أعظم الثوار في التاريخ وأكثرهم تمردا هي الرغبة.إنها طاقة التمرد التي لا تقهر. لذلك كان حريا أن يتوجه التمجيد الذي يمنح للأبطال، إلى الرغبة التي استولت عليهم، والتي حفزت أجسادهم وطوعت وجودهم ووجود الآخرين معهم.
ففي الرغبة يمكن اكتشاف العمل الضخم للتاريخ، ولقيمة العالم المتمثلة في أن يكون موضوعا لكل الرغبات الممكنة التي بقدر ما تضعه في أفقها بقدر ما تصنع قيمته.
فعندما تستدعي الرغبة شيئا من أشياء العالم لتجعله موضوعا لها ، تحوله وتعدل من صيغة وجوده وتمنحه بعدا جديدا لا يتحصل عليه إلا من خلالها، هو البعد الجمالي الذي تخلقه فيه ، بجعل وجوده رهينا بمسافة تتشكل كل الأشياء بالنسبة له من جديد انطلاقا منها.
يمكننا أن نحدد المسافة باعتبارها الأثر الأول لتدخل الرغبة، التي لا تندفع في اتجاه شيء ما إلا على قاعدة فرزه من بين الأشياء الأخرى، أي منحه كيان المسافة الذي يجعلمنه نزوعا مضادا للأشياء الأخرى، أو توثرا مواجها لها.
وهذا يعني أن المسافة – من حيث كونها مفعول الرغبة – ليست علاقة بينية خارجية بين الأشياء، وإنما هي أثر يدرك في صلب الوجود الخاص الشيء المرغوب فيه. تستحوذ الرغبة على اللون ، فتختلق فيه طاقة تحويلية في مواجهة الألوان الأخرى، وهو ما ينتهي بعمل فني . كذلك الأمر بالنسبة للجسد المرغوب فيه، الذي بمجرد ما يظهر في أفق الرغبة حتى يكون بالنسبة إليها قد تعذر تصوره كامتداد للأجساد الأخرى، كتماثل أو كهوية مشتركة. فتكون المسافة فيه عملا ديناميا يدفع الأجساد الأخرى إلى الاختفاء من أفق الرغبة . عندما يصير مرغوبا فيه، فإنه يتوقف بالنسبة للرغبة عن أن يواصل وجوده في جغرافيا التماثل. إن ذلك يعني أننا ما نكاد نرغب حتى نشرع في تحويل ما نرغب فيه ، ونعدل من طبيعة وجوده ونحدث فيه أثر المسافة ، ونمزق هويته ونعيد تشكيلها.
لذلك نتيجتان أساسيتان . الأولى: أن الموضوع بمعزل عن الرغبة لا قيمة له. بل إن طاقة الشهوة التي تنصب عليه هي التي تمنحه قيمته . بمعنى أن الجسد خارج الرغبة التي تبتكره كموضوع لها ، يبقى فاقدا لبعد المسافة، ومن ثمة فهوامتداد هلامي للأجساد الأخرى، وهذا ما يؤكد نتيجة أساسية هي أن القيمة الأهم للرغبة وليس للموضوع.
أما النتيجة الثانية فهي أننا مع الرغبة لا نكون أبدا مساوين لذاوتنا ، بل نحن دائما أكبر مما نحن إياه ، فأثر المسافة يشتغل فينا كذوات راغبة ، وانطلاقا من هذا الأثر يُفسح في صميم وجودنا الخاص المجال لابتكار اللحظة واستدعاء المستقبل. فاستمراريتنا في الزمن مشروطة بهذا الانقطاع الذي عبره يمكن للذاكرة أن تبسط مفعولها.
إن ما كان يدعوه أونامونو (Unamuno) بالمبدأين المحددين للإنسان ليس في حقيقة الأمر سوى نتيجة لهذا الانقطاع الذي يعمل في صلب الوجود . كان أونامونو (1) يتحدث عن الإنسان المعين) هذا أو ذاك (، الذي هو منلحم ودم ، وليس الفكرة. وهو محق في ذلك لأن الإنسان الفكرة ليس في نهاية المطاف سوى عائق، تجريد يبني واقعه في المفهوم. أما الإنسان الواقعة فيحقق كيانه الفعلي من الحياة وفي الحياة. بالنسبة لأونامونو فان نسأل إنسانا عن أناه (Son moi) يعني أن نسأله عن جسده . إنه يحرر الأنا من نظره فيشته (2).
ما يجعل الإنسان إنسانا، حسب أونامونو، هو مبدأ الوحدة ومبدأ الاستمرارية . وحدة في المكان تتحقق من خلال الجسد والفعل والإرادة. فالجسد يشتغل لديه كمبدأ موحد لأفعالنا. فعندما تتناقض غايات أعضاء الجسد، يختل ويموت . أما المبدأ الثاني فهو الاستمرارية في الزمن. فما أكونه اليوم متأت من سلسلة متواصلة لحالات الوعي في جسدي. والذاكرة هي المنفذ الأساسي لهذه الاستمرارية. إنها « قاعدة الشخصية الفردية»(3)
لذلك يرى أونامونو أننا نحيا في الذكرى ومن خلال الذكرى. «وحياتنا الروحية ليست في العمق سوى مجهود ماضينا من أجل أن يكون لنا مستقبل»(4)
ما لم يدركه أونامونو هو أنه جعل الذاكرة والجسد متفرعين من حالة أولية ودائمة من الوعي الذي يجعل من الجسد يشتغل كمبدأ للوحدة والذاكرة كمبدأ للاستمرارية لان الوعي يبسط عليهما نفوذ الحضور الذي يشتغل كإحساس إزاء الذات.وفي هذه الحالة فالزمان والمكان كاستمرارية وكوحدة،هما مجرد تأويل لعمل الوعي.
لكن عندما تشرع الرغبة في العمل تغير من وضع الجسد والذاكرة إزاء الوعي. فهي تفصل هذا الأخير عن إحساس الحضور الذي يكف عن يكون نفوذا تتلقاه الذاكرة والجسد وتدفع الجسد بعيدا عن الذاكرة. فيصبحان لا يتقاسمان ذات المكان. وتحول الجسد إلى انجاز للمستقبل. بمعنى أنه يغدو عملا إنجازُه الفعلي هو المستقبل المفصولعن مجهود الماضي . الجسد يستدعي المستقبل ليس لأنه ماض لكن لأنه رغبة.
فالرغبة تفعل أثر المسافة الذي بفضله تكون فرصة التجدد متاحة أمام من يرغب.
حالما تبدأ الرغبة في الاشتغال، تصبح هي المبدأ الذي ينظم عمل الذاكرة والوعي . إنها تستحوذ عليهما مفعلة أثرها فيهما، وتغير من وظائفهما ووضعهما العام بالنسبة لوظيفتي الزمن والمكان اللذين يكفان عن أن يكونا حقل الاستمرارية والوحدة، ليغدوا مجال الانقطاع والتيه عن الذات.
الرغبة تجعل المكان الأول هو الجسد. وتجعل الإشباع هو البداية الأولى للزمن. معنى ذلك، ما أن تشرع الرغبة في العمل حتى يصير الجسد هو مكان العالم، مثلما يصير للزمن قابلية للتجدد في بدايات منفصلة عن بعضها، لان الإشباع هو عتبة الزمن الجديد. ومن ثمة فاستمرارية الزمن هو النتيجة المباشرة لفقدان الإشباع . الاستمرارية حالة مرضية، حالة من تعطلت إمكانية إشباعها.
حينما نرغب، نبني جسدا، ومن خلاله نبني مكانا ، وحينما نشبع رغبتنا نبني بداية زمن جديد. ومن هذه البوابة يدخل مفعول الرغبة في التاريخ وفي اللغة وفي الحياة، بل يصبحون جميعهم عنصرا مشتقا منها.
بعيدا عن الرغبة، ما الذي تكونه اللغة ؟ قواعد شكلية ، أي تنظيمات صورية لإمكانات القول . ما الذي يكونه التاريخ بدونها ؟ امتدادا بلا تمزق، ولا انقلابات، ولا تحولات، أي بلا حدث. ومن دونها ما الذي تكونه الحياة ؟ طاقة أخمدها الأنثروبي . فما نسميه الإبداع في اللغة، والحدث في التاريخ، والحيوية في الحياة، أي تلك العناصر التي لها قيمة الانقطاع وتشييد العتبات الجديدة وابتكار إمكانات غير متوقعة، ليست سوى البصمة النافذة للرغبة في هذه الحقول الوجودية التي من دونها يصعب تأويل التجربة الإنسانية، أي يصعب عليها أن تفتح مجالا لتحيين معناها.
سنتوقف قليلا عند ذلك الخطاب الذي منح تاريخيا قيمة الامتياز والتفرد والاستثناء في قلب الثقافة البشرية. والذي شكل قيمته انطلاقا من مبدأ الندرة الذي حكم آلية إنتاجه ووزع حظوظ من يقولونه في إطار تراتبية صارمة قابلة لإعادة التشكيل ،أفكر هنا في الشعر.
كثيرون لا ينصرون أن الشعر متوقف في وجوده على الرغبة، لأنهم يرون أن حقله الوحيد هو اللغة وما تتيحه الاستعارة. إنهم يتمسكون بموقف آلي عززه التصور البنيوي الذي جعل من القول الشعري نظاما داخليا يفرز قواعد اشتغاله بعمل ذاتي، حتى صارت الذات عنصراوظيفيا، ينضاف إلى عناصر أخرى ويخضع في اشتغاله داخل نفس المنظومة، إلى ذات القوانين.
لكن ما لمينتبه إليه هؤلاء، هو أنه إذا كان الشعر خطابا يراكم نفسه في تحققات متناثرة تعبر ثقافات متعددة انطلاقا من نفس المبدأ فذلك متأت من طاقة التحويل التي تتدخل في اللغة ، معدلة من إمكانات الكلمات ومجددة آفاقها المدهشة . إذ ليس هناك من إدهاش في الكلمة إلا بفضل هذه الطاقة التي تدفع الدوال نحو مدلولات ليست لها. عندما نسعى إلى تحديد تموقع الرغبة في اللغة ، فإننا نجده ما بين الدال والمدلول. أي المساحة التي تحدثها ما بينهما فتتيح بذلك موطنا للذات لا يتعلق بإرادة خاصة وواضحة للقول، وإنما بعمل للطاقة يشتغل كقوى للجذب والنبذ ، ومن دون هذا الاشتغال تظل اللغة جردا معجميا قاصرا، أي وحدات دلالية بأثر دلالي موقوف التنفيذ.
فما سمي في النقد الأدبي المعاصر بالانزياح هو التجلي المباشر لأثر المسافة الذي تحدثه الرغبة في اللغة. مع الاحتفاظ بالاحتراز الآتي: فعندما نتحدث عن فعل للرغبة في اللغة يسمح باستيطان الذات بين الدال والمدلول، فإن ذلك لا ينبغيأن يدفع إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بسيطرة للوعي على إمكانات اللغة، ففي هذه الحالةنصير واقعين تحت أكبر خدعة للانا المهمين على ما يقول. بل العكس ، فالذات هنا ليست سوى تركيبا وظيفيا تنسجه الرغبة. الذات ليست مبدأ مؤسسا وإنما عنصرا تابعا أو أثرا تخلفه تدفقات الرغبة.
خارج الاستحواذ الذي تباشره الرغبة يبدوالشعر مستحيلا. من هنا ينبغي أن نفهم من الاستعارة طاقة التحويل التي تحررها الرغبة في اللغة، فكما هو الأمر مع الجسد المرغوب فيه ، حيث تخلق الرغبة مجالايظهر فيهالجسد كأفق للإشباع ، تفرزه وتُباعده عن الأجساد الأخرى وتبتكر استثناءه ، تتدخل الرغبة في اللغة ، وتحرر فيها مجالا للطاقة يعمق استقلالية الدوال عن المدلولات، يباعد بينها ويفجر أي ارتباط منطقي أصلي لها . يعيدها إلى وضعها البدئي كدوال فاقدة أصلا لمدلولاتها، مهيئا فرصة التقاء جديد بينهما يتشكل كاكتشاف يحدث لأول مرة : الدال يكتشف مدلوله، الكلمة تظهر لأول مرة في أفق القول . إنها دهشة البداية. لذلك تكون الكلمات في الشعر قد قيلت لأول مرة ، رغم أنها كانت دائما وأبدا تقال . إنها نفس وظيفة بناء عتبة جديدة لبداية الزمن التي يؤديها الإشباع.
من المؤسف أن النقد والبلاغة معه حاولا ابتكار وسائل لاقت من الرواج مستوى حال دون إدراك الدور الحاسم للطاقة التي تحررها الرغبة عندما تستلوي على اللغة. وفي مقدمة هذه الوسائل مفهوم المشابهة الذي جُعل كقاعدة الاستعارة . فأصبح الشعر معها حصيلة لتدرج منطقي في توليد المدلولات. تحافظفيه الدوال على قرابتها الصامتة مع مدلولاتها. قرابةيمكن كشفها بمجهود بسيط لإثبات أساس المشابهة الذي تمت عليه . حينها يصعب إدراك عمل الرغبة في اللغة وقيمة الطاقة التي تحررها منتجة ما نسميه شعرا.
خلاصة القول لا يمكن أن نتعرف في اللغة التي هي موضوع للإبداع، سوى على عمل الرغبة ، أي مفعول الجسد.
كثيرا ما يسعى بعض المنقبين – الذين يدعون نقادا – إلى استجلاء شكل حضور الجسد في الأدب. لكنهم يخطئون طريقهم عندما يبحثون عن ملامح تشكله كثيمة أدبية، أي ثيمة يبينها الخطاب.غير أن الأهم من كل ذلك، ليس هو كيف تعبر الرغبة عن نفسها في الأدب، وإنما كيف غدت مبدأهالوحيد؟ أي كيف أن الأدب صار نظاما للرغبة ، يعمل كجسد؟
إن حقيقية الإبداع في اللغة، لا يمكن إدراكها من دون هذا الفعل الذي يربط اللغة بالجسد، أي ذلك الفعل الذي يتحقق عبر تدفقات الرغبة التي تشحن اللغة بالطاقة التي تحرر الكلمات من أي انتماء مشترك قبلي، تحررها من نفسها، ومن أي إرث دلالي قد توحي بأنها تدخره، مثلما تحرر الكلمات من بعضها، لتغير من قيمة القول محولة إياه من استنفاذ لإبذالات ممكنة، إلى عمل تحويلي يعيد بناء جوهر اللغة ذاتها . ذلك ما يفسر كيف أنه مع كل إبداع جمالي ، يُحفر عمق جديد للغة. الإبداع هنا هو الطاقة .
في التاريخ، تمهد الرغبة للحدث. تخلق الفوران اللازم لبروزه، تفعل الانقطاعات المطلوبة لتحقيقه . في منطق التاريخ يكون بروز الحدث مفاجئا . بل إن صفته كحدث متأتية من طابع المفاجأة والانقطاع الذي يميزه . لكن قلما ينتبه إلى أن ما يفجر الاستمرارية الرتيبة للتاريخ هو فعل ناتج عن تدفقات الرغبة . هذه الأخيرة تجعل حركة التاريخ موسومة برحابة المسافة التي يُدرك فيها الحدث، ليس فقط كتوقيع للتناهي، ولكن أيضا كفرصة لبداية جديدة.
إذ أن هذه المسافة هي التي تمنحنا إحساسا بأننا نحن الذين نتحرك في قلب التاريخ، وانه رغم الموت فنحن ننادي الحياة، نعرّض أنفسنا – في ماكينة الحرب – للموت ، طلبا للاستمرار في العيش ، نحول الفشل المسترسل للأمل إلى حقل للنجاح.
بسبب الرغبةومفعولها الأول الذي هو المسافة ، لا يمكن إدراك التاريخ كاستمرارية . الرغبة تمزق التاريخ لتخلق مجال بروز الحدث الذي يرمي بقبضته معرضا ذوات وكائنات ومنظومات لقدر الإتلاف (العملية الملازمة لكل ما هو تاريخي)،ليهيئ لظهور أخرى . هنا فقط يمكن أن نتحدث عن حيوية التاريخ، عن التاريخية التي تسكنه. تحتجب الرغبة خلف مظاهرها العنيفة: الإتلاف، التشتيت، التدمير، التمزيق ثم البناء : بناء كينونات جديدة ، تفردات . العنف في التاريخيعادل الشعرية في اللغة.
لا تكشف الرغبة عن نفسها في التاريخ كدافع فردي. بل كتيارات تندفق قادمة من مصادر مختلفة ومتعددة ن وباتجاهات غير خطية. لكنها تتقاطع في لحظة حاسمة ، في منعطف أو منحنى. وعند تقاطعهما تفجر وحدة التاريخ، وتمزق استمراريته، فاتحة حيزا لانبثاق الحدث. لذلك ففي التاريخ لا تحمل الرغبة اسم علم، إنها ليسترغبة فلان، وإنما هي رغبة، مصدر تعريفها الوحيد هو ما تخلقه من فرص لتجدد التاريخ نفسه ،وعثوره على منبع حيويته. وفي حالات كثيرة تستولي هذه الرغبة على الأفراد والجماعات، تصادم بينهم، وتدفع بهم إلى مصائر لم يكونوا ينتظرونها وتزحزح مواقعهم وتعيد تشكيل تطلعاتهم وأحلامهم وقد تتلفهم نهائيا.
تُحدث الرغبة في التاريخ فوران صداميا بين الجزئياتالمتحققة التي يتحول تراكمها عند وصولها درجة معينة إلى معنى يلتقط كفاصل بين مرحلتينأو حقبتين . في هذا الفوران يكون الحدث هو المعبر الفعلي عن المسافة التي تنتجها الرغبة. لذلك لا يُدرك للحدث بداية ، رغم أنه يبتدئ وينتهي . لأن له امتدادا في اندفاعات الرغبة، تلك الاندفاعات التي لا يدرك لها وجه ولا تحمل اسما أو ملمحا ، ليس لأنها كائن غفل ، ولكن لأنها لا تُظهر سوى آثارها .
تخلف الرغبة في التاريخ ، وظائف عابرة لها . ليست هي محطات وإنما منفذا للعبور. أشهر هذه الوظائف هي ما يسمى بالذات ، التي هي موقع تكثف فيه الرغبة نفسها . وهذا يعني أن الرغبة ليست ذاتا تستوطن التاريخ . بل إن الذات نقطة تظهر من خلالشدة تكثيف الرغبة لنفسها. إنها مجرد منفذ للعبور تخلقه الرغبة. عند هذا المستوى ما أن نشرع في استخراج كيان للذات تكتمل عنده كلية التاريخ وتستجمع غايته ، حتى نكون أمام مجرد معبر تشتد فيه الرغبةلتقوي اندفاعها وتفتح مجرى جديدا لها في التاريخ .حينها لا يكون ما تصورناه كلية سوى حلقة مفرومة إلى أجزاء ، وما فهمناه على أنه اللحظةالحاسمةلانغلاق التاريخ على نفسه ، سوى انفتاح آخر لا يحمل أي معنى نهائي ، وما تصورناه كغاية نهائية ، ليس سوى عتبة بداية جديدة . الرغبة بهذا تفصح أن إشباع التاريخ، أي الإشباع الذي يبحث عنه ، يكمن في عدم اكتماله ، إنه لا يستوفي ذاته أبدا.
لذلك ، وبسبب منطق الرغبة المشار إليه أعلاه ما نكاد نكون في التاريخ ، أي ما نكادنكون كائنات تاريخية ، حتى يكون مبدأ وجودنا هو ما عبر عنه«شيزلاف ميلوز» بالكوجيطو البديل ، وهو «أتحرك إذن أوجد» والذي يعبر بحسبه ، عن الحاجة إلى موقعة أي شيء بالنسبة للجسد في الزمن والفضاء (5) فما سميناه بعدم استيفاء الذات ، هو الحركة«أي تجدد الطاقة» الذي تتيحه الرغبة التي تشحن التاريخ بدينامية فوّارة ، تجعل منه مجاري غير موحدة الوجهة . الحركة هنا هي التجاوز الهيجلي (نسبة إلى هيجل) محروما من قدرة الاحتفاظ.
في التاريخ لا تكون الرغبة مجرد نفوذ يفرض نفسه من الداخل إلى الخارج. بل هي فعل يضع الخارج كضرورة ، لأن الرغبة ترسخ الانفتاح في صلب ما تشتغل فيه . فالخارج بالنسبة للرغبة هو الحركة عينها التي تحقق الإشباع، إنه نوع من التقاطع المحدث للطفرة التي تعود على مجال انبثاق الرغبة بفائض في الوجود مختلف كيفا.
الخارج بالنسبة للتاريخ هو هذا الفصل الذي ينزع كل تحقق من جوانيته ، ويحركه في تجاه ما ليس له هو . إنه نوع من الإخصاب أو التلقيح الذي يجسد عم الاكتمال الذي به تحقق الرغبة إشباعها في التاريخ . وهذا يعني أن التاريخ ليس جغرافيا للغيب ، أومكانا للاشيء الأمثل ، إنه ليس يوتوبيا غير مرئية ، وإنما حقل ينفتح مع انفتاح الرغبة ، حقل للممارسة الفعلية يجسد ممكنات يُنتظر تحققها .
إن التاريخية ،حسب التصور الذي صغناه أعلاه ، لا تعني فقط صفة الكائن الذي يصير ، إنها صفة من يرغب، أو تتدخل الرغبة في نحث كيانه . لذلك نقول عن الأشكال ( الشعر مثلا ) إنها تاريخية، لأن الرغبة تصوغ كيانها، ولذلك بالضبط فهي مطبوعة بالتحول.
تُظهر لنا هذه العلاقة بين الرغبة والتاريخ ، أساسا آخر للتاريخ ، لا ندفاعه دون أن يستوفي ذاته أبدا. فالأشكال المجردة للتنظيمات الاجتماعية ) المؤسسات ( ليست مبدأ للفعل التاريخي. إنها بالأحرى أحد منتجاته العرضية . لكن في العمق فشحنة هذا الاندفاع الذي تخلقه الرغبة ، والذي ندركه كتاريخ لنا، تكشف أن أرضية التاريخ الحقة هي الجسد ، مكانه الأول ، ونواة تأرجحه. «فحيث لا توجد أجساد ، لا وجود لا لفضاء ولا لزمان(6)» كما قال «ميلوز» والفكر الإنساني ليس إلا الحاجة إلى موقعةse situer أنفسنا إزاء اشياء أخرى ، وموقعة عالمنا إزاء عوالم أخرى ، أي هو علاقة بالمكان.(7) وإدراكنا للمكان مشروط ببنية كياننا العضوي أي بحركة الدم»(8). الذي هو مادة كونية موسومة بالحركة التلقائية.(9) لذلك فالذاكرة نفسهاأي تلك التي ترقد فينا –محفوظة في دمنا ، «فإذا كنا نتذكر، فذلك لأننا كائنات حية»(10).
عند هذا الحد نتوقف مع ميلوز لأنه يوظف هذه النتيجة كمقدمةلإثبات شيءآخر يقذف بنا في التيولوجيا، لينزع التاريخ من نفسه ويؤسسه على مبدأ مثالي. فهو عندما يتساءل: ما الذي نتذكره بالضبط ؟ يجيب « نتذكر واقعا آخر أعلى ، تمنعنا حدوسنا منه..وإذا كانت لغة الأديان والأساطير تدق فينا بقوة ، فذلك لأننا نتعرف فيها ، على ما كنا نعرفه سلفا بشكل لا واعي. كل حركة للمادة مماثلة للحركة غير الجسدية للنور الذي خلق العالم «(11) يسمي ذلك بقانون المماثلة.
بهذا الشكل يهدم ميلوزقوة الحقيقة التي كشفها: أساس الحركة في الدم ،أساس التفكير هو الجسد ، وأساس الذاكرة هو الحياة .وهي الثلاثية التي ترسخ الطابع الجسدي للتخييل والفكر والتاريخ ، حتى أنه جعل« الإيقاع « (LE rythme) أساس الميتافيزيقا، لأن في الإيقاع تتأسس كل الوسائل التي تسمح بالتواصل مع حالات العالم العليا.(12) بل إن ميلوز يبني موقفة من القرن العشرينقرن البشاعة القاتلة، كما ينعته ، من الوضع الذي آلت إليه الروح حتى أنها صارت عاجزة عن فهم قانون المماثلة الذي قام عليه العصر الوسيط (13).
إن الجسد الذي تكثف فيه عوامل الحياة، واستخلصت قوتها فيه ، يظل المساحة الوحيدة التي تتيح ظهور التاريخ واندفاع شحنته ، بعيدا عن الخلفيات التي حركت رؤية ميلوز و تصوره للعوالم الثلاثة(14) وقانون المماثلة .
وسواء كان التاريخ تاريخا للأفكار أو المؤسسات أو للخيال، سيظل تاريخا أرضيا، أرضه الخفية التي لا تدرك، وتستبدل بمجهود تحليلي أنيق بكيانات اصطناعية أخرى، هي الجسد نفسه الحقل الفعلي للغة والتاريخ والحياة. وكما أن الفن لا يشير إلا إلى قيمة الحواس، فكذلك لا يشير التاريخ إلا قيمة الجسد.
1 – M. Unamuno : le sentiment tragique de la vie . Gallimard . 1966 . P 19
2 – M. Unamuno. P. 19
3 – M. Unamuno. P. 20
4 – M. Unamuno. P. 20
5 – C. Miloz : la terred’Ulro Méditation sur l’espace et la religion. Albin Michl. 1985. P : 227
6 – C. Miloz . P. 230
7 – Cazelau Miloz : p.237
8 – C. Miloz .p : 230
9 – C. Miloz .P :239 10 – Miloz : p239
11 – Miloz : p 239
12 – Miloz : 230.231
13 – Miloz : 240
14 – يميز ميلوز بين ثلاثة عوالم : العالم السماوي ، وعالم النور الخالقللنقطة الرياضية، وعالم النور الفيزيائي أو عالم الطبيعة.
عبد الصمد الكباص\
\ كاتب وباحث من المغرب