إذا كانت العقود الثلاثة الأخيرة قد عرفت زخماً كبيراً في النتاج الروائي العربي، فإنها، بالتزامن، قد عرفت من الدراسات التي كتبت في هذه الرواية، ما كشف عن مختلف جوانبها الفنية والموضوعية، وعزز حضورها بوصفها الفن المتقدم اليوم على الفنون الأخرى في الحياة الثقافية العربية، فضلاً عما أثارته هذه الكتابات بحدّيها، الابداعي والنقدي، من أسئلة انبنت عليها غير دراسة من الدراسات التي كتبت في هذا السياق، والتي عبرت عن رؤية نقدية كبيرة الوضوح، ومحددة بغايات البحث وتوجهاته. ويأتي كتاب الناقدة يمنى العيد عن «الرواية العربية: المتخيَّل وبنيته الفنية» كتاباً فصوله محمولة على مواجهة نقدية لهذا الواقع الذي أصبح واقعاً تاريخياً، في بعد من أبعاد التاريخ ومعناه:
فإذا كانت الأعمال الروائية التي تناولتها، والقضايا التي أثارتها الناقدة من خلالها لا تزال ممتدة الحضور في واقعنا، إن لم تكن في صلب الوجود الثقافي لهذا الواقع، فذلك هو ما يجعل لهذا الكتاب أهميته النقدية، وقد أكدت على ثلاثة عناصر في تكوين العمل الأدبي، وتناولته من خلالها، وهي: الموقف، والفعالية، والالتزام.. ممثلة بهذا مشاركة ذات بعدين أساسين: فني، وفكري. فالناقدة تقدّم كتابها من هذين المنطلقين اللذين تؤسس عليهما، ليشكلا أفق القراءة عندها، مؤكدة، خلاصة لذلك واستخلاصاً منه، الدور الفاعل، ايجاباً وسلباً، للفعل الثقافي إزاء/ أو في مواجهة الفعل الاجتماعي للانسان ـ وإن أصدرت في هذا من واقع انحياز للمنهج الواقعي ببعده الفكري واضح الاحالة الى موارده.
تجد الناقدة في الأعمال التي قرأتها نقدياً أعمالاً إن لم تشكل شهادة على العصر فهي شهادة من عصر لم يخضع للتفاعل قدر خضوعه للقمع والابتزاز، ولم يُبنَ على معاني الحياة، بما فيها انتصار الانسان أو الانتصار له، بقدر ما قام على سحق هذا الانسان والصعود على حطامه.. وهو، بحسب رؤيتها له، لم يكن عصر صواب بقدر ما كان عصر خطأ وتكريس لهذا الخطأ.. ولم تكن حياة الانسان فيه مقترنة بالحرية بقدر ما هي حياة مفروضة قسراً على هذا الانسان بما لها من تراجعات، وما فيها من انكسارات. كما أن الانسان فيها لم يكن، إلا في بعض من مضامين ابداعه، صانع حياة باختياره.
مثل هذه القضايا تحتاج قارئة/ ناقدة على نصيب من الجرأة لمراجعتها ـ وهذا ما ستحرص مؤلفة الكتاب على القيام به، آخذةً ذلك بمفهومات النقد، كما تتبناها، معيدة قراءة الذات المبدعة في بعديها: بُعد الذات ـ تكويناً ابداعياً، وبُعد الذات ـ موقفاً اجتماعياً. فنحن، معها في هذا الكتاب، أمام منطقين يكشف عنهما/ أو يتحددان في: منطق الفكر، ومنطق الواقع ـ التاريخ، بما لهما من حضور وتأثير في حياتنا الحاضرة، مع ملاحظة أن الناقدة، هنا، لا «تصنع» مواقف بقدر ما تستخلص مما تقرأ.. وكل عدّتها: منهجية المراجعة، وجرأة القول، أو السؤال الذي يدفعها الى أن تشير، بداية، الى أنها إنما تقرأ الرواية «بهدف بلورة مفهوم نظري يكون جواباً عن سؤال» كانت قد أثارته «حول أثر المرجع الحي في بنية الشكل الفنية ودلالات هذه البنية الروائية»، معتمدة في ذلك مفهومات «نقدية تُطلق القراءة ولا تُخضعها لها».. أما أساس هذه الممفهومات فيتعيّن في تأكيد «العلاقة، غير المباشرة، بين العمل الأدبي والمرجعي من طريق الاحالة». (ص8)
وإذا كانت تجد أن سؤال المبدع/ الروائي العربي عن «الكيفية» التي يقول بها (في كتابة عمل روائي) قد وضعه أمام حقائق ذاته، الاجتماعية والتاريخية، فإن ذلك هو الطريق الذي اتخذ (هذا الروائي) نحو «رواية تستجيب لذاكرتنا وتاريخنا».. فالسؤال، كما تستغوره الناقدة من خلال قراءتها، سؤال يحيل الى «مرجعي خاص» من دون أن ينفي الطابع العام، المشترك، للفنون» (ص8). وعلى هذا فهي إنما تقدّم، هنا، ومن خلال الأعمال الروائية التي قرأت، بحثاً في «أثر هذا الواقع المعيش، وبصفته المرجعية، في تشكّل بنية عالم الرواية»، وتعالق مكوناته، و«التوظيف الدلالي لها».. ومن ثم «أثر هذا الواقع المعيش في الدينامية السردية، أو في ما يخص زمن السرد وسياقاته»، من دون أن تتغاضى عن «المنظور التأليفي للعمل الروائي». (ص9) ـ وفي هذا، إنما تُطوِّر مفهوم الواقعية في النقد الأدبي، وتوسّع فضاءاتها من خلال النظر المفتوح في العمل الروائي ـ موضوع قراءتها.. بل هي، هنا، تحقق لمفهوم القراءة، بوصفه مفهوماً نقدياً، أبعاده الفنية والموضوعية، وهو منظور «لا يستأثر بالمعرفة، أو بالرؤية والموقف، بل يدعو القراءة الى المشاركة في ما تقوله الرواية» ـ كما جاء في ما حددت به/ ومن خلاله طبيعة الرواية اللبنانية التي كُتبت زمن الحرب. (ص9)
هذا المرتكز النظري ـ الذي لا بدّ من استيفاء جوانبه كافة ـ و«القائم على العلاقة بين المتخيَّل الروائي وبين المرجعي الحي الذي يحيل الى هذا المتخيَّل»، تجده قد خوّلها «كشف معنى السلطة الذكورية وحقيقتها في أكثر من عمل روائي»، كما أتاح لها ـ كما تؤكد ـ «تبيان دلالات العلاقة بين الذكورة والأنوثة، وبين الذكورة والعنف الذي يؤوّله عنف النظم وتراتب العلاقات المجتمعية فيه»، وتجد أن الرجل هو من يتولاها ويُكرسها… فضلاً عما تراه من أن الثقافة العربية، بما هي ثقافة المتداول والمهمَّش، قادرة على أن توفر امكانية لصياغة خطاب روائي عربي، داعية الى إعادة الاعتبار الى الكلاسيكية السردية التي تجد أن بعض الروائيين العرب قد مال الى توسلها بما يتلاءم ومنظورهم لرواية عربية الطابع الفني والاهتمام الموضوعي. (ص10)
وتأسيساً على هذا/ أو انطلاقاً منه، تجد أن نجيب محفوظ في «ميرامار» قد توسل «تقنية المنظور المختلف للحكاية التي شكلت عقدة الرواية، وقدّم شخصيات تنوعت رؤاها وتعبيراتها اللغوية في تناوبها على حكاية هذه الحكاية»، وإن كانت تجده عبّر، أكثر ما عبّر، «عما هو مشترك في الوعي الجمعي المضمر لهذه الشخصيات» (ص19)، ذلك أن ما يشغل الناقدة في قراءتها هذه، كما تؤكد، «هو الدلالة المولَّدة على قاعدة العلاقة بالمرجع الحي، أوالأنا» غير المنغلق على ذاته، بما تعنيه، هذه الأنا، «من هوية وثقافة وتاريخ». (ص31) ومن خلال هذا تنظر في موضوع الكتابة الروائية في زمن الحرب اللبنانية لتجدها قد شكلت «مشكلة شائكة، لأنها قائمة في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقع) والأدبي (المتخيَّل)…» بما يطرح على الكتابة «ضرورة انتشال ذاتها ـ بما يعادل ولادة جديدة لها.» (ص32)
وتنظر نظرة استغوارية الى طبيعة الحروب وولادة الكتابة في واقعها، فتجدها، في العمق منها، تمثل «ولادة المعاني القادرة على أن تشكل في الثقافة، لا مجرّد خطاب سياسي، بل فاعلية أدبية قوامها لغة متميزة في القصّ والبناء»، وإن كانت تجدها ولادة تعاني، في الآن ذاته، من «خواء العلاقة بالمرجعي من حيث هو مجتمع يُدمّر مادياً وقيمياً»، ويحتّم «ضرورة الانبناء المعرفي والتشكل النوعي» ـ (ص32) وهو ما يجعلها ترى أن قراءتها «النصوص الأدبية المنتجة في زمن الحرب، بمثابة تلمس لتجلياتها النوعية الخاصة…» (ص32ـ33) وتعني منها «المتغيرات البنائية الجمالية في لحظة مفارقة حادة بين المرجعي (الواقعي) والأدبي (المتخيَّل)…» بل تذهب في ما هو أبعد فتجد في هذه الكتابة «معادلاً نقدياً» للحرب ، هو ما يجعل «المشهد، بكل خصائصه البنائية… يتشكل كمرآة دلالية لواقع يعاني فيه الناس»، (ص33) وهو ما وضعته موضع نظر من خلال القراءة والمساءلة.
وأمام هذا تثير السؤال عما إذا «كان ما آل إليه المتخيَّل الأدبي مشروطاً بدمار الواقع المرجعي؟» فيكون ذلك منطلقها في ما جعلت لقراءاتها من مسار تجد معها مسألة العلاقة ليست «سببية على قاعدتها يتكامل الأدبي بنقصان المرجعي، أو بدماره، بل هي مسألة مفارقة تتعزز معها فاعلية» العاملين الثقافي والأدبي، «وتستعير جمالية المضمون مكانتها وضرورة تشكلها المختلف».(ص33) ومن هنا ماتجد فيه الكتابة وقد «وُضعتْ أمام واقع اشكالي: فأبناء المدينة، أو الوطن، هم الذين يدمرون مدينتهم ووطنهم»، وقد شمل التدمير «نسيجها الاجتماعي، وما كان يرمز إليه عمرانها من قيم ثقافية بها ارتبط الوعي الجمعي وتكوَّن»، (ص38)وهو ما يجعل، بحسب الرؤية النقدية التحليلية للناقدة، مسألة تفكيك البنى القيمية للمدينة وثقافتها واضحة، كما يجعل خط الافتراق بين منظورين الى المجتمع، وموقفين منه/ وفيه واضح المعالم: فالقطع متحقق، كما ترى، مع مرجعية روائية تعطيها بُعد التاريخ، بما فيها من منظومة قيم وقواعد بنائية ـ إحالية، وبين «مرجع مصاب بالدمار في مكانه وزمانه وقيمه وأناسه»، (39) ووجدت في هذا انحرافاً «بالنظر نحو الذات»، فبدا وكأنه يخص ـ بحسب قراءتها ـ «علاقة الرواية بالرواية على حد تدمير بطولة الشخصية فيها، وتدمير لغتها، وقواعد بناء خطابها»، فضلاً عن «علاقة الرواية بواقع مرجعي هو نفسه قيد التدمير…» (ص40) وفي السياق ذاته تجد في الاجابة عما تثير من سؤال حول الكيفية التي حلت بها «رواية الحرب اللبنانية سؤالها الاشكالي؟» أن الجواب ينحصر في خصائص أبرزها «زمن السرد» الذي ترى فيه زمناً يتكسر في هذه الرواية. فالسرد «الذي يكسر زمنه يبدو وكأنه يدمر المسرود الراهني نفسه ولا يكتفي بوضعه بعلاقة غربة مع ماضيه التاريخي (…)، بل مع ذاته أيضاً» بما «جعل الزمن يبدو لحظوياً حاضراً في لحظويته». (ص41،42،43) أما الهوية فإن هذه الشخصية تكشف عن «هوية لا سويّة»، وتمثّل، في غير رواية من روايات الحرب هذه، «معاناة فعلية لتفكك تعيشه الشخصية وتعبّر عنه سلوكاتها ومنطوقاتها.» (ص45)
فإذا ما جاءت الى «دلالات المرجعي في العالم المتخيَّل وبنيته الفنية» وقفت على ثلاثة مفاصل من خلال ثلاثة موضوعات، هي: ثورة الناصرية ودلالاتها في رواية «ميرامار»، الرواية التي تجد فيها «نموذجاً رائداً لبنية الشكل الروائي المتميز بحداثته واختلافه على أساس من تعامله مع واقع الثورة الناصرية وما آل إليه هذا الواقع قبيل الهزيمة»، وأن اشتغال خطابها يتمتع «بدرجة عالية من المهارة الفنية الهادفة، ضمنياً، الى توليد المعنى العميق للثورة». (ص53) وتأسيساً على هذا ترى الناقدة «ان الرواية العربية المعاصرة تعاني مأزق التعامل النقدي مع واقع مرجعي منسوب الى سلطة ثورية». وعلى هذا فهي (الرواية) ـ بحسب الناقدة ـ «تحاول حلاً بايجاد بدائل فنية، أو توظيفات تقنية تطبعها أحياناً بطابع الالتباس…» (ص69)
هنا تثير الناقدة سؤالاً مهماً يتعلق بالكيفية التي «يمكن للكتابة الروائية (فيها) أن تجيب، روائياً، عن السؤال الغائب فيها: السؤال الذي ينتج معرفة بالواقع التاريخي في كليته، في عمقه». (ص71) ومن وجه العلاقة بالسلطة، تذهب الناقدة الى «أن الالتباس، من حيث هو معادل فني للتعامل المأزقي التاريخي، لا يعود… الى رؤية تبسيطية تتعامل بها الكتابة الروائية مع المرجع الواقعي، بل الى نوع من الحيلة الفنية تخوّل الكتابة قول ما لا يقال في ظل سلطة ترفض النقد والمساءلة».(ص72) وهذا الرأي منها مبني على/ ومستخلص من الموقف داخل «ميرامار» نجيب محفوظ التي صدرت في عام نكسة حزيران 1967.. فهي ـ بحسب الناقدة ـ رواية «أبدعت الشكل القادر على قول المدلول المشروط بزمنه التاريخي، ليتخصص الشكل بمدلول فيه ـ أي بمرجعي حاضر فيه قولاً روائياً متميزاً»، وتخلص الى أن هذه الرواية (ميرامار)، بوصفها نموذجاً لرواية مرحلتها، رواية مارست «دوراً في الصراع الثقافي ـ السياسي»، إذ أنتجت «تشكلها الفني المميز معرفة نقدية بمرجعها الاجتماعي الحي»، وبذلك فتحت «أمام الوعي الانساني العام باب التأمل والمساءلة، وربما سبيل الوصول الى الحقائق».(ص72،73)
والمسألة الأخرى هي المسألة الطائفية في الرواية اللبنانية، الدلالة وتحولاتها التاريخية، فتتابعها، مسارات وتحولات، بين السؤال عن «الذات» والبحث عما يُعمّق «الانتماء»، الذي سيتحوّل من بُعده الواسع الى مجاله الضيّق، والانتقال من «البعد الفردي» للذات الى ما يشكّل «بُعداً جمعياً»، بمعنى من المعاني، وإن كان محاصراً بانتمائه ـ الذي سيكون الانتماء الفعلي في هذه المرّة، والذي أشّرته رواية توفيق يوسف عواد «طواحين بيروت» (1969) التي تعدّها الناقدة «مقدمة لعودة المسألة الطائفية في لبنان»… إذ تجده قدم بها/ ومن خلالها «قراءة مميزة للواقع المرجعي المحكوم بالمسألة الطائفية»، متخذة منها مقدمة لما جاء من بعدها من روايات اللبنانيين عن الحرب الأهلية اللبنانية، وقد ركزت على «الجانب الأخلاقي والانساني»، وإن لم يُهمل بعضها الجانب السياسي ـ الوطني. (ص83،86)
ثم تأتي، مسألة ثالثة، القضية الفلسطينية في الرواية العربية التي تتناولها من حيث الدلالة واختلافها في المنظور التاريخي.. موزعةُ قراءتها بين روايات «تعود الى أكثر من زمن من أزمنة هذه القضية»، غايتها من ذلك «البحث عن متغيرات المنظور التاريخي في تناول القضية الفلسطينية قضية تاريخية، وباعتبار المنظور السردي التأليفي رؤية تندرج في الثقافي وتحاور وعي القراءة وتترك أثرها فيه»،(ص92) متخذة البداية من روايتين وكاتبين (إميل حبيبي في «الوقائع الغريبة…»، وغسان كنفاني في «عائد الى حيفا»…) مثالاً ترصد من خلاله مفهوم الصراع وأبعاده في اطار القضية وما لها من سياقات، لتصل الى ما بعدهما من أعمال تجد بعضها أفسح «حيزاً واسعاً للنقد الذاتي»، وتأخذ المثال من روايات سحر خليفة التي تجد رؤيتها لسلبية الدافع تتطور من رواية الى أخرى، وهي سلبية تكاد تركز في بعدين: «الثورة مع العجز والجهل والانقسام»، أو «الصراع مع الهزيمة والخيانة والقصور…»(ص98،100) فإذا ما جاءت الى رواية بهاء طاهر «الحب في المنفى» وجدته يُصدر فيها عن «موقف نقدي بالغضب والألم والمرارة» إزاء ما حصل في اجتياح بيروت 1982، وقد جسدت، مع روايات أخرى، التعبير عن «واقع فلسطيني عربي مهزوم» اتسم بالعجز والقصور والخيانة.. لتأخذ القضية أبعاداً أخرى عند الجزائري واسيني الأعرج في «سوناتا لأشباح القدس»، وعند الياس خوري في «باب الشمس»، مثيرة عند الأخير بعض الأسئلة التي تجد، جواباً عنها، ان الرواية العربية افتقدت «ديناميتها السردية، إذ راحت تروي الحكاية ضمن زمن ينغلق عليها (…) لا دور للذاكرة، لمرجعها الحي الذي استعانت به الرواية، والذي شكل، على مستواه الواقعي التاريخي، فعل صمود وصراع بوصفه وثيقة انتماء ووجود»، لتخلص الى أن تلك «الدينامية التي عبرت عنها «عائد الى حيفا» لغسان كنفاني راحت مع أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، تنوس في الرواية العربية لتنتهي هذه الرواية الى زمن سردي يستعير زمن مرويّه وقد فقد ديناميته الروائية وانغلق على ذاته.»(ص100،110)
فإذا ما نظرت في موضوع «العنف واثره في عالم الرواية المتخيَّل»، وجدت أن الحرب الأهلية اللبنانية شكلت «مرجعية أساسية لازدهار الكتابة في لبنان» بما مثّل «ظاهرة» روائية لرواية حديثة لا في عدد من كتب فحسب، «بل في الرؤى والعوالم والخصائص البنائية التي ميزت هذه الرواية وأجادت نسبتها الى الحرب»، (ص117) متناولة هذا كله، برؤية نقدية تحليلية، من خلال رواية المرأة الروائية التي تجدها تحيل، في هذا الجانب تخصيصاً، «على منطق أنثوي يربط بين الذكورة والعنف»، لتجد أن هدى بركات في «حجر الضحك»، ومن خلال شخصية بطلها، تبني «روايتها من منظور نقدي للحرب باعتبارها، أي الحرب، أثراً لثقافة ذكورية بنت تاريخها على مفهوم العنف.»(ص121)
أما عند علوية صبح في «مريم الحكايا» فهناك ما تسميه «الأنوثة الخائفة من العنف»، وهي، وإن وجدت فيها «رواية شهرزادية من حيث نمط البنية»، حيث تُزمع البطلة «على مغادرة وطنها(…) إثر حرب دمرت كل شيء»، فيجيء «سفرها وكأنه دمار لها لا ينقذها منه سوى ما ترويه ذاكرتها.»(ص128)
وترى أنه على الرغم من ولادة هذه الرواية في حقبة عنوانها الأبرز «التجريب الروائي العربي»، فإن هذه الرواية، بحسب ما ترى الناقدة، «ليست رواية تجريبية (…) لأنها، وبكل بساطة، لا تكتفي، شأن الرواية التجريبية، بكسر قواعد الرواية الغربية في مثالها الواقعي لتبقى نصاً مفتوحاً، بل تبني سردها الروائي وفق قواعد أخرى تغلق النص وتُبقيه مفتوحاً في الآن، ضمن إطاره المغلق، المزيد من الحكايات.» )ص130)
أما في بحثها في «الأدب النسائي» واشكاليته العربية فتجد أن المرأة لم تكتب «ضدّ الرجل الانسان حين تناولت في كتاباتها الابداعية العلاقة بين الأنوثة والذكورة، بل كتبت ضدّ إيديولوجيا السلطة الذكورية».(ص146) فإذا ما وجدتها عند ليلى بعلبكي في «أنا أحيا» تتمرد على القمع، فإنها عند هدى بركات في «حجر الضحك» تتحدد في «مرجعي ثقافي ـ اجتماعي ـ تربوي»، لتخلص من هذا الى أن المرأة تكتب لتعبّر عن سبل تستعيد بها الأنثى ثقتها بذاتها المفقودة»، كما عند أسيمة درويش، أو تكتب لتفصح «عن قدراتها الابداعية في مواجهة ما لحق بها من ظلم على مدى تاريخ طويل»، كما تصوّر ذلك عالية ممدوح في غير عمل من أعمالها الروائية. وفي ضوء هذا تقيم الناقدة استنتاجها فترى أن «خطاب العلاقة الضديّة بين الأنوثة والذكورة في أدب المرأة العربية» يسعى «الى تثمين الأنوثة باضاءة دلالاتها المرتبطة بالهوية واللغة والحياة»، متابعة تفاصيل ذلك، وفقاً للرؤية الفنية والذاتية ـ الاجتماعية لكل كاتبة، في عدد من الأعمال الروائية لكاتبات عربيات، مقدِّمة بذلك صورة بانورامية للمشهد الروائي النسوي العربي في ما يتصل باشكالية العلاقة التي تجدها عند البعض ـ كما عند التونسية عروسية النالوتي ـ «تقدم صورة جيل يعيش قلق الأسئلة الصعبة.»(ص147،149)
غير أن مشهد هذا الأدب (النسائي)، كما تراه، لا يتوقف عند هذه الحدود «الموضوعية»، أو يكون مقصوراً عليها، بل تجد المرأة الكاتبة تعمل على الانخراط في ما تسميه «مشروع الرواية العربية» فهي قد مارست «التجريب»، وتوسلت عناصر من التاريخ مضمِرة سؤالاَ حول معنى الحقيقة وعلاقة المتخيَّل الروائي بالسرد التاريخي، كما تجاوزت القواعد التقليدية… مقدِّمة ذلك من خلال «أعمال/ شواهد» بذاتها، ومستقصية خصائص هذه الأعمال في هذا المستوى من القراءة لها، لتؤكد، مرة أخرى، أن التحدي المعلن فيها «يقول بالاختلاف على أساس التعدد والتنوّع، وليس على أساس من معايير قيمية تضع الأنوثة ضدّ الذكورة، أو دونها.»(ص149)
وفي فصل آخر تتناول «السيرة الذاتية الروائية»، ناظرة إليها من أربع زوايا، معتبرةً «السيرة الذاتية مصدراً من مصادر المعرفة»، لتتساءل، في ضوء ما تقرر، عن «قيمة هذه المعرفة» انطلاقاً من كون السيرة الذاتية، شأنها «شأن الرواية، سرد من الذاكرة يستوي على مستوى المتخيَّل».. كما تتساءل عما دفع البعض «الى توسل السرد الروائي لحكاية السيرة الذاتية؟»، فترى أن عبدالرحمن منيف، في سبيل المثال، إنما هدف في ما كتب في هذا السياق، الى «اكتشاف الواقع، أي انتاج معرفة به تندرج في منظوره هو لهذا الواقع»، ومستنتجة، أو مستخلصة، «أن المعرفة التي تنتجها السيرة، أو السيرة الذاتية، ليست بالضرورة اكثر موضوعية، أو حقيقة من المعرفة التي قد تنتجها السيرة الذاتية الروائية، وربما التي تنتجها الرواية»، أو كما تقول ذلك بطريقة مغايرة، فترى أن «المعرفة التي تنتجها السيرة الذاتية الروائية، ولربما التي تنتجها الرواية، ليست بالضرورة اقل موضوعية، أو حقيقة من المعرفة التي تنتجها السيرة، أو السيرة الذاتية»، مستندة في ما ترى الى ما تجد من أسباب تركز على اثنين منها، أولهما: «كون هذه الأنواع الأدبية تنتمي… الى السرد، والسرد المتخيَّل، أو كتابة من الذاكرة، وعن الماضي». والسبب الثاني هو «كون السرد الروائي المتخيَّل يشكل قناعاً يسمح بتقديم معرفة بالذات أكثر حرية وجراة، وربما صحة وحقيقة، وهو ما لا تسمح به الكتابة المباشرة عن السيرة الذاتية.»(ص191،192،195،196)
وفي السياق ذاته ترى أن «كتب السيرة الذاتية، وحتى الروائية»، تبدو «أكثر جرأة في انتاج هذه المعرفة ووضعها عارية»،(ص197) مقدِّمة المثال على ذلك من خلال عرض بعض الأعمال الروائية العربية الحديثة… مع ملاحظة منها تؤكد فيها أن «أدب السيرة الذاتية الروائي أكثر جرأة في الافصاح عن الذات، واكثر حرية في وضع الـ«أنا» في علاقة نقدية مع ذاته، ومع الـ«آخر»0(ص206)
ثم تأتي على «صورة الأب» في الرواية العربية لتجد في تنوعها واختلافها بين روائي وآخر «اختلافاً قوامه الواقع الثقافي في تاريخيته، كما موقع المؤلف ورؤيته وما لذلك من أثر يتمثل في منظور العمل الروائي وعالمه.»(ص218)
وفي المقابل تقف «صورة الأم». ومن خلال قراءتها، وعطفاً على الرواية السيرية، والايهام من خلال وضع عنوان «رواية» بديلاً عن التوصيف السيري، تجد أن «القناع الروائي وسيلة فنية يواجه به كاتب السيرة المعيار الأخلاقي» الذي ما نزال نحاكم به الأدب. (ص226)
من بعد هذا تُطلّ الناقدة على «الرواية والمستقبل» قصد «التعرّف الى تحولاتها الداخلية» بما أنها رأت فيها «سرد الحياة».. وتتابع المسألة متابعة تاريخية فتعود الى الأعمال الأولى حيث التطور والتحوّل، ناظرة الى الرواية كونها النوع الأدبي «الأكثر مواءمة لقول ما لا يُسمح بقوله في ظل النظم الشمولية». ومن هنا فإن نظرتها الى الرواية العربية وعلاقتها بآفاق مستقبلها إنما يتعيّن عندها «بتناول حركيتها الداخلية، وصولاً الى ]إثارة[ السؤال عن علاقة الحقيقي الفني الذي بلورته الرواية العربية… باللعب الاشاري، كما بتنظيرات ما بعد الحداثة المرتبطة باللغة وبالتخيُّل»، معربةُ عن اعتقادها بأن هذه الرواية، «في مختلف مراحل تطورها التاريخي» كانت «تهجس بمستقبل لها»، والذي هو، كما تراه، مستقبل «لا يخص مسألة عالمها الممكن أو المحتمل فحسب، بل أدوات تشكيل عالمها المتخيّل أيضاً…»(ص258،259)
ومع أنها تجد «أن الرواية العربية ولدت في بيئة ثقافية لا تتوفر على ما يحقق للرواية العربية روائيتها الفنية»،(ص260) فإنها تجد للحدث الواقعي تأثيراته على هذه الرواية بنية فنية، آتية بالمثال على ذلك من الرواية التي كتبها روائيون لبنانيون عن الحرب اللبنانية في زمنها، لتجدها مبنية بناءً فنياً قائماً على اناطة معنى التفكك والدمار الذي شهده لبنان بالفعل السردي… بدل اناطته بالحكاية المروية».. كما وجدت «هذه الرواية تميل الى ايلاء الدال أهمية أولى هي أحياناً على حساب المدلول»، ما يدفعها الى أن ترى هذه الحرب وكأنها «عنت انهياراً لا للعمران وحسب، بل أيضاً للبنى المدينية والثقافية»، حتى صار ذلك الانهيار «ايقاعاً بنائياً لزمن السرد والمسرود». وفي هذا السياق، ومن خلال ما تقدم، بما قدمت، من نماذج هذه الرواية، لتجدها رواية اشتغلت «على فنية الخطاب الروائي وتمييز بنية الشكل»، وبهدفين، أحدهما على المستوى الدلالي (رفض الحرب)، والآخر على المستوى البنائي الفني متمثلاً في كسر حدود «الخصوصية الضيقة»، وفتح أفق هذه الرواية على ما تسميه بـ«الروائية»، «بما يحقق تعدد القراءة والمشاركة في ما تود قوله هذه الرواية»، وكان من تأثيرات ذلك وانعكاساته، ان بعض الروائيين اللبنايين الذين كتبوا عن هذه الحرب، صاروا «يتعاملون مع التاريخ لا باعتباره حكاية يروونها، بل باعتباره مرجعاً يستعين به المتخيَّل الروائي في نسج عالمه.» (ص260،261،293)
إلا أنها تجد بين الروائيين العرب من سبقهم الى ذلك. فصنع الله ابراهيم «هو الذي أدخل التوثيق الى الرواية العربية جاعلاً منه مشروعاً لروائيتها»(ص264).. بينما تجد رضوى عاشور في روايتها «ثلاثية غرناطة» قد اكتفت «باقامة العلاقة بين الرواية والتاريخ» وجعلت «من أحداث التاريخ حكاية ترويها وتبني عوالمها في سياقات أقرب الى التتابع الزماني، ووفق منظور روائي يستعيد الحقيقة باضاءتها ويعيد الاعتبار المعرفي الى معانيها.»(ص296)
وأخيراً، يأتي السؤال عما إذا كانت الناقدة، وهي تقدّم التاريخ الموضوعاتي والفني لهذه الرواية من خلال نماذج مختارة، قد أرادت تقديم صورة الحاضر من خلال فن من أبرز فنونه؟ أم تراها تساءلت، بدورها،عن الكيفية التي يُفكر بها الحاضر، فعمدت الى بلوغ، أو محاولة بلوغ الجواب من خلال الأعمال التي قرأت؟.. ومن هنا ما نجده من أنها، في ما قرأت من أعمال، عمدت الى «محاكمة» مضامين هذه الأعمال، ما جعلها تؤكد على أن ما ينبغي أن نقوّم الأدب به ،معيارياً، هو «معيار ابداع الحقائق» الذي جعلها تقدّم الجانب الفني تالياً للجانب الموضوعي. وبذلك قدّمت قراءة إيديولوجية المنطلق والمبنى بامتياز في كتاب حقق إضافة واضحة الى المكتبة النقدية للرواية العربية.