اقترب العيد فتذكرت السفر الحر .. أجمل ما كان من هواياتي وأجلّ ما تبقى من غواياتي . فطول المقام حبس ولو في النعيم . والغياب عن المكان المألوف حضور في أماكن جديدة يمنح الحياة معاني خفيفة منعشة . ولا سر في الأمر . فالمسافر المحترف سريعا ما يتحول إلى كائن يقظ يتمرأى في الفضاءات الغريبة بدهشة ويتقرى ملامحه الحميمة بمتعة وقد يستكشف من طاقاته الخلاقة وحماقاته الدفينة ما لم يعهده من قبل . شيء شبيه بالعبور المفاجئ على سلسلة من الآثار الجمالية التي تنبه الذهن وترهف الحواس وتطلق للحلم العنان . ثم إن معاني التصالح بين الجسد – الشيء والذات الواعية لا تصل ذروتها في غير سفر يحوج كل منهما إلى الرفقة الحسنة وتنازلاتها المتبادلة وكأنهما ثنائي متناغم يعيش لحظة اللقاء الأول أو يقف على شرفة الوداع الأخير .
وللرياض حسنة كبرى في هذا الباب ، ولعلها الوحيدة الأكيدة الآن ! . فهذه المدينة الصحراوية تنمو كالشجرة المجنونة ، لكنها تأبى أن تتحضر فترأف بضحاياها . وهكذا تدفع كثيرين إلى الهرب في أقرب فرصة بأي وسيلة إلى أي مكان ، ولو لبضعة أيام . ولا أبالغ . فهناك الملايين من المواطنين والمقيمين يجدون أنفسهم محاصرين في مدينة تيهانية جافة محروسة بأجهزة عتيدة تراقب كل فرح وتتوجس من كل احتفال ، وإن جاء بسيطا ، وتحت صيغة رسمية ، فكيف لا يهربون حتى من أعيادها ؟ ! .
وإذن فقد جاء قرار السفر عاديا ، ومن داخل القرار المعتاد خطرت الفكرة الغريبة . قلت : لم لا أبحث عن عيد بسيط يشبه أعياد الطفولة في قرى الذاكرة البعيدة ؟ !. ولم أقف طويلا في مقام الحيرة . فالفكرة جذابة ، وزياراتي لعديد البلدان العربية حصر الخيار في المغرب . طبعا فكرت في اليمن وتونس ومصر وريف ظفار النظيف الوديع . لكن هذا البلد النائي مثل الخيار الأفضل .. ومن غير وجه . فأرضه المتسعة متنوعة أجمل ما يكون التنوع . وأريافه العريقة تذكرني دائما بأرياف الجنوب قبل أن تتشوه أو تنقرض . والناس هناك يجمعون بين ألفة المعشر التي تصاحب بساطة الحياة الأصيلة ، وتفتح العقول والقلوب الناتج عن الاتصال المنتظم بالعالم الحديث وثقافاته . والأهم من هذا كله أن الوعي المتقدم لدى النخب المغربية جنب الجميع مشقات هذه الفتن التي تعصف بالناس من حولنا ، وتدمي صورها قلوبنا مع كل نشرة أخبار مرعبة . ثم إنني زرت المغرب عشرات المرات ليس بينها زيارة واحدة حرة منفردة.
حجزت مقعدا على الخطوط المغربية واثقا أن الرحلة التي تمر بالقاهرة ستكون طويلة ثقيلة مملة ، لكن المشقة ثمن مستحق لمغامرة تشبه الحلم .
ولم تتأخر المفاجآت الطريفة كثيرا . فحين صعدت إلى الطائرة وجدت طفلة تحتل مقعدي بجوار النافذة . كلمتها بهدوء وحنان كي تنتقل فردت بابتسامة عريضة تقطر براءة .. لكن دون أن تتحرك !. ولأنه من غير المعتاد أن يسافر الأطفال وحدهم فقد بحثت عن أسرتها كي تتدخل لصالحي . خاطبت سيدة أنيقة تجلس وطفلاها على الجهة اليمنى في الصف ذاته فقالت أنها لا تعرفها ! . توجهت إلى سيد يجلس بجوار زوجته في الصف الأمامي فرد بأن لا علاقة لهما بها! . جاء المضيف وقد لا حظ الموقف . سألني ما الأمر فأخبرته أن الأميرة الصغيرة أخذت مكاني .. وأضفت أنه لا مانع أن تبقى بجواري ، فقط أريدها أن تنتقل إلى المقعد الأوسط الذي شغلته حقيبتها الصغيرة الملونة . تثبّت من بطاقة الصعود فخاطبها بلهجة محلية وهو يمد لها يده فإذا بها تستجيب في الحال . وحين عبرت إلى مكاني رأيته يجلسها في المقعد جهة الممر ويربط حزام الأمان ويوالي تنبيهاته وتحذيراته بنبرة عالية ونظرات حادة كلها جفاء. بدا لي عملاقا يهدد زهرة أو فراشة فتدخلت راجيا أن يتلطف مع جارة الرحلة . قال لي أنها تسافر في عهدة الشركة ولذا علي ألا أتدخل في الأمر. ولكي لا يتوتر الهواء فيما بيننا تجاهلته فانصرف. طبعا قررت أن استدعي أي مسؤول آخر من الطاقم فيما لو كررها هذا الجلف الذي بدا لي شرطيا يراقب ويعاقب لا مضيفا جويا يخدم ويتفهم .
ولأن الأميرة السمراء لم تغير بسمتها التي تنتشر على وجهها الدائري السمح فقد أثارت إعجابي وتيقنت أنني محظوظ بها رفيقة سفر ولا بد من العناية بها . استقرت الطائرة في السماء فحانت الفرصة الأولى . رأيتها تحاول فتح الحقيبة بمشقة فساعدتها . استخرجت منها علبة خشبية أنيقة وفتحتها بمفتاح صغير وتفقدت محتوياتها ثم أغلقتها لأتولّى إعادة الحقيبة إلى موضعها . اغتنمت الفرصة فتحدثت إليها بما أحفظ من اللهجة المغربية الممزوجة بالفرنسية فإذا بالحكاية تتضح . فالأميرة ذات الأعوام السبعة تعيش مع والديها في الرياض. ولسبب ما لم يتمكنا من السفر فأرسلاها إلى خالها في الدار البيضاء لقضاء إجازة «العيد الكبير» . طلبت من المضيفة شيئا تتسلى به مليكة فوعدتني خيرا .. لكن بعد الوجبة كما قالت بلطف . وجاءت الوجبة فإذا بي أتحول إلى خير معين لجارتي . فردت لها الطاولة . وضعت المنديل على صدرها . تناولت السكين والشوكة لأقطع اللحم وأخلطه مع الأرز والسلطة . ناولتها بعض الطعام ثم سلمتها العدة لتكمل المهمة . ولأنني لم أطلب شيئا فقد رحت أتابع المشهد عن بعد ولا أتدخل إلا عند الضرورة . قضت على ثلثي الوجبة ، وأتبعتها بالكعكة كاملة وما تيسر من الماء والعصير . وحين طلبت مني أن أفتح علبة البيبسي قلت لها «صافي شيري»، فاقتنعت دون تردد . أعطيتها المنديل المعطر فمسحت فمها ويديها فيما أنا أرتب الطاولة لتعود إلى وضعها الأول . تناولت مجلة الشركة لأتصفح محتوياتها ، وأتبعتها ببعض الصحف المغربية لأقرأ ما تيسر عن أحوال البلد الذي لم أزره منذ سنتين . ارتفعت أصوات الشباب الثلاثة في المقاعد الخلفية فوضعت السماعة على أذني كي اسمع ما تيسر من الموسيقى الكلاسيكية .. هوايتي المفضلة في الجو . التفتّ إلى جارتي لأعرض عليها الخدمة ذاتها فإذا بها تسبح في النوم . عدلت جلستها وأسندت رأسها على وسادة صغيرة فرمقتني بتلك النظرة غير الإرادية التي يودع بها النائم العالم ويغيب . والحقيقة أنني فرحت لها وتمنيت لو فعلت مثلها . لكن هيهات أن ينام من يعشق السفر ويتخوف من كل هزة خفيفة لهذا الطائر الخرافي الذي يدهشني كلما ركبته .. كأول مرة ! .
حطت الطائرة في مطار الدار البيضاء بعد حوالي ثماني ساعات . ودعت جارتي مرتين . مرة عند مغادرة الطائرة ، وأخرى حين رأيتها تنتظر متاعها مع خالها قبيل خروجي من المطار . أخذت «الطاكسي» إلى رياض المدينة الذي لا أعرف أين يقع وإن أعجبتني الصور على شاشة الحاسوب وأنا أحجز الغرفة . سألت السائق الشاب عن مدى قربه من البحر ومسجد الحسن الثاني والحبوس مبررا سؤالي بأنني لم أزر الدار البيضاء من قبل إلا عبورا . قال إنه على مسافة عشر دقائق من الشاطئ ، والمسجد على مسافة ربع ساعة ، أما الحبوس فلابد من السيارة . طبعا لم أبادر بسؤاله عن أشياء أخرى لأن الرحلة في بدايتها وستتعاقب الفرص . وجدت الفندق هادئا نظيفا وموظفة الاستقبال السمراء أنيقة بشوشة فاستبشرت خيرا . صعدت الدور الرابع لأدخل غرفة مكونة من صالون تقليدي أنيق وغرفة نوم واسعة بفراش وثير لكن النوافذ كلها تطل على جدران المنور. ولأنني أحب المشهد المفتوح على أي سماء فقد هاتفت فتاة الاستقبال وقلت لها أنني سأرتاح الليلة هنا عسى أن تنقلني غدا إلى سويت آخر إن أمكن فوافقت . رتبت الضروري من حاجياتي ، اغتسلت بماء دافىء ، طلبت ما تيسر من طعام وشراب ، تابعت بعض القنوات ، وعلى السرير قرأت فصلا من «سبوتنيك» ثم نمت لأتابع الحكاية في أحلامي كعادتي .
في الصباح توجهت إلى المطعم الذي لم يكن به أحد . تخيرت مكونات الإفطار دونما مبالغة في التنويع وجلست قريبا من الشرفة المطلة على البهو . جاء من جهة المطبخ شاب وسيم قدم نفسه لي بلطف وأبدى استعداده لأي خدمة . شكرته وطلبت بعض العسل وزيت الأرقان إن أمكن فما تردد . دخل شخص أوروبي وجلس غير بعيد عني ، وحين لحقت به صاحبته الخمسينية مثله زاد شعوري بالوحدة فاستعجلت كي أخرج وأستكشف الفضاء حول الفندق . سألت الموظفة التي بادرتني بتحية الصباح عن أقرب شارع ابتاع منه الجرائد ، وأمشي فيه إلى البحر ، فدلتني إليه وزودتني بخارطة أكبر وأوضح . انحرفت يسارا مرتين متواليتين فإذا بجادة كبيرة مزدحمة بالسيارات نوعا ما أدركت أنها مقصدي . اتجهت يمينا فبدا الرصيف مليئا بالمتاجر والمقاهي والمطاعم وأكثرها مغلق ، بعكس مقصورات بيع المرطبات والصحف والسجائر التي فتحت منذ الصباح الباكر فيما يبدو . اشتريت الحياة والشرق الأوسط والعلم ومضيت . وحين لاح الأزرق في الأفق تهيأت لأول نشوة . لا أحب مدينة لا تجاور الماء ، فكيف لا أنتشي بمدينة تطل على محيط يوقظ كل الأحلام ويغرر بكل العابرين ! .
لم أجد أي مقهى يطل على الأطلسي كما توقعت فقلت أعبر الطريق وأمضي إلى الشاطئ المقابل. وحين وصلته كان شبه خال ولا كبير عناية به رغم سعته وامتداده وموقعه القريب من الحي . سلمت على الماء وغسلت عيني بألوانه وروحي بأمواجه واتكأت على السياج الحجري لأملأ رئتي بهواء البحر المنعش كواحد من هذه النوارس الحرة . لبثت حينا من الوقت ولابد أنني سرحت وسبحت في تخيلاتي . رددت التعويذة القديمة ذاتها :
« قل لي يا هذا الموج الأزرق ، منذ متى تسبح فوق الماء ، ولا تتعب أو تغرق».
التفت يمنة فإذا بالمسجد البهي هناك . سرت والنشوة تزداد وتسرع بي . منذ فترة طويلة لم أر هذه التحفة المعمارية التي أصبحت علامة تزهو بها الدار البيضاء . ابتعت التذكرة ، ودخلت فإذا بجماعات من السياح ثلاث منها أوروبية ورابعة من شرق آسيا . تجولت براحة بال ، مرة أتقرب من دليل الرحلة الفرنسية لأسترق بعض المعلومات الثمينة ، ومرات أبتعد لأتأمل التفاصيل وحدي . ولأنني عرفت أهم مساجد اسطنبول والأندلس فقد تقرأت الآيات الجمالية من حولي وكأنني هنا وهناك في الوقت نفسه . ولقد أعجبني روح الإسلام الحضاري حين سمعت الدليل يذكر بأن قلب المسجد فضاء يجمع بين شكل الكنيسة المسيحية والكنيس اليهودي وذلك تمثيلا لتعددية الشعب المغربي ، وتجسيدا للأصل المشترك ، وتغذية لروح الحوار بين الأديان الذي كان الملك الحسن الثاني يحرص عليه كجزء من تراث المغرب المتسامح . نعم ، تذكرت أن هذا الصرح الكبير الأنيق أرهق خزينة الدولة وأثقل على المواطنين حينا من الدهر ، لكن الأثر جاء تحفة تثير الإعجاب وتنسي كل التضحيات . صورت القليل من المشاهد لأن استعمال أي جهاز هنا يفسد النشوة ويتعارض مع جلال المكان . وفي خاتمة الجولة تجاوزت حبلا يعلم فضاء العبادة فصليت ركعتين ثم جلست وقد هدأ الجسد واطمأن الذهن وحلقت المشاعر على هواها . طبعا تذكرت الجامع الكبير في حي السلطان أحمد تحديدا . تذكرته لأن استقبال الناس من كل الأجناس والمعتقدات في دور العبادة هو التسامح ذاته . وكم حمدت الله أن بعض المذاهب الإسلامية تبيح هذا المسلك الحميد تأسيا برسول كريم استقبل عديد الوفود في مسجده المفتوح ، ولم يعد مثار استغراب أو استنكار عند المسيحيين والبوذيين و الهندوس .
خرجت والتقطت المزيد من الصور للمبنى المهيب مستندا إلى البحر أو معانقا السماء ثم انصرفت لا أدري إلى أين بالتحديد . لم يلفت نظري شيء يستحق التوقف فندمت على طريق البحر الأكثر جمالا وهدوءا . وبعد السير لفترة في جادة واسعة لا تخلو من أناقة تغالب الزمن وجدت مقهى كبيرا نظيفا فجلست لأشرب الشاي المغربي وأتصفح جرائدي ثم أتخلص منها . عند الحادية عشرة استشرت الخارطة لأعود إلى الفندق عبر الجادة ذاتها . ولكراهيتي للضجيج أسرعت فكنت هناك بعد ربع الساعة . نزلت إلى فضاء الحمام بالدور الأرضي وفي نيتي الاستمتاع بخدمات التدليك رغم أن السعر بدا لي مرتفعا . ألقيت نظرة على المكان بصحبة الموظفة البدينة الودود فوجدته نظيفا ويفوح بروائح الصوابين العشبية والزيوت العطرية . حجزت موعدا لفترة ما بعد العصر ثم صعدت . أخبرت فتاة الاستقبال الجديدة بما وعدتني به صاحبتها بالأمس فقالت أن الغرفة جاهزة في الدور الخامس ويمكنني الانتقال إليها في الحال .. وهذا ما فعلت . فتحت صنبور المياه في الحوض وغيرت ملابسي واسترخيت في الصالون بانتظار أن يمتلئ بالماء الدافىء. لم أجد في القنوات الفضائية برنامجا يغري بالمتابعة فأغلقت التلفاز واكتفيت بموسيقى هادئة وجدتها في إحدى المحطات الإذاعية . وبعد الحمام قرأت بضع صفحات من رواية هوراكي موراكامي ذاتها ثم غفوت واثقا أن الفتاة الصغيرة التي اختفت في المنتجع اليوناني النائي لن تعود ( المفاجآت الغريبة عادية جدا عند هذا الروائي التراجيدي الفاتن ) .
حين نزلت إلى الحمام تهيأت لتلك اللمسات المحترفة التي تعيد للجسد ليونته المفتقدة بفعل السفر وقلق النوم . ولم يخب ظني في السيدة التايلندية التي تراءت لي طيفا خفيا في عتمة القبو لفرط ضآلة الجسم وخفة الحركة وخفوت الصوت ورقة الطبع . استلقيت فبدأت تجس و تمسّد وأنا مسترخ بين يديها مفتونا بهذه اللمسات المدروسة التي طالما بدت لي فنا آسيويا بامتياز . وحرصا على الذهاب بعيدا في الاسترخاء أغمضت عينيّ وجربت أن أترك الجسد في عنايتها كي تتصرف به كما ترى . والحق أنه لم يعد جسدي وحدي وقد تحول إلى فضاء بينيّ تلتقي فيه وعليه إرادات مختلفة .. ولا تنازع ! . حينا ينزلق الكفان على القدمين ومن حول الساقين وحينا يضغطان على مفاصل الورك والظهر والعنق فأشعر بوجع آني سريعا ما يعذب حتى لكأنه أثر لطاقة تطرد الألم خارج الأعضاء . صعدت فوق ظهري فشعرت بدفئها يخترق المنشفة القطنية وينسيني ثقلها . استعملت يديها وكوعيها وكعبيها وركبتيها فأبحت لنفسي أنينا مكتوما يعبر عن المتعة وقد انتشرت في كل خلايا الجسد . وكان للزيت المغربي المبارك مفعول سحري محسوس تماما لحظتها . فهو الوسيط الذي يسهل الاحتكاك بين الجسدين الغريبين . وهو العنصر الشفيف الذي يتخلل المسام فيليّن المفاصل ويرقق العضلات ويحفز الدم على التدفق والركظ . لكنه أيضا هذه الرائحة الزكية الطيارة التي تملأ هواء الغرفة المعتمة خدرا ساحرا يغري بالنوم في سحابة عطرة بين يدي ملاك . نعم ، غفوت غير مرة ، وكم تمنيت لو لم أصح واثقا أن السعداء لن يحلموا بأحلى من الغياب في مقام كهذا . مرت الساعة وقد حسبتها بضع دقائق . استعدت جسدي فتدثرت بمنشفتي القطنية التي نسيت حضورها ونهضت . اغتسلت في الحمام المجاور بماء دافىء انعش في حيوية الحصان وشهوة الذئب . أطفأتها بزخات من ماء بارد ثم تجففت وتدثرت وخرجت. لبست ثيابي في العتمة وعدت إلى مدلكتي فشكرتها بكلمة وانحناءة وناولتها ما تيسر وانصرفت حاملا معي جزيئات من روحها التي سكنتني ولا تزال تنعش كتابتي .
قبيل الظهر من اليوم الثالث صادفت محمدا ويا لكرم الصدف !. طلبت منه أن يأخذني إلى أي مقهى يطل على البحر لأشرب الشاي بالنعناع و أتمشى قليلا . وحين أدرك أنني لا أعرف الكثير عن هذه الدار البيضاء أشار علي بالتوجه إلى حي الشاطئ . وفي الطريق لاحظت أنه يتحدث بلسان أليف بعض الشيء فتجرأت ودخلت في الخصوصيات لأعرف السر. قال إنه عمل سائقا لدى عائلة من جدة خلال ثلاث سنوات . وحين تيقنت أنه عاد من هناك لا يحمل إلا جميل الذكريات أبديت له رغبتي في قضاء العيد بقرية بعيدة هادئة . رحب بي ضيفا عند أقرباء له ناحية مكناس . استبشرت خيرا لأنني لم أزر فاس ومكناس و إفران من قبل . ثم إن حديثه عن زيارات ممكنة لآثار رومانية غير بعيد عن منطقة الزرهون ذكرني بمقاطع من نص حميم جميل لصديقي سعيد بنسعيد العلوي الذي جاء من هناك فوافقت على الاقتراح في الحال .
وصلنا حي الشاطئ فإذا به فضاء سياحي حديث أنيق يمتلئ بالفنادق والمطاعم والكازينوهات والطرقات المهيأة لمحبي رياضة المشي والجري .. وكلها فضاءات مطلة على زرقة البحر من فوق ربوة الحي الأخضر . قررت الانتقال إليه بعد يومين فحجزت في فندق بدا لي الأجمل و الأنظف ، ولا كبير فرق في السعر بينه ورياض المدينة حيث أقيم . طلبت من محمد أن يعود بعد ثلاث ساعات . تمشيت قرابة الساعة ثم دخلت مقهى واسعا لأشرب الشاي على وقع الموج و إيقاعات الريح الغربية النشطة حينها. تغديت في المطعم التقليدي الأنيق بجوار الفندق وعدت . في اليوم التالي زرت الحبوس ، والتسمية تتصل بالأوقاف لا بالسجون ، ومن مكتبة المركز الثقافي اشتريت بعض الكتب وأودعت ثلاث نسخ من «رقص» واثنتين من «مقاربات حوارية».
في فندقي الجديد لا جديد يستحق الذكر فيما عدا سويعات لا تخلو من راحة ومتعة فيما بين مطعم الشرفة المفتوح على السماء والبحر والغرفة الواسعة الهادئة . متعتي الحقيقية كانت في السير الطويل على الشواطئ الصخرية و الرملية حول الفندق . حاولت الدخول في عالم الليل مرة فلم تكن التجربة مشجعة . والسبب أنني لست ممن يطيب لهم النوم نهارا والسهر ليلا . ثم إن إدارة هذا العالم السفلي تتخذ من برامج الغناء والموسيقى والرقص وسيلة مبتذلة للكسب السريع وكل الزبائن هنا ضحايا للعبة ذاتها . دخلت تجربة الحمام للمرة الثانية وكانت النشوة العابرة بين يدي المدلكة المغربية الشابة أقل إثارة من أن تغري بتكرارها. قلت أعبر إلى فاس التي سمعت وقرأت عنها الكثير وآن وقت المعاينة . أخذت قطار الضحى وكان مريحا لولا كثرة الوقفات من بلدة إلى أخرى . سعدت كثيرا بغالبية المشاهد الطبيعية ، أما ضواحي الفقر وقراه الكئيبة فلم أحرص على تأملها وأنا أكثر هشاشة منها في هذه اللحظة . جاورت في العربة مجموعة من الشابات اللاتي ينتمين إلى مدرسة داخلية فيما بدا لي من زيهن الموحد . وطوال الطريق لم يكففن عن الحديث والمزاح والضحك بأصوات عالية خففت علي من ضجيج العجلات والقضبان الحديدية . حتى حين تشاكس إحداهن الأخرى ويطالني الزعيق لا أشعر بإزعاج أو نفور لأن هذه الأصوات والحركات المنطلقة دليل حرية فردية تحتاج مجتمعاتنا العربية الكبتية إلى مزيد منها . الذي لفت نظري وأثار فضولي هو الشاب الصموت الجالس أمامي يقرأ حينا ويداعب جواله حينا آخر . بعد الرباط نهضت لأكسر الملل ولأطل على المشاهد الجميلة واقفا في الممر الضيق . حين عدت وجدت جارتي قد احتلت مقعدي وغفت . اغتنمت الفرصة فجلست بجوار الشاب وفي نيتي التعرف إليه والحديث معه عن أحوال البلد في نظر جيله . استفاض في الحديث عن الوضعية الانتقالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية بلا إنجازات حقيقية ، ولعبة الصراعات الحزبية فيما بين حلفاء – خصوم لا يفرقون كثيرا بين مصلحة عامة وأخريات شخصية أو فئوية أو حزبية ، وعزم الملك الشاب على تطوير العملية الديمقراطية لامتصاص التذمر الشعبي العام ، وصعوبة وضعيات الشغل بالنسبة للشباب أمثاله ، والتجاهل المعتاد لسكان الأرياف وهم قلب المخزن الحزين منذ قرون . أدركت أن منطق التنمية مع الاستقرار يتغلب على منطق التغيير .. وهنا كما في الخليج . أما التحول إلى منطق الحداثة الشاملة اعتمادا على علوم العصر وتقنياته فلا تدركه ولا تباشره النخب السياسية التقليدية المتحالفة مع نخب مالية وتقنية من القطاع الخاص بكل ممثليه من الداخل والخارج . وقد فوجئت حقا بتحليلاته المعمقة فيما هو حاصل على دبلوم مهني ، ولم يقرأ شيئا للعروي والجابري وأمثالهم فيما بدا لي . لكنه المغرب الذي يقل فيه التعليم انتشارا لكنه تعليم نوعي جيد مقارنة ببلدان عربية أخرى تكثر مدارسها وتضعف مخرجاتها لأنها تلقن العلم و نقيضة في الآن ذاته .. ومن الروضة حتى الجامعة! .
وصلنا فاس عصرا وكان الجو معتدلا وإن مال إلى الحرارة . أخذت التاكسي إلى الفندق الذي وجدته قصرا على رأس جبل . والمؤكد أنه بني هنا ليطل على المدينة القديمة حارسا ومراقبا للعدوتين . شرفة أنيقة تطل على مسبح كبير ومجموعة من الحدائق المعلقة مزدانة بأنواع مختلفة من الأشجار والنباتات الثمرية والزهرية . غفوت على السرير الوثير لساعة وكنت محتاجا للاسترخاء . صحوت فأخذت مشروبا منعشا وعدت إلى شرفتي . التقطت بعض الصور للمدينة فيما هي تشعل أولى مصابيحها في انتظار المساء . نزلت لأتمشى في الحدائق مبتعدا عن ضجيج المسبح . وفي مطعم مغربي تقليدي حجزت مقعدا للعشاء في زاوية مفتوحة على الحديقة رأيته من شرفتي . كان هناك برنامج لموسيقى أندلسية عارفة تميل إلى الرصانة والهدوء . ولقد أعانتني الفرقة المتواضعة على تذوق الوجبة الشهية لأنني لا أستمتع بتناول الطعام و حدي . صباح اليوم التالي زرت فاس العتيقة وقلبها الحي «جامع القرويين». كان الدليل الشاب خبيرا بطرقاتها التيهانية التي تتلوى كحبال الشرك فلا تترك لمثلي مجالا للتعرف على شيء من علاماتها . فريدة من نوعها هذه المدينة التي يستوطنها التاريخ فيستبد بها ويفصلها عن الحاضر والمستقبل . كأنها ذاكرة توقفت عند مرحلة من العمر فثبتت أشكالها وروائحها وألوانها وأزياءها وطعامها وشرابها . حتى هذا الهواء الثقيل الذي يتحدر من السفوح المتقاربة ليضغط على بطن الوادي وكائناته هو بعض من مخزونات الذاكرة العتيقة .
و لا أدري لم لا يحرص الناس على نظافة مدينة بهذا الطابع الفريد من نوعه ؟ . لا أدري كيف تترك البلدية – إن وجدت – تحفة حضارية كهذه عرضة للإهمال ؟. لا أدري أين هي اليونسكو التي قبلت تصنيف المدينة تراثا انسانيا ثم غابت عنها ؟. ثم ما سر هذه المفارقة التي نجدها في جل المدن الإسلامية العريقة حيث دور العبادة نظيفة جميلة فيما تكتظ دور الحياة من حولها بالقاذورات من كل نوع ؟ ! .
وأطرح التساؤلات لأن فاس جوهرة تستحق ما يجعلها تشع وتمتع . وهناك فقد اقتصادي مؤكد وراء كل هذا . فمن يزور فاس مرة قد لا يتشجع لرؤيتها مرة أخرى بسبب هذا العطن الذي يذكر الشخص بروائح الموت وهو في ذروة عشقه للحياة ! . ولحسن الحظ أنني كنت أحمل معي عقدة نعناع أعطانيها الدليل منذ بداية الرحلة ولم أتبين محاسنها إلا ههنا . فمن حين لآخر كنت أسد بها أنفي كي لا اختنق ، خاصة في مدبغة الجلود وسوق السمك . وحين طفح الكيل قلت للدليل : الجبل .. الجبل . صعدنا معرجين على متجر بن جلون المليء بالتحف الفاسية الأنيقة الثمينة ، وشربنا الشاي بالنعناع مع تاجر شاعر هذبه وعيه الثقافي وذوقه الفني فأعطى للمكان كله رونقا جماليا يليق به وبهذه المدينة التي كانت منارة علمية في الغرب الإسلامي كله . زودني بما تيسر وتوفر من دواوينه فشكرته وانصرفنا . ورغم التواءات الطريق وضيقه إلا أنني كنت أشعر بقوة تشدني إلى الأعلى لينعكس منطق الجاذبية تماما . وحين رأيت المدينة من شرفتي العالية عصر اليوم ذاته كنت أحاول مد النظر نحو الأفق المفتوح حتى لا أتذكر شيئا مما في بطن الوادي من آثار خلتها جروحا تأبى أن تندمل . ولا أستغرب أن تنتهي رحلتي بمشاهدة حادث موت كنت أتوقعه في أية لحظة . فالناس لا يقيمون وزنا لقوانين السير ، وأصحاب المركبات ليسوا أكثر انشغالا بها وبهم . ولأنني صرفت نظري عن المشهد الفاجع فور وقوعه فلن أحكي المزيد عن ضحية بائسة تدحرجت على الإسفلت لبضعة أمتار فيما السيارة المجنونة تواصل طريقها ! .
وصلت إلى مكناس فوجدتها مفتوحة على الهواء والسماء من كل الجهات . تجولت طويلا في الهدامة ، وزرت ما تيسر من مساجد وقصور ومتاحف وما شعرت أنني سائح إلا حين تعبت فاستأجرت عربة أنيقة يجرها حصان قوي نادرا ما يتدخل الحوذي العجوز لتوجيهه . عصرا تجولت في بعض أحياء المدينة الجديدة فلم يلفت انتباهي شيء من معالمها . أجمل اللحظات قضيتها حول بحيرة صناعية ما إن رأيتها حتى طلبت من صاحب (الطاكسي) أن يتوقف لأصاحب هذه الجموع الوفيرة التي جاءت لتتمشى وتستمتع بالإجازة . وكم سرني منظر مئات الشباب الذين خرجوا آخر النهار من عديد المدارس القريبة وهاهم يتقاسمون الطريق والمساحات الخضراء وما تيسر من مقاعد عامة ويتبادلون ما طاب لهم من الأحاديث من دون تلك العقد التي تعصف بشبابنا وتوحّش العلاقات فيما بينهم.
فعلا تذكرت أيام الفتوة في قرية الغرباء وما جاورها حيث كنا نعيش شيئا من هذه المشاهد ولا أحد يغرينا بفضائل القمع ويحذرنا من خطر العلاقات الإنسانية السوية . فندق الزاكي أنيق واسع لكنه بدا لي قصرا على وشك أن يهجره آخر سكانه . والسبب قلة الناس الذين تراهم في بهوه الفسيح وفي حديقته التي تشبه المزرعة وفي مطعمه الكبير، فضلا عن البار الواسع المعتم الذي نادرا ما ترى فيه أحدا . لقد شعرت بالوحشة تحاصرني في هذه الفضاءات ، وحين أهرب منها تصر على مرافقني إلى غرفتي وشرفتها المطلة على مسبح كبير بدا خاليا من البشر غالب الوقت . ولولا عاملات النظافة النشطات ، رغم كبر السن ، لاكتمل الحصار . فعلا هن الوحيدات اللائي جعلنني آنس المكان وأنسى هواجسي . كنت أحرص على السلام عليهن كصديقات وفيات ، وقد أتوقف لأسأل عن أمر ما فلا يبخلن بما لديهن من معلومات . أما حين استغل الفرصة فأعطي إحداهن ما تيسر فتبتسم وتنطلق بالدعاء فينتابني مزيج من السعادة و الألفة . نعم ، ربما كنت أقيم في المكان الخطأ ، لكن في الوقت المناسب . فغدا هو أول أيام العيد الكبير ، وهذه المبالغ البسيطة ستنفع ولو في شراء كساء لطفل أو حلوى لضيف ، ثم إن محمدا سيصل هذا المساء ، والقرية الموعودة في انتظارنا .
جاء محمد قبيل الظهر في حلة العيد . اتجهنا إلى قرية عين الريمة – أو «الريما» كما ينطقها ، وتقع على مسافة بضعة أميال من مكناس ، وأظنها في الاتجاه الشمالي الغربي من المدينة . وصلناها بعد حوالي ثلث الساعة ، فإذا بها مختلفة تماما عما توقعت . تلقانا عبدالله عند الباب بابتسامة مرحة تكشف عن أريحية المكان وأهله . دخلنا الحوش فاستقبلتنا روائح البيت الريفي المعهودة : دخان القبس المشبوبة في ملة خارجية ، الخبز البلدي ، أريج نباتات عطرية ميزت منها الريحان والنعناع ، وطبعا روائح الصوف الكثيف على الكبشين المربوطين في الزيتونة الكبيرة على يسار الداخل مباشرة . سلمت على الجميع ودخلنا منزلا صغيرا كل معاني الحياة فيه كبيرة . وهي كبيرة لأن الإنسان هنا جزء من الأرض وكائناتها ، ومفهوم الأسرة يتسع لكل شيء وأحد ، ولا تسمح الفضاءات الصغيرة ذاتها بالحواجز والفواصل ، اللهم حين يتعلق الأمر بالأماكن الحميمة . ومع دوران كؤوس الشاي بالنعناع وصحون الحلويات التقليدية وكسر الخبز المعجون ببعض السمن والعسل البلديين بدأت الألفة تنتشر ما بيننا . وكان عبدالله يوالي تعليقاته ونكاته فترد جميلة ، زوجته الفلاحة البشوشة ، بمثلها وأكثر وهي تجيء وتروح بين المجلس والمطبخ المقابل . ورغم أن الجميع هنا أمازيغ إلا أننا نادرا ما احتجنا لترجمات ابنهم الوديع الوسيم جمال حامل الدبلوم العالي ، أو لفزعات صديقي محمد وزوجته حسناء المتعلمين بعض التعليم . تابعنا فقرات أساسية من الحفل الرسمي للملك الشاب على جهاز تلفزيون قديم لكنه جيد الصورة والصوت . ولأنه عادة من يدشن طقس التضحية كأمير للمؤمنين فقد كان على الجميع انتظار تلك اللحظة . خرجت لأدخن سيجارتي وألقي نظرة أولى على ما حولنا . تبعني محمد فارتحت له مرافقا ودليلا . وبعد إطلالة سريعة على المكان من غير جهة تيقنت أن بيوت القرية القليلة المتواضعة بنيت حديثا بأيادي أهلها على أنقاض مستعمرة فرنسية صغيرة . والدليل هذه الأطلال التي لا تخطئ عين من خبر الريف الفرنسي وظائفها : البيت الرئيس ، مخازن الأعلاف والحبوب ، حظيرة المواشي الواسعة ، المخبز الخارجي ، فرن الحدادة ، بقايا الكنيسة ، خزان المياه .. وكلها مبنية بالحجر ومسقوفة بالخشب والقرميد على الطراز الفرنسي . الأرض الزراعية ممتدة في كل اتجاه من حولها ، بعضها مزروع بأشجار الزيتون وبعضها مهمل ، علمت أن أكثرها يعود للمخزن الذي قد يؤجرها لمن يريد استثمارها . وباستثناء الكهرباء لا حضور يذكر للخدمات الحديثة الأخرى هنا . كأن الحداثة رحلت مع المستعمر وبقي إنسان يغالب الحياة ليعيش عند حدود حاجاته الصغيرة وقيمه الكبيرة . نعم ليست هذه القرية التي كنت أنتظر . مجموعة من الأسر التي ضغطت عليها المدينة فاختارت اللجوء إلى هذه الأطلال المنسية . ليس لأحد ملكية خارج منزله ، والعمل خليط من الأنشطة التي عادة ما يزاولها سكان الضواحي . وهذا عبدالله يعمل مرة سائق أجرة ومرة فلاحا يستأجر بعض المزارع الصغيرة لينتج ما يحتاج من الحبوب وزيت الزيتون والخضروات والفواكه ويبيع ما فوق ذلك .
وقد حان وقت التضحية فشاركت ، عبورا ، في طقوس الذبح . وكم تذكرت فرحة الناس باللحم الوافر خلال ثلاثة أيام كلها عيد . ولأنني فقدت كثيرا من عاداتي القديمة وأكمل الزمن الباقي فقد كنت أتهرب عند أول سانحة كي لا أتورط في دور المتفرج .
منذ عقود لا أضحي بشيء غير مبلغ من المال أسلمه لمستحقيه دونما وساطة من جهات تدعي أنها خيرية ولا أثق في شيء مما تقول وتفعل . على هذا نويت وسعدت كثيرا بما فعلت طيلة اليوم . فقد تبين لي أن مبلغا نقديا بسيطا يقدم لسيدة بيت كريمة أو لشيخ مسن ، أو لطفل بريء من أهل هذه القرية ، أهلي الآن ، يعزز الفرحة بالعيد لدى الجميع . ولا مجال لمفهوم الصدقة أو الكرم في هذا المقام لأن هذا واجب على المستطيع وحق للمحتاج . ولكي لا أجرح مشاعر أحد رجوت محمدا الذي عاش بيننا لفترة أن يؤكد للجميع أن هذه عادتنا «هناك» في مثل هذا اليوم المبجّل لا غير . وكم طابت لنا الكبدة المشوية واللحم المبخر بعد الظهر ثم التمشي في المزارع المفتوحة من حولنا طيلة ما بعد العصر . ولم أنصرف قبيل المغرب إلا على وعد بحضور النصف الثاني من الطقس الاجتماعي : وجبة الكسكسي البلدي الشهي الذي يقدم غداء في اليوم التالي .
عدت إلى فندقي فوجدته يزداد صمتا وخواء وكأنه هو ذاته ضحية أخرى للعيد الكبير !. دهشت ألا تنظم برامج احتفالية متنوعة في فندق كبير كهذا وقد تستقطب مئات الزبائن من السياح ومن سكان المدينة ذاتها . فالعيد في كل مكان احتفال جماعي خارجي مفتوح فلم تحول ، هنا وعندنا ، إلى حفل داخلي يخص الأسرة والقرابة .. ويؤدى من قبيل الواجب في المقام الأول !. أهناك أثر للطقس التراجيدي الأول استقر في ثنايا الذاكر ليتجلى في هذه اللحظة ؟ . هل كل الأرياف المغربية هكذا – هاكا ؟ . ايعقل أن تخلو ساحة الفنا من المهرجانات في يوم كهذا؟.
لا أدري ولم أسأل أحدا . فعلا رثيت لحال هؤلاء العابرين القلائل الذي مروا بالمكان في الوقت غير المناسب . ارتحت قليلا ثم هاتفت كثيرين مهنئا بالعيد السعيد ، وقرأت ما تيسر ثم نمت كشخص لا يطالب العالم بأكثر مما توفر له في عين الريما مع أولئك البسطاء النبلاء .
مر بي محمد وعبدالله ضحى اليوم التالي فاتجهنا إلى الزرهون لنزور سيدي اسماعيل وما حولها من أطلال رومانية . بدت لي البلدة من بعيد سحابة بيضاء معلقة فوق سفوح خضراء . دخلناها فإذا هي تعج بالناس الذين يملأون الطرقات الضيقة والمقاهي الواسعة . وبعد زيارة المسجد الأنيق في قلبها جلسنا في أحد المقاهي لنشرب الشاي المغربي الذي تملأ رائحته الفضاء من حولنا . زرنا الأثر الروماني ، ولا أدري لم تخيلته بقايا ثكنة عسكرية على طريق القوافل لا غير ، وغياب المسرح أغراني بوجاهة ما تخيلت . طبعا لو قرأت عن المكان لتبين الأمر لكن حرارة الشمس جعلت التجوال مرهقا . والحق أنني ما كنت أحسب أن هذه النواحي على هذا القدر من الحرارة ونحن في موسم الخريف . عدنا إلى قريتنا ومعنا ما تيسر من شهيات الفواكه التي جمعتها من غير مكان ، وبدت لي خيرا من حلويات الأمس المشبعة بالدهون والسكريات . ولقد حرصت على شرائها لسبب آخر . نوع من التعاطف مع هؤلاء الفلاحين الصبورين الذين ما كانوا ليفرطوا في فسحة العيد مع الأقرباء وقوفا عند المنعطفات والمداخل لولا الحاجة .
عيدية مزدوجة إذن ؟ . ربما . وأظن المعنى أكثر تعددا . ولأنني بعت الفواكه فيما بين الطائف وأبها ذات عمر فقد كنت أهدي لنفسي شيئا مما تجود به يدي فتستيقظ ذاكرة مسافر راح يتقمص دور الفلاح – الآخر ويتقنه .. حقيقة ومجازا .
بالطبع كانت الجلسة أكثر عفوية وحميمية . وهنا أيضا يعود الفضل لعبدالله وجميلة . فهما من أشعل المجلس أنسا يأتي نصفه الأجمل من هذه السيدة الخمسينية السمراء التي ذكرتني بأقوى نساء القرية بنية وشخصية ، وأصفاهن روحا وقلبا ، وأوفرهن نشاطا ومرحا . تقدم المشروبات ، تحضر الوجبة ، ترد على المعايدات ، وهي توالي التعليقات مصحوبة بضحكات كريمة عالية تملأ المجلس مرحا وتفيض خارجه حياة . وكم تجلت مواهبها ونحن نتناول الكسكسي الذي أعانتها حسناء عليه لا ريب ، لكن الروح روحها . وبعد الشاي الذي قدم مع نبتة عطرية زكية قطفها عبدالله خلال جولتنا – تشبه المرمية – غراز مريم بلهجتنا – مؤكدا أنها خير معين على الاسترخاء وهضم الطعام .
تمددت بعد الوجبة العامرة بعض الوقت في غرفة صغيرة نظيفة بجوار المجلس وقد بدت لي باردة الهواء حتى لتدثرت ببعض ملابسي . صحوت على ضجيج مستحب يملأ البيت . غسلت وجهي وخرجت لأجد مجموعة من الأقرباء جاءوا للتهنئة بالعيد .. وربما لرؤية هذا الغريب الأليف الذي يشارك الأسرة بهجتها . كان منهم أسرة قادمة من فرنسا بدا جيلها الجديد مفارقا لفرط الصمت الطويل والتأنق المتكلف . انصرفوا وخرجنا في إثرهم . توجهنا هذه المرة ناحية افران للتمشية ولرؤية بعض البيوت المعروضة للبيع مع حديقة كبيرة أو مزرعة صغيرة . هل كنت أنوي الشراء هنا حقا ؟ . لست واثقا من ذلك تماما ، لكن العروض كثيرة وبعضها مغر تماما . ولن أفعلها إذ من الواضح أن موسم الجفاف هنا طويل وحرارة الصيف لا تطاق . ضحى اليوم الثالث جاء محمد وحسناء لنذهب في جولة إلى إفران . لفت انتباهي في الطريق إليها وفرة المراعي والقطعان ، وأكوام البصل الأحمر المنضد في الهواء الطلق ، وطراوة الهواء الجبلي الذي كان يزداد قوة وبرودة كلما صعدنا .
المدينة صغيرة هادئة جميلة ، لكن الحركة فيها رتيبة .. والسبب هو العيد أيضا . حاولت دعوتهم إلى أحد المطاعم الراقية فما وجدت ما أريد .. والسبب هو العيد أيضا . تغدينا بيتزا وطعميات في مطعم حديث في مركز المدينة ثم عدنا لنودع الأصدقاء ونمضي إلى الدار البيضاء . ألقيت نظرة أخيرة على عين الريما وكلي ثقة أنني سأعود إليها ذات عيد . وسأعود إلى هذا البيت الذي رحب بي أهله كما لو كنت ذلك الغائب المنتظر الذي يمنح المكان بركة ما . يسمونني سيدي الحاج ، وأنا استجيب مؤكدا أنني حججت أربع مرات . وما أجمل الحس الديني حين يضفي على علاقات الحياة اليومية معان سامية تحولت جزءا أصيلا في نسيج الحياة اليومية . نعم طوال هذه الفترة لم أسمع من أحد عبارات مجانية تترجم عن المقدس أو تحاول أن تستثمره لغرض ما . في قريتنا أيضا كان الدين صديقا للفلاحين والعيد ثلاثة أيام من احتفالات لا تنقطع ، ولا تراقبها أي سلطة من خارجها . كنا مثل هؤلاء الناس البسطاء ، وربما أكثر بؤسا ، لكننا كنا نفرح باللباس الجديد والطعام الوفير وأكثر فرحنا بأشكال من اللعب الشعبية التي يشارك فيها الكبار والصغار . ولم ألحق بتلك الليالي الجميلة حين كان اهل القرية رجالا ونساء يوقدون السروج ويصطفون ليباشروا اللعب معا من المساء حتى مطلع الفجر ! . لكني لا أسمع بقايا الحكاية تعود على ألسنة كبار السن حتى أتيقن من أمرين . أولهما أن محاربة الفرح بدأت قبيل مولدي ، وألا غرابة أن نصل اليوم إلى ما نحن عليه حيث لا عيد في العيد !.
معجب الزهراني\
\ ناقد واكاديمي من السعودية