تتداخل الرؤى الاستشراقية لعُمان في سماتها العامة وذلك لتنوعها وتعدد طرقها بيد أنه من الممكن حصر هذه الرؤى والكتابات في السمات الآتية:
1- التقارير السياسية 2- الرحالة والسير الذاتية 3- أعمال الترجمة
4- الأعمال الأكاديمية 5- الكتابات الصحفية 6- الأعمال الفنية
و إذا ما تطرقنا لكل سمة من هذه السمات فإنها ستأخذ حيِّزاً في فهم الرؤية الاستشراقية من خلال النظرة الأوروبية المركزية نحو الآخر ولذا كان لابد من تمييزٍ لهذه الأعمال والبحث عن تطوراتها التاريخية في ضمن تقاليد الكتابة عن عُمان.
فهذه الرؤى يمكن القول فيها أنها ليست حصراً على عُمان بل يمكن تعميمها على أغلب بلدان الشرق الأدنى، لكنْ ما يهمنا من هذا السياق، عُمان بإقليمها الجغرافي الحالي والتداخل الحاصلُ بين هذه السمات بحيث يصعبُ أحياناً فرزُ كُلُّ سمةٍ على حِدَة، وبالعكس فإنّ البحث عن هذا التداخل يُظهر الكثيَر من القواسم المشتركة التي تُعيُن في فهم هذه الرؤية.
مبدئيا عرفت الحقبة الوسيطة ما بين القرنين (13و15) الميلاديين (أي ما بعد الحروب الصليبية) ازدهاراً في تجارة البحر المتوسط والتبادل التجاري بين ضفتيه، وهذا ما دفع التجار الايطاليين إلى الشرق، فعند اطلاعنا على كتابات ماركو باولو عن قلهات وظفار خلال مروره بهما في رحلته الشهيرة إلى الصين، يُعَدُّ ذلك هو الكشف الأوروبي الأول عن عُمان في التسجيلات الأرشيفية خلال تلك الحقبة.
بيد أن أهمَّ السجلاّت المعروفة حالياً تتمثل في التقارير عن تجارة البندقية وجنوا، وبالأخص تجار جنوا، فقد كان التنافس بين المدينتين لجلب بضائع الشرق قد دفعهما إلى التغلغل في أنحاء المشرق وبالأخص في فارس، فأنشأ تجار جنوا وكالةً تجاريةً في شيراز وكانت هذه الوكالة تعمل بسرية، فهي تُدارُ من اتحاد تجارها بحذَرٍ وحرصٍ، لكي لا يُدركُ الطرفُ المنافسُ لهم بالبضائع المرغوب بتصديرها. ولعلَّ هذه التقارير تكشف عن ملامحَ أوليةٍ للتاريخِ العُماني والجزيرةِ العربية في تلك الفترة، وقد احتوت على كشوفاتٍ مهمة من الخرائطِ والتقاريرِ المبكرةِ وإن كانت قليلة ومما ذكرته تلك التقارير أنّ عُمان كانت تُسمى عند التجار بـ(دار الأمان).
أدت الاستكشافات الجغرافية البرتغالية إلى تغييرِ المساراتِ التجاريةِ البحريةِ من رأسِ الرجاء الصالح ومِن ثمَّ احتلالهم لعُمان بين (1507 و1650م). وقد حدث توسُّعٌ في تصور محتويات هذا الأرشيف من خلالِ بدايةِ التوثيقِ الكرونولوجي المنتظم والمنضبط من زمن الادارة الاستعمارية، وللأسفِ لا توجد أعمال أدبية أو تاريخية في الأرشيف البرتغالي يمكن أن تكشف لنا تصوراً ورؤيةٌ أَوسع مما عُثر عليه حتى الآن، ولكنّ العملَ الأرشيفيَّ يعرض صورةً واضحةً وشبه يومية للحياة السياسية والاجتماعية خلال تلك الفترة، ومن هذا المنطلق نحو التوثيق الأرشيفي البرتغالي الذي يعد الآن جزءاً من التراث القومي والتاريخي لا يمكن للباحث أو المؤرخ أن يستغْني أيضا عن الأرشيف البريطاني أو الهولندي أو الفرنسي في دراسة التاريخ العُماني الحديث والمعاصر.
وتكشف الوثائق البرتغالية عن العمل الرسمي في عُمان خلال تلك الحقبة،وبطبيعة الأمر فإنّ العمل الرسمي يوضح الكثير عن الحياة العامة التي كانت في المدن العُمانية وتطوراتها والعلاقات التجارية في المحيط الهندي. بيد أن التحول الفعلي جاء مع النشاط التجاري لشركة الهند الشرقية الهولندية التي تأسست عام (1602م) وشركة الهند الشرقية البريطانية عام (1599م) فصارت عملية التوثيق واقعةً بين العمل التجاري من جهة والعمل السياسي من جهة أخرى، وإن كان هذا التداخل في التوثيقيُ صعَّب التمييزُ بينهما أو تتداخل المصالح بين كليهما، بيد أن هذا التحول أحدث تغييراً في أسلوب التوثيق ورصد الأحداث والمنافع التي كانت تُبتغى.
نعم، يمكن أن يوصف الأرشيف البريطاني أنه الأهم في هذا الجانب التوثيقي عن عُمان فهو يمتد بين عُمان إلى شرق أفريقيا وإلى شبه القارة الهندية فمساحته المعرفية الممتدة لأربعة قرون تجعل منه الخطَّ الذي لا غنى عنه لكل باحث وقد نُشرت منه سلسلةٌ، ومن جانب آخر فقد كشف الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عن بعض الوثائق المتبادلة من خلال الأرشيف الفرنسي والذي يكشف عن الروابط العُمانية الفرنسية منذ نهاية القرن 18م، ولكن بسبب تذبذب اهتمامات الفرنسيين في اتجاهاتهم السياسية نحو المحيط الهندي يعْطي البحث في وثائقهم صورةً شاحبة وقصورا في هذه العلاقات ولا يمكن أن نعتبرها ذات طابع توثيقي مستمر.
أما الأرشيف الروسي، فقد حُفظ في أرشيف البحرية الروسية، وقد عملت الحكومة الروسية ملفاً لذلك إبان بحثها عن النفوذ في المياه الدافئة في المحيط الهندي واهتمامهم بمنطقة الخليج. بيد أن الاهتمام الروسي قلَّ مع الثورة البلشفية، فتدوينه المقتضب لا يمتدُّ لأكثر من نصف قرن خلال القرن التاسع عشر.
أما الوثائق الأمريكية وكتاباتها فتظهر في وثائق الارسالية الاصلاحية الأمريكية الموجودة بـ«ميتشجان». فالارسالية الأمريكية ما أن بدأت عملها في عُمان عام1896م حتى تكاثفت توثيقاتها وهي تقدم وثائق للحياة العامة والاجتماعية في عُمان إضافة إلى الصور والنشاطات والآراء التي كانت تشغل الارسالية، ويمكن أن يُطلق عليه سجل عام لعُمان أو بالأخص عن مسقط.
ويمكن أن يضاف إلى هذه الأراشيف تقرير لوريمر (1903) المعروف بـ«دليل الخليج» وهو الموسوعة التي لا غنى عنها لأي باحث معاصر عن التاريخ الحديث لمنطقة الخليج والذي أنجزه لمكتب المندوب السامي البريطاني في الهند.
ومع بداية القرن العشرين لم تكن الدول الاستعمارية الكبرى وحدها التي تحتفظ بأرشيفيات خاصة بل تحولت نحو الشركات النفطية العاملة في منطقة الخليج مع ظهور الاكتشافات النفطية وكانت هذه الشركات تجلب مختصين في الأبحاث التاريخية والجغرافية والسياسية جنباً إلى العاملين في القطاع النفطي وأشهر هذه الشركات كانت شركة الزيت الأمريكية (أرامكو) وشل، وشركة النفط البريطانية (بي بي) وتعد إصدارات شركة الزيت الأمريكية العاملة في المنطقة منذ خمسينيات القرن العشرين الأهم في رصد أحداث المنطقة.
شهدت حملة نابليون على مصر عام 1799- 1801م رؤيةً مختلفةً عن الشرق / فالحملات الأوروبية العسكرية الاستعمارية الأوروبية حملت معها الباحثين والأثريين والمؤرخين والفلولوجيين وهؤلاء كانوا متأثرين بأمرين أولاً: فترة التنوير الأوروبية، وثانياً: الازدهار العلمي المصاحب للثورة الصناعية، والتي تطورت فيها المعاهد الأكاديمية الأوروبية، وظهرت فيها الدراسات التاريخية والفلولوجية وظهرت استقلالية العلوم الأركيولوجية والذي أعطى ذلك بعداً مادياً لمفهوم التاريخ كان جديداً في طابعه ونتائجه من قبل وبهذا بدأت المرحلة الاستشراقية في التمايز بين المدارس الأوروبية الكبرى الألمانية والفرنسية والبريطانية والهولندية على السواء في اهتماماتها أو اتجاهاتها كما برزت ظاهرة الاستعمار بوصفه منحىً أوروبياً ثقافياً ضمن السياسات العالمية. وهذا الانتقال المرحلي هو ما عبَّر عنه(إدوارد سعيد) في الخطاب الكلي للاستشراق والعلاقة بين السلطة والمعرفة.
يمكن القول بأنّ الترجمة كانت أُولى وسائل التعرف على الثقافة العُمانية، فقد ترجم المستشرق الفرنسي الشهير دي ساسي (1827م) رسائل الامام سعيد بن أحمد بن سعيد لقنصل فرنسا ببغداد روسيو. بيد أن أولى الكتب المترجمة التي عرّفت بتاريخ عُمان كانت بفضل القِس بادجر في ترجمته لكتاب الفتح المبين في تاريخ السادة البوسعيديين عام (1871م)، وميز بادجر ترجمته بمقدمةٍ تاريخيةٍ مطولةٍ تُعدُّ بادرةً مبكرةً من بواكيرِ الكتابةِ التاريخيةِ برؤيتها الأوروبية في قراءتِها للتاريخ العُماني، وقد قام بادجر أيضا بجمع المخطوطات العُمانية، ولا تزال مجموعته الخاصة محفوظةً ومعروفةً باسمه في مكتبة جامعة كمبردج، ومن ثمَّ جاءت محاولة روس الشهيرة عام (1874م) في ترجمته للفصول التاريخية من كتاب «كشف الغمة» المنسوبُ لسرحان الازكوي أو السرحني، وبدون شك يمكن اعتبار هذه الترجمة نقلةً في فهم التاريخ العُماني، فعنوان روس للترجمة «حوليات عُمانية» كان مهماً للباحثين والمؤرخين في مواكبةِ المستجد في التاريخ العُماني مع تطوُّرِ مرحلة مدرسة الحوليات التاريخية.
وعليه بدأت سلسلة من الباحثين في تحقيق أقسام من كتاب« كشف الغمة» حسب مقتبس ترجمة روس، كما أن صدى الكتاب ظل متواصلاً في الاهتمام به حتى يومنا هذا بوصفة مرجعاً مبكراً في فهم التاريخ الاباضي والعُماني معاً.
من جانبٍ آخر أثار (جون ويلكنسون) في قراءته المستجدة للكتاب أمرين: الأول التشكيك في نسبة الكتاب لسرحان الازكوي والذي تبناه بعض الباحثين فتزايد الشك فيما بعد حول نسبته، والثاني: أنه قلَّل من أهمية مؤلِّفهِ بوصفهِ ناسخاً وليس بمصنِّف فهو لا يملك منهجاً في التأليف، بل تجاوز إلى القول بأنَّ هذا الكتاب يحتوي على مؤلفاتٍ عدةٍ مبكرةٍ أعاد الكاتب نسخُها وتنسيقُها في كتابٍ موحد كما أنه عدّ كتاب «الكشف والبيان» للقلهاتي في القرن (13م) هو المصدر الأول للكتاب، وبأن شهرة التجميع المنسوبة للسرحني طغت على المؤلفين والمصادر المقتبس عنها.
أما « تحفة الأعيان» لنور الدين السالمي وإن لم يُترجم فقد اهتُمَّ بهِ في المدرسةِ الفرنسية والايطالية بدءًا من سيموكرفسكي وليفتسكي في كتاباتهما حينذاك، إلا أن (لورا فاليري) التي كتبت مقالاً عن (الامامة في عُمان عام 1949)، استفادت أكثر من قراءتها الخاصة للكتاب ومقارنته مع المصادر الأخرى، وكذلك كتب (د. جوست) مقالاً هو بمثابة مراجعة للكتاب نُشر عام (1936م) بمجلة الجمعية الملكية الآسيوية، واهتم (مارتن هايندز) بكتاب الأنساب للعوتبي (1991) وترجم منه القسم الخاصَّ بعائلة المهلب، وهو جزءٌ من اهتماماته بالتاريخ الاسلامي المبكِّر. وفي شرق أفريقيا نشر (أس. سترونج) عام(1895) كتاب السلوة في أخبار كلوة لكاتبه علي الصوافي ثم ترجمها (فرمان جرينفيل) (1966).
ما من شك أن هذا التراكم العلمي للترجمة والتقارير السياسية والنتائج الأثرية أثّر في التحول النوعي في الكتابة عن التاريخ العُماني فقد أصدر (روس) بعد ترجمته المعروفة مقالات عن التاريخ العُماني وأهمها مقالتان الأولى عن (الاباضية في عُمان) والثانية (مختصر تاريخي عن عُمان من 1728 إلى1883م).
بيد أن الرؤية الاستشراقية عن التاريخ العُماني لم تكن ذات تميزٍ حتى أصدر (ج. مايلز) The countries and tribes of the Persian gulf والذي تُرجم تحت عنوان
«الخليج بلدانه وقبائله» باكورة الأعمال الأوروبية في صياغة التاريخ العُماني برؤية كرونولوجية في التسلسل التاريخي، فقد استفاد من ترجمتي روس وبادجر واستخدمهما كمصادر داخلية مقارناً بالمصادر العربية الكلاسيكية ونتائج أعمال البعثات الأثرية، ولذا يعد هذا الكتاب مصدراً لا تزال نتائجه وملاحظاته يستعان بها حتى وقتنا الحاضر، حيث ضمّن مايلز في صياغته لهذا الكتاب ملاحظاته كرحالة وتقاريره السياسية وقراءاته العامة. كذلك صدَّر في باريس عام(1914 م) المؤلف الفرنسي /الايراني فيروز قاجار عن التاريخ الدبلوماسي العُماني والصراع بين الفرنسيين والبريطانيين في مسقط.
وهكذا يمكننا أن نميز في نهاية القرن التاسع عشر بين مدرستين استشراقيتين اهتمتا بالدراسات العُمانية وهما المدرسة الألمانية والمدرسة البريطانية، فالمدرسة الألمانية بدأت في شرق أفريقيا مع المستشرق الشهير (إدوارد ساخاو) حين ترجم جزءاً من مختصر البسيوي (1894م)، ثم أتبعه بدراساتٍ متعددة منها قراءة لابن رزيق في تاريخه (1899م)، واقتباس من كشف الغمة يتعلق بمراسلات عبدالله بن إباض لعبد الملك بن مروان، ثم نشر كارل رينهارد (1894م) نصوصاً مترجمةً عن التاريخ العُماني في زنجبار، وكذلك من بعده روتشيه شميت (1892) عن تاريخ العرب في شرق أفريقيهَ، وكذلك فازمر(1927) عن القطع النقدية في عُمان ثم حققت الكاتبة الألمانية اليهودية الأصل (هيدريج كلاين) (1939) قسماً من كشف الغمة وهو القسم الذي ترجمه روس، وكذلك تطرق الألمان للدراسات الجغرافية فكتب والتر وسلر وصفاً عاماً لجغرافية وادي المعاول ونخل عام (1898م). بيد أن الألمان توقفوا عن الكتابة في الدراسات العُمانية أو حدث انقطاع وذلك مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية فقد قللَّ النازيون من الدعم للدراسات الاستشراقية قبل الحرب بوصفها دراسات سامية من جهة، ومن جهة أخرى هجرة الكثرة من العلماء الألمان المستشرقين بعد الحرب نحو الولايات المتحدة. ولم يستعد الألمان الاهتمام بالدراسات العُمانية إلا مع (جوزيف شاخت) في منتصف الستينيات وكان قد رحل منذ الثلاثينيات إلى الولايات المتحدة حين بدأت موجة البحث عن المصادر الاسلامية المبكرة.
أما الاستشراق البريطاني فإن النقلة العلمية أحدثها (برترام توماس) وهو الجدير بوصفه المؤسس لهذا المنهج العلمي فقد أدخل ثلاثة اتجاهات:
الأول: الدراسات الأنثروبولوجية، والثاني الدراسات الفلولوجية عن العامية العُمانية والثالث تسجيلاته العلمية الأركيولوجية. والتوقف عند هذه الشخصية جديرٌ بالدراسة وقراءة ما كتب ورؤاه الخاصة به.
وهكذا تواصل النشر التاريخي عن عُمان فقد كتب سعيد ايميلي روت (ابن السيدة سالمة بنت سعيد (1929) نصين في لندن الأول عن العائلة البوسعيدية والآخر عن السلطان سعيد بن سلطان. وهذا تميز بالنشر في تاريخ عائلة حاكمة عُمانية بصورة مستقلة أو لشخصية عُمانية مستقلة.
وتطور هذا التميز في المدرسة البريطانية أولاً بمحاولة لوكهارت Lockhart في دراسته عن حملة نادر شاه لعُمان (1737-1744) والتي نشرها في دورية مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية عام (1935)، وتعدُّ هذه الدراسة انتقالاً في أسلوب الدراسة الاستشراقية آنذاك نحو التحول إلى المنهج الأكاديمي وإلى النشر العلمي، ثم تبعها لوكهارت بدراسته عام(1946)عن التهديد العُماني ونتائجه في أواخر القرن السابع عشر، وجاء من بعده سي. اف. بيكنجهام عام (1941) حين نشر عن فترة حكم الامام أحمد بن سعيد.
النشر العلمي حينها يحدث في دوريتين: (المجلة الملكية للدراسات الآسيوية) و(المجلة الجغرافية)، وهما تكادان تستحوذان على أغلب النشرات وذلك إما للرابط مع الهند أو بريطانيا، لكن لوكهارت أحدث اتجاهاً آخر في نشره.
هذا التحول نحو البحث الأكاديمي أدَّى إلى بروز خط آخر رابط مع المنهج السياسي، وهي مواكبة حدثت بوضوح مع نهاية الحرب العالمية الأولى حيث دُعي الكثيرون من الباحثين والدارسين للعمل في المجال السياسي أو إلى إدارات المستعمرات أو المؤسسات العسكرية.
فالمتطلبات في الادارة السياسية الأوروبية كانت بغيتها من الباحثين العمل الأكاديمي في إطار التحولات السياسية الطارئة. وأهم ما يلحظ في هذا السياق والأبرز هو جون كيلي الباحث والمؤرخ البريطاني المعروف في جامعة أكسفورد حين بدأ كتابته عن قضية البريمي الحدودية (1956)، ومن ثمَّ حول قضية السلطنة والامامة في عُمان 1959 ومن بعد عن الحدود الشرقية لشبه الجزيرة العربية (1965)، ثم كتابه الأهم عن الوجود البريطاني المبكر خلال القرنين الثامن والتاسع عشر وصراعه في الخليج (1978).
وهكذا مع نهاية الستينيات استطاعت الدراسات العُمانية جذب الباحثين الغربيين الشباب ليس في أبحاثهم فحسب بل تعدت نحو أطروحاتهم لنيل شهادة الدكتوراه، وهذه النقلة بدأت في واقع الأمر مع الباحثين الأمريكيين بدأها روبرت لاندن (1965)، بجامعة برنستون ونُشرت الدراسة (1968) والتي عرفت في ترجمتها العربية «عُمان مسيراً ومصيراً منذ (1856م)»، وقد سبقه من قبل دراسة أنجزها إيلي سالم (1952م) «نظرية الخوارج السياسية» بجامعة جون هوبكنز.
ولذا أمكن مع منتصف الستينات من القرن العشرين إطلاق، وصف الاستشراق الأنجلو- أمريكي وهذا مرده إلى تأثير (هاميلتون جب) في الدراسات الاستشراقية في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وتوجيهه لأفكار الباحثين للتركيز نحو البحث عن الظواهر المستجدة في العالم الاسلامي، حينها برز على الجانب الآخر الباحثون الأمريكيون الجدد. ففي الجانب البريطاني برزت شخصية (جون ويلكنسون) كمؤرخ وجغرافي واشتهر في دراساته بسمتين: الأولى قراءته في تعيين المصادر الكلاسيكية للتاريخ العُماني، والثانية محاولته لفهم التطور التاريخي للتركيبة الاجتماعية – السياسية العُمانية ولذا عدّت كتاباته منطلقاً جديداً ذا رؤية تنظيرية مختلفة ومتميزة لفهم التاريخ العُماني بدءاً من كتابه: «مصادر المياه واستقرار العرب في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية 1976»، ومن ثم «الامامة وتقاليدها في عُمان1987»، و«التدخل البريطاني ورسم الحدود في الجزيرة العربية 1991»، و(نشأة الاباضية) 2010، فأبحاثه تميزت في تغطية الفترة الاسلامية المبكرة والوسيطة حتى عصرنا هذا بتتبع المصادر التاريخية والفقهية العُمانية وربطها بالمصادر الخارجية، وهكذا واصل باحثون من بعده كـ «باترورث» في دراسته عن اليعاربة، وجى. ركس سميث في المصادر العُمانية.
وفي المجال الفيلولوجي طوَّرت المدرسة الانجليزية مجالاً واسعاً في دراسة اللغات العامية وكذلك اللغات الموجودة في عُمان وأهمهم جونستون والذي دوَّن ملاحظاته وللأسف لم يتوصل لنشر أبحاثه وبقيت أوراقه محفوظة بجامعة درم. وفي هذا المجال نذكر بدراسته الرائعة عن الأدب الفلكلوري بين عُمان وسقطرى (1974)، وتابع من بعده من الباحثين في الدراسات الفلولوجية بيتر إيميلي وكلايف هولز، وديفيد إنسال، وأم. موريس.
وهنالك سمةٌ أخرى لم أتطرق إليها وهي كتابات الرحالة فقد عنى بها الصديق الدكتور هلال الحجري في تعيين رؤى الرحالة عن عُمان وبالأخص الأنجليز والألمان، وكذلك أصدر مارشال براين (1994) دراسة عن قائمة الرحالة الأوروبيين إلى عُمان (1792-1950) فتحليل دراستيهما تغني الباحث في هذا المجال. وكذلك لم أتطرق للحديث عن رؤى التصوير الفني في عُمان والذي يضمن ضمن التصوير الغربي للشرق وبالأخص المدرسة الانطباعية في القرن 19.
أما الاتجاه الأمريكي فقد ركَّز على أمرين: الأول الدراسات الانثربولوجية والاجتماعية والتي نهض بها ديل إيكلمان وبالرغم من قلّة الباحثين في مجال الدراسات العُمانية إلا أنها أخذت حيزاً علمياً لا يزال يتوسع كما أنَّ من ضمن اهتماماتها دراسة التطورات في المجتمعات الاسلامية والاتجاهات الأصولية المعاصرة وقراءة العلائق العُمانية في سياق هذه التطورات.
أما الاتجاه الثاني فيرتكز على دراسة التاريخ العُماني المعاصر وربطه بالسياسة الدولية والذي برز فيه جون بيترسون بدءًا من 1973م ثم كيشتنان في بداية التسعينيات وعوزي رابي من إسرائيل ولين رجزبي وكلايف ألن من أمريكا وهي مدرسة توازن في الاهتمامات وإن اختلفت في المواقع، فلذلك قلما تجد باحثين ذوي مستوى عالٍ من الاهتمام بالتاريخ العُماني الوسيط أو المبكر بينهم إلا أن كتاباتهم تهم الباحثين والسياسيين والصحفيين كل حسب اهتمامه لعُمان.
يمكن العودة من جديد في هذا السياق إلى إيضاح إسهامات المدارس الاستشراقية في فرنسا وإيطاليا وهي تظهر اهتمامات متنوعة ولكنها كلها تنصب في التاريخ الكلاسيكي مما مكّن من إيجاد بعض الدراسات ذات الصلة في الدراسات التاريخية العُمانية الكلاسيكية، وإن كان من الصعب في هذا المجال الفصل بين العلوم الاسلامية وبالأخص علوم الكلام والفقه عند الاباضية والأُخرى التاريخية ضمن المصادر العُمانية نظراً للترابط الفكري/ التاريخي بينهما.
ولقد اهتم الاستشراق الفرنسي والايطالي بالدراسات الاباضية في الجزائر وتونس وليبيا نظراً للارتباط الاستعماري، وعلى نفس الشاكلة تميز الفرنسيون في الدراسات الشمال أفريقية في تونس والجزائر بينما انصبّ اهتمام الايطاليين على ليبيا.وما أودُّ ذكره هنا هو أن الاهتمام بالدراسات الاباضية أحدث مزجاً بين أطياف المدارس الاستشراقية، وصار كل فرع يبدي اهتمامه بإنتاج الآخر لتغطية النقص المعلوماتي لديه، وتبدو الدراسات متنوعة ولكنها تنصبُّ في التاريخ الفكري الكلاسيكي للحضارة الاسلامية.
فالمدرسة الفرنسية كان جلّ اهتمامها بالنصوص التاريخية نظراً لتطور مدرسة الحوليات ومن مشاهير الذين كتبوا عن الاباضية سمو جروفسكي، وليفتسكي، وزيز وبيير كوبرلي بينما كان اتجاه المدرسة الايطالية إلى نقد النص والرؤى الفلسفية والعقدية، فهي متأثرةٌ بشكل ما بالمدرسة الألمانية أو المدرسة الفلولوجية وبذلك عُرف نلينو وروبانتشي ولورا فيتشاً فاليري حينها.
فقد عُرفت الأوساط العلمية المستشرق البولندي-الفرنسي تيودورليفنتسكي في كتاباته الاباضية عن شمال أفريقية ولكن اختص أيضا بالدراسات العُمانية حيث تناولها في دراساته المبكرة عن الصلات التجارية العربية المبكرة بالصين وركز فيها على التجار العُمانيين (1935)، وله أيضاً بعض الكتابات المتفرقة عن الاباضية في الجوانب التاريخية، وهذا ما جعله يتطرق إلى التاريخ العُماني ومصادره، وكذلك إلى جانب ليفنتسكي عُرف غابرييل فيراند (1924) بدراساته عن أحمد بن ماجد وسليمان المهري والبحارة العرب في القرنين الخامس والسادس عشر، كما أنه ترجم قسماً من تاريخ كلوة (1928).
وقد أنجز الفرنسي بييركوبرلي (1979) إحدى أهم الدراسات المعاصرة في التطور العقدي عند الاباضية في بحثه لنصوصٍ عقدية مختلفة من عُمان ومن شمال أفريقية وأسماه «مدخل للعقيدة عند الاباضية». وهكذا أصبحت إسهامات نلينو وروبيناتشي ولورا فيتشي فاليري في تاريخ علوم الكلام الاسلامية بارزةً داخل المنظومة الاستشراقية، وقد مزجت بذلك الجوانب المعرفية، بإسهامات الاستشراق الايطالي.
وفي الاستشراق الايطالي المعاصر للدراسات العُمانية يمكن التمييز بين اتجاهين:
الأول: الاتجاه التاريخي العُماني الكلاسيكي وتميز بكتابات ثلاث من الباحثات الايطاليات:
الأولى: إيرسيليا فرنسيسكا وهي تلميذة روبانتشي وإحدى أهم الباحثات في التاريخ الاقتصادي الاسلامي وبسبب اهتماماتها باسهام الفقه الاباضي دفعها إلى البحث عن آرائهم الفقهية المتميزة وبالأخص في الجانب الاقتصادي، وإعادة قراءة النصوص العُمانية الفقهية المبكرة.
وأما الثانية فهي فاليري بياتيشيني وتعد من أهم الباحثين في تاريخ الخليج خلال الحقبة الاسلامية الوسيطة بين القرن العاشر الميلادي وإلى ما قبل وصول البرتغاليين وهي فترة صعبة وذلك نظراً لقلة الوثائق المتوفرة مما جعل لأبحاثها مكانةً متميزةً في البحث التاريخي.
والثالثة هي باتريشيا نيكوليني وقد تميزت في دراساتها عن التاريخ العُماني في المحيط الهندي بالربط بين عُمان وشرق إفريقيا وشبه القارة الهندية، فأسهمت في قراءة مُحكمة للتاريخ العُماني خارج نطاق الاقليم وفي ما وراء البحار.
أما الاتجاه الآخر فهو الدراسة الأركيولوجية والمعمارية للحقبة الاسلامية وذلك إثر وصول أكثر البعثات الأثرية بعد السبعين من القرن الماضي وكانت تركز على الحقب التاريخية السحيقة حينها أوجد باولوكوستا الدراسات الأثرية الأوروبية للفترة الاسلامية ولا يزال كتابه عن المساجد والأضرحة من أهم المدونات عن التاريخ والاسهام الفني الاسلامي في عُمان، وكذلك من اهتماماته في الدراسات الاقليمية للمسح الأثري للواحات، والمستوطنات العُمانية، إضافة لانجازه الأهم وهو تحريره لدورية « مجلة الدراسات العُمانية» والتي عدّت حينها الأكثر تميزاً في مجالها المعرفي في المنطقة، واستطاع باولو كوستا تأسيس جيلٍ متميزٍ أمثال بلد سيرا وتوزي واينريكو دي اريكو وبقيت المدرسة الايطالية متواصلة حتى تسعينيات القرن الماضي في الدراسات الأثرية الاسلامية إلى أن قدم من بعدهم الألمان مع هاينز غاوبيه بمنهجيةٍ مستجدّةٍ في دراسة الواحات العُمانية وتطورها.
أما في الاستشراق الهولندي فلم نجد من اهتم بالدراسات العُمانية إلا قلّة من الباحثين منهم فان دونزل الذي اهتم بكتابات السيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان (1991) والبحث عن حياتها الشخصية. أما المؤرخون الهولنديون فتعتبر كتابتهم معاصرة أغلبها بدأت مع الثمانينيات من القرن الماضي، فهناك وليم فلور الذي دون دراسة عن النصوص المبكرة للاتصال بين عُمان وهولندا، ومن ثم تبعه ج.سلوت الذي كتب دراسة عن عرب الخليج من خلال الأرشيف الهولندي.
وهكذا توسعت رؤى الاستشراق عن عُمان إلى شرق أوروبا فكتبت البولندية باربرا بلوسكي أول مؤلف متكاملٍ عن الشعر الحديث في القرن العشرين.
أما الاستشراق الروسي فلم ينفك من حيث المبدأ من الاستشراق الألماني في مناهجه منذ تأسيس الأكاديمية الروسية عام 1728م بالعلماء الألمان في تطوير مناهجها وعلومها، وهكذا بدأت الدراسات العُمانية في الاهتمام العلمي الروسي من الاتجاه الفلولوجي- التاريخاني فكتب فلادمير روسي (1887م) دراسة عن خطبة أبو حمزة الشاري، ثم كتب كراتسرفسكي دراساته المتعددة عن الملاح أحمد بن ماجد وعن التاريخ الجغرافي العربي، ثم بدأت في التوسع إلى أوكرانيا في أواخر القرن العشرين حيث كتب بروزوف دراسات متعددة عن السير العقدية عند الاباضية. بيد أن واقع الأمر كان المستشرق البولندي غوروفسكي احتفظ ببعض المخطوطات الاباضية– العُمانية والتي جلبها من شمال أفريقيا بجامعة لوقوف بأوكرانيا، وحينما ضمت هذه المدينة خلال الحرب العالمية الأولى بتدخل القوات الروسية في أوكرانيا أزيحت الحدود البولندية اتجاه الشرق ولكن ظلت هذه المخطوطات محتفظاً بها حتى الآن.
في الخمسينيات من القرن الماضي أصدر جوزيف شاخت كتابيه الشهيرين عن الفقه الاسلامي، وفيهما انصبّ نقده على تاريخية المصادر الاسلامية المبكّـرة، وفي الوقت ذاته كانت تطلعات الباحثين اليساريين / الاشتراكيين مصادمة لفكرة الاستشراق ومنشغلة بنقده والذي تُوِّج بأُطروحة إدوارد سعيد (1978). وكان الاستشراق «الجديد» حينها يشق منحنىً آخر في منهجه وهو دراسة الاسلام المبكر وتكوّن الاسلام السياسي وكلا الاتجاهين لا يزالان يؤثران على الدراسات الاسلامية وتتجاذبهما الدراسات اللاهوتية والدينية من جهة لفهم تكّون الاسلام أو الأقسام السياسية والعلوم الاجتماعية ومن جهة أخرى لفهم الاسلام السياسي ونشوئه في الوسط الأوروبي.
بيد أنه ولله الحمد تمكنت وزارة التراث والثقافة من طباعة الكثير من التراث العُماني، مما مكّن الباحثين من الاطلاع على هذا الموروث الفكري، ولذا اعتبرت المصادر الاباضية من أهم المصادر الاسلامية المبكرة في فترة التكوين الاسلامي وإسهاماتهم الفكرية، لقد اهتمّ عمالقة التاريخ العقدي الاسلامي المبكر المعاصرين بهذه النصوص كجوزيف فان أس، وويلفرد مادلونج، ومايكل كوك، وباتريشيا كرون، ومارتن هايندز، فنشروا نصوصاً محققة ودراسات علمية، وتحليلات مغايرة عما سبق، فانتعشت الدراسات الاستشراقية ذات المنحى التاريخاني والفيلولوجي الكلاسيكي بهذه الروح الجديدة من الدراسات العلمية العُمانية، وكذلك أعطت رؤية مستجدة للاسهام العُماني، فالتدوين التاريخي والجدل الكلامي المتداول حينها في عُمان خلال القرنين 9 و10 الميلاديين يكادان يكونان الأرقى في منطقة شبه الجزيرة العربية.
إن هذا التنوع في الرؤى على مدار قرون ساعد على فهم وإنضاج الدراسات العُمانية التاريخية والعقدية والفلولوجية والاجتماعية والسياسية، وهذا ما يعنينا نحن في هذه الفترة لدعم هذه الدراسات لتتناول رؤىً وأفكاراً مغايرةً عما هو سائدٌ، وتعين على الحوار الفعّال بين الذات والآخر.
عبدالرحمن السالمي
باحث في الدراسات العُمانية/ ورئيس تحرير مجلة «التفاهم»