إنه زمن الموت الفردي والجماعي بامتياز، أولئك الأفراد وتلك الأرواح الهائمة التي كنا نشكل معها آصرة أخوّة وعائلة، وأحلاما ومسارا مشتركا، تغادرنا تباعاً، تغادرنا كمداً ومرضا وحزنا على ما آلت اليه أحوال الأمة على الأخص وأحوال العالم من ضِعة ووحشية وانحطاط أقصى على كافة الأصعدة في حال العرب الراهن ..
ونحن نحدق في المشهد بذهول وانكسار منتظرين الدور في هذه الصالة الأزلية لانتظار الحقيقة الحتميّة التي لا فكاك ولا مهرب منها، مخلّصة ربما من أثقال المشهد الكئيب الذي نرزح تحت وطأة حوافره الجهنمية، مخلّصة ومنقذة.
صالة استقبال الضواري والخراف والضحايا الكل سيعبر هذا البرزخ المهيب باتجاه المجهول أو المعلوم.
إذ أفكر فيك ياصديقي بول، جالساً كالعادة في مقهى من مقاهي بيروت التي تقلصت حد الاضمحلال، محدّقاً في البشر والغيوم المحلقة فوق العمائر والثكنات ببيروت المنفصلة عن بحرها الأثير عن رحمِها الأزلي، تائهة هكذا ، مدينة مثل بقية المدن العربية، يتعثّر ساكنتها بالأشلاء والمزابل المكتظة بعويل القطط والكلاب المنتحبة من جوع وفَقد..
تحدق في بريّة البشر والحيوان، بين شفتيك سيجارتك العريقة التي لازمتك وأحاطتك برعايتها وحنانها، أكثر من الأهل والأصدقاء إن وُجدوا، وأكثر من الأفكار والمبادئ التي خضتَ غمارها يوم كانت هناك أحلام وأوهام ، أرصفة وموانئ تمتلئ بصفير السفن والمسافرين الى جهات الأرض بحثا عن المعرفة والحرية…
في فمك السيجارة والقلم يتشظى ويعوي ويضحك على حلبة الأوراق البيضاء:
ريح خفيفة تتسرب من جهة البحر ونحيب الراحلين يملأ الأفق العربي بالأشباح والأنين..
لا تمضي ثانية إلا وهناك شهيد مضرّج بالخيبة واللعنات، قتيل أو جريح في كل هنيهة.. الأصدقاء يتوافدون أفرادًا وجماعات، الى آخرتهم بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت للدجالين والمهرّبين والقتلة..
الأصدقاء يرحلون من كل أرجاء هذه المقبرة العربية الشاسعة، يرحلون ويضيق الأفق، يختنق النبعُ (يصيبني الدوار).. ورغبة الانتحار التي افتقدتُ إلحاحها منذ زمن، واللحاق بقطارهم الأكثر سرعة من برقٍ يشطر ليلَ العاصفةِ الموحشة.
س . الرحبي