كان الرذاذ يبدو منعشا وهو ينهمر على أبنية المنازل التاريخية في صنعاء القديمة.. كان يبدو أنيقا مثل دمعة على خد أنثى مكتحلة.. وكان حزينا وهو يسيل على أبدانها الطينية ويعبر خلال نوافذها الزجاجية على هيئة قطرات مخضبة بالسواد.
كان الماء ينحدر عبر طرقات المدينة بجنون فيكنس تدفقه هموم الأزقة والشوارع.. زخاته بعد أن تتجمع ظلت تندفع راكضة مثل امرأة مجنونة كانت تنادي تلك الأحياء العتيقة بتوخي الحذر وتحرض أبنية الطين العجوزة على الفرار.
– حوالينا يا رب لا علينا
هكذا كان يردد العجوز بوجل.. عيناه كانتا مفتوحتين مثل سمكة السلمون في حين كانت العقارب تزحف على الجدار.. كانت الساعة في ذلك الوقت تسير إلى الثانية عشرة إلا ربع.. تكاتها تصدر صوت إنذار يحذر بخطر قادم من البعيد.. أشبه ما يكون بقرصان أبتر الرجلين يسير بعكازين خشبيين فوق لجة من الظلام..
قد تتعجب من هذا التشبيه.. لكنك لو كنت حقا هناك كنت اقتنعت صدقا بما أقول.. كنت رأيت بندول الساعة المستدير وهو يرتجف يمينا ويسارا من شدة الخوف.. كنت أبصرت ذلك القرصان الذي ظل يسير بشكل مقلوب وراء زجاج الساعة باتجاه منتصف الليل.. كنت أبصرت العجوز أبا أحمد وهو مرعوب يتنصت صوت المطر من تحت نافذة الغرفة مثل فأر في الخزانة تخيفه صخب الأقدام.. إذ أنه لا يوجد هنا ما يبعث الرعب في قلب صنعاء القديمة أشر وأمكر من قطرات المطر التي تقسط دفعات الماء حالة السقوط.
وعلى هذا السياق المرعب كان الأطفال فقط هم الاستثناء.. وذلك لأنهم حتى الآن لم يسمعوا بقصة القارب المهترئ الذي لم يهجره أصحابه رغم أنه لا يفتأ يهددهم عند كل مناسبة بالغرق..وقبل أن يكبروا ستجدهم وقت المطر يهرعون من كل زقاق للاحتفال على طريقتهم الغامرة بالبهجة والسرور وأصواتهم تتعالى أكثر فأكثر حال تأديتهم طقوس المطر وهم يرددون أهازيجه المتعارفة والموروثة..
لكن الأمهات تحاول أن تغلق الأبواب وتقد قمصانهم من دبر خوفا عليهم من نزلات البرد وبقع الطين لكن هيهات..لا فائدة.. لا صوت يعلو فوق صوت المطر.. وكالفراشات حين يجذبها اللهب.. يفعل المطر مفعول السحر لإخراج الأطفال للضحك والإنشاد..
وعلى العكس تماما تنكمش أصوات الكبار وتقوم لديهم القيامة ولا تقعد إلا بعد أن يتلاشى تهديد المطر عن طينهم وسمائهم.. يضربون أكفهم أخماسا في أسداس حال هطوله المستمر على نحو طفيف..
وعلى غرار الأطفال فإن البيوت فيما يبدو لحس عقلها الخرف فنسيت القصة الشهيرة أو تناستها وأضحت تنسى نفسها كلية حين يدغدغها المطر بل وتفقد صوابها وصلابتها حال هطوله المتكرر على تلك الوتيرة الطفيفة ومتى ازدادت الجرعة عن اللزوم حلت بها العلل والأضرار وزاد الماء على الطحين.
وعلى النقيض ومقابل هذا الزائر الثقيل يبدو المطر الغزير عزيزا على قلب تلك الأبنية وخفيف الظل بالنسبة إليها حيث تغسل به بدنها كما ينبغي لتلتقطه الأرض بشغف ثم يهرول الماء في مصارفه منحدرا عبر «السائلة» حتى يخرج نهائيا عن طوق صنعاء باتجاه الشمال والشمال الشرقي..
المدينة كما يروي الآباء والأجداد شيدت عقب الطوفان العظيم بفترة وجيزة والبيوت عطشى منذ ذلك الزمان.. يذكر في الموروث القديم ان أول من استخلفها وأشرف على عمارتها سام بن نوح حيث أنجز بناءها بما تيسر له من الاجور والطين في زمن قصير لهذا السبب يتهافت عليها السياح من كل أصقاع الدنيا لمقابلة سحر العمارة المزخرفة بما يليق بها من الانبهار والإكبار ويجيئون لامتطاء أول مدينة ناطحة للسحاب في التاريخ معتبرين إياها الإعجاز الذي نسيه أو ربما يكون تناساه طائر الخراب.
المطر يداهم صنعاء القديمة منذ الصباح الباكر وحتى هذا الوقت المتأخر من الليل.. «حوالينا يا رب لا علينا».. هكذا كان يتمتم أبو احمد في أعماقه ذلك الحين بعد أن مضت مائة وعشرون دقيقة على ميقات نومه المعتاد.. انتصفت الليلة وها هو لا يزال ينوء عن احراز غمضة واحدة في جفنيه من جراء قلبه الذي كان ينبح بشدة.. كان يشعر أن كارثة وشيكة ستحدث عما قريب.. بقلبه البوليسي اللعين الذي لا يتقن سوى قبض الروائح المتسربة في الهواء النتنة منها فقط والزرقاء
لقد تعود أبو احمد جراء خبرته وكهولته كلما شعر بالنبض يعوي في قلبه بهذه الطريقة على ترقب مصيبة مقبلة على وجه التحقيق.. كان حدسه يقينه والغريب أنه كان مواظبا على إعلان مقته الشديد لهذه الخصلة السادسة التي تفرزه عن سائر الناس.. مع أنه عندما يخلو بنفسه ويستذكر ماضيه سيصبح غير قادر على إنكار معروفها وفوائدها ليس هذا وحسب وإنما شديد امتنانه لها في العناية به وتجنيبه حوادث وأخطار كادت تحيق به وعائلته لا عد لها ولا حصر.
والآن ماذا؟ هل يعقل أن تتحرر مخاوفك يا أبا احمد بعد كل هذه السنوات لتشكل اليوم حيزا في الفراغ؟!
هل يمكن أن تنخر قلب التاريخ ديدان المياه الآسنة ؟..
«حوالينا يا رب لا علينا»..
لم يكد يتم هذه العبارات حتى تمايل بندول الساعة وبدأ يرتجف أعنف من ذي قبل.. ثم في لمح البصر قفز القرصان الأعرج منها بفعل الهزة العنيفة وبدأ يسير على الأرض..
انتفضت أم احمد مذعورة لا تستوعب ماذا يحدث..هل الحركة والغبار هذا حلم أم أنها الحقيقة ؟.. أحست كما لو أنها أفاقت على متن سيارة تثير الرمل بسرعة جنونية.. اقتحم أبو احمد الغرفة مخترقا الغبار.. قبض على يدها بقوة وهو يقول: «أسرعي يا امرأة ربما يحالفنا الحظ وننجو وربما اللقاء في حياة أخرى»..
وسريعا تهاوى البناء من أساسه على الشكلية ذاتها التي انهار بها مركز التجارة العالمي ولم يتبق شيء من قامته الفرعاء سوى كومة ضخمة من الأتربة المتشربة بماء المطر معجونة بأثاث المنزل والزجاج والأخشاب.
في تلك الساعة من الليل اكتظ الحي بالضجيج وتخالطت فيه استغاثات الرجال بصرخات النساء ونحيب الأطفال مشكلة مع بعضها صوتا متعارفا عند الناس لا يسمعونه عادة سوى عند حلول المآسي والكوارث الضخام.. وبدأ أبو أحمد الخائر القوى يستفيق من غيبوبته ويستعيد جأشه.. تفقد أسرته واحدا وحدا وهو يلهث بتعب ثم عاود الإظلام في وجه من جديد.. ارتفع بقامته بمشقة ومضى بها ناحية الحطام والدموع تسيل بغزارة من جفنيه
وبمعاناة بالغة كان يرفع التراب وينزع الأحجار وهو يصرخ بصوت مخنوق :
عماااااار
***
أبو أحمد خمسيني العمر يعيش على حد الكفاف والعفاف..رزقه الله من الذرية الطيبة ثلاثة من الذكور وانثيين تزوجت جميلة وهي جميلة فعلا بابن أخيه وتسكن في مدينة الصافية خارج أسوار صنعاء القديمة.. تداوم على زيارته في يوم الجمعة ينعم عليها بحبه ورعايته ونصائحه التي تعينها على استيعاب عملها المقدس في مؤسسة الزوجية.. أما هاجر الصغرى فقد وفق الله بينها وبين زميلها في كلية الطب.. شاب من ذخيرة فتيان مدينة الحديدة الساحلية.. ابتغى جامعة صنعاء لدراسة طب الأسنان فأغرته الفتاة بأخلاقها وطيب أصلها فاختارها عروسا.. بينما جذبها هو بابتسامته وحبه ووفائه فاختارت الرضا بالعيش معه في مدينته الحارة رغم المسافة الشاسعة والمقدرة بأربع ساعات أو خمس تقريبا على الحافلة..
أما الذكور فهم على التوالي أكبر فأصغر أحمد فمعاذ ثم عمار جميعهم لم يتسن لهم الفوز بشريكة العمر لأسباب ذكرتها آنفا.. لكنهم تبارك الكريم في غاية التهذيب.. لم يحدث قبلا أن تلفظ أحد من أهالي الحي عنهم بسوء أو شكوى.. أحمد يعمل مع محام منذ تخرجه قبيل ست سنوات من دراسته الشريعة والقانون.. ولا بأس مع أنه يتقاضى لقاء أعماله أجرا شحيحا يقدر بالملاليم إلا أنه بطريقة ما قادر على تدبير شؤونه ونفقاته.. معاذ تخرج من كلية الشرطة برتبة ملازم ونظير تفوقه على المستوى النهائي يعمل في الكلية مدربا.. ويتقاضى في المقابل مرتبا متواضعا أيضا وكما يحدث عادة لمن تختاره المقادير للتضحية بزهرة شبابه في عناء هذه المهنة العظيمة والشاقة في آن.. أما بعد فآخر العنقود عمار فتى وسيم لم يأخذ الدراسة مأخذ الجد كما أخذ الطرب والشعر والأدب.. تفرغ أخيرا من دراسته الثانوية قبل ثلاثة أعوام بمعدل مقبول وهو في الحقيقة مقبول حيثما حل وأينما اتجه في البيت والشارع وفي المدرسة ومحبوب كثيرا من مدرساته في الصف اللاتي افتقد لطفهن ومساهماتهن الكريمة وهو يتعارك مع شدائد اختبارات الشهادة العامة. وهذا من بين أخوته حصد أكبر شطر من دلال والدته ورعايتها..إذ أنها أهدت إليه طفولة سعيدة مقارنة بحالتهم المعيشية المتواضعة فما عمار أراد شيئا إلا وناله ولو بذلت في سبيله التضحيات.. فمن يخبر المرأة الآن التي كانت تنوح وتلطم نفسها بينما كانوا يبحثون عنه تحت الأنقاض أن الفتى من البداية راح سببا لغنجها ودلالها الزائد ؟!
كانت الأم بطبيعة الحال تنتحب وتشهق بحرقة عند هذا الشطر بالذات من النص وبعده بصفحة ونصف تقريبا وكان ذيل القصة الطويل يلعب وهو في منتهى المرح وقبلها بقليل كان قد سقط على قفاه وهو في شدة الضحك من ذلك السؤال عن كون الفتى ضحية والدته.. كان بإمكانه متأثرا بحماسته المفرطة أن يتطوع لإفشال الكمين في هذه القصة لكنه أخيرا امتلك زمام نفسه ولم يفسد للنص استرساله وتشويقه الموسوم..
حسنا فعل وذلك خيرا له.. لأنه على أي حال كان حتما على هذه القصة مهما بلغت التحديات أن تعيش.
***
لا يخيف الظلام ويبدد الوحشة سوى الطرب والنغم.. سوى الموسيقى التي توقد في النفس السكينة والهدوء.. سوى الأنس والرقص والتصفيق.
كان وجه العريس يبدو مضيئا كالبدر والضيوف يشعلون السهر حماسا وتوهجا بالضحكات والرقصات الشعبية المحلية.. العرق ينزف من الجباه ويبرز جليا في آباط الراقصين المبتلة من الحركة والنشوة.. الكل بلا استثناء يتصرف بتلقائية وكأنه لايوجد مطر يتربص به حال الخروج..
الموسيقى على أي حال دعوة للهدوء والتوازن الوجداني مع الذات.. إنها كوخ يلجأ إليه المحارب كي يسترخي من الجراح التي تخلفها معركته السرمدية مع الشقاء..
كلنا محاربون.. كلنا لابد لديه معركته الخاصة مع الظروف.. حتى الصوفي الزاهد محارب والرسام والفنان والكاتب كل فرد فيهم يقاتل تحت رآية ويحمل في سبيل كفاحه الأسلحة والعتاد..
وعلى هذه الوتيرة يحتمي بمظلة هذه الخيمة شباب مثل الزهور متصوفون على طريقتهم ومقاتلون.. يشعلون ظلام الليالي الدامس كما يبدو بالطرب.. الاحتراف في الرقص صفتهم الأولى وسلاحهم المتاح بل ورمزهم الانتخابي في الصراع الأهوج على الخيل والليل والأشياء..
كان العود يصدح في زوايا خيمة العرس في إيقاع موسيقي هادر مستفزا زئير الرعد وتقاطر المطر من خلال بعض التسريبات في سقف الخيمة البادي عليه الهلاك والتقادم.. العود يصدح في أركان الخيمة والرعد يجأر خارجها وفي سائر الأرجاء.. كان يزأر قويا في السماء ليس أقوى منه سوى المحادثات الجانبية والضحكات المجلجلة والتصفيقات التي تصدر عن الحضور لتحفيز الراقصين والفنان الذي كان يلعلع الأجواء بصوته العذب وقصائد المعذبين.
أوتار العود تهتف مع صوت المطرب.. وأقدامهم تتماشى في انسجام مع وقع الفن الصنعاني بالقصائد الغزلية التي تتمايل لها الأجساد وترقص لها القلوب.
السهر إلى جوار معركة ماتعة ينافس فيها إيقاع الرقص والنغم- هزيم الرعد والمطر.. حوار غير ودي بين الأرض والسماء.. يالها من سهرة حبلى بالمفاجآت.. صحيح أن التكلفة باهظة لأنه قدم في سبيل الحضور مغامرة متهورة وتضحية قد تقذف به إلى الجحيم.. صحيح أنه تسلل من غرفته دون علم والده ودون استئذان والدته غير أنه لن يعبأ بالعذاب الجسدي طالما أن الروح قد كسبت هذه الليلة من المتعة والطرب ما يعزي التوبيخ والوعيد..
الصباح رباح ووالده سينتفخ في وجهه مثل فرن الخبز القديم.. سيفتح عليه صنبور الموعظة الحارق وسيحصل على نصيبه المقسوم من العقاب والشتائم.. من قال أن الآباء هذه الأيام أو تلك يهمهم مصلحة الأبناء وسعادتهم لعله حقا مغفل كبير.. كيف وهم لا يعيرون الموسيقى وأثرها على الروح أدنى اهتمام؟..
ليت شعري من يجد لديه الشجاعة كي يقنع أباءنا إنهم يدندون على الوتر الخاطئ؟.. الحياة في أساسها معزوفة موسيقية ونحن بطريقة أو بأخرى مجرد ريشات تبحث عن إيقاعها الأثير كي تأخذ دورها في المقطوعة حتى لا يبدو في لحن الحياة نشازا أو مزعجا ضمن سمفيونية المايسترو العظيم. ( كانت هذه العبارات التي كان يدندن بها «صاحبنا» في خاطره ذلك الحين)..
رفع المطرب العود عائدا لإحياء السهرة بعد أن صفقت له كفوف السمارة وهي الطريقة المتبعة دوما في أعراس صنعاء وما حولها لتنبيه مطرب الحفل بأن يعاود النغم وتهافت نفر من الراقصين كي يهزوا أرضية المكان بأقدامهم وكأنها تهز الكرة الأرضية بأسرها
قبل هذا بسنوات كانت الموسيقى صنفا من الكبائر.. كانت مثل شرب الخمرة مسموحا بها فقط للأجانب.. عشاقها ظلوا ردحا من الحرمان تحت وطأة الشبهة والعار والاحتقار.. كانوا محاصرين بحزمة من التقاليد تحط من قيمة الفنان وقدره بين أهله وذويه.. لم يكن يدري المرء منهم كيف يهرب مع معشوقته ليعيش معها ويقبلها كيفما يحب ويشتهي
كان المجتمع عامة آنذاك لا يستقبل الفنان ومحبوبته المثيرة بالتصفيق كما هو حاصل هذه الأيام وإنما بالكلمات البذيئات والطين والأحجار..
صاحبنا ظل طيلة الوقت في منتصف المتعة يراقب كل هذا بنشوة عارمة تارة يأخذ دوره في الرقصة وأخرى يبرك على مقعده طلبا للراحة والماء..
ومثل أي راحة مؤقته قد ينعم بها المرء تحولت راحته بعد دقائق معدودات إلى فزع وارتياب.
تحولت أبصار الجميع بمن فيهم الراقصون وحتى العريس نحوه لتحملق فيه.. تلفت يمينا وشمالا ووجد نفسه محاصرا في غابة من العيون بطريقة أثارت الهلع في كيانه.. حاول أن يتحقق فربما كانوا يطالعون أحدا بجواره.. من خلفه.. من أمامه.. ربااه.. ربما كانوا يبصرون ثعبانا أو فأرا يعبر من فوق رأسه.. لم يعثر على شيء..لم يعد هنالك شك أنه هو المقصود بالنظرات.. تجول بصره في المكان محاكيا الكاميرا بدءا بمنصة العريس مرورا بالراقصين والجالسين المتكئين الذين خرست أكفهم فجأة عن التصفيق.. الجميع يتأمل فيه كأنه هو العريس.. ما بال هؤلاء ؟ماذا تريدون مني يا أوغاد ؟ ماذا يحدث هنا بحق الله ؟..
في نهاية المطاف وبعد أن كاد الذعر يقتلع فؤاده تسمرت عيناه عند باب الخيمة وحينها أصابت قلبه صاعقة كاسحة .. فز من مكانه مثل طائر مذعور..
يا الهي ! ما الذي جاء بأبي وأخوتي وأهل الحي إلى هنا في هذا الوقت؟.. «يبدو أن صفعة دسمة ستلقى يوسف لدى الباب قبل حلول الصباح ويبدو أنه حتى الصباح لن ينفذ بجلده وسيأكل أخرى تشبهها إن لم تكن أدسم منها بقليل»..
اللعنة على كل شيء.. تحرك صوب الباب فاتر الخطوات مطأطئ رأسه لم يكد يرفعه كرة ثانية حتى أحس بجسد مبتل يلتصق به بحميمية ويحتضنه بحرارة ودفء..
«أحمد لله على سلامتك يا بني»..
صمت الجميع في ذهول فقد كان من الصعوبة أن يستوعبوا بهذه السرعة ملابسات الحوار الغامض الذي يدور آنذاك بين الابن وأبيه .. جلسوا في حيرة دقائق معدودات.. بحثوا عمن يخبرهم بتفسير واحد لما يحصل أمام أنظارهم.. عمار كان أكثرهم ذهولا.. كان يحملق في الجموع التي توافدت لتهنئته مثل البليد.. ثم إنه مضى وقت طويل لم يحمله والده بالأحضان أو يضمه إلى صدره هكذا ويقبله بهذه القوة الجارفة..
وبالترتيب أخذ كل من الوافدين دوره باحتضانه وتهنئته على السلامة بداية بأخويه وانتهاء برجل ربما من الحي وربما لا المهم أن وجهه غير مألوف بالمرة رغم أنه يشبهني ومع ذلك أخذ نصيبه المجاني من القبلات والأحضان..
حين انتهت التهاني لأبي أحمد على سلامة نجله خر على الأرض سجدة شكر لله تلى فيها بعض الأدعية أتمها بتقبيل أولاده واحتضانهم ثم انتهى به الأمر أن هتف للمطرب الذي كان مشدوها بتفاصيل ما جرى لبيت أبي احمد راجيا منه أن يعاود الغناء.. ودب الانتعاش على السهرة من جديد بعد أن تسلل إلى جوفها شطر طفيف من البرد والرياح بينما كان الجميع شاردا في قصة المأسأة التي نغصت القلوب..
وعلى خلاف المتوقع قيد أبو احمد يد عمار بقبضته وسحبه بحماس وحيوية مقتحما به الساحة التي يتمايل فيها الراقصون وراح يساير إيقاع العود والابتسامة لا تغيب عن محياه ثم تحركت أقدام عمار وسريعا انضم معاذ ثم أحمد وتهافت الكثير من الجيران وعدد من الجالسين حتى ازدحمت الساحة الصغيرة التي تكفي ثمانية راقصين بالكاد.. ورقص كل بالقدر المستطاع كان أبرعهم وأشدهم حماسة أبو أحمد وأبنائه الثلاثة.. وداخ الجميع في دوامة رقص جرارة كأنهم جيش من السكارى والمعتوهين..
رقص الجميع حتى سقطوا أرضا متأثرين بالإعياء الشديد وبدأت أعداد الراقصين تتناقص تدريجيا مع مرور الساعات تعب منهم من تعب وغادر إلى بيته من غادر واستقر العدد نهائيا عند أربعة راقصين.. ولأن أولئك الأربعة الراقصين لم يكن لديهم بيت يأوون إليه في ذلك الوقت المتأخر رقصوا حتى الصباح.
حتى تمخضت الشمس معلنة ولادة يوم جديد.
محمد السقاف