حين وصل راشد حمد إلى محطة دوار فرق كانت آخر حافلة ليلية تابعة لنقليات الخليج تصل لتوها قادمة من مسقط وتربض في صف المواقف الفارغة كما تفعل كل ليلة في مثل هذا الوقت تقريبا. نصف ساعة ستكون كافية كي ينزل السائق ويقعي على رصيف الموقف ويمج سيجارتين دفعة واحدة. الركاب بدورهم خرجوا متثاقلين وتوزعوا على المطاعم القريبة . اقترب راشد حمد من السائق وتأكد أن هذه الحافلة في طريقها إلى صلالة ، طلب منه السائق أن يقتطع تذكرة ركوب من مكتب الشركة المقابل لمواقف الحافلات. حين عاد كان أغلب الركاب في مقاعدهم وريح الشتاء القارس تعوي بتوتر في بناية مستشفى بدر السماء المواجه لمواقف الحافلات. لم يكن الركاب يملأون سوى نصف المقاعد وعليه فقد كان نصيبه مقعدين كبيرين كسرير كما فعل البقية. كانت تلك هي المرة الأولى التي يستقل فيها حافلة بهذا الحجم ولذلك عوشب غصن رهبة صغير في قلبه . أغلب الركاب كانوا معلمين حديثي التعيين تم توزيعهم في مناطق حدودية متباعدة حسب ما فهم من أحاديثهم . لم يكن في مزاج يسمح له في الحديث مع أحد ، لذلك جلس قرب النافذة يكنس موج الظلمة الممتد على جانب الشارع . منذ العصر وهو يشعر أن الدنيا صارت أضيق من حلم . تخلى عن أحلامه دفعة واحدة. وضع ملابسه القليلة في حقيبة ظهر وخرج من المنزل بعد أن ودع أمه وهاتف ابن عمه الذي كان يقضي فترة التدريب العسكري في «عيدم».
حين طار الفنجان من يده مرتطما بالجدار تكسر ذلك الجسر الهش والنحيل الذي بقي يربطه بأبيه. ما كانت المرة الأولى التي يتعرض فيها للتعنيف والضرب على يديه ولكن هذه المرة هي كانت موجودة في الجلسة . حين استيقظ من نومه قبل العصر أخبرته أخته أن ابنة عمته جاءت لزيارتهم مع زوجها . خرج وهاله منظر الزوج الضخم والذي لا يتناسب مع حجمها الرفيع ونتوءاتها التي لا تزال تتشكل. سلم عليهم ثم تناول تناول الدلة وأخذ يوزع بينهم فناجين القهوة .
كان ينظر إلى خيط الحناء ينمو في مشط قدميها صاعدا للأعلى قبل أن يختفي تحت خيوط الزري حين رفع الأب كفه وأنزله بكل قسوة على مرفقه صارخا « مسك الفنجان سيدة». في لحظة خاطفة شاهد وجهها ممتقعا و دمعة صغيرة تغادر عينيها. وضع دلة القهوة بهدوء ودخل غرفته. قرر أن يصبح رجلا ويبتعد عن أبيه ليلتحق بالجيش كما أغراه حديث ابن عمه في اجازته الأخيرة. أخبره أنهم يقومون الآن بتشكيل كتائب جديدة لحرس الحدود. هو كان قد ضاق من قسوة أبيه ولم يعد بعد عصر اليوم بحاجة إلى سبب أقوى كي يهرب من البيت.
كانت الشاشة المعلقة خلف رأس السائق تعرض فيلما هنديا يحكي قصة شاب فقير ينافسه بائع مواشٍ جشع على حبيبته الرقيقة وكان ركاب الحافلة ينصهرون تدريجيا في قصة الفلم . يضغط على معصمه الصغير الذي تلقى ضربة والده المفاجأة عصر اليوم و الذي لا يشبه أبدا اليد الضخمة لزوج ابنة عمه التي لم يحارب من أجلها كما يفعل الشاب الوسيم في الشاشة أمامه .كان الركاب يتماهون في قصة الفيلم وهو يحاول أن يستكشف شيئا في هذا الطريق الذي سوف يسلكه كثيرا بعد هذه الليلة. كان يشاهد القليل من المصابيح المتناثرة بين فترة وأخرى بدون نسق وعلى مسافات متقطعة شاهد شعلات آبار النفط تضيئ في البعيد .كانت روحه القلقة هائمة في ملكوت هذا السواد الممتد إلى ما لا نهاية ولا تتوقف أن تعود أحيانا إلى غرفته حيث ينام أخوه الصغير وحيدا لأول مرة وأمه تجهش أمام الباب و رأسها يتدلى بين كفيها .وكلما تحرك خيط الحنين الخفي في صدره يتلمس معصمه الأيمن ليوقظ ألم بدأ في الخفوت منذ فترة.
حين قرر أن ينام لمح إضاءة محط وقود من المساحة الضيقة التي تظهر من مقدمة الحافلة الزجاجية أمام السائق وبدأ يشعر أن سرعة الحافلة أخذت في التناقص. أخبره الذي يجلس أمامه أنهم وصلوا إلى قتبيت. سقط رنين الاسم جميلا في إذنه رغم غرابته. عندما توقفت الحافلة استيقظ عامل المحطة الوحيد ونهض من الكرسي البلاستيكي قرب المضخة . شاهد من النافذة ريحا خفيفة تؤرجح مصباحا يتدلى من عمود قرب مضخة الديزل المنفصلة عن مضخات البنزين. بعد أن تحركوا قرر ان ينام ولن يستيقظ إلا عندما شعر بالحافلة وكأنها على وشك التوقف وهي تفح بإعياء في عقبة الياسمين . انتصب في جلسته وتمسك بمسند المقعد أمامه وبدون أن يشعر أخذ يدفعه كمن يساعد الحافلة على الصعود .. حين أشرفت على المدينة من علِ هاله منظر الإضاءة المتلألأة على مد الإنبساط الشاسع .. لحظتها فقط شعر بأنه لا يمكنه العودة إلى الوراء هذه المرة.
***
يتذكر العريف راشد بن حمد تلك الليلة البعيدة جدا وهو في نقطة حدودية وسط الربع الخالي يراقب من أمام خيمته العسكرية نجما بعيدا ويفكر في والده المسن وهو يرقد في غرفة العناية الفائقة بمستشفى عبري.
———————
سعيد الحاتمي