رواياته على مرّ العقود دورا فعالا في تطوير طرائق السرد الروائي وأشكاله بالمغرب، وخاصة ما يتعلق بالتحليل النفسي للشخصيات واستنطاق العوالم النفسية وإعادة النظر في أساليب السرد وتقنياته، كما في علاقة السارد والشخصية، بتفكيك أحادية الصوت السردي، ودفعه في اتجاه الازدواج والانقسام والتعدد.
والرواية الثانية هي رواية: دم الوعول الصادرة سنة 2005 للأستاذ محمد عز الدين التازي الذي تميزت رواياته السابقة واللاحقة بالانتماء إلى التحديث والتجريب دون أن تكون غايته تدمير الحكاية تماما. فقد حافظ على الجانب الحكائي في الرواية دون أن يمنعه ذلك من استثمار الأشكال الحلمية والفانطاستيكية والاستيهامية، واستدعاء البنيات اللعبية، وإلباس البنية السردية ظلال الرؤيا الشعرية.
2- بدأ مبارك ربيع يكتب القصة القصيرة منذ بداية الستينات، وأصدر روايته الأولى «الطيبون «سنة 1972، تلتها أعمال قصصية وروائية عديدة على مرّ العقود والسنوات، قلّـما التفتنا إلى ما قدّمته على مستوى تطوير أدوات السرد ووسائله الفنية.
وبالنظر إلى روايته: أيام جبلية، نسجل في البداية أنها رواية تحاول أن تؤسس معرفة بما يجري داخل المجتمع المغربي في الزمن الحاضر( زمن التحولات الداخلية، وفي علاقتها بالتحولات التي يفرضها نظام العولمة). واللافت للنظر ليس ارتباط الرواية بواقع المجتمع المغربي في الزمن الحاضر فحسب، بل هو نهجها الجديد في قول هذا الواقع أيضا. وبعبارة أخرى، فالروائي ليس منشغلا بمشاكل العالم الاجتماعي فقط، بل هو منشغل، وربما بالأساس، بمشاكل الكتابة السردية. وهو ما يسمح بالقول إن مبارك ربيع يعطي الأولوية للكتابة باعتبارها تنتج حكاية ما، تنتج مضامين جديدة ترتبط بالتحولات والظواهر الجديدة في المجتمع المغربي المعاصر(التهريب، الاتجار في المخدرات، الدعارة، تهجير الفتيات، الحريك، الاتجار في العقار العتيق التراثي والأثري في المدن العتيقة، تأثيرات العولمة…). لكنه بالمقابل، لايمنح الأولوية للحكاية على حساب الكتابة، فانشغاله بسؤال الكتابة واضح في هذا العمل الروائي، كما في أعمال روائية سابقة.
وبعبارة أخرى، فالأمر في رواية أيام جبلية لم يعد يتعلق بسرد حكاية ما فحسب، بل يتعلق بالاشتغال على النظام السردي الذي ستتولّـد عنه الحكاية، بالطريقة التي تعمل على تحويل النص إلى سلسلات ومجزوءات وقطائع ومقاطع ومحكيات ذاتية وغيرية، محكيات بضمائر مختلفة وبلغات متعددة، بشكل يتقدم به العمل الأدبي كأنه مجرد عناصر موضوع، فهو يتألف من مواد متفرقة ومنفصلة.
ولا يتعلق الأمر بألاعيب شكلية من دون معنى أو وظيفة، ذلك لأن هذا اللعب على مستوى الشكل يؤسس أو هو بصدد البحث عن تأسيس طريقة جديدة في إدراك الواقع، إذ لم تعد هناك سلطة السرد أو الخطاب بالمعنى التقليدي، ولم يعد هناك ذلك السارد الواحد العالم بكل شيء علم اليقين، وتبدو وظيفة الشهادة كأنها هي الموضوعة أكثر موضع السؤال، ليس لأن بالرواية شهادات لشخصيات عديدة فحسب، بل لأنه يمكن اعتبار ما يقوله السارد الرئيسي نفسه شهادة أيضا، لا تكفي لوحدها من أجل بناء صورة ما عن الموضوع.
ونقترح التوقف قليلا عند بعض خصائص الرواية من ناحية بنائها الفني ودلالاته، ومن ناحية أساليبها في تشخيص العوالم الذهنية والنفسية في علاقاتها المعقدة بالعوالم الاجتماعية الخارجية.
2 ــ1 أول ما يلفت النظر في رواية «أيام جبلية «هو بناؤها الفنّـي: يتألّـف النص من واحد وستين مجزوءة مرقمة، وتتصدر كل مجزوءة شذرة هي في شكل قصاصة خبرية، وتتخلل المجزوءات نصوص أو مقاطع من نصوص غير مرقمة، وهي عبارة عن شهادات قدمتها بعض شخصيات الرواية، وتنتهي الرواية بوثائق ملحقة(قرار اداري، رسالة).وهكذا يبدو النص الروائي كأنه ينتهك التماسك الروائي المألوف، ويؤسس منطقا سرديا مغايرا نصطلح على تسميته منطق التجاور والتناظر.
لم يعد النص الروائي يقوم على الوحدة والتماسك بالمعنى المألوف، بل إنه وحدة تتأسس على التعدد والتفكك، وتبدو الرواية في مجموعها كأنها جمع من أشياء مختلفة: يمكن للشذرات التي تتصدر مجزوءات المحكي المركزي أن تؤلف في مجموعها نصّا له استقلاليته النسبية، وهو يتقدم في شكل نص إخباري إعلامي موضوعه الوحيد هو: ماذا وقع للقطار في رأس الجبل؟، ولا نعرف الشيء الكثير عن صاحب هذا النص ومصدره، قد يكون هو السارد المكلف بالبحث والتحقيق أو المركز الذي كلفه بتلك المهمة، أو قد يكون جهة ما، فكل شذرة تأتي مصدرة ومختومة بالحروف الأولى أو بحروف ترمز إلى صاحب النص ومصدره. وهناك من جهة ثانية المحكي المركزي الذي يتألف من مجزوءات مرقمة وغير خاضعة بالضرورة لمنطق الخطية والتسلسل والتتابع، وموضوعه أكثر اتساعا وتفرعا وراهنية: ماذا يقع برأس الجبل؟ ماذا يقع بالدرب الوراني في رأس الجبل؟ وما علاقة الدرب الوراني بما يقع في مراكش أو في شمال المغرب؟، وهو محكي يتكفل بسرده باللغة العربية الفصيحة سارد مشارك في الأحداث هو محمود (وهو نفسه الشخصية الفاعلة المكلفة بمهمة البحث والتحقيق، دون أن يكون الشخصية الوحيدة التي تمارس البحث والتحقيق، فهناك رفيقته حبيبة، وهناك الجهات الأمنية)، مع وجود مجزوءات قليلة تتكفل بسردها إحدى الشخصيات وباللغة العربية العامية (شخصية الوادي). وهناك من جهة ثالثة شهادات الشخصيات التي تتقدم في شكل نصوص أو مقاطع من نصوص، وهي غير مرقمة، و تتخلل مجزوءات المحكي المركزي، وكل شخصية تقدم شهادتها بلسانها ولهجتها، وموضوع الشهادة يهمّ حدث القطار كما قد يهم ما يقع برأس الجبل.
وتتقدم الرواية، في مجموعها، في شكل محكي بحث وتحقيق في حدث القطار أو في ما يجري داخل مجتمع رأس الجبل. وما يرسمه البحث والتحقيق داخل نظام المحكي هو التقدم نحو معرفة ما، فهناك معرفة ما قادمة. والجديد هنا أن الرواية لا تنتهي بذلك الانفتاح الشامل والكلّي الذي غالبا ما تنتهي به محكيات البحث والتحقيق. فالأمور المتعلقة بحدث القطار أو برأس الجبل أو بالدرب الوراني أو بشمال المغرب لم تتضح كل الوضوح، وبقيت أشياء كثيرة غامضة. والسارد الباحث المحقق وجد نفسه أمام مجتمع مغلق منغلق يصعب الوصول إلى كامل أسراره وحقائقه. وشهادات الشخصيات لا تقدم الشيء الكثير أو المهم الذي يساعد على الوصول إلى حقيقة ما يجري في رأس الجبل أو ما جرى للقطار في رأس الجبل. وحبيبة، رفيقة السارد، التي توغلت في البحث والتحقيق، واستعارت لها اسما، وانضمت إلى مجتمع الدرب الوراني، وبدأت تكتشف حقيقة ما يجري، فقد انتهت الرواية دون أن نعرف شيئا عن مصيرها، إلا أن تجربتها في البحث والتحقيق محفوفة بالكثير من المخاطر والمزالق.
في رواية أيام جبلية، يجد القارئ نفسه أمام حكاية لا يملك السارد كل أطرافها وأسرارها. فالحكاية ملغزة محيرة، وتثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة. وكلما تقدم القارئ في القراءة، إلا وأحسّ بأن الحكاية لا تتقدم، وأن البحث والتحقيق لم يبرح مكانه، وأن السارد لم ينجح في معرفة ما يجري وما يقع، ففي الصفحة 245 من الرواية التي تتألف من 350 صفحة، نجد السارد المكلف بالبحث والتحقيق يسأل أكثر من مرة: «ماذا يجري؟»، ويصرح بأنه لم يعد يعرف، بل انه لم يكن يعرف شيئا أصلا. وربما أن ما تعرفه حبيبة أو دليلة أكثر وأهم مما يعرفه السارد نفسه.
يمكن القول إن الرواية في النهاية قد كشفت النقاب عن بعض ما يجري، عن بعض المخبوء والمسكوت عنه، لكنها رواية لا تدعي أنها امتلكت الحقيقة كلها، وربما أن غايتها ليس بالضرورة هو امتلاك الحقيقة، قدرما يبدو أن منشغلة بسؤال آخر هو: ماذا عن الحقيقة عندما تكون متمنعة مستحيلة؟ ماذا عن البحث والتحقيق الذي قد ينتهي إلى الفشل؟ ماذا عن طرق البحث ووسائله ومناهجه؟ أينبغي أن نمارس البحث والتحقيق كما يمارسه محمود السارد الرئيس، أم علينا أن نذهب بعيدا في البحث عن الحقيقة كما فعلت رفيقته حبيبة؟
غالبا ما تنطلق قراءاتنا لمحكيات البحث من فكرة مفادها أن إنتاج معنى يقتضي تفكيك لغز وحلّه، ومن فكرة أنّ هناك حقيقة ما في مكان ما، وأنّ بحثا ما يمكنه أن يكشف «الحقيقة «. لكن قليلا ما نتساءل: ماذا عن محكيات البحث التي لا تبلغ «الحقيقة «، وغايتها ليست أن تصل إلى «الحقيقة «، بل أن تظهر «الحقيقة «متمنعة مستحيلة، فاتحة بذلك أعين القرّاء على احتمالات متعددة ملتبسة محيّرة، كاشفة مختلف الصعوبات والمخاطر والمزالق التي تنتظر كل باحث عن المعرفة والحقيقة؟
الأهم في رواية أيام جبلية أنها انتهت إلى أن البحث عن حقيقة ما يجري في رأس الجبل هو «مهمة وانتهت أو أوشكت بوصولها إلى الباب المسدود… الموارب على الأصح.. يكفي أن تصل الباب، حتى لو كان مسدودا، ثمة دائما من يأتي ليدفع الباب… بكيفية ما، والموارب نهاية نفق أو… بداية… بل انه بداية نفق جديد مع صعوبات جديدة…» (ص 336).
2- 2 الملاحظ أن رواية أيام جبلية انطلقت من سؤال موضوعي: ماذا وقع أو يقع في رأس الجبل؟ وانتهت بسؤال ذاتي: ماذا يربطني حقا برأس الجبل(ص 336).
ويكشف السؤالان أن موضوع السرد في هذه الرواية لم يكن العالم الخارجي الموضوعي فحسب، بل والعالم الذاتي للسارد و لشخصياته. أي أن الكاتب لا يكتفي بمعاينة الواقع الخارجي المعطى، بل يمنح سرد العوالم الداخلية والنفسية مكانة هامة، واعيا بالطابع التركيبي المعقد الذي يربط بين الخارج والداخل، بين الذات والمجتمع، ويجعل كل معرفة أو حقيقة ذات طابع نسبي.
والواقع أن ما يميز روايات مبارك ربيع هو تقنياتها ومناهجها في التحليل النفسي والتغلغل في أغوار النفوس للكشف عما يجري من دقيق الأحاسيس. والخاصية المركزية في روايات الكاتب هو الحضور القوي والنوعي لأساليب وطرائق تشخيص العالم الذهني والنفسي، وبالأخص منها المونولوج الداخلي، هذا الذي يستثمره الكاتب في أيام جبلية بطريقة تجعل القارئ يجد صعوبة في الفصل بين المحكي بحصر المعنى والمونولوج الداخلي، وتبدو الرواية في أجزاء كثيرة منها، ان لم يكن في أغلبها، كأنها مونولوج داخلي متواصل، فالقارئ يجد نفسه منذ السطور الأولى لمجزوءة من مجزوءات النص( المجزوءة 37 أو المجزوءة 44 أو المجزوءة 56) داخل فكر الشخصية، والمجرى اللامنقطع لهذا الفكر هو الذي يريه ما تفعله الشخصية وما يحدث لها، بشكل يتزامن به الكلام الداخلي والفعل الخارجي، ما يضطرب في العالم الداخلي وما يجري في العالم الخارجي.
ويحضر المونولوج الداخلي في مختلف أشكاله وألوانه، إلا أن الشكل الأكثر حضورا في روايات مبارك ربيع، وفي رواية أيام جبلية بالأساس، هو المونولوج المسرود. وهو أكثر أشكال المونولوج الداخلي تعقيدا وثراء، لأنه يشير إلى انتماء الكلام إلى المحكي كلام السارد كما يؤكد على انتمائه في الوقت ذاته إلى الاقتباس أي إلى كلام الشخصية.
ويمكن أن نختزل قيمة المونولوج المسرود في كونه يدفع إلى مساءلة العلاقة بين السارد والشخصية، والى البحث عن أشكال سردية تكون قادرة على جعل حضور الآخر ملموسا، أي تقنية قادرة على أن تمنح الشخصيات المحورية وجودا مستقلا، ليس من خلال رسائلها وشهاداتها فقط، بل وأساسا من خلال المحكيات النفسية والمونولوجات الداخلية، وخاصة منها المونولوجات المسرودة التي يصعب فيها التمييز بين صوت الشخصية وصوت السارد والفصل بينهما.
ولا تخفى خصوبة هذا الاتجاه الفنّي الذي يتأسس على المزج بين الأصوات، وضبط تقاطعها، والتحرر من المنظور المهيمن والخطاب المركّز، من أجل إسماع اهتزازات وشظايا الأصوات الأخرى، وبالشكل الذي يحدث مفعولا بوليفونيا يجعل القارئ يسمع أصداء أصوات تتعدد وتتناسل، تتجادل وتتحاور، تتناقض وتتعارض.
وإجمالا، يسمح المونولوج المسرود بالحدّ من سلطة السارد بضمير الغائب وهيمنته، ويحوّله إلى سارد أكثر قربا من الشخصية، وأكثر تعاطفا معها، وهو ما يجعل الخطاب يأتي مزدوجا متداخلا، يجمع بين السارد والشخصية في الوقت نفسه، كأن الخطاب لا يمكن أن يكون إلا ثنائيا، لا أحاديا، مزدوج الصوت ومتعدّده.
ويتميّـز المونولوج المسرود ببنيته الانفعالية، ولهجته الحميمية، ولغته المضطربة المتقطعةّ، فهو يقدم فيضا من الاستفهامات والتعجبات والتكرارات والبياضات والانقطاعات المفاجئة والتلميحات والاضمارات… وهو بهذا يسمح بإبراز النفس المضطربة والفكر المبلبل والشرخ الداخلي.
من الواضح أن قوة الكتابة الروائية في أيام جبلية تعود إلى هذه القوة الدلالية التي جاءت نتيجة التنضيد التلفظي وتهجين الخطاب وتجاور أو تداخل مستويات تلفظية متعددة، بعضها يتعلق بالسارد وبعضها الآخر بشخصية من الشخصيات، والحدود التي تفصل بين الأجواء التلفظية للسارد والأجواء التلفظية للشخصيات تكاد تنمحي بواسطة أشكال لفظية تتصف بالازدواجية، أهمها المونولوج المسرود الذي يمزج بين أصوات متعددة، وينسج مفعولا بوليفونيا يجعل القارئ أمام نص روائي يتحرر من صوت السارد المهيمن وخطابه المركز من أجل إسماع أصوات متعددة وقد تكون متعارضة.
وإجمالا، ينبغي أن نسجل بأن أيام جبلية هي، في مجموعها، رواية توظف أشكالا سردية متعددة: المحكي الوقائعي الخارجي، المحكي النفسي بمختلف ألوانه، المونولوج الداخلي بمختلف أشكاله، رسائل الشخصيات وشهاداتها.. بطريقة سمحت بالتقليل من سيطرة السارد، وفسح المجال أمام الشخصيات لتحتل مقدمة المشهد السردي وتحلّ محلّ السارد، وهو ما قد يسمح بإحداث شرخ في صلب أحادية السارد التقليدي ووحدانيته.
في رواية أيام جبلية، نجد محكيات بضمير المتكلم ومحكيات بضمير الغائب، نجد محكيات وقائعية خارجية ومحكيات نفسية داخلية، ويحصل التناوب أو التداخل بين المحكي والمونولوج، بين صوت السارد وصوت الشخصية، بين خطاب السارد وشهادات ورسائل الشخصيات، بين السرد الشفوي الشعبي وبين السرد العربي الفصيح، ويحضر الشعر والزجل، بالشكل الذي يجعل هذا التناوب أو التداخل يولّـد محكيا متعدد اللغات والأصوات، بالشكل الذي يجعله يترجم علاقات الشك والارتياب التي تطبع موقف الشخصية من ذاتها كما من العالم والآخرين، ويجعله يعمل على تشعيب الحقيقة وتنسيبها، فالحقيقة لا يملكها صوت واحد، بل الأصح أن الحقيقة لا تكون إلا بين أصوات تتحاور وتتجادل.
3 – أصدر محمد عز الدين التازي من أواسط السبعينات إلى حدود سنة 2007 تسعة أعمال قصصية وثمانية عشر عملا روائيا. ولا تتميز أعماله السردية، والروائية خاصة، بغزارتها فحسب، بل وبنوعيتها، فهي من الأعمال الرائدة في التجديد والتجريب. ونقترح التوقف قليلا عند إحدى رواياته الحديثة: دم الوعول التي صدرت سنة 2005 من اجل استكشاف بعض خصائصها الموضوعاتية والجمالية.
3- 1 أول هذه الخصائص هذه المتعلقة ببناء النص السردي وشكله الفنّي، فالرواية هنا لا تقوم على الوحدة والتماسك التقليديين، بل نحن أمام رواية تتوزع إلى روايات فرعية، وهذه الروايات المتفرعة هي التي تشكل في مجموعها الرواية.
تتألف رواية دم الوعول من سبعة أبواب، موضوعها واحد هو: ماذا عن الإشاعة التي تقول إن رجلا يشتغل ممرضا في مصحة عقلية اسمه عبد الرحيم الأزرق قد تحول إلى قزم؟ ولكن لكل باب سارده وشكله السردي وطريقته في معالجة الموضوع وغاياته من ذلك.
يأتي الباب الأول في شكل بحث وتحقيق، والضابط مصطفى التواتي هو المحقق والسارد في هذا الباب، وهو يجعلنا نتوقف عند مفترضات البحث الأمني البوليسي ومقتضياته وغاياته وطرقه في معالجة الإشاعات.
ويأتي الباب الثاني في شكل الروبورتاج التلفزيزني الذي يحاول مقدم البرنامج التلفزيوني عباس المرادي انجازه حول عبد الرحيم الأزرق الذي يشاع أنه تحول إلى قزم. وبطبيعة الحال، ومفترضات ومقتضيات التحقيق الإعلامي التلفزيوني غيرها في تحقيقات وأبحاث الجهات الأمنية.
أما الباب الثالث فهو كما جاء في الكلمات التي تصدرته عبارة عن رواية لكل من مريم طليقة عبد الرحيم وولديه عبد الغني وبديعة، وهو ما يعني عمليا رواية تتفرع إلى ثلاث روايات، الواحدة بلسان الطليقة والثانية بلسان الولد والثالثة بلسان البنت، وما يجمعها هو الموضوع: عبد الرحيم الأزرق، الأب والزوج سابقا، وهي مجموعها رواية «تفضح الكثير من أسرار العائلة «(ص 47).
ويشمل الباب الرابع روايتين إضافيتين لكل من الضابط مصطفى التواتي ومقدم البرنامج التلفزيوني عباس المرادي. أما الباب الخامس فهو الذي يحكي فيه عبد الرحيم الأزرق حكايته بلسانه. في حين يدور البابان السادس والسابع حول الحياة في المصحة العقلية التي يشتغل فيها عبد الرحيم ممرضا.
وهكذا، فموضوع الرواية في مجموعها واحد: الإشاعة المتداولة حول عبد الرحيم الأزرق، إلا أن النص الروائي لا يتألف من رواية واحدة حول الموضوع، بل يقدم مجموعة من الروايات حول الموضوع الواحد(الرواية الأمنية، الرواية الإعلامية، الرواية العائلية، الرواية الشخصية…). وبهذا الشكل الفني يتفكك النص الروائي ويتعدد، ويتفكك السارد ويتعدد، وتخضع المعرفة والحقيقة لآليتي التذويت والتنسيب.
لقد انمحى السارد الواحد العالم بكل شيء بأقصى درجة ممكنة تاركا المكان لوعي الشخصية المكشوف، فلم تعد الشخصية تؤدي وظيفة «الفعل «فحسب، بل إنها تأخذ مبادرة الكلام والحكي مبرزة موقفها ودوافعها وشكوكها وأسئلتها، تعالج الموضوع من زاوية نظرها وتبعا لدوافعها وأهدافها.
3- 2 في البداية، يبدو أن كل شيء يشتغل على أساس إشاعة لابد من توضيحها وتفسيرها. وانخرطت شخصيات عديدة في مشروع كبير للتفسير والتوضيح، تمارس البحث والتحقيق، الافتراض والتحليل، التفكيك وإعادة البناء، رواية الأشياء من زاوية نظر معينة. وكلما تقدم المحكي كان الانطباع بأننا نتقدم نحو معرفة ما. إلا أنه في النهاية، يبدو كأن لاشيء قد تمّ حسمه، ولا نعرف هل الإشاعة صحيحة أم مختلقة، ولاندري في النهاية أيتعلق الأمر بحكاية واقعية أم بحكاية مختلقة، ويصعب الحسم ما إذا الأمر يجري داخل المصحة العقلية أم خارجها، وما إذا كانت الشخصيات والرواة من عقلاء الناس أم من مجانينهم، وما إذا كانت الحكاية في مجموعها حقيقية وواقعية أم أنها مفتعلة متخيلة وجهها الاستعاري والرمزي هو الأكثر أهمية؟
ليست الـكـتـابـة الــروائــية عند محمد عز الدين التازي مجرّد إبلاغ حقيقة ما أو نقل الواقع المعطى كما هو، قدر ما هي مساءلة «الحقيقة» والنظر إلى ماوراء الواقع المعطى، بشكل يجعل من الـتـخـيـيـل مــرآة نـقـديــة لما يقدّم عـلـى أنه «الحقيقة» في عالم من التوافقات والاصطلاحات. فبواسطة الكتابة الروائية يمكن اختبار العقل والشكّ في عقائده والسخرية من مسكوكاته و يقينياته، والإنصات إلى خطاب الجنون، وممارسة اللعب، والدخول إلى عالم الاحتمالات والافتراضات، والنظر إلى «الحقيقة» على أنه مشكوك في أمرها، وأن كل شيء يسبح في فضاء اللايقين.
وبعبارة أخرى، فالرواية في مجموعها تقع بين الإشاعة والحقيقة، بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والافتراض. ويبدو كأن الأهم ليس هو البحث في صحة ما يشاع، بل البحث في أبعاده الاستعارية والرمزية، وكشف الوجه الآخر، المأساوي، للإنسان والمجتمع، في زمن شاعت فيه التحولات والمسوخات التي تمسّ جوهر الإنسان: إنسانيته. فبتركيزها على تحول الإنسان إلى كائن قزمي، تطرح الرواية مسألة الهوية، فهناك علاقة وثيقة بين المسخ والهوية، ذلك لأن المسخ يؤلف شكل إدراك وتمثّل للقدر الشخصي للإنسان في أكثر اللحظات تأزما من حياته وحياة مجتمعه.
لاتنتمي روايات محمد عز الدين التازي إلى هذه النصوص الروائية التي تكتفي بتسجيل الواقع ونسخه، بل تنتمي إلى هذا النوع الآخر من الأدب السردي الذي يعتبر فرانز كافكا من كتّابه الكبار في العصر الحديث، وهو النوع الذي يعمد إلى كتابة ما في ذواتنا ووجودنا وعوالمنا النفسية والاجتماعية من غرابة مقلقة، وذلك باستخدام الفانطاستيك والانفتاح على اللاواقعي والمتخيل والأحلام والاستيهامات وتوظيف الاستعارة والترميز ولعبة المرايا والمحاكاة الساخرة وتعدد الأصوات والمنظورات السردية…
في روايات محمد عز الدين التازي، لاشك نكون أمام كتابة تقول واقعنا وزماننا ومصيرنا، ولكن بطريقة لاواقعية لامعقولة تأكيدا على غرابة الواقع المرعبة المقلقة المتحولة عمّا هو مألوف وإنساني.
4- انطلاقا من هذين العملين الروائيين لكاتبين مغربيين من الأجيال السابقة، راكم كل منهما تجربة هامة في الإنتاج والكتابة، يمكن القول إن الرواية بالمغرب تسير نحو خلق توازن بين مختلف وظائفها الجمالية والمعرفية والتداولية.
وبالرغم من أنّ الكاتبين ينتميان إلى جيلين مختلفين، ويمارسان الكتابة منذ عقود، وبالرغم من وجود خصائص تميّز تجربة كل واحد منهما، فان الملاحظ أن روايتيهما اللتين أصدراهما في بداية الألفية الجديدة تشتركان في خصائص نراها هامة. فهما معا تشتغلان على البناء الفني للعمل الروائي، وتستدعيان البنيات اللعبية الانتهاكية، وتوظفان أشكالا وأساليب جديدة في الحكي والسرد والتخييل، وتعملان، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على تفجير النص الروائي بمعناه التقليدي، بشكل يبدو معه كأن هناك قواعد جديدة للكتابة وميثاقا للقراءة جديد.
وفوق ذلك، فقد اختارت الروايتان، كل واحدة بطريقتها، شكلا سرديا محددا هو شكل محكيات البحث والتحقيق. وهذا ما يشير إلى أن الرواية المغربية الآن تريد أن تعرف، تريد أن تؤسس معرفة حول الإنسان ومجتمعه وتاريخه ومصيره، أو أنها بالأساس تريدنا أن نفكر في سبل تأسيس معرفة بذواتنا وأوساطنا وعوالمنا ومصائرنا.
واللافت للنظر أن كل رواية من الروايتين لا تدعي أنها تمتلك المعرفة الكاملة أو الحقيقة المطلقة حول الإنسان أو المجتمع أو التاريخ. وهذا بلاشك تحول جديد في الرواية المغربية، فالأدب الروائي لم يعد يعمل لصالح إيديولوجية معينة، ولم تعد الرواية تدافع عن دعوى أو أطروحة، بل إن الرواية الآن تركب الشك، وتقول الاحتمال والافتراض، وتمارس اللعب والسخرية، وتبدو كأنها تسبح في اللايقين.
ويجد هذا التحول تفسيره في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها مجتمعنا والعالم من حوله. شيء ما بدأ ينكسر منذ أواسط السبعينات أو أواخرها، وتفجّر في التسعينات وبداية الألفية الثالثة. ستصاب الايدولوجيا كما ستصاب الأنساق الفكرية والتشييدات النظرية الكبرى. وأضحت هناك أزمة عامة تعرفها خطابات اليقين، وهناك عجز في صناعة الأمل واليوتوبيا، وهناك أزمة تعيشها المثل السياسية. ولن تكون هذه التحولات دون تأثير على الأدب، والروائي منه بالأخص.
في الروايتين معا، يبدو الأمر كأن المعرفة معرفة ما يجري وما يقع في المجتمع أمر غير قابل للإدراك، ولم يعد السارد يمتلك تلك السلطة التي تسمح له بتأليف حقيقة العالم، فالعالم أضحى أكثر تمنّـعا وانغلاقا واستحالة، ما يقع فيه هو أشبه بالغرائب والعجائب، أشبه بشيء غير واقعي، مستحيل الحدوث، وأقرب إلى الجنون. والأدب الروائي يكتسحه الشكّ والسخرية واللايقين، يحاول أن يستعيد مكانته داخل العوالم الأدبية والثقافية والمرجعية، بنوع جديد من الالتزام، لكن بعيدا عن الإيديولوجيات الاحتوائية القاهرة والمحاولات المثالية الحالمة التي هيمنت على الأدب في عقود سابقة. وروايات عديدة صدرت في السنوات الأخيرة لكتّاب من أجيال مختلفة، سابقة ولاحقة، تنحو هذا المنحى الجديد، أذكر منها رواية المخدوعون لأحمد المديني، وخطبة الوداع لعبد الحي مودن، ومدارج الهبوط لجلول القاسمي، وعندما يبكي الرجال لوفاء مليح…
إحالات:
مبارك ربيع: أيام جبلية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2003.
محمد عز الدين التازي: دم الوعول، منشورات سليكي إخوان، طنجة، المغرب، 2005.
حـســـن الـمـــودن
ناقد من المغرب