«الحياة فسيحة للغاية. وثمة لحظة بدا لي أثناءها، أن ما قمتُ به، كان مُقدّراً علي منذ عشرة آلاف عام؛ بعد ذلك، ساورني الاعتقاد بأن العالم قد انشق الى نصفين، وبأن كل شيء قد اتخذ لوناً أصفى مما كان عليه، وبأنّنا ـ نحن البشر كذلك ـ لم نعد نعيش في حزن شديد».
اللعبة المسعورة، روبيرتو أرتل
أنا، ما سبق لي قط من قبل، أن أسأت الى أي كان.
كل ما أدريه هو أنه يتعيّنُ علي النهوض من النوم في السادسة صباحاً، حتى يفضل أمامي ما يكفي من الوقت، لترتيب السلة التي تكون دائماً غير مرتبة. يلزمني ما يكفي من الوقت، لأعرف العدد الذي ينبغي لي أن أشتريه من الملبّسات، سواء ذات مذاق النعناع، أو الينسون، أو البنفسج. ويلزمني ما يكفي من الوقت أيضاً، حتى أعرف عدد سبائك الشوكولاتة الذي تكسّر، أو ذاب في لفافاته، أو أعرف عدد الجُند المصنوع من حلوى المرزبانية، الذي فقد بريقه العسكري، ولم يعد سوى أنصاف سيقان لا قيمة لها، أو مجرد وجوه صغيرة متبسّمة، ببندقية تكسّرتْ هي الأخرى.
ويلزمني كذلك ما يكفي من الوقت، كي ألفّ قطع النقود المعدنية في لفّات متمايزة، بعضها من فئة عشرة سنتيمات، وبعضها الآخر إما من فئة العشرين، أو الخمسين. ينبغي أن أصنع بورق الصحُف لفّات متقنة، وأن أكتب على كلّ لفّة منها بالحبر الأسود، المبلغ الذي تحويه.
يلزمني الوقت الكافي لأقوم بكل ما ذكرت، الى جانب غسل ما ينبغي علي غسله، وتحضير قطعتي خبز مطلي بالزبد، والخروج على وجه السرعة كذلك، وأنا أحمل الخوان سهل الطي الى جانب السلة، قصد الالتحاق بالحافلة العمومية الصغيرة، التي تنطلق مع تمام السابعة.
أنا، ما سبق لي قط من قبل، أن أسأت الى أي كان، إلا أني معنيٌّ مع ذلك، بأن أكون حذراً غاية الحذر مع الناس، إذ ثمة دائماً مَن لا يعرفني من هؤلاء، ومَن ينظر الى شعَر رأسي المقصوص بطريقة مفرطة القص، ومَن ينظر الى عينيّ اللتين يُقال إنهما جاحظتان، بينما هما غير ذلك بحسب ما يبدو لي أنا؛ وهناك مَن ينظر الى الملابس التي تُمنح لي من الملجأ، فأرتديها نظيفةً ومكوية؛ والأخطر من كل ذلك، أن ثمة دائماً مَن يحاول أن يسرق مني شيئاً، حين لا تكون السلة محكمة الغلق، لكثرة الملبسات والحلويات التي تضمّها. يحدث هذا عامة يومي الاثنين والخميس، وهما اليومان اللذان أذهب فيهما الى المحلات التجارية، لأتزوّد بقطع الملبسات والحلوى التي تنقصني.
حين أصل الى محلي بالساحة، لا أجد هناك في ذلك الوقت الباكر من الصباح، سوى الحَمام. قد يقول قائل إن الحمام يعرفني حق المعرفة، الى حدّ أن محلي يبقى هو المكان الوحيد، الذي لا يغدو مع الصباح كما لو أنه تغطى بالثلج، لأن معالم الأمكنة الأخرى المتبقية تُطمَر تحت ذرق تلك الطيور. أعتقد بأن الحمام يشكرني بصنيعه ذاك، على لباب الخبز الذي أجمعه له في بيتي، وآتيه به كل يوم جمعة في أكياس من البلاستيك. أعتقد بأن الحمام يعرف ذلك، لهذا فهو يحترم موضعي، عكس ما يحدث تماماً مع موضع ملمّع الأحذية الأخرس القصير. إن هذا ليقذف الحمام دائماً بالحجارة، ويحاول الإمساك بصغاره. يقول إن الحمام، إذا ما طُبِخ على نار هادئة، مع الكثير من الثوم، يكون جيداً جداً للرئتين. وإني لأعتقد بأن الحمام لا يحب ذلك الأخرس القصير، لهذا دائما ما يصبح موضعه مكسواً بذرق أبيض كل صباح، وهو ما يجعله يغلي حنقاً.
حين أحلّ في الصباح بمحلي، فإن أول شيء أقوم به هو رسم إشارة الصليب أمام صورة سيد الخوارق، لكني لا ألتمس منه في كل الأحوال، هو الذي يبدو دائماً بسِمْت جاد للغاية، بينما الكثير من شموع العسل ذكية الرائحة وغالية الثمن، تذوب بالقرب من قدميه، أن يعينني أو يسندني على قضاء أي شيء. لا. أنا لا ألتمس منه شيئاً، وإنما أرسم إشارة الصليب أمامه وحسب، وأنا خائف كثيراً من منظر عينيه المرعبتين، اللتين تعكسان شعاع الشمع، حتى ليُقال إنهما ترسلان شرراً مستطيراً، في وجه كل من يقف أمامه. وأنا أخاف كذلك، من دثار القطيفة الحمراء الموضوع في الصورة على كتفيه، بنفس اللون الذي يُصنع منه دثار الأسقف خلال يوم الانبثاق، حين يخرج جميع القديسين في موكب النزهة، فيكون علي أن أحذر حذراً كثيراً، لأن عيون الناس في العادة، لا تنشدّ أثناء ذلك اليوم إلا نحو القديسين، وليس صوب أي شيء آخر أبداً، حتى إنهم قد قلبوا الخوان الذي أضع فيه البضاعة، لمرتين اثنتين في السنة الماضية، ورفسوا على الملبسات والشوكولاتة، وبقيت لا أجد شيئاً أقتات منه لعدة أيام.
الصورة التي أطلب منها أن تيسّر لي أمر نهاري، هي صورة عذراء الرحمة الصغيرة. العذراء الصغيرة هذه أصغر من سيد الخوارق بكثير، وفي كل يوم أراها بوجهها الظريف المصنوع من الجبس، وهو يشعّ بالكثير من الابتسام، وكأنما قد شبعت نوماً، وكأنما نظفها أحدهم في الصباح الباكر بماء زهرة الخيري، قبل أن يحلّ أي كان بالحديقة. من هذه بالضبط، أطلب ـ أي نعم! ـ أن يتيسّر أمر نهاري، وأن لا تمطر السماء، وأن لا يُسرَق مني شيء، وأن يأتيني الكثير من أبناء المدارس، ويشتروا مني كل محتويات السلة. ومن هذه ألتمس ـ أي نعم! ـ أن تقيني من عثرة الحساب، حين يدفع لي أحدهم بورقة نقدية من فئة كبيرة، وأضطر الى أن أردّ عليه ما تبقى من الحساب. حين يقع هذا، أصبح في غاية من العصبية، وحين أغدو عصبياً، يتصبّب العرق من وجهي، ويستبد بجسمي كله الأكلان والحِكّة، وأشعر برائحة كريهة تصعد من بطني، قد تتسبب في فرار الزبائن. وحين أتعصّب، لا يكون بمستطاعي تقريباً التفوّه بأي شيء، فأشعر حينها بأن عيني قد جحظتا حقاً.
لا تُوقد بمقام العذراء الصغيرة تقريباً، أي شمعة عسلية جميلة وملونة. تُوقد لمقامها شموع طويلة وحسب، من صنف ما يضيء بيوت هؤلاء الذين يعيشون على الضفة الأخرى من الوادي، ويسمونه الشمع الأبيض. هذا هو كل النذر الذي تحظى به هذه العذراء: مجرد شمع رخيص. ويحدث لي في بعض الأحيان، أن أحمل لها معي علبة كاملة منه، لأشكرها على تلك النهارات الجيدة التي تكون قد منحتها لي، وهي نهارات أكون قد بعتُ فيها كل الحلوى وسبائك الشوكولاتة، ولا يتكسّر لي خلالها أي جندي من حلوى المرزبانية؛ ويكون الكثير من الأطفال قد جاء الى ساحة الحديقة، وتكون السماء ما أمطرت، ويكون ما من شيء قد سُرق مني.
في السابعة والربع صباحاً، أجهّز الخوان سهل الطي. أرتّب فيه الملبسات بحسب مذاقها ولونها، والشوكولاتة بحسب ثمنها، تاركاً بالطبع أغلاها بالقرب مني، كما أصفّف فيه جنود الحلوى المرزبانية، وكأنما هي في استعراض عسكري، حيث أضيّق صفوف الجند الصغار، وأترك حَمَلة البيارق في المقدمة.
أحبّ كثيراً هذه المخلوقات الصغيرة. وكنتُ كلما صففتها، إلا وتذكّرتُ معها أزمنة أخرى، كانت تمسكني أثناءها امرأة من يدي، وهي تراقفني لرؤية الاستعراض، فتشتري لي مثلجاً بمذاق الفانيلا. كلما صففتها، إلا وتذكرتُ معها أزمنة أخرى، كنت خلالها ـ ما أن يمرّ ناقرو الطبول على صهوات الجياد، مرعدين الأرض من حولهم بالنقر ـ أدندن بلحن البومْ! بومْ! بومْ! لهذا، ما زلت في بعض الأحيان، أدندن بلازمة البومْ! بومْ! بومْ! وأنا أصفف تلك المخلوقات الصغيرة في الخوان؛ إنما أفعل ذلك بصوت خافت، مخافة أن يسمعني الناس، لأن كل مَن قد يسمعني على تلك الحال، سيجعلني أخجل كثيراً من نفسي، فأصير للتو عصبياً، وقد سبق لي أن ذكرتُ الحالة التي تنتابني، كلما صرتُ عصبياً.
حين تُعلن الأجراس حلول الساعة السابعة والنصف، بقرع مُنغّم يروق لي، لأنه يجعل الحمام يرقص، يكون كل شيء قد صار جاهزاً، وأكون أنا في انتظار الطلائع الأولى، من أبناء المدارس.
أنا، ما سبق لي قط من قبل، أن أسأت الى أي كان. كل ما أقوم به، هو أني أستيقظ في السادسة صباحاً، لأستطيع القيام بعملي على الوجه الأكمل. أعرف ذلك تماماً، وأنا واثق من أنه لم يسبق لي بالمرة، أن أسأت الى أي كان، وربما لهذا السبب بالضبط صرتُ أشدّ عصبية، يوم جاء أصحاب السيارة، بنظاراتهم السوداء الواقية من الشمس، وطلبوا مني وثيقة الترخيص بالبيع.
بيّنتُ لهم الوثيقة، فضحكوا. اعتقدتُ بأنهم مفتشو البلدية الجدد، وبأنهم سينظرون الى الترخيص، وسيتبينون بأن كل شيء على ما يرام، لكنهم ضحكوا، وأخذوا معهم الوثيقة.
أعرف بأن رجال السيارة سيأتون ثانية اليوم، مثلما جاؤوا في المرة السابقة.
أشعر بأني صرت منذ وقت عصبياً، حدّ أني لم أعد أستطيع تقريباً التفوّه بشيء. إني لأتصبّب عرقاً، ويأكلني جسدي كله، وأحس برائحة كريهة تصعد من بطني، هي رائحة زنخ الضفدع المتعفن، التي توشك أن تتسبب في فرار الزبائن.
إنهم سيأتون، وسيلتهمون سبيكة أو اثنتين من الشوكولاتة غالية الثمن، دون أن يدفعوا لي، وسينفجرون بالضحك حين سأسألهم من جديد عن رخصتي، وسأجدني مضطراً الى أن أوافيهم بأرقام كافة السيارات، التي توقفت هذا الأسبوع أمام المكتبة.
أعرف بأنهم لن يردوا لي الرخصة، رغم أني توسلت في شأن هذا كثيراً لعذراء الرحمة الصغيرة؛ ورغم أني قلت لهم ـ هم بالذات أيضاً ـ بأنه لم يسبق لي من قبل أبداً، أن أسأت لأي كان.
هامش
j لويس سيبولبيدا (4 أكتوبر 1949)، من الروائيين والقصاصين المعاصرين في الشيلي، صدرت له رواية: «الشيخ الذي كان يقرأ روايات الحب»، وترجمت الى خمس وثلاثين لغة، ومجموعة كبيرة من الروايات والمجاميع القصصية، التي من بينها: «موعد حبّ في بلاد تعيش الحرب»، وهي المجموعة التي ترجمنا منها هذا النص.