… العلاقة مع المدينة هي علاقة حب، وعلاقة الحب الكبير تنبني على المشاكسة والالتباس. لقد كبرت في قرية صغيرة، مجهرية، قليلا ما أراها في الخرائط الوطنية الأكثر تفصيلا، وكلما صادفت ورأيتها شعرت بسعادة غامرة وكأن وجودها مبرر لوجودي. غادرتها، وكان ذلك بمثابة قطع الحبل السري، في سن العاشرة باتجاه مدينة أندلسية اسمها تلمسان، مدينة مذهلة بجمالها وحدائقها وثلوجها وبناياتها الجملية بأسقفها القرميدية الخضراء….
uu أنت والمدينة، ضدان لا يفترقان تهجرها قليلا، تقترب منك كثيرا..تشاكسها، تتمرد عليك، حساسيتها بحساسية عجوز على تخوم العمر؟ أين أنت كروائي من فضاء المدينة ورغبة التوسع في معمارها الزماني؟ كيف انبنت هذه العلاقة الحيوية في الحياة وفي الكتابة؟
العلاقة مع المدينة هي علاقة حب، وعلاقة الحب الكبير تنبني على المشاكسة والالتباس. لقد كبرت في قرية صغيرة، مجهرية، قليلا ما أراها في الخرائط الوطنية الأكثر تفصيلا، وكلما صادفت ورأيتها شعرت بسعادة غامرة وكأن وجودها مبرر لوجودي. غادرتها، وكان ذلك بمثابة قطع الحبل السري، في سن العاشرة باتجاه مدينة أندلسية اسمها تلمسان، مدينة مذهلة بجمالها وحدائقها وثلوجها وبناياتها الجميلة بأسقفها القرميدية الخضراء. ومع ذلك عندما دخلتها لأبقى فيها من 1968 حتى 1973 كنت خائفا من شيء غامض لم أكن قادرا على فهمه. أعتقد أن المسألة مرتبطة بسلطان الأنا. في قريتي كان وجودي حاسما، كل الناس يعرفونني ويقولون لي صباح الخير ويسألونني عن صحتي وعن أهلي بينما في تلمسان شعرت بسلطان البنايات العالية وبوجوه الناس التي لا ملامح لها، كل شيء كان أملس وممسوحا. العلاقة في حالة مثل هذه تنبني على الخوف من سلطان المدينة إضافة إلى الأساطير التي نحملها عن المدن من رعب وقتل وتعد صارخ. لكن عندما أحببت لأول مرة في هذه المدينة وعشقت أول امرأة في حياتي، شعرت بأن الخوف بدأ يزول ولهذا أنا مقتنع أن الحب يذلل كل الصعاب ويمحو الخوف بل يدفع بنا إلى أقصى درجات المغامرة. المدينة التي كنت أخافها أصبحت تمنحني غطاء لممارسة كل الحماقات الجميلة التي تمنعني منها القرية. صرت أهرب مع حبيبتي أينما شئت ولا من يعرفنا, أذوب بسهولة بين تفاصيلها. ولم تكن تأبه بما كنت أفعله وأجمل شيء في العلاقة بالأمكنة هو أن تمر بدون أن يعلم بك أحد أو يعرفك. ثم انتقلت في 1973 إلى مدينة وهران التي كانت ما تزال تحمل في تفاصيلها آثار المرور الإسباني الذي استمر قرونا، في وجوه الناس المختلفة وفي البنايات وفي نمط المعاش الأكثر حرية من تلمسان المحكومة بأخلاق العائلات الأندلسية والتركية القديمة. في وهران كان كل الناس سواسية، كلهم ملوك وكلهم رعايا بسطاء ولهذا فالأربع سنوات التي قضيتها فيها كانت كافية بأن تجعلني رجلا، أي قطعت علاقتي مع طفولتي الأولى نهائيا، وافتضت براءتي وبدأت أكتشف أسرار الحياة الجميلة، نساء المدينة وباراتها الإسبانية العتيقة وجريدة الجمهورية التي بدأت أشتغل فيها والتي ساهمت في تعريبها مع مجموعة من الشباب ولم يصل عمري العشرين سنة, القيمة التي وفرتها لي هذه المدينة كانت استثنائية، كان عمري أقل من عشرين سنة وكنت صحفيا أحرر المقالات بالعربية أو أترجم لأصدقائي الصحفيين الفرانكفونيين الذين لم تكن لديهم الإمكانية للكتابة باللغة العربية بعد تعريب الصحيفة، وكنت أدرس في الوقت نفسه في قسم الأدب بعد أن اخترت طريق اللغة العربية لأني طوال الفترة الثانوية كانت لغتي الأولى في الدراسة هي الفرنسية. كنت مشبعا بشيء غريب هو الإسبانية، كنت أشعر أن بها سر أجدادي خصوصا وأني من الموريسكيين أي الذين اضطروا إلى ترك الأندلس بعد سقوطها. تعلمت اللغة الإسبانية في هذه المدينة التي صالحتني مع جزء من تاريخي وكنت سعيدا لأني فهمت الكثير من الكلمات التي كانت تستعملها الجدة وهي من اللغة الإسبانية. عشت بين مدينتين فيهما الكثير من العطر الإسباني، تلمسان الأندلسية التي استقبلت الكثير من الهاربين من محاكم التفتيش المقدس الإسباني في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكنها ظلت محافظة على الإرث الأندلسي ووهران المدينة الإسبانية بامتياز التي ترك عليها المستعمر آثاره بشكل واضح وكان يمكن أن تكون اليوم مثل مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين لولا ثورات خير الدين بربروس الذي أخرج منها الغزاة الذين شيدوا مدينة مذهلة للبقاء فيها. بعدها سافرت إلى دمشق التي زادت علاقتي بالمدينة وكرستها ولكن هذه المرة المدينة الشرقية التي يتم فيها كل شيء عن طريق السحر وكأن بيني وبينها لغة مغلقة لا أعرفها إلا أنا وهي. وأصبحت العلاقة بالمدينة علاقة فيها الكثير من السحر لأن جزءا من حياتي تم فيها وربما الجزء الحيوي. العشر سنوات التي قضيتها في الشام صالحت نهائيا بيني وبين المدينة. دفء دمشق وأمنها وحبها منح لي صورة أخرى لمدينة أقل دهشة وأكثر جمالا وإنسانية: علاقات المدينة بامتياز وهشاشة القرى الجميلة. لا يمكن فهم العلاقة الملتبسة بالمدينة إلا من خلال حالة الحب المرتبك، نحب ونكره، نعشق ونهرب، نفي ونخون في الوقت نفسه، نكذب ولا نقول إلا الحق، ننام ولكن بعيون مفتوحة.. ويصرخ أمام من يظلمنا: يد واحدة لا تصفق و لكنها تصفع. وإذا لم نفهم هذا التناقض المتأصل في الإنسان لا يمكن فهم العلاقة المتناقضة بالمدينة. طبعا المدينة تسحق العلاقة الأولى بالقرية وتغتصب الطفولة التي تشكل المرجع المثالي الدائم حتى ولو لم يكن كذلك. والحنين أبدا لأول منزل. ولو أن الحنين خطير لأنه يعمينا عن رؤية الأشياء الجميلة التي بين أيدينا وتمر يوميا أمامنا. ولهذا أشتهي القرية لأنها تعيدني بصلتي الأولى لكني لا أريدها أن تحدد مساراتي الحياتية المستقبلية، أنا رجل نهم تجاه الحياة وأعرف ككل الكائنات الهشة ما ينتظرني في نهاية الرحلة وهو الموت، والمشكلة أنه لا سلطان لي في ذلك ولكن سلطان الأقدار لكن المسافة الفاصلة بين لحظتي التي أعيشها الآن والموت هي ملكي ولهذا لن أتركها للأقدار تعبث فيها ولا حتى للحنين الذي لحظة بياض وصمت غير مفيد، أمارس سلطاني عليها، ولا مكان إلا لمن يمنحك هذه المتعة الرائعة وهذه الحرية المذهلة. المدينة هي إذن رديف الحرية والحرية بالنسبة لي شيء مقدس إلى أبعد الحدود. فعندما تسرق مني حريتي أختنق وأموت في اللحظة نفسها، هش مثل أجنحة فراشة. وكتاباتي من وقائع من أوجاع رجل مرورا بنوار اللوز إلى سيدة المقام وشرفات بحر الشمال وطوق الياسمين هي تمجيد حي لهذه العلاقة بالمدينة التي في والتي كثيرا ما أصنعها خارج سياقات الحقيقة الموضوعية والمادية.
uu الإرهاب خلق فيك قلق المبدع وخوف الإنسان، جعلك تعارك المنفى وتحارب كي لا يختفي قلمك، وألمك، كيف استطعت التأريخ لهذه الرحلة الشاقة عبر بوابة الأدب..هل ترى أنك انتصرت..أنتم الجزائريون عموما ماذا فعلت بكم تلك المرحلة التي ربما لم تغادركم بعد؟
الخوف مسألة مهمة. أنت عندما تظهر على ملامحك عناصر الخوف تلمع بالضرورة في عينيك الرغبة في الحياة. لكن الخوف عندما يصل إلى درجاته القصوى يصبح غير مخيف. لقد تفنن الإسلاميون في عمليات حتى أصبحوا لا يثيرون أحدا وقد سهلوا علاقتنا بالخوف وإمكانية السيطرة عليه. ثم أنت تعرفين يا فاديا أن الحياة لا تمنحنا إلا ما نذهب نحوه ونشتهيه ونقاوم من أجله. كل شيء تحصلت عليه من الحياة كان بهذه المقاومة. فأنا كما قلت لك من قرية ساحلية فقيرة لا شيء فيها إلا التهريب وكان يمكن في أحسن الأحوال أن أصبح مهربا صغيرا وربما تاجر مخدرات ممتاز ينظر له الناس بخوف وبإعجاب ولكن كل هذا النظام الحياتي لا يشبهني مطلقا، فمنذ طفولتي الأولى أدركت أن الحياة شيء آخر وهو كيف أحقق حريتي بالخروج من دائرة الضيق التي كانت القرية تفرضها على أحلامي وفانتازماتي الصغيرة. ولهذا فرد الفعل من الإرهاب الأعمى مرتبط بهذا الإحساس المتأصل للحرية. جماعة من الناس جاءوا وارتأوا فجأة أن يلغوا التفكير والتأمل وافترضوا أنفسهم أنهم يفكرون في مكان الآخرين وما على البقية إلا الانصياع. تذكرت يومها وسط حالة من اليأس والخراب، كتاب 1984 لجورج أورويل وقلت لأحد طلبتي في الماجستير وهو أحد القياديين في حركة الإسلاميين: أقرأه، وكان طالبا يقرأ كثيرا. قلت له اقرأه لأنه يتحدث عن حركتكم. قال: متى كتب الكتاب؟ قلت بعد الحرب العالمية الثانية وفي الفترة الستالينية؟ قال: غريب؟ ولكننا لم نوجد كحركة إلا في الثمانينيات؟ أصررت عليه: اقرأه وسترى بأني لست مخطئا في تقييمي. كنت مهددا بالموت ربما من ذلك الرجل نفسه أو ممن يشبهه؟ ولكن عبثيتي جعلتني لا أنظر للمسالة على الأقل بكل تلك الجدية. قرأه وبعد أيام جاءني وهو يضحك. قال: يا أستاذ، الله يهديك؟ قرأته ولم أجد فيه ما يشبهنا. فقلت له بدون أدنى تردد: هل رأيت شخصية الأخ الأكبر The big brother الذي يفكر في مكان الآخرين ويحدد تصرفاتهم ويقتل كل من يخرج عن النظام الذي سطره؟ لقد قتل وينسطن في الكتاب لأنه في داخل وينسطن، على الرغم من استنزافه، شيء لا يقبل الانصياع وقبول الأمر الواقع ولكن التاريخ حكم على الأخ الأكبر بالموت لأنه مضاد لأهم قيمة في الإنسان وهي الحرية. وقد فُهم موقفي من الإسلاميين على أنه موقف سياسي لإنسان يساري تجاه جهة إسلامية فقط، قد يكون ذلك صحيحا ولكنه ليس إلا الوجه الخارجي والشكلي للظاهرة. الأساس هو العلاقة بالحرية وسلطان الأخ الأكبر. فقد كان هؤلاء الناس ضد أقدم وأعظم قيمة أنجبها البشر وماتوا من أجلها وشردوا بسببها وهي الحرية. وقلت لك أني سأموت لو أصمت ولا أتكلم. تكلمت كمواطن لا أكثر، مواطن يمتلك أداة اسمها الأدب لم يكن يدري أنها فتاكة ومزعجة للقتلة إلى ذلك الحد. مقتلهم الكتابة لأنها رديف المتعة واللذة والجنون والحرية وهي كلها قيم لا تروق للفاشيات الجديدة بما فيها الفاشية الإسلاماوية. نسميها كما نشاء ولكنها في النهاية ليست إلا تجليا من تجليات الفاشية في أبأس صورها لأنها عمياء. كل الفاشيات تتشابه في منتهاها ولكن فاشيتنا جمعت كل تاريخ الدم والجهل والجفاف وطالبت به وأعطت لنفسها حقا ليس لها. النازية الألمانية الهتلرية ليست جاهلة ولكنها مثقفة، هتلر كان يسمع فاغنر ويقرأ نيتشه وغيره من الفلاسفة الألمان المرموقين ولكنه عندما تحول إلى أخ أكبر، صار أعمى وبدأ يقتل بالمجموعات ولم يعد يفرقه عن القتلة. للفاشيات نقطة مركزية تلتقي عندها كلها: يقين امتلاك الحقيقة المطلقة وما عداها يجب أن ينتفى أو يقتل. ولهذا فقد كان موقفي هو موقف أي فنان له إحساس بعصره وبلده وناسه ولا يمكنه أن يسكت لأن السكوت في مثل هذه الحالات ليس شيئا آخر إلا التواطؤ مع القتلة وكنت عاجزا أن أتواطأ معهم في الوقت الذي تواطأ فيه الكثير من الكتاب وارتأوا في ذلك رهانا حضاريا وهم لا يعرفون أنهم كانوا يناصرون رهانا خاسرا أملته عليهم حالات الرعب والخوف التي انتابتهم وهم يرون بشاعة الجرائم في التلفزيون. كلنا نخاف من اختطاف أو موت قاس وكلنا نتمنى أننا إذا سقطنا بين أيديهم أن نموت برصاصة بدل الذبح بمنشار صدئ والكثير منا اشترى قرصا من السيانور (السم) وهو قرص صغير كان يوضع بيافطة القميص، قريبا من الفم، بحيث أنه إذا ألقي القبض علينا يكفينا أن نعض على رأس اليافطة لنأكل القرص القاتل فنموت بسرعة خارقة وبلا ألم. هي حالة جنون منظور لها من الخارج ولكنها من الداخل استماتة إلى أقصى حد في الدفاع عن الحق في الحرية والحياة. كتبت سيدة المقام حتى قبل أن ينتقلوا إلى القتل، كنت أراهم قادمين بأدواتهم الجهنمية ولم أكن قادرا على الصمت واضعا حياتي وحياة أبنائي في خطر. ربما كنت معنيا بعائلتي أكثر من نفسي, هل تدرين أنهم عندما وضعوني على قائمة المقتولين حرروني. الإنسان عندما يعرف أنه سيقتل لن يصبح له شيء يخسره ولهذا سيحاول في اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت أن يقول كل ما يمكن أن يقوله إنسان يريد أن يقول كل شيء قبل أن يموت. لقد صرت مثل الحيوان الجريح الذي يزداد خطره كلما نزف أكثر. كنت ميتا مع وقف التنفيذ. ولهذا كتبت كثيرا في تلك الفترة: سيدة المقام، حارسة الظلال، ذاكرة الماء، مرايا الضرير، شرفات بحر الشمال، وكلها روايات ارتبطت بالمشهد الجزائري صفيت فيها حسابي لا مع الإسلاميين ولكن مع الرداءة السياسية التي لم تكن الحركة الإسلامية إلا إحدى متجلياتها. وناصرت قيما كنت وما أزال أرى أنها الأهم في الدنيا: الحرية والحب. بغيرهما سنصير حيوانات تائهة ويومها رفضت أن أكون حيوانا تائها. وإلى اليوم أعتبر حياتي مجرد وقت مددته الأقدار لأقول ما في القلب والذاكرة. حتى عندما اخترت المنفى كنت ما أزال أظن أن الكتابة هي وسيلتي لغسل كل الهزائم الداخلية والبحث من خلالها عن صفاء الحب والحرية. وربما انفتاحي على الكتابة العالمية وأسفاري عبر العالم وعلاقاتي الكثيرة مع الكتاب والفنانين في العالم، أكدت لي مرة أخرى أن لا شيء أبقى مثل هذه القيم الإنسانية التي تشكل العمود الفقري لكل كتاباتي. المنفى بهذا المعنى، على الرغم من قسوته لأنه ينتزعك من مكان باتجاه مكان آخر، ولكنه منحني قدرة قياس آلامي بآلام الآخرين وكم بدت آلامي صغيرة أمام آلام أمم وشعوب لا نسمع بها ولا تكرس لها كبريات الصحف سطرا واحدا ولا الشاشات الكثيرة تعليقا صغيرا. يموتون يوميا بالآلاف ويدفنون بصمت ولا أحد يذكرهم. البشرية صعبة وتصنع اليوم تاريخا قاسيا سيأكلها في نهاية المطاف بلا رحمة. المنفى أكد لي أن العالم صغير وأننا لسنا خارج دائرة البشر ولكنه عمق لدي الإصرار على الالتصاق بحريتي على القول والحب والذهاب بعيدا في حقي في العيش والحياة. حتى كتاباتي الأخيرة خرجت من مرض الوجع الجزائري، اسميه مرضا لأنه عندما يلتصق بك لا تعرف الكتابة عن شيء آخر غيره. عندما كتبت شرفات بحر الشمال وكنت في أمستردام ولوس أنجلس كنت قد بدأت أخرج من دائرته القاتلة. وكتاب الأمير في نهاية المطاف ليس حالة جزائرية إلا في شكلها ولكنه حالة إنسانية تتعلق بمآل تجارب عربية رائدة لم تجد من ينميها ويدفع بها عميقا إلى الأمام فقتلت في المهد. الأمير كان ضالتي للحديث عن كل شيء: الكرامة، الدين، المنفى، الحب، الحوار بين الحضارات في لحظة التأزم والاختلاف الحاد، الهشاشة الجميلة التي لا تعني الانهزام ولكن تقبل شرطية الإنسانية القاسية بالمعنى الوجودي وليس بالمعنى السياسي. المنفى منحني فرصة تأمل الحياة خارج ذاتي وربطها بأفق إنساني أكبر وأوسع.
uu الايديولوجيا، الفكر المؤطر، والدين بدرجة أقل، تسللا إلى أوساط المبدعين العرب تبعا لظروفهم الزمانية والمكانية، منهم من تأثر ومنهم من ينتظر، والبعض تبدل بأقنعة وهمية..هل تؤمن أن تراجع ألق الفكرة وانعزال الكلمة هو بسبب هذين الأمرين..إلى أي الفريقين تميل؟
لا يوجد فكر وتأمل وحياة خارج الأيديولوجيا، أي خيار عالم الأفكار خصوصا بالنسبة للنخبة المثقفة التي تشتغل بامتياز داخل هذا العالم، عالم الأفكار. لكني أرفض التسطيحات التي كثيرا ما تكون الأيديولوجية سببا أولا فيها. عالم الأفكار عالم معقد ويحتاج إلى ملكات كبيرة وأحيانا استثنائية بينما خطر الإيديولوجيا أنها تبسطه وتقتله. خطر الأيديولوجيا في المجال الفني متأت من هنا وليس في وجودها أو عدمه في نص من النصوص مثلا؟ عندما تعلن عن نفسها بشكل فج وتبشيري تقتل النص وتدمره من الداخل. قد يكتب الكاتب من سياقات الأحداث والوقائع والأيديولوجيا ولكنه في اللحظة التي يصبح فيها مجرد صدى للأيديولوجيا المهيمنة أو تلك التي يعتنقها ويحبها يندثر ويموت النص ولن يكون هناك انتاج يستحق الذكر. الذي قتل جزءا كبيرا من الأدب العربي هو هذا الإحساس الذي يصل أحيانا إلى درجة الفاشية إذ نتحول فجأة إلى مالكين وحيدين للحقيقة المطلقة. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة. أصلا لا وجود للحقيقة المطلقة وكما يقول المثل الفرنسي: وراء كل حقيقة حقيقة أخرى Chaque vérité en cache une autre ولكننا هل ندرك جدوى ذلك، أشك كثيرا. هناك فرق بين الإيديولوجيا والقيمة البشرية الراسخة. الحب، الحرية، الكرامة قيم إنسانية يمكن أن نستميت من أجلها في كليتها ولكني لا أستميت لتأويل أحادي لهذه القيمة. أنا أنتمي إلى جيل كان يظن إلى وقت قريب أن الأيديولوجيا هي الحل لكل شيء وكنا نستشهد بماركس وإنجلس ولينين وحتى ستالين مثلما يفعل الإسلامي الذي يستحضر الآيات لتبرير كل جهله بفهم قاصر ومحدود ويفترضه هو الفهم النهائي. قد تكون النيات طيبة ولا أشكك فيها ولكنها لا تكفي، نعرف جميعا أن طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. هذا المسلك قاتل والكثير من المثقفين العرب أدركوا ضعف الخطاب الأيديولوجي في وقت مبكر وبعضهم ما يزال الى اليوم باسم وثوقية ما متشبثا بهذه الرؤية. الوفاء للفكر الإنساني والعدالة الاجتماعية والكرامة البشرية تحتم علينا التوقف من حين لآخر ومساءلة أنفسنا بجرأة. المشكل في الإيديولوجية أنها تتحول أحيانا إلى أداة عمياء لا ترى إلا نفسها ويحتاج المثقف العربي إلى بذل مجهود كبير ليدرك أن المسالك التي يسير عليها غير مؤدية. أنظري إلى الإيديولوجية القومية مثلا، على الرغم من وصولها إلى عنق الزجاجة وعجزها ليس فقط عن تحويل المجتمعات العربية إلى كتلة اقتصادية وثقافية واحدة بل أسوأ من ذلك ساهمت في الشرذمة إذ بنت مشاريعها على منظور أيديولوجي أحادي النظرة يقترب إلى حد بعيد من ثقافة الأخ الأكبر، فشلت وتحتاج بالضرورة إلى إعادة نظر صارمة في الآليات وفي المنظورات. ما آلت إليه هذه التجارب يحتاج فعلا أولا إلى الخروج من العمى الأيديولوجي. وحتى نحن الكتاب لسنا خارج دائرة هذه المساءلات وهذه العودة التفكيكية المستمرة التي تضع الحقائق المطلقة أو التي تبدو كذلك في أفق التساؤل.
uu أنت ابن للسلطة أو على الأقل هذا ما قاله موجها إليك إصبع الاتهام صديقك العدو، الطاهر وطار وربما ليس بهذه الدرجة من التهذيب التي كتبنا بها..كيف تدافع عن نفسك.بل ما الطريقة التي تختار بها للرد على ما قيل ويقال؟
وطار رددت عليه في وقته في مقالة مطولة في ثلاث حلقات في أكبر جريدة وطنية مستقلة وهي جريدة: الخبر في الجزائر ولا أريد أن أرجع للمحاورة الصعبة التي جمعتنا ولم تكن مفيدة إلا قليلا من الناحية الثقافية. ومع ذلك دعيني أؤكد لك حتى لا يكون هناك سوء تفاهم. الطاهر وطار أديب كبير من الناحية التاريخية فهو واحد من المؤسسين للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية وقد حرر في وقته اللغة العربية من شرطيتها الإصلاحية الدينية المتآكلة. هذا لا ينكره عليه إلا مجنون، فيما كتبه لاحقا أو ما يسميه المرحلة الصوفية، لي وجهة نظر ليس هذا مكانها. ولكنه إضافة لكونه أديبا، هو سياسي جاء من داخل الجهاز الحزبي وهو ما لا ينكره إذ كان مراقبا حزبيا ومديرا للإذاعة الرسمية وهذا خياره الشخصي، وأنا كنت دائما خارج الأجهزة ورفضت مناصب عديدة أهمها وزارة الثقافة لا لشيء إلا لشعوري بعدم قدرتي على أداء وظيفة كنت وما أزال أراها كبيرة ومسؤولية لم أكن قادرا على أدائها. الخلاف مع وطار ليس إذن في خياراته العامة ولكن في التعامل مع الحركة الإسلاموية، عندما كان الناس يقتلون يوميا والمثقفون يبادون لم يعد الترف الفكري مقبولا؟ كان موقفي مع القلة التي اختارت الخندق الصعب والقاسي هو مواجهة القتلة بالوسائل التي نملكها: الكتابة.. وقد مات علولة المسرحي الكبير بسبب هذا الموقف والروائي المتميز الطاهر جاووت ومات رشيد ميموني بهذا الغبن القاسي وعزالدين مجوبي المسرحي والممثل الكبير بهذا وهجر الكثيرون من بيوتهم كرشيد بوجدرة بسبب هذا الموقف. وفكرة وطار وتيار بكامله كانت من ليس معي فهو ضدي، و أن كل الذين وقفوا ضد الإسلاميين كانوا مع السلطة؟ أية سلطة وهي التي صادرت لي مرايا الضرير وقتها ومنعت قبلها أحلام مريم الوديعة من الدخول على الجزائر وطحنت قصص أحميدا المسيردي الطيب بسبب إهداء وضعته عليها؟ كلام تبسيطي جدا لا يفرق بين الوقوف لبقاء الدولة مستمرة لكي لا ينهار البلد والوقوف مع السلطة. كنت مع استمرار الدولة لأنها الحافظ لكيان بلد من البلدان. أمريكا عندما دخلت إلى العراق لم تدمر صدام حسين إذ كان بإمكانها أن تبعث له صارخا موجها إذا شاءت أن تنتهي معه، الذي حدث هو أنها قامت بتدمير الدولة لأهداف استراتيجية مرتبطة بالوضع في المنطقة إذ لم يعد من المقبول وجود دولة قوية ومسلحة وربما نووية في وقت قريب في منطقة الشرق الأوسط ليس فقط خوفا على إسرائيل ولكن لأنها منطقة نفوذ في المائة سنة القادمة المصاحبة لحياة النفط الذي تحتاج له أمريكا في القرن الذي نعيشه إذ أصبح مؤكدا علميا بعد محاولات كثيرة، الطاقة التي لا بديل للبشرية عنها في المنظور المرئي ولهذا وجب ترتيب كل شيء قبل اتساع الامبراطوريات القادمة من آسيا وأوروبا بما في ذلك روسيا. وتدمير الدولة العراقية معناه تحويل البلد إلى خراب تستيقظ فيه كل الأحقاد العرقية والدينية بحيث لا ضابط لها. مخبر يمكن تعميمه مستقبلا عربيا إذ كل العناصر موجودة بأشكال متفاوتة في الوطن العربي. لقد حافظت على المسافة التي أردتها دائما في علاقتي بمحيطي بحيث لا قوة تمنعني من رؤيتي النقدية وقراءة بسيطة لأعمالي تبين هذا الموقف ولهذا قلت قبل قليل أن الموقف من الإسلاميين لا يتعلق فقط بمسالة سياسية ولكن بمآل الحرية الفردية في بلد كان مؤهلا لأن يكون قدوة للعرب، فحوله سدنة الثورة والمال بعجزهم في التسيير إلى بلد يقاوم مرضا مستوردا. كل ما كان في الجزائر كان يؤهلها لريادة كبيرة. ربما كان ذلك مجرد يوتوبيا لأنك لا يمكنك أن تبني بلدا داخل غموض المشاريع التي جمعت من كل بستان زهرة يابسة: شوية اشتراكية، قومية، شوية إسلام، شوية ثقافة غربية،هذا لا يبني بلدا ولكنه يفككه وهذه مسالة غير سياسية ولكنها تتعلق بغياب المنظور البراغماتي في الجزائر؟ ماذا أريد أن افعل بهذا البلد المؤهل بحكم موقعه الجغرافي والتاريخي والثقافي ليلعب دورا كبيرا؟ قتلوه وبهدلوه. استطيع أن أقول هذا الكلام براحة تامة ومن موقع المثقف الذي حافظت عليه ولم أتنازل عنه على الرغم من كل الإغراءات الحياتية. أنا يا سيدتي أنا رجل مؤمن بالحياة البسيطة والتواضع القادم من ثقافة داخلية متأصلة. أعرف أن الإنسان عندما يذهب في سفرته الأخيرة لا يأخذ معه شيئا من خيرات الدنيا إلا مرآة صغيرة يرى فيها نفسه من حين لآخر على غفلة من الآخرين، يتأمل فيها خطوط وجهه بصدق أو ينفر من وجهه. أنا أتمنى من القلب أن أكون من الذين إذا فتحوا المرآة تأملوا وجههم بحب كبير، فقط لا أكثر. البقية لا نصنعها نحن يصنعها التاريخ، البشر المتعاقبون والرؤى القادمة التي قد تعطينا حقا أو ترمينا في زوايا النسيان. غير مهمة. فخرنا الوحيد أننا حاولنا ولم نقف صامتين أمام الظلم البشري وأمام الأحقاد العمياء وأمام وثوقية الأخ الأكبر الذي يزيد عماه كل يوم قليلا. المسافة تجاه السلطة أية سلطة حتى أكثرها إنسانية وألقا وعدالة مهمة جدا، فهي واحدة من متجليات الحرية ولكن هذا طبعا لم يمنعن في يوم من الأيام من الدفاع عن وطني وخدمته علميا والإسهام في تطوير أفكاره وثقافته الإنسانية، وهذا شيء آخر.
uu أنتم في دول المغرب العربي تستمتعون بوجود لغتين أصيلتين تتحدثان بهما..وغالبا ما تنسيان لغة الحديث العربية لتبدأوا سردا ممتعا وغريبا بالفرنسية بين بعضكم البعض..هل هذه ميزة؟.. أنت كروائي هل استفدت من تعايش هاتين اللغتين في داخلك؟
المشكلة اللغوية في المغرب العربي حساسة وكبيرة. لم نعرف كيف نجعل من اللغة الفرنسية مادة إغناء ثقافية لأننا سيسنا المسألة كثيرا وسممنا المناخ الثقافي العام. الأمر أتفهمه جيدا لأن اللغة الفرنسية ليست وليدة خيار ولكنها وليدة حالة قاسية ودموية اسمها الاستعمار وربما كانت الجزائر أكثر الدول جرحا لسبب بسيط هو أن الجزائر ظلت طوال قرن ونصف تقريبا جزءا من فرنسا؟ تخيلي الأجيال المتعاقبة التي تربت على هذه الفكرة؟ بينما في المغرب وتونس كانت وصاية مع الحفاظ على طبيعة المجتمع الإسلامية على العكس من الجزائر. باستثناء المشكل التاريخي والأيديولوجي، تظل اللغة الفرنسية أداة تواصل مع الآخر الذي لم يعد آخر بل صار فينا بواسطة اللغة والثقافة. لقد صرنا اثنين: الأنا التاريخية والآخر الثقافي، وكان الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف لجعل هذا الأنا يتوالف مع الآخر والآخر يقبل بأن يصبح مكونا جديدا من مكونات الأنا التاريخية. وهو صراع إلى اليوم لم يحسم. أنا من جيل فتح عينيه على اللغة الفرنسية ولكن علاقتي باللغة العربية كانت عن طريق الكتاتيب بواسطة الجدة. ودرست كل فترة الثانوية بالفرنسية ولكن حبي للغة العربية دفعني نحوها بحب وجدتي كانت وراء هذا الحب الكبير. من هنا كانت علاقتي باللغة العربية علاقة عشقية خيارية إذ أنا من ذهب نحوها ولم ارثها كما هي العادة. سعيد جدا أني حافظت على هذه الأنا المتداخلة في وهي التي تسمح لي اليوم أن اكتب بالعربية والفرنسية وأن أسهر على ترجمة أعمالي بشكل مقارب للأصل العربي ولي مترجمان ممتازان هما كاترين شاريو ومارسيل بوا. وأدرس باللغة العربية في جامعة الجزائر المركزية وبالفرنسية في جامعة السوربون. هذا كله أتى بعد مشقة بناء ذاتي كبيرة كسرت فيها الكثير من اليقينيات والأوهام وحتى الكثير من الأحقاد. والدي استشهد في 1959 في الثورة التحريرية، قتل تحت التعذيب ولا نعرف له قبرا إلى اليوم؟ هل كان علي أن أصفي حسابي مع كل ما هو فرنسي؟ الاستعمار آلة دمار قاتلة تجب محاربتها، لكن الفرنسيين من جيلي أو من الأجيال التي أتت فيما بعد ليست لها أية مسؤولية فيما حدث. وما دامت الجزائر لم تقم بحدادها تجاه المليون والنصف المليون من الشهداء ومادامت السلطة الفرنسية لم تعترف بجرائم الاستعمار في الجزائر ستظل العلاقة بين الجزائر وبين فرنسا في مهب الريح ويحتاج الأمر إلى قدرة فائقة في التجاوز؟ ألا يستحق ذلك كله نصا روائيا يقول كل هذه التفاصيل العالقة في الذاكرة الجمعية؟ اعتقد ذلك. ربما الجيل الجديد من الكتاب يستطيع أن يقول ذلك بحرية أكثر من جيلنا أو من الجيل الذي سبقنا. فقد أعطت حالة التواصل أدبا جزائريا مكتوبا باللغة الفرنسية متميزا ويشكل اليوم الوجه الإيجابي لهذه المثاقفة. فهؤلاء الكتاب كتبوا بالفرنسية عن أرض هي الجزائر ويُقرأون بكثافة كبيرة وربما كانوا إعلاميا أكثر تنظيما من النخبة المعربة وأكثر ثقافة وأكثر انفتاحا. أتحدث عن النخبة في كليتها ولا أتحدث عن العناصر المتطرفة ثقافيا التي لا ترى في اللغة العربية إلا أداة للتخلف وهذا الموقف مؤسس طبعا على الجهل وعلى عنصرية ليست أقل من عنصرية لوبين أمين عام الجبهة الوطنية المعادية لكل ما هو عربي ومسلم.
uu لأنتقل للأنثى ذلك الكائن الذي لا تحتمل خفته. إذا سلمنا بما يقال بأن داخل كل رجل أنثى مسالمة تحتاج إلى من يكملها من تلك التي كان لها هذا الشرف؟
المرأة هي ما يعطي الرغبة في الحياة والاستمرار. حروب القتل الكبرى يخوضها الرجال، الصراعات الجهنمية حول السلطة يخوضها الرجال وليست المرأة داخل هذه المعادلات إلا وسيلة للتوازن ولتسيير الشأن من بعيد. ولهذا فموقع المرأة في حياتي لا حدود له. يبدأ من صورة أمي التي قاومت الفقر بعد استشهاد الوالد وظلت وفية لمثل عملت كل حياتها على تحقيقه: تعليم أولادها. ومن صورة أخواتي وبنات خالاتي، فقد كبرت في مجتمع نسائي لا يمكنني الفكاك منه. أحببت المرأة من هذا الموقع وهي من يحسسني أني ما زلت حيا. أنا طبعا ضد حالات التقديس ولكني أقول إن المرأة هي الضرورة الأولى للحياة مثل الهواء ولو أن الرجل أحيانا لا يدرك ذلك ليس لأنها نصفه الآخر ولكن نصفه الذي يتحول بسرعة إلى مرآته التي لا يريد أن يرى أخطاءه وضعفه فيها. وكم أسعد عندما أتيقن أني في صالة واسعة من المرايا في كل واحدة أرى شيئا جميلا وعيبا علي أن أنتهي منه لكي أكون مقبولا. الأمر ههنا لا يتعلق بالنرجسية ولكنه مرتبط بحالة حقيقية من الحب واليقين بأن لا بديل لنا عن المرأة لكي تستمر الحياة. لو افترضنا أن حواء بقيت في الجنة وآدم نزل لوحده مطرودا من الجنة وأُعطي صفة الخلود، لظل يبكي طوال حياته أن يقصر الله من عمره لكي يعود إلى حواء ولو كان ذلك في جهنم. العالم موحش بدون امرأة يا حبيبتي فاديا، ولا أدري إذا كان العكس صحيحا بهذه الآلية. لقد قلت كل ما كنت أشتهي قوله في رواية طوق الياسمين التي سمحت لي أن أدخل بصدق في عمق الأشياء داخل عالم جميل كانت المرأة هي سيدته الأولى. ولم يكن الأمر سهلا علي.
uu دمشق «القرية العجوز – الحارة القديمة – الناس – الياسمين» شكلوا لدى واسيني (الروائي – الإنسان) تاريخا وانطلاقة وربما مادة أساسية للكتابة وقد توضح ذلك في «طوق الياسمين» هل تعيش تفاصيل التجربة الروائية عندما تعود للمكان الذي عشته في مرحلة ماضية..ولنقل تجاوزا «دمشق- مريم»..؟
تصوري معي شابا يدخل إلى دمشق الجميلة في السبعينات في عز رونقها ويجد نفسه في عمقها وهو لم يتجاوز العشرين إلا قليلا؟ لقد كانت العلاقة غريبة مع المدينة: أول رائحة شممتها في مدينة دمشق وأنا أنزل في ذلك الشتاء البارد من الطائرة واستقل الحافلة الموصلة إلى ساحة المرجة، هي رائحة المازوت الذي لم أشمه في الجزائر أبدا لأن التدفئة تتم عن طريق الغاز الممدد في البيوت مثل الماء والكهرباء. وعندما غادرت نفس المدينة شيء واحد بقي في أنفي إلى اليوم هو عطر الياسمين. لقد مسح هذا العطر كل شيء من ذاكرتي ولم أحتفظ إلا بذلك. ولهذا أفهم جيدا لماذا بقي صديقي عيد العشاب الجزائري، هناك وهو بطل روايتي طوق الياسمين حتى مات بريانها وعرقها. دمشق مدينة آسرة. كان عمري أكثر من عشرين بقليل وعندما غادرتها كان ثلاثين سنة. عشر سنوات هي سنوات العمر ثقافيا وعاطفيا وحياتيا. ولهذا ارتباطي بدمشق لا يشبه شيئا آخر؟ فوجئت في الربيع الماضي عندما سافرت مع زوجتي وابني باسم وابنتي ريما اللذين ولدا بدمشق وكنا قد مررنا على دمشق، اكترينا بيتا، ثم ذهبنا في اليوم الموالي إلى بيروت. باسم وريما في اقل من أسبوع طلبا الرجوع إلى »بيتنا» استغربت الكلمة »بيتنا» والقصد دمشق. وعندما عدنا لم أر سعادة مثل السعادة التي كانا يعيشانها وهما في دمشق. ما هو هذا السحر الذي مر عبره هذا العشق وقد غادرا دمشق في سن مبكر ولم يعودا لها إلا في تلك المرة؟ فجأة شعرا بأن دمشق مدينتهما. فقد عجن شيء فيهما بتربتها وهوائها وياسمينها, ربما كنت وراء هذا الحب لدرجة أن كل شيء انسحب من ذاكرتي ولم تبق إلا هذه المدينة العالية و الغالية. لا ادري. وكان علي أن أكتب نصا اقول فيه حدادي لأني انفصلت عن تلك المدينة بكل ما حملته لي من أحزان وإنسانية جميلة وصرت في باريس. كان علي أن أتنصل من مريم أي من حالة التثبت المرضية. في 1985 في زيارة بدعوة من مهرجان المدى، زرت دمشق وأول شيء عرفته هو وفاة عيد العشاب وعدم زواجه بصديقته المسيحية بسبب رفض أهلها بحجة أنه مسلم. شعرت بألم شديد. فجأة تذكرت مذكرات عيد عشاب التي كان قد منحها لي يوم غادرت دمشق نهائيا في سنة 1985. مدها لي وهو يقول: هذه مجرد خربشات اقرأها ربما وجدت فيها شيئا صالحا للكتابة. بمجرد عودتي بحثت عنها وقرأتها بشغف فوجدت دمشق التي طالما عشقتها وكتبت عزائي وحدادي لدمشق في رواية طوق الياسمين. أبنت مدينة كانت في قلبي بوجه امرأة. فكانت طوق الياسمين. أعتقد أننا لا يمكننا أن نكتب عما هو حميمي فينا إلا بالمسافة والصدق، إذا غاب هذا الصدق وأدخلنا التقييمات الأخلاقية من الأفضل أن لا نكتب وأن نصمت أو نكتب شيئا آخر. عليك عندما تكتب أن تتحمل الضرر المحتمل لأن الكتابة الحميمية متعة ولكنها متعة مدفوعة الثمن أحيانا. الإنسان في الوطن العربي يريد المتعة ويركض نحوها ولكنه عندما يتعلق الأمر بدفع الثمن يتكوش على نفسه مثل القنفذ ويتجاهل كل شيء، حتى المرأة التي أحبها أو بدا لها ذلك.
uu يرى الكثير من النقاد العرب الذين انكبوا على أعمالك، أن تجربتك الروائية تجلت أكثر في روايتك الكبيرة »فاجعة الليلة السابعة بعد الألف» التي حاورت فيها ألف ليلة وليلة لا من موقع التاريخ ولكن من هاجس الرغبة في استرداد التقاليد السرديّة الضائعة، أعتقد أن معانقة كتاب كبير مجهول الهوية، هوية المؤلف على الأقل، كولد يبحث عن أبيه وهو يعيش في حضن عائلة ثرية..ماذا فعلت بك ألف ليلة وليلة؟
ما تفعله امرأة في رجل أصيب فجأة بحبها بلا مقدمات ولا أسئلة سابقة ولا تحضير. قصتي مع ألف ليلة وليلة طريفة جدا. طويلة سأرويها لك باختصار مثلما رويتها في مذكراتي.
والدي هو الذي أدخلني إلى المدرسة الفرنسية والجامع(1)، بمعية جدتي. استشهد والدي حتى قبل أن أطرح عليه كل أسئلتي التي ما تزال إلي اليوم معلقة في الذاكرة كأية آنية عتيقة تحمل سرها في قدامتها. أمي سارت على هدي وصيته التي تركها وراءه قبل أن تأكله حيطان ثكنة سواني العسكرية ويموت تحت التعذيب الهمجي في صيف 1959. تسألني أمي من حين لآخر عن أحوالي في الجامع: فارد بحماس: انتهيت من حفظ الربع الأول من القرآن الكريم، وزوقت لوحتي العديد من المرات و بدأت أجلس في الأماكن الخلفية للجامع. الأماكن الخلفية تعني أنه أصبح بإمكاني أن آخذ نسخة من النسخ العشرة من القرآن و أطلع عليها و أسأل الفقيه عند الضرورة. أحزن أحيانا لأن والدي ذهب قبل أن أخبره بقصة نسخة القرآن في الأماكن الخلفية. استشهد وهو لا يعرف أني تعلمت كما كان يشتهي وأصبحت اقرأ وأكتب. لكني لم أحك له عن نسخة القرآن العجيبة التي عثرت عليها في رف المكتبة في نهاية القاعة التي كنا نتعلم فيها. كانت النسخة تحمل نفس الغلاف الأحمر. لم تكن تشبه النسخ الأخرى في محتواها مطلقا ولا حتى في خطها الذي كان أكثر رقة من الخط القرآني. قلبتها طويلا بسرية كبيرة و لم أفهم من أين كان يأتي سحرها ولا تلك الرغبة التي انتابتني فجأة لإخراجها من المكان، أو بلغة أبسط لم أكن قادرا على تحملها: سرقتها. فقد فهمتها بسهولة كبيرة لأن كلامها لم يكن كالقرآن الذي تعودت عليه. فكرت أن أسال سيدي الفقيه (المعلم في الكتَّاب) ولكني لم أفعل أبدا. عاودت التهجي و محاولة الفهم، الغريب أني لم أكن أجد أية صعوبة في القراءة. بل أن شهوتي كانت تستيقظ كلما قرأت النص. كلما انتهيت من القراءة، كنت أخبئ نسختي من وراء النسخ الأخرى حتى لا تأخذها يد غيري. ربما كانت أنانيتي أو ربما كان خوفي من أن تسرق. فجأة صرت أحلم بها وبما قرأت. ليلا، عندما أستعد للنوم، أرى كل ما فيها يرفرف حول رأسي و يتحول إلى نساء جميلات وعفاريت وحيوانات خرافية وغابات لا حدود لها و ذئاب كثيرة. ولكن هذا كله لم يشفني من حبي لهذه النسخة. كان الكتاب، في عيني، كبيرا و بداية الدروس في المدرسة الفرنسية تسرق من وقتي. في إحدى المرات و أنا في الخلفية أفكر فيما يمكن فعله، بدأت أعطي لنفسي كل مبررات الدنيا لإخراج النسخة من الجامع: قرآن لا يشبه القرآن؟ مكتوب بخط غير خطه؟ فيه حديث غريب عن الحب و النساء والسلاطين والعفاريت؟ فيه حتى الخرافات التي تشبه ما كانت ترويه لنا جدتي؟ هل يعقل أن يبقى الكتاب في الجامع وهو مكان مقدس؟ وانتهيت إلى تحريم بقاء النص في الرف الخلفي. في ذلك الفجر البارد، كنت أول من دخل على الجامع. صبحت على سيدي الفقيه. غافلته ووضعت النسخة في صدري و اعتذرت منه وقلت له إني متعب و خرجت. عند الباب أوقفني. لم أستطع أن أرفع رأسي مخافة أن يرى كل شيء في عيني. شعرت بالكتاب ثقيلا في صدري. فكرت أن أتركه وأهرب. قال لي: ما بك و تلمس رأسي. ثم أردف: حرارة؟ مازلت أسمع صوته و أنا أتخطى عتبة الجامع: اسمع يا وليدي، قل لأمك تضع لك الزعتر و قشور الليمون وقطرة من عسل النحل… عسل النحل الحقاني، مش الفالسو(2)، أسمعت و إلا لا؟ فجأة صرت خفيفا وصار الكتاب لا يزن شيئا. عندما وصلت إلى البيت كنت محموما بالفعل ولكن من شدة الخوف، قلت لأمي غطيني ونمت محتضنا قرآني. لم أحلم يومها، ولم أر أي كابوس ولكني كنت داخل غيمة بنفسجية جميلة. بعد أيام، خاطت له جدتي كيسا خاصا وهي تقول: هذا كلام الله و يجب أن يوضع في مكانه اللائق. كنت أضع الكتاب داخله كلما انتهيت من القراءة. كانت جدتي كلما مرت في باحة البيت، بعصاها وسطل مائها للوضوء، ورأتني أقرأ بلا توقف، ابتسمت من فرط السعادة. لا تخبئ فخرها أمام خالاتي: واسيني، وليدي، هو الوحيد من أبنائي الذي تعلم لغة أجداده و قرآنهم. جدتي مثلها مثل أمي، مثل بقية أفراد العائلة الكبار سنا، لا يعرفون لا القراءة و لا الكتابة. يعرفون القرآن من غلافه الأحمر و من ورقه الطيب المائل إلى صفرة ما ومن رائحته المتأتية من رائحة الورق و حبر المطابع القديمة. أحيانا، كنت أشم في سيدي الفقيه رائحة القرآن. عندما كبرت قليلا، اكتشفت أنه لم يكن قرآنا و لكنه كتاب: ألف ليلة و ليلة في جزئه الأول، بأوراق و حروف ورائحة لم تكن بعيدة عن رائحة القرآن، وربما كانت رائحة المكان نفسه. إلى اليوم مازلت أنقاد نحو رائحة الكتب قبل أن أكتشف عناوينها. لا أعرف طبعا اليد التي وضعته هناك، في ذلك الرف الصغير، ولا أعلم إذا ما كان علي أن أشكرها وأقبل يدها بحرارة أو أرفضها لأن كل ما حدث لي فيما بعد مترتب عن تلك اللحظة التي فتحت فيها خطأ كتاب ألف ليلة وليلة. تلك اللحظة غيرت نظام حياتي و أحاسيسي نحو الأشياء و أدخلتني غمار التجربة وقذفتني داخل عالم لم أكن مهيأ له، إذ كان يمكن في أحسن الظروف أن أتحول إلى فقيه يدرس القرآن في القرية، ومع بعض الحظ، إلى مهرب للكتان والخضر والفواكه، على الحدود المغربية الجزائرية. ولهذا كلما صفوت إلى نفسي، أقول: طوبى لتلك اليد و أعتذر منها لأني سرقت متعتها، فقد وضعتْ في مسلكي أجمل نص قربني من الخيال و الكتابة واللذة وأبعدني عن مهالك اليقين. أليس ذلك حظا كبيرا؟
منذ هذه اللحظة بدأت علاقتي بكتاب ألف ليلة وليلة الذي ما زلت أرى فيه تجسدا للعبقرية السردية العربية في عملية الحكي. في روايتي الليلة السابعة بعد الألف، أضفت إلى القصة الأصلية ست ليالي. وتركت دنيا زاد تحكي عن كل ما لم تقله أختها شهرزاد أو خبأته في التاريخ العربي, لأني لم أر في شهرزاد إلا الوجه الأنثوي لشهريار، مرآته القريبة منه. لم تفعل شيئا لتغيير الأوضاع ولكنها كانت دائما تسير في مساراته. حتى إنجابها ثلاثة ذكور لا يؤكد في النهاية إلا على سلطان الهيمنة والخوف والظلم. لأن الذكر معناه من الناحية الرمزية، استمرارية السلطان بنفس مواصفاته. دنيا زاد ستحكي عن تاريخنا المخفي، عن صراعات الأديان، عن القتل، عن الحرية، عن سقوط الأندلس عن محمد الصغير الذي قبض ثمن بيع غرناطة، عن أبي ذر الغفاري الصحابي الذي نفي على صحراء الربداء ومات فيها؟ عن الحلاج الذي قتل ببشاعة؟ تساءلت دنيا زاد عن كل هذا الدم الذي غطته أختها بحكاياتها. من هنا لاقى النص استحسانا نقديا كبيرا وبرمج للدراسات في جامعات كثيرة. أخذت مني كتابته ثماني سنوات عمل ولكنها كانت مفيدة كثيرا. المخطوطة الشرقية الرواية التي جاءت فيما بعد، ليست إلا الجزء الثاني من الليلة السابعة بعد الألف وفيها تحدثت هذه المرة عن التاريخ العربي الحديث وعن الحلم العربي الذي يصطدم بإرادات الآخرين الذين لا يريدون لنا الخير دائما. فهذه النصوص نكتبها مرة واحدة في الزمن عندما تتوافر عناصر المأساة وتجتمع بقوة. فالرواية بالنسبة لي هي تراجيديا تقول تاريخا نقرأه اليوم بالكثير من الألم: ماذا كان سيحصل لهذا الأرض لو لم يحدث لها ما حدث؟ هذا هو سؤالي المركزي الذي لا أملك له جوابا أبدا.
uu هناك من يستعير، هناك من يسرق، وثالث يحاكي خجلا من تهمة أشد خشية وقوع الحد، الروائي العربي مثل الحالات الثلاث تلك في علاقته مع أدب الآخر…أسألك عن علاقتك بما يكتبه الآخر وبين يدي روايتك الذائعة الصيت «حارسة الظلال» في قراءة إبداعية لدون كيشوت.. إلى أي مدى يمكن أن تبني قمة فوق قمة؟
الإشكال لا يطرح بهذا الشكل المبسط يا فاديا. لنقل أولا إن السرقة الأدبية فعل مشين لكن التناص مسألة مهمة. أنا أومن بتحاور النصوص وأومن أن البشرية لا تكتب في نهاية المطاف إلا نصا واحدا كما كان يقول جيرار جنيت. لي نصان في ذاكرتي هما ألف ليلة وليلة ودون كيشوت. الحالة الأولى شرحت علاقتي بها وأما الحالة الثانية، وقد أضحكك فأنا أرى في دون كيشوت أحد أجدادي. أنا سعيد لأن أنتسب للهشاشة والرغبة في الدفاع عن القيمة وخوض المعارك حتى في حالة الخسارة المؤكدة. قيمة دون كيشوت أنه خاض معركة خاسرة لأنها تقع خارج عصرها ولكنه دافع عما تبقى من قيم النبل والفروسية حتى عند انتفاء هذه الأخيرة. وقد كتبت الكثير عن سرفانتيس. هذا الرجل عاش خمس سنوات في الجزائر كانت عاملا حاسما ليس فقط في حياته ولكن كذلك في كتاباته. قصته ملتبسة بتاريخينا الوطني في الجزائر والجمعي العربي. عندما حمل سرفانتيس أمتعته الخفيفة وارتدى زيه العسكري وغادر أرضه إسبانيا، لم يكن يفكر في الشيء الكثير سوى مقاومة هيمنة الأتراك الذين كانوا وقتها سادة البحار، وكسر طغيانهم. لم تثنه أهوال البحر ومخاوفه من المغامرة غير المأمونة. على الرغم من أن قناعته كانت راسخة بأن شيئا ما لم يكن عادلا في هذا الوجود، إلا أن جنون الفنان المغامر ظل هو سيد تحركاته. فلا يمكن فهم سرفانتس بدون إدراج هذا العنصر الذي لا يمكن إلقاء القبض عليه إلا من خلال حياته أولا ثم أعماله الإبداعية، القصصية والروائية والمسرحية ثانيا. من المؤكد أن لثقافة العصر والحروب الدينية حضورها في لاوعيه وردود فعله، ولكننا سنفهم سرفانتس بشكل محدود إذا أوقفنا رحلته عند هذه الحواف واكتفينا بمواقفه المفصولة عن سياقها التاريخي التي كثيرا ما كانت تعبيرات نزقية مرتبطة بلغة الحروب الدينية لتلك الفترة أو أقنعة لمواجهة غطرسة محاكم التفتيش المقدس التي كانت سيدة الشأن.
لم يكن سرفانتس محاربا محترفا ولكنه وجد نفسه في عمق معركة كانت تتجاوز أحلامه ورؤاه. كان رجلا يعرف معنى أن يشهر إنسان سلاحه للدفاع، ليس فقط عن قضية، ولكن من أجل قناعات هي كل حياته. وربما كانت حياة سرفانتس بكاملها هي هذه الرحلة، محاولة البحث عن المعنى المفقود في عالم مليء بالأحقاد والضغائن، منفلت من كل تعقل وتأمل. يجب أن لا ننسى أبدا أننا على حواف خروج الأحقاد من قمقمها بعد سقوط الأندلس واستيقاظ ماض دفين دام لأكثر من ثمانية قرون من الهيمنة العربية على منطقة أعاد العرب بناءها وصياغتها من جديد وبدلوا نظامها وكيانها الحضاري واللغوي. لم يكن سرفانتس عاديا وإلا لتحول إلى مجرد رجل يتلذذ لانتقامه من المسلمين وهم في أسوأ لحظات احتضارهم، أو إلى مغامر غبي يبحث عن شيء هو نفسه لا يدركه ولا يلمسه. لقد اختار سرفانتس سلاحا فتاكا هو سلاح السخرية ليحقق من خلاله مطلبين وشرطين أساسيين، القول الحر في كل المواضيع فهو يوفر له قدرة التخفي أمام سلطة فتاكة هي سلطة محاكم التفتيش المقدس التي كانت في حالة إنصات مستمر لكل الأنفاس التي تخرج عن النظام الذي حددته سلفا. إن اختيار السخرية والتهكم Ironie et dérision أبعده عن زيف الخطابية السائدة ضد الأندلسيين من عرب ويهود. لقد بقي وفيا لخط ظل حيا فيه على الرغم مما يبدو في بعض ردود فعله من نزق. لا يحتاج الأمر إلى تأمل كبير، فكتاباته ومواقفه شاهد على ثباته والتزامه العميق. اتضح ذلك بشكل واضح عندما شرع ملوك إسبانيا المنتصرين في حربهم ضد الأندلسيين في طرد الموريسكيين من أراضيهم التي قضوا بها أكثر من ثمانية قرون، بناء على قرار قاس غير محسوب العواقب كان قد اتخذه فيليب الثاني بعد انتفاضة جبال البشرات التي انتهت بانكسار كبير وهزيمة مرة للموريسكيين. فقد حاول الموريسكيون الذين لم يتح لهم أبو عبدالله فرصة الدفاع عن مدينتهم الأخيرة وسلمها لإزابيلا و فرديناند مقابل سلامة نفسه، ثم وقف على هضبة زفرة الموريسكي الأخيرة El ultimo suspiro d’el Morro وبدأ يبكي حتى نهرته أمه مذكرة إياه بفشله في الدفاع عن مدينته، حاولوا إطلاق رصاصة الرحمة واليأس على أنفسهم لأن استرداد الأراضي قد تم والوحدة بين الأطراف المسيحية المتصارعة قد أصبح حقيقة ميدانية ولم يبق للمويسكيين المحاربين في البشرات أي حظ في الانتصار سوى بارود الشرف Le baroud d’honneur. عندما أكتب اليوم عنه أو من وحيه فأنا أحاول أن أعيد ترتيب التاريخ والمطالبة بحق إنساني وحضاري كان لبلدي دور حاسم فيه. أطالب بالخمس سنوات التي قضاها سرفانتس في الجزائر والتي غيرته فهي ليست ملكا لإسبانيا وهذا رد على الذين ينظرون إلى المعرفة وفق شروط ضيقة. لقد كتب عن الجزائر في القرن السادس عشر نصوصا لا يوجد شبيه لها فكيف أرميه بحجة أنه من ثقافة الآخر؟ لقد ناضلت طويلا لكي يعاد الاعتبار لمغارة سرفانتس La grotte de Cervantès في الجزائر العاصمة التي كان مختيئا فيها ولم أنجح إلا في السنوات الأخيرة عندما أدخلت في حظيرة الإرث الوطني. المثقفون كانوا سباقين في رؤاهم الإنسانية ويجب أن نملك الوسيلة الحية التي تجعلنا نفرق بين عدو مغتصب وأعمى وبين رجل أحب أرضا وارتبط بها في فترة محاكم التفتيش المقدس التي كانت تحرق كل من يخرج عن نظامها. اقترابي من أعماله يأتي من هذا المشترك الإنساني الجميل واقتراب من جزء من ذاكرتي الوطنية التي تم محوها بغباء. وأنا الآن بصدد كتابة رواية جديدة لا عن جدي دون كيشوت ولكن عن حياة سرفانتيس وفترة سقوط الأندلس ومجيئه إلى الجزائر. في كتاب الأمير رحل رجل شرقي باتجاه الغرب فغيره السجن ومنحه منظورا أكثر إنسانية على الرغم من مرارة المنفى والهزيمة وفقدان الأرض، وفي الرواية التي أشتغل عليها الآن هي رحلة عكسية، رحلة رجل غربي: سرفانتيس باتجاه الشرق، الجزائر، في ظروف سجن مشابه ولمدة هي نفسها، خمس سنوات، وكيف أن الزمن غيره وغير رؤيته تجاه الحياة وتجاه من كان يعتبرهم أعداء. أخطر شيء هو الفهم الأعمى للآخر والمسطح، هذا ما تريد روايتي قوله. أتمنى أن يعينني الله على الانتهاء منها، عمل شاق جدا تدخل فيه ملابسات الحروب الدينية القاسية وسقوط الأندلس وبداية ظهور محاكم التفتيش المقدس وبزوغ المجتمع الجديد أو ما سمي كذلك؟ الذي بنى مشروعه الحداثي على القتل والجريمة والإبادة. هذا المسلك هو الذي مهد الجريمة والأنانية للإنسانية. في هذه الرواية أتهم كريستوف كولومب بالجريمة ضد الإنسانية، مثله مثل بوش لأنهما يسيران وفق المنطق نفسه. قصة معقدة.
uu ماذا يعني لك أن تكون عضوا في المجلس الاستشاري لجائزة الشيخ زايد للكتاب وأنت الحاصل على هذا الجائزة عن فرع الآداب في دورتها الأولى 2006 و الحاصل قبلها على الجائزة الوطنية التقديرية، وعلى جائزة المكتبيين وجائزة الرواية الجزائرية؟
أشكر طبعا كل من وضع فيَّ هذه الثقة العالية والكبيرة. أنت تعرفين أن الجائزة كيفما كانت هي اعتراف بمجهود يبذل في الصمت والخفاء والعزلة. عالم الكتابة ظالم وصامت لا صوت له إلا النص الذي يخرج إلى الوجود بعد طول معاناة. فما بالك عندما تكون الجائزة هي أكبر جائزة عربية وأهمها حتى الآن. طبعا التشريف سيكون مزدوجا لأنه سيضعك أمام مسؤوليات كبيرة، تجاه الجائزة نفسها وقيمتها الإنسانية وتجاه نضالك المستميت في أن يكون الأدب الجيد والإنساني هو المقياس الأول والأخير خارج كل الأطر السياسية والاعتبارات الأيديولوجية. أشعر بسعادة كبيرة لأن الجائزة منحت لي بسبب كتاب وليس شيئا آخر، أي بسبب مجهود صامت أخذ مني العديد من السنوات من أجل رجل (عبد القادر الجزائري) لم ينصفه التاريخ الوطني كما يجب، ثم أن الجائزة تحمل اسم رجل خير ونبيل (الشيخ زايد) ضحى بكل شيء من أجل أن تخرج هذه الأرض من قدر التخلف والاقتتال وتصبح أمما وشعوبا حية ومنتجة. الإمارات اليوم نموذج للنجاح في كل شيء على الرغم من قسوة الطبيعة. من هنا تزداد المسؤولية أكثر. فوجودي اليوم كعضو في المجلس الاستشاري تشريف لي ولكل الروائيين والأدباء العرب، وسأعمل لأن أكون أهلا لهذه الثقة العالية والكبيرة. إذ يمكننا أن ندفع بالثقافة العربية أكثر إلى الأمام والتعريف بها عالميا وإنسانيا وكم نحن في حاجة إلى ذلك في زمن نعيشه بصعوبة وعلى ظهورنا تهم الإرهاب مع أننا ضحاياه. علينا أن نحارب كل هذه التسطيحات المفروضة علينا ولا وسيلة لنا في مستوانا على الأقل ككتاب وأدباء وفنانين إلا خوض الفعل الثقافي والدفاع عن القيم الإنسانية التي نشترك فيها مع الآخرين في هذه المساحة الإنسانية الكبيرة، فنحن لا نعيش وحدنا على الكرة الأرضية، هذا ما يجب أن يدركه كل عربي، لنا حق في العيش الكريم وندافع عنه باستماتة ولنا كذلك واجب الإنصات لما يأتينا من بعيد أحيانا مشوشا وفي أحيان أخرى غير واضح.
الهوامش
1- الكتَّاب، المكان الوحيد وقتها الذي يتم فيه تعلم اللغة العربية و حفظ القرآن الكريم.
2- أصل الكلمة إسباني وتعني الشيء المغشوش، غير الحقيقي، المقصود به هنا عسل السكر.
حاورته : فـاديــــا دلا كاتبة من سوريا