مازلت أحمل كارت التوصية وأقف أمامه بارتباك وعيناي تركضان في هذا المكتب الأنيق ببلادة وثمة قلق ممزوج بضيق يتمدد في صدري.
مضت نصف ساعة على وقفتي هذه دون أن تنبس شفتاي بكلمة، خلال هذا الوقت الذي استطال تمنيت لو أنني أستطيع الركض خارج هذا المكتب فلم أعد راغبا في العمل، تطلعت لهذا الكارت الذي أحمله، هذه الورقة الصغيرة التي لا تحمل سوى جملة غامضة ومبتسرة وتشي أن ثمة دناسة تلتصق بها:
عزيزي أبو حسام:
حامل الكارت انسان عزيز، أرجو تدبير أمره
مع تحياتي
أبو وائل
هذا الكارت لم أحصل عليه الا بعد ركض استمر شهورا عدة بدأت بوعد من جارتنا في أن تبحث لي عن عمل من خلال معارفها بعد أن اشتكت لها أمي من سوء حظي وخشيتها أن أهيم في الشوارع، ثم تسلسلت التوصيات وفي كل مرة كنت أحمل كارتا من شخص الى آخر حتى حصلت على هذا الكارت.
عندها تسلمت هذا الكارت شعرت بضآلته، وكدت أقذف به وأعود للتسكع على أرصفة المدينة لكن جملة صارمة انبرت من أحد الأصدقاء جعلتني أتمسك به بشدة.
أعلم أنك تمسك بوظيفة أكيدة من خلال هذا الكارت، فإياك ثم إياك والتفريط بهذه الفرصة الذهبية.
اكتشفت أهمية هذا الكارت حين كنت أعبر دهاليز دائرة الشرطة، فما أن يستوقفني أحد حتى أبرز له هذا الكارت فيسمح لي بالدخول لأماكن لم أكن لأجرؤ من الاقتراب منها، أو التفكير بالوصول اليها وعندما وقفت أمام بابه رأيت مجموعة كبيرة من المراجعين تستعطف ذلك الرقيب العجوز في أن يسمح لهم بالدخول لكنه كان يقف بكل صرامة أمام أي طلب رافضا حتى الشروع في الحديث، كان يطبق على تعب سنين طويلة ويجاهد نفسه للوقوف لأداء التحية العسكرية اذا مرت بنا احدى الرتب العالية.
عندما وقفت أمامه نحاني بيده جانبا – بالرغم من ابراز كارت التوصية – فامتثلت لأمره وأخذت أنتظر أن يسألني مرة أخرى عن أمري لكنه لم يلتفت الي فتجرأت ووقفت بوجهه مباشرة ومددت الكارت الذي أحمله في وجهه – هذه المرة – وقلت بصوت واثق:
– أحمل له هذا الكار- فأنا على موعد مع سيادته وأخشى أن يمر الوقت المحدد لم يكترث بي وأبعدني عن وجهه بيده.
– استرح
شعرت أنني أتضاءل وأن كلمتي التي أطلقتها كانت محل تندر البعض، فرفعت صوتي بحزم وأنا أحاول اكساب نفسي أهمية:
-أقول لك أنا على موعد مع سيادته الا تفهم ؟
نظر في وجهي بإرهاق، وكمن يزيح تعبا اضافيا تمتم:
– الكل هنا يقول إنه على موعد..
وكمن يواسيني تمتم:
– انتظر قليلا فقد منع دخول أي شخص.
كدت أتراجع لولا أن امتد بداخلي الخجل من تلك العيون المبحلقة بهيأتي فتابعت على الفور:
– سوف أحملك مسؤولية هذا التأخير.
وعندما رأى تصميمي تناول الكارت ودلف الى داخل المكتب، وعاد مفسحا المجال أمامي للدخول ومانعا بيده الأخرى مجموعة حاولت التملص ومرافقتي.. لفحني هواء المكيف البارد وشعرت بأنني أقف معلقا فقد كان المكتب واسعا وثمة شخص يجلس خلف مكتب أنيق فتوجهت عموديا باتجاهه ومددت يدي بالكارت الذي أحمله فصدرت منه حركة لم أع أهي دعوة للجلوس أو الانتظار فوقفت متخشبا، وكلما حاولت أن أتحدث أتراجع أمام انهماكه ولا مبالاته،.. كان يجلس خلف مكتبه – بجسمه الفارع وملامح وجهه العتيقة القاسية – منكبا على الكتابة وثمة تأفف يطفح من خلال تجاعيده المشعرة عن عبوسها اختلست النظر لرتبته المعلقة على كتفه، وكلما حاولت أن أتذكر الرتب العسكرية أعجز ولا أقدر أن أحدد في أي سلم من سلالم العسكرية يقع التاج والمقص.. كانت أعلى رتبة عرفتها حينما تناقل أهل الحي أن اسماعيل ولد السقا أصبح ضابطا وكف الناس عن معايرته بلقب (الزفة) وأصبح محل حفاوة الجميع وكنت أمني نفسي بأن يحتفل بي أبناء الحارة أسوة باسماعيل الذي كان يشاركني اللعب والبلادة.
عندما صرحت لاحد الاصدقاء بهذه الامنية ضحك في وجهي كثيرا وأردف:
– اذا عملت بالعسكرية فستكون جنديا ممسوحا لا تحمل على كتفك الا الأوامر لكنني تماديت في عنادي وتغطية عجزي:
– سترى عندما أعود وأنا أحمل نجمتين كما حملهما اسماعيل وربما أجد أكثر منهما.
ضحك حتى امتلأت عيناه بالدموع:
– يا عم… نجمتين.
أحسست بحرقة على نفسي من تلك السخرية فتطاولت بعنادي:
– سترى.
تابع سخريته:
– صحيح. اصلك تسهر طول الليل والخوف أن تعود لنا بكل النجوم.
وتركني وهو يلعن العناد الأجوف والمكابرة التي قذفت بأمثالي في طريقه..
يبدو أن سحر هذا الكارت توقف فبعد أن يسر لي مقابلة صاحبه كف عن العمل، ها أنا أقف كأحد أعمدة هذا المكتب لا أجرؤ على الجلوس أو الكلام.. هذا الصمت جعلني أحرك عيوني بحثا عن أي شيء أتسلى به وأقتل هذه الدقائق التي تطحنني.. بالمكتب نافذتان احداهما غربية والأخرى شمالية تغطيهما ستائر من الستان امتزجت ألوانها على أرضية سوداء وتداخلت لتعطي أشكالا خلابة وفرشت أرضية المكتب بـ "موكيت" سكري ذي وبر غزير وسميك بينما استقر المكتب في صدارة الغرفة ممتدا بمسافة ثلاثة أمتار لونه التمري اللامع يشي بثمنه الباهظ وقد استقرت عليه ملفات ومقلمة ودباسة وصورة لطفلين تتقافز من عينيهما شقاوة محببة.
في انشغالي خشيت أن يحدق بي فجأة أو يتحدث معي، فتركت كل شيء وترقبت أي لفتة منه، كان لا يزال منهمكا في الكتابة وقد طرأت عليه (نرفزة) مفاجئة فيهش بيده صعودا وهبوطا. كانت ثمة ذبابة زرقاء كبيرة قد استقرت على المكتب وحكت برجليها مؤخرتها وغرزت بوزها للأسفل وعاودت التحليق واستقرت على خشمه، وجنتيه، شاربه، شفتيه المتخاصمتين.. كانت تحط على أي جزء من وجهه وتطير من أدنى حركة تصدر من يده وتستقر على المكتب ثم تعاود التحليق والهبوط على برحة وجهه الواسع بخفة وسرعة خاطفة.. المكان الوحيد الذي كانت تستقر فيه للحظات -كان – بين شفتيه المنفرجتين اللزجتين فتهبط وتمد بوزها وتغرسه في الشفة السفلى وتعاود التحليق مرة أخرى ازدادت حركة يديه وفار وجهه بالضيق تلاقت عينانا فرمقني بازدراء كنت متحفزا فمددت له بالكارت الذي أحمله لم يمد يده واكتفى باختلاس نظرة سريعة ومباغتة للكارت الذي أحمله وعاد للكتابة وعدت أحدق في ذلك المكتب الواسع واتمني لو أني أستطيع أن أتحرك لأهرب من هذا الموقف،. كنت أفكر جديا في ترك مكتبه وكلما هممت بذلك تداعت الى مخيلتي صورة أمي التي ستصفني بأقذع النعوت لو أخبرتها بفعلتي وستذكرني بكل ما صنعه أبي معها وقد تتمادى في ذلك وتنعتني بـ "ذيل الكلب".. قد ضقت بها ومن تذمرها وتذكيري الدائم بما جناه أبي على حياتها وما خلفه لها كانت تقول دائما:
– لم يرض أن يذهب للآخرة دون أن يترك له صورة تذكرني بعذابي معه.
وتفور ذكرياتها في لحظات فتلعن اليوم الذي جمعها برجل لا يعرف سوى الارتماء على السرير والشخير في كل الأوقات، وقد تقذفني بأي شيء بيدها وتصيح بغيظ:
– يلعن أبو بطني اللي حمل بذرتك.
مازلت أقف أمامه متخشبا وأتمنى لو أستطيع الهرب بعد أن أقنعت نفسي بتدبير أي كلام أطلقه على مسامع أمي ولتقل ما تقول فقط أن أهرب من هذا الذل.
أجدني أقف أمامه كالأبله ولا أحدث شيئا سوى التحديق به… يبدو أنه لا يستطيع تكملة الكتابة فكلما استقرت ريشة القلم على الورقة رفع يده هاشا تلك الذبابة الزرقاء التي أصرت على مضايقته ومواصلة عبثها على وجهه، قذف بالقلم جانبا واستدار بجذعه الأعلى خلف كرسيه ضاغطا على مفتاح جرس استجاب له حارس المكتب بسرعة عجيبة. ليظهر ذلك الرقيب العجوز بقامته المنحنية والتي جاهد كثيرا على أن تستوي وخطا خطوات سريعة لا تتناسب مع عمره الكبير وألقى بالتحية بانضباط وقبل أن يسدل يده من على جبهته كان الصراخ يملأ فضاء المكتب:
– ألم أقل لك: لا تسمح لأحد بالدخول ؟!
تلعثم الرقيب وبلهجة مبعثرة اعتذر:
– قال بأنه مبعوث من عند (أبو وائل) وأنت أخبرتني أن أسمح له بالدخول حين استأذنتك بذلك.
وابتلع ريقه بصعوبة وأكمل:
… صحيح أنك لم تتكلم ولكنني فهمت من اشارتك أنك موافق.
رمقني بنصف التفاتة وكأنه تنبه لوجودي.. كانت التفاتته أقرب الى الاحتقار من الترحيب وصاح بالرقيب:
– هناك من أزعجني.
تطلع الى الرقيب معاتبا فتحت عيني على اتساعهما وحاولت اخباره بأنني حافظت على تخشبي منذ دخولي الى هذه اللحظة كان ينظر الي باجهاد ولا يعرف ماذا يصنع، وأخرجته من تردد؟ تلك الصيحة العنيفة التي صدرت من سيده:
– هيا قم بعملك. عليك اخراج من أزعجني.
تحرك الرقيب باتجاهي وأمسك بيدي في محاولة لاخراجي، فازداد تهيجه:
– ليس هذا!
– ليس هناك من أحد سواه يا سيدي.
– بل هناك..
وكز على أسنانه:
– أنت مهمل لا ترى الا القريب من عينك التي أكلهما الزمن.
ارتبك الرقيب كثيرا، وبتمتمة أقرب الى الرجاء تساءل:
– ومن هو ذاك يا سيدي.
كان لا يزال جالسا خلف مكتبه وصوته يتطاير من بين شفتيه المتخاصمتين:
– أنت لم تعد تصلح الا لعد ما تبقى لك من أيام.. لا أعرف كيف بقيت ممسكا بوظيفتك الى الآن.
كان الرقيب زائغ البصر يتلقى تلك الكلمات النارية ولا يعرف ماذا يفعل، أعاد محاولة الاسترضاء:
– سيدي أنني أقوم بما تأمر به على أحسن وجه.. من الذي ضايقك وسأخرجه في الحال.
صاح به بحنق:
– ها أنت تضيع وقتي بأسئلتك السمجة.
وأردف بعجل تطاير معه لعابه على سطح المكتب:
– لا أريد ضياع الوقت أكثر مما مضى.
وحين لمح أن حارس مكتبه شارد حائر صاح:
– اقترب لا طول الله عمرا
وأشار بغيظ صوب تلك الذبابة الزرقاء التي استقرت على المقلمة، فتحرك الرقيب صوب تلك الاشارة وأخذ يتطلع وتمتم:
– والله لقد قمت بتنظيف كل بقعة في المكتب أكثر من ثلاث مرات كيلا أغضبك
صاح بانفعال مبالغ فيه:
– أنا لا أتحدث عن نظافة المكتب يا غبي..
… – بل عن هذه الذبابة التي لم تجعلني أكمل مهمتي..
…. – فكيف سمحت لها بالدخول.. عليك باخراجها الآن!!
اتسعت حدقة الرقيب وردد بدون قصد:
– ذبابة
– نعم ذبابة
– ولكن..؟
– لا أريد كلاما زائدا.. ألا تعمل هنا حارسا وتتقاضى راتبا. هيا قم بدورك واخرجها.
تحرك الرقيب بسرعة صوب الباب فصاح به:
– الى أين أيها الأبله ؟
– سأحضر الفليت.
صاح الضابط بغيظ كمن يهم بتمزيق ملابسه:
– الا تعلم أن المبيدات تسبب لي حساسية ؟
رد الرقيب بدون شعور:
– نعم.. نعم تسبب لك حساسية
وظل شاردا.
– هي أخرجها بالهش أو بأي طريقة كانت
وبهمة بدأ الرقيب هش الذبابة التي أخذت تنتقل من مكان لآخر، والرقيب يتبعها أينما اتجهت، وقد خلع (البريه) وأخذ يضيق عليها الخناق في زوايا المكتب فتمنحه قليلا من الفرح وتعاود التحليق في الأماكن الواسعة والتي يصعب فيها ملاحقتها أو أن تتجه مباشرة على وجه سيده فلا يقدر على شيء سوى انتظار أن تغادر الى مكان أخر، لم يكن قادرا على التركيز فحين يتبعه يسمع أمرا وبعض الشتائم المندلقة فيتابع هشها بعشوائية.
فجأة وجدت نفسي أشاركه متابعة تلك الذبابة الزرقاء وهشها فكانت تنتقل بخفة وسرعة صاح بنا محقرا:
– يا أغبياء افتحوا الباب وهشوها باتجاهه.
وجدت أن هذه الشتيمة قد ادخلتني في دائرة اهتمامه فقد سمعت أمي توصيني في أحدى المرات:
– اذا سبك الكبير فهذا بداية الخير الكثير.
لذلك تفانيت في إظهار الحرص على اخراج هذه الذبابة هامسا لأعماقي:
– يا ولد شد حيلك ربما تكسب بعض رضاه.
فانبريت أوجه الرقيب الذي كان يتحرك بصعوبة وقد بدا الاعياء يجري في مفاصله، وثمة تمتمات يهمس بها لداخله بحذر، لأجد نفسي أصيح به:
– تعال من هنا.
وأخذنا نهش الذبابة وأثناء الهش وقفت حائلا بينها وبين السيد في محاولة لمنعها من اعادة هبوطها المستمر على وجهه حتى اذا ضيق عليها الرقيب الخناق وأصبحت على مقربة من الباب أسرعت على عجل لفتح الباب الذي وقف خلفه مجموعة كبيرة من المراجعين والذين رأوا الغضب يتطاير من وجه الضابط بينما وأونا نهش تلك الذبابة التي استطاعت التملص من الزاوية التي حشرها بها الرقيب فعادت للتحليق في أرجاء المكتب وقفوا للحظات يتأملوننا باندهاش وحين فاض الغضب صاح الضابط صيحة أحسست أنها شققت سقف حنجرته:
– قلت.. اخرجوها
انبرى أحد المراجعين لمساعدتنا بعد أن قذف بملفه جانبا، فجأة لم أشعر إلا والجميع يتدافع لمزاحمتي في هش تلك الذبابة الزرقاء.
عبده الخال (قاص من المملكة العربية السعودية)