في مركز الشرطة دخلت عصا الرجل الستينيّ إلى مكتب ضابط التحقيق، دموع أبنائه تركها خلفه، وبكاء زوجته في البيت. سأله الضابط عن اسمه، ولم ارتكب هذه الجريمة؟
لم يحرّك الرجل لسانه طوال الساعة التي جلسها في الكرسي الخشبيّ، أعطى الضابط أذنا يحيط بها شعر كثيف، كلما سأله عن جريمته قال:
– يستاهل
قبل أن يصل صوت آذان الظهر إلى مركز الشرطة، أدخل الرجل إلى السجن، كان أمل الضابط أن يعترف الجاني عن سبب جريمته. سأله المحبوسون عن جريمته ، قال بجرأة وشجاعة لسان:
– قاتل
ارتعشت أبدان سجناء الممر الطويل الضيّق، تجرّأ فاه الرجل وأخافهم بفعلته، ما صدقوه، وما كذّبوا بياض لحيته.
– لماذا قتلته يا أبي ؟ هكذا خاطبه أحد السجناء .
في الأيام الثلاثة الماضية التي كانت في الممر الطويل الضيق ، كرر لسان الرجل كلمة « يستاهل»
في اليوم الرابع نقلته سيارة الأمن إلى مستشفى المدينة، سأله طبيب الدماغ والمخ عن فعلته، أطرق رأسه في ظفر رجله اليمنى، ثم قال:
– يستاهل
أكدت تحاليل المخ والدماغ أن الرجل ارتكب جريمته بكامل قواه العقلية ، الأعصاب والخلايا تؤدي عملها ؛ كما لو أنها كلّفت أن تعمل بجد وإخلاص وإتقان .
في المسجد فُقِدتْ لحيته الطويلة، الآذان فقدت صوته، الذوق فقد قهوته المسائية، كلما مرّت الأعين أمام بيته تذكّروه صامتين ، لم يذكر أحد فعلته أمام أحد إلا وقال :
– الله يساعده ويستر عليه
مرّت ستة أشهر، ولم تستطع التحقيقات الوصول إلى السبب الذي أودى به إلى التردد على مراكز الشرطة والمستشفيات.
لم يكن المبلغ كثيرا أمام أبنائه، أمرت الأم بتقسيم تكاليف تسفير جنازة الرجل المقتول بالتساوي على الأبناء، لم تستطع تقسيم التفكير في الجاني، حملت همه، ابيض شعرها. اسودّ وجهها. هزلت وضعفت. سقطت مرات عديدة قرب درج دورة المياه. ما وجدت أحدا ينتشلها من تلك السقطات المدوية.
بعد نصف سنة من غياب الجاني وجدت ميتة قرب باب المطبخ، وبالقرب منها كوب زجاج منكسر، شظاياه متناثرة حول أصابع يدها اليمنى.
الخبر الذي انتشر في آذان كل من اهتم بأمر الجاني من أهل الولاية أكّد أن الجاني لم يعلم أن زوجته ماتت ؛ دون أن تصل إلى سبب يبيح لزوجها القتل . انكسر كوب الزجاج الذي شرب منه، قبل أن يطلب من زوجة ابنه أن تخرج له السلاح المعلّق في مجلس البيت؛ بحجة أنه لم ينظفه منذ أن أطلق به ليلة عيد الأضحى.
بين العاشرة والحادية عشرة صباحا ، جاء عامل المزرعة إلى البيت، أسند ظهره على جدار إحدى غرف البيت، جلس ينتظر إفطاره، بعد خمس دقائق وجد أمامه بيضتين وكيس خبز، وفي صحن صغير عشر حبات تمر وكوب ماء.
في وسط البساط الأزرق، ترتسم دلة قهوة كبيرة بخيوط بيضاء، على الطرف الأيمن تمدد الرجل بدشداشته، جزء من مصرّه الأبيض ينزل في لحيته ساترا طرف عينه اليسرى، صوت شخيره يتسلل إلى الأذن اليمنى للعامل الذي يقشِّر البيضة الثانية، أكمل حبات التمر، دلق كوب الماء البارد في بطنه، لبس حذاءه، سار رافعا خطوات قدميه عن الأرض، انعطف يسارا، تسلل خائفا ، طرق باب إحدى غرف البيت. قبل أن ينفتح الباب ناداه الرجل النائم في البساط الأزرق، لبى النداء عائدا إليه، طلب منه أن يرفع وعاء التمر إلى سطح البيت ، نفّذ ما طلب منه، رفع الوعاء فوق كتفه ، بدأت قدماه تعد درج السطح ، أخرج الرجل سلاحه من تحت البساط، بحثت الرصاصة عن رأس العامل ، اختلط الدم بالتمر ، تدحرج الوعاء فارغا من درج البيت إلى البساط الأزرق. قال الرجل النائم بعد غمرة فرح:
يستاهل .
( من مجموعته الجديدة – شمس النهار من الماء ) ستصدر قريبا عن مؤسسة الانتشار العربي – بيروت
حمود حمد الشكيلي
قاص من عُمان