محمد الداهي
حقق بنسالم حميش تراكًما روائيًا مطّردا (ثلاث عشرة رواية لحد الآن) خلال ثلاثة عقود من الزمن. وهو ما يبين أنه يكرس للرواية جزءًا من وقته؛ حرصًا على تجريب أشكال جديدة لتفادي تكرار النماذج السابقة أو الامتثال لها. وتتوزع رواياته إلى فئتين. تقوم الفئة الأولى (مجنون الحكم 1990، العلامة 1997، زهرة الجاهلية 2003، هذا الأندلسي2007) على المعارضة السردية بالاستناد إلى وقائع مستوحاة من التاريخ مضفيا عليها التخييل، ومعيدا تحيينها وفق منظور وفلسفة جديدين، في حين يستوحي الفئة الثانية (محن الفتى زين شامة 2003، سماسرة السراب 1995، فتنة الرؤوس والنسوة 2000، بروطابوراس ياناس 1998…) المشاكل التي يعاني منها الإنسان العربي عموما، ويرزح تحت وطأتها (البطالة، والهجرة السرية، وبطالة خريجي الجامعات، والظلم والاستبداد، والفوارق الاجتماعية).
في كل هذه الأعمال الروائية -على اختلاف أشكالها ومراميها- تتواتر العيّنات السيرذاتية التي يمكن للقارئ- بحكم خلفياته المعرفية والثقافية- أن يتعرَّفَها، ويميزها عمّا يكتنفها من كل جانب. وعمد بنسالم حمّيش إلى إفراد مُؤلَّفٍ لاسترجاع مساره في الحياة، حتى ينضاف إلى سجل أعماله التخييلية التي تواكب التّاريخ والواقع والذات بالوسيطيْن السردي والتخييلي. ومن بين الأسئلة التي تثار بصدد إقدامه على كتابة سيرته الذاتية (الذات بين الوجود والإيجاد(1))، نجملها فيما يأتي: لماذا تبنى المشروع السيرذاتي بصريح العبارة؟ أي نوع من أنواعها استأثر باهتمامه أكثر؟ ما الاستراتيجية السرديّة التي آثرها دون غيرها في استرجاع مساره في الحياة؟
-1 أنصار السيرذاتية ومناهضوها
ما يميز هذا المشروع السيرذاتي- علاوة على عناصر أخرى- تواترُ بنيات الميتا تخييل (نص على نص أو النص الواصف) الذي لا يؤشر على المؤلف في النص فحسب، بل إصدار مواقف نقديّة عنه للتحاور مع ذاته ومجادلتها؛ سعيًا إلى إضفاء المعنى على مسار حياته الشخصية، وتعليل البواعث التي حفزته على استرجاعه واتخاذ موقف صريح منه.
يتضح- من خلال المقدمة – أن السارد يعي المفارقة السيرذاتية التي جعلت الكتاب ينقسمون إلى فئتين متعارضتين؛ فئة تناصر الأيديولوجيا السيرذاتية، وفئة تناهضها مشككة في مواثيقها ومواضعاتها. وفي هذا الصدد وإن كان السارد يعي طبيعة هذه المفارقة بالتعفف عن البوح بسريرة الذات، والامتعاض من قول أنا، فهو- بالمقابل- يتبنى الإيديولوجيا السيرذاتية لاعتبارات أساسية تُجمل فيما يأتي:
• إن نفاذ الذات إلى الطويّة يسعفها على تعرُّف نفسها والآخرين ولو بمقادير محدودة ومتفاوتة.
• إن العودة إلى مرحلة الطفولة- التي تلازم الشخص طوال حياته- تفضي إلى نفض الغبار عن المنسي والمكبوت في تكوين الشخصية، وفهم ميولها وسلوكها في الحياة.
• يتبنى السّارد لونا من ألوان السيرذاتية، الذي يُعنى فيه باسترجاع المسار الفكري والثقافي تطلّعا إلى فهم العوامل التي أسهمت في تكوين الشخص، وصقل مواهبه ومؤهلاته إلى أن حقق جزءًا من مطامحه ومساعيه في الحياة.
لا يعني فليب لوجون بالميثاق السيرذاتي التعاقد مع الشيطان، وتوقيع بنوده بالدم(2). وهذا ما يؤكد أن السّارد لا يبرم مع القارئ عقدًا موثّقا وملزما؛ بل يتعهد بقول الحقيقة معتمدا جملة من القواعد التي تؤطرها الأنساق الثقافية والمواضعات الأدبية السائدة. قد يجاريه القارئ في مقاصده ومساعيه، وقد يختلف معه مقترحًا وضع عمله في خانة مغايرة. ويمكن- في هذا الصدد- للقارئ ” أن يتبنى أنماطًا قرائية تختلف عما اقترحه الكاتب، خاصة أن أغلب النصوص لا يوجد فيها عقد صريح”(3).
لا تفي السيرة الذاتية بشروطها بدعوى الرقابة التي يمارسها السارد على نفسه، تفاديًا لذكر كل ما قد يلحق الأذى والضرر بذاته، أو يصيب الآخرين بمكروه أو شطط (مناطق الحساسية). ولذا يعتبر فريق المناهضين أن السيرة الذاتية مجرد وهم ساذج، ويؤثرون عليها الرواية؛ لأن كاتبها يتحرر من الرقابة الذاتية التي تصده عن المكاشفة والمُسارَّة والبوح لبواعث أخلاقية واجتماعية.
قال أندريه جيد: ” لا يمكن أن تكون المذكرات إلا نصف-صادقة، ولو كان هم الحقيقة كبيرا: فكل شيء معقد مما يستحيل قوله، بل نقترب من الحقيقة أكثر في الرواية”(4) .
قال فرنسوا تيبودي:” أليس السبب الحقيقي لكسلي أن رواياتنا تعبر عن الجوهري في أنفسنا؟ إن التخييل وحده لا يكذب، إنه يشق بابا سريا في حياة إنسان ما، تلج منه روحه المجهولة، في منأى عن أية مراقبة”(5).
قال جون بول سارتر بعد أن أنجز سيرته الذاتية ” الكلمات” ما يأتي: ” لقد حان الوقت أخيرا لكي أقول الحقيقة، لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي”(6).
يتفق الكتاب الثلاثة في الاستخفاف ظاهريا من قدرة السيرة الذاتية على قول الحقيقة، ويسندون المهمة نفسها للرواية. ويرد عليهم فليب لوجون بأنهم يقرون بشكل غير مباشر بميثاق السيرة الذاتية، وينطلقون من معيار المشابهة بين الجنسين الأدبيين للمفاضلة بينها في قول الحقيقة. ” أليست هذه الحقيقة -التي تقترب منها الرواية أفضل من السيرة الذاتية- سوى الحقيقة الشخصية والفردية والخاصة بالمؤلف، أي ما يسعى إليه كل مشروع سيرذاتي؟ إذا صح التعبير، تعلن الرواية- باعتبارها سيرة ذاتية- أنها أكثر تعبيرا عن الحقيقة”(7).وهكذا فالقارئ مدعو إلى قراءة الرواية ليس باعتبارها تخييلا فحسب، تحيل إلى حقائق “الطبيعة الإنسانية”، بل بصفتها استيهامات تكشف عن طوايا الفرد وتستجلي خباياه. ويسمي فليب لوجون هذا النوع من الميثاق بالميثاق الاستيهامي (le pacte fantasmatique) (8).
-2 محكي الطفولة
لا تخلو أية قطعة من الحياة – فضلا عن المكاشفة النقدية- بالنرجسية التي بقدر ما تجلي مدى وعي الكاتب بممارسته وتجربته الإبداعيتين توجه القارئ إلى اتخاذ مواقف معينة أو تبني قراءة بعينها، وتحفزه أيضا على المشاركة والتآزر لإعادة بناء النص وملء فرجاته. بين السارد أن الطفولة هي البوتقة الأساسية التي تُعْجن فيها شخصية الإنسان، وتُحدَّدُ فيها معالمه الكبرى مبكرا وفق السطر الشعري للشاعر الإنجليزي وليام وورد زورث (William Wordsworth) “الطفل هو أبو الإنسان”. يعاود السارد النظر في طفولته بنوع من الحنين لأنها تمثل- في نظره- بداية المشوار في الحياة، ويختلط فيها الواقع بالاستيهام، وتستيقظ فيها الحواس باكتشاف الكائنات والأشياء.
مما استحضره من عالم الطفولة مرحلةُ الكُتَّاب، وطورُ التعليم الابتدائي بمدرسة درب السلاوي في مكناس، وتغييرُ الاسم من محمد إلى بنسالم، والحفلاتُ والأعراس التي كان ينشطها المخنثون برقصاتهم المتغنجة، وبدايةُ اكتشاف محاسن النساء والتوله بهن، ثم سرعان ما استعجل القلم للعبور إلى مرحلة المراهقة لغناها بالمغامرات الطريفة، وقدرة الحافظة على تذكر كثير من الوقائع المرتبطة بها على عكس الطفولة التي يستحيل إيفاؤها حقها لانتمائها إلى زمن سحيق. ومن بين الأحداث التي ما فتئت راسخة في ذهنه إبان فترة المراهقة، نذكر معركة بوفكران صيف 1937، وانتفاضة المكناسيين العارمة غداة الاستقلال من 23 أكتوبر إلى غاية 28 منه عام 1956، وفاجعة الزيوت المسمومة (فاجعة “بالركاب” التي كانت تصيب ركبة المريض بآلام حادة، فتثنيه عن الوقوف).
ومن بين الملاحظات -التي تثار حول محكي الطفولة- نذكر ما يأتي:
• تتخلل سرد البدايات بياضات وفُرجات، وتعترضه عوائق شتى لغموض عالم الطفولة وصعوبة استحضار ما جرى فيها على وجه التحديد، وهو ما يعيه السارد بقوله ” كما أني أرى في طفولتي خطوطا غائمة، بعضها ينفلت دوما ويراوغ”(9). وهذا ما يجعل محكي الطفولة أقرب إلى الرواية من حيث مرونتها وحريتها وسعتها وإن كان- بحكم مؤشراته التلفظية- مندغما في المشروع السيرذاتي.
• “يمثل محكي الطفولة -إذا- بصفته بحثا مُساريا تُعرض فيه المصاعب. الذاكرة مجزأة، الذكريات الطافية تكون قليلة في البداية. وما دامت في مهدها يأتي دور الحبكة للربط فيما بينها. ومع ذلك يظل الشك قائما بإلحاح فيما يخص الظروف والجزئيات”(10). يتضح من هذا القول إن فليب لوجون لا يقبل ذكريات الطفولة على عواهنها وعلّاتها، وإنما يسائلها بحثا عن أجوبة مناسبة تسعف على تصحيح ما اعتراها من اختلالات وأعطاب، والتأكد من صحة محتوياتها أو من عدم صحتها. وفي هذا السياق، أثار فليب لوجون بعض القضايا التي تحفز على إعادة النظر في محكي الطفولة، وملء ثقوبه، وتصحيح هفواته وأخطائه. ومن بين القضايا التي ركز عليها، نذكر ما يأتي: خطاب الشك ( التشكيك في صدقية الأحداث المروية وصحتها)، واضطراب الذاكرة (عجز الذاكرة عن استحضار ذكريات الطفولة في طراوتها ونضارتها وعفويتها)، والتجريح والنقد (معاودة النظر في كثير من الأخطاء التي وردت في محكي الطفولة).
• استحضر المؤلف – كأيها الناس- ما يتناقلونه بينهم بعدالة أيا كان أصلهم ومفصلهم . وفي هذا الصدد، نذكر شعائر المرور، والإرغامات التربوية، والمتطلبات الصحيّة، والدوافع الغريزية. وهي-في مجملها- ذات صبغة كونية أو قوالب عامة يتقاسمها ويتداولها الناس بينهم لأنهم عاشوا التجارب نفسها تقريبا، وإن اصطبغت بالألوان المحلية (الخصوصيات الثقافية والتقاليد والأعراف).
• سعى بنسالم حميش- أسوة بمن يكتب في مجال السيرة الذاتية- إلى استرجاع الطفل الذي كانه في الظروف الراهنة (زمن الكتابة)، واستعادة حقائق الماضي المتلاشي الذي لم يعد له وجود إلا من خلال الآثار الدّالّة عليه، وإعادة الروح إلى الذاكرتين الشخصية والجماعية بردم الفجوة الفاصلة بين الماضي والحاضر. ولهذا الغرض تقمص الراشد صوت الطفل موهما أنه هو من يتكفل بسرد قصة حياته باسمه وفي تزامن مع وقوع الحدث ( حاضر الحكي). وهكذا نعاين “تراكب ملفوظين: نسمع صوتا يتحدث داخل صوت آخر. هذا الصوت غير مذكور، بل هو مُحاكَى بصيغة أخرى”(11). “في هذا التلفظ المزدوج، ليس الطفل هو من يتكلم، وإنما يتحدث الراشد بصوته”(12)، ويجبره على قول أشياء وتعليلها بطريقة لم تخطر-وقتئذ- بباله، ويحفزه-أيضا- على استحضار عناصر جديدة قد تشوّش على نقل النموذج المنشود بالمراهنة على استعادة حالة الطفل كما كانت بالفعل. وبالمقابل، ينفلت الطفل من قبضته لينفض الغبار عن حقائق طالها النسيان، ويطلق العنان لاستيهاماته وأحلامه المغفيّة. وهذا ما لم نعاينه في هذه السيرة الذاتية مقارنة بسير ذاتية أخرى (“في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون، “البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، “حياتي” لأحمد أمين) لأن السارد الراشد حرص على إخراس صوت الطفل الذي كانه، والتحدث باسمه وصوته وفلسفته في الحياة. ومن ثم، تكتسي لعبة الوجود والإيجاد صراعًا تلفظيًا بين المتلفّظ الطفل الذي عاش الوجود، وساير وتيرته بتلقائية وبراءة واندفاع وبين المتلفظ الراشد الذي يضطر إلى ردم الفجوة بين الماضي والحاضر، والوعي بالمفارقة بين الحياة والكتابة، وإعادة تأثيث الذاكرة، وملء ثقوبها بمنظور جديد.
-3 ميعة المراهقة والشباب
عاين السارد- من خلال النضج الجسماني والنشاط العاطفي- انغماره في لجة المراهقة التي صيّرته إنسانًا آخر، وتمرده على جبروت أخيه وتسلطه، وميله- أسوة بأنداده- إلى تفجير المفرقعات، والتراش، والتراشق بقشور البطيخ في يوم عاشوراء. لم يتوسّع في مغامرات المراهقة ونزقها وطيشها، مؤثرا عليها التطرق على وجه الخصوص إلى ميوله الأدبية المكّبرة، وتدرجه عبر أسلاك التعليم إلى أن حقّق ما يصبو إليه من التحصيل المعرفي والترقي الاجتماعي. ما كان يهمه بالدرجة الأولى هو أن يبين العوامل التي أسهمت في صقل مواهبه وشحذ إرادته وهمته إلى أن أضحى علمًا مرموقًا وبارزًا.
وقع مبكرا في شرك ما اصطلح عليه بـ “الإيجاد الإبداعي”، مما حفزه على نظم الشعر، ضاعت أغلب مسوداته باستثناء واحدة أضحت فيما بعد نواة أول ديوانه ” كناش إيش تقول”(1979)، الذي جرب فيه الكالغرافيا بخط يده، ثم تلاه ديوان آخر” ثورة الشتاء والصيف”(1983) على المنوال نفسه، واستمر في نظم الشعر باللغتين العربية والفرنسية إلى أن أصدر لحد الآن ستة دواوين.
لعب كثيرٌ من الأشخاص دورًا كبيرًا في توجيهه ودعمه معنويا، ومن ضمنهم الحاج إدريس النصيري (واحد من أترابه الذي حج قبل بلوغه عشرين سنة) الذي كان يزوده بالكتب من خزانة والده، ثم حسن المنيعي الذي حبّب له الأدب الغربي، ممثلا في كبار المبدعين العالميين (جون شتاينبيك، وكارلوس فوينتيس، وجون بول سارتر، وألبير كامو)، ثم محمد عزيز الحبابي (عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية ورئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا) الذي شجّعه على المشاركة في مسابقة مسرحيّة نظمها اتحاد كتاب المغرب، فنال جائزة رمزية عن مسرحيته ” العاكيز”، ثم إبراهيم بوعلو وعبد الجبار السحيمي اللذان آزراه على التوالي في كتابة القصة القصيرة ونظم الشعر، واعتادا على تقديم النصائح له؛ تطلّعا إلى تجويد موهبته الإبداعية. وتمكن -حينئذ- من نشر عيّنة من مقالاته النقدية في جريدة “العلم” حرصا منه على مواكبة مقالات محمد بنعبود ومحاضراته بالتحليل والنقد من المنظور الماركسي. واكتشف ميوله الفلسفية أثناء الطور الثانوي بفضل أستاذين فرنسيين كوكس ولومير، إذ كانا يحفّزانه على قراءة إنشاءاته في الفصل حتى يقتدي به أنداده.
وكان لمحمد عزيز الحبابي اليد الطولى في حسم تردده بين الفلسفة والأدب، ناصحًا إيّاه على اختيار الأولى؛ لأنها تمهد للثانية وتستوعبها أيضا، وعلى متابعة دراساته الفسلفيّة باللغة الفرنسية. “فكان ذلك ما اخترته مقتديا بحالة الناصح الذي جمع في تكوينه ما بين الأدب والفلسفة وألف فيهما معا؛ كما يرجع للراحل فضل آخر في تبديد حيرتي بين شعبتي الفلسفة بالعربية والفرنسية، فاخترت الثانية لإعداد إجازتي، ولم أندم على قراري”(13). وفي هذا السياق لا بد من إبراز فضل عبد الكبير الخطيبي الروائي والأستاذ المتخصص في علم الاجتماع على مسيرته، وبيان الصداقة التي توطدت بينهما، واستحضار مواقفه الجريئة من الفرانكفونية التي جنا منها التهميش وتضييق الخناق عليه.
يعتبر بنسالم حميش نفسه في عداد الطلبة الذين تخرجوا من تحت يد عبدالله العروي تقديرا لجهوده النظرية في مجاليْ النقد الإيديولوجي وفلسفة التاريخ لحفز العرب على تدارك تأخرهم التاريخي واللحاق بالدول المتقدمة. ومن الأمور الطريفة التي وقعت له مع عبدالله العروي أنه لبّى دعوته برفقة لفيف من الباحثين لتأسيس جمعية “الترجمة والبحث التأملي”، وحرر- في هذا الشأن- أرضيّة مبينا ملاءمة النهوض بالترجمة في العالم العربي وفق معايير علمية مضبوطة لبواعث حضارية وعلمية؛ لكن الحماس ما لبث أن خبا في مهده، فعاد عبدالله العروي إلى مقبعه، وذهب كل واحد إلى حال سبيله.
تندغم مرحلة المراهقة في مرحلة الشباب إلى حدٍّ يصعب التمييز بين ما وقع في كل واحدة منهما على وجه التحديد. وما كان يهم السارد -على وجه الخصوص- بيانُ العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته ونضجها، وأدت إلى حصول تحوّلات حاسمة في حياته. وفي هذا الإطار يمكن أن نفكّر بمنطق حرف امتناع الامتناع ” لو”(امتناع الجواب لامتناع الشرط). لو لم تتغيّب المرأة المسنة فولا المكلفة بالهاتف في سفارة اليونان لبضعة دقائق سعيًا إلى اقتناء علبة السجائر ما تعرف السارد إلى نبايوطا التي بادرت بالرد على مكالمته، فوقعت في شرك ما لم يكن في الحسبان؛ إذ أصبحت فيما بعد شريكة حياته وأمًّا لابنه وابنته. ويمكن أن نعمم هذه الصدفة على صدف أخرى؛ مما ببين أننا ملزمون باختيار مسلك من المسالك السردية المفترضة، وليس لنا حق الرجعة بعد فوات الأوان. وحتى لو أتيحت لنا فرصة أخرى للعيش وفق “العود الأبدي” لفردريك نيتشه، فإننا سنختار الاختيارات نفسها مما سيضفي الملالة والرتابة على حياتنا، ويبعث ” المأساة الكونية في أعلى مظاهرها”(14).
ومن بين ما استحضره المؤلف في ريعان شبابه إصدارُ دوريتين، وهما “الزمان المغربي” و “البديل”، وتوضيح الأسباب التي جعلته يتخلّى عن الأولى لمصلحة شريكه، وينشئ الثانية بإيعاز من الداعم وهو عبد الغني بوسته بعد التوافق معه على خط التحرير والتوجيه العام. لم يكن المؤلف – وقتئذ- على علم بهوية المموّل الحقيقي للمجلة وهو الفقيه محمد البصري الذي كان من معارضي حكم الملك الحسن الثاني في الخارج قبل أن يعود فيما بعد مع المنفيين السياسيين إلى الوطن. ومنعت وزارة الداخلية المجلة من الصدور إثر إعداد ملف عن المعتقلين السياسيين في السجن المدني بالقنيطرة، ونشر مقالاتهم، ورسوماتهم، وإنجاز حوارات معهم.
إن إقامته في باريس من أجل استكمال الدروس وإعداد دكتوراه الدولة أتاحت له فرصة اكتشاف الفضاءات العمومية وحدائقها البديعة، والاستفادة من الخدمات الثقافية المتوفرة (المسرح والأوبرا والمتاحف والسينما)، وخاصة التردد على الخزانة الوطنية التي قضى في أرجائها أروع الأوقات في البحث والتحصيل العلميين.
وبعد عقد القران عام 1984 أصبحت اليونان وجهته الثانية، وخاصة منطقة البيلوبونيز جنوب غرب اليونان. وبتردده على مسكنه في قرية جبلية تطل على بحر خليج كورانث أضحى يتقن اللغة اليونانية الحديثة (ديموتيكي)، ويقرأ ويحفظ النصوص الشعرية لشعرائه المفضلين (قسطنطين كافافيس، أديسيوس إيليتس، جورج سفيريس)، ويكتشف شيئا فشيئا بلدًا صغيرًا في حجمه الجغرافي والسكّاني لكنه عظيم الشأن حضاريا وثقافيا.
وكان إبان مباشرة التعليم العالي في ريعان شبابه متأثّرا بأعمال كارل ماركس وجون بول سارتر، وهذا ما حدا به إلى برمجة مواضيع عن الماركسية والوجودية في دروسه الموجهة إلى طلبة شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط. وكان من ثمرات هذه الفترة أنه أصدر كتابه البكر ” في نقد الحاجة إلى ماركس عام 1983″ . وبُعيد هذه الفترة وجه اهتمامه إلى التراث العربي والإسلامي، وإلى عالم التصوّف خصوصًا. وكان من ثمرات هذا الاهتمام تحضير أطروحة الدكتوراه في موضوع “التشكلات الإيديولوجية في الإسلام، الاجتهاد-التاريخ” تحت أشراف ماكسيم رودنسون، وقد أصدرها في كتاب باللغة الفرنسية عام 1990، من تقديم المشرف ومحمد عزيز الحبابي، ثم نشرها باللغة العربية في حلة مزيدة ومنقحة في ثلاث طبعات، صدرت آخرها عام 1993.
آثر السارد أن يركز في محكي المراهقة والشباب – كما هو شأن محكي الطفولة- على الحياة العمومية مبتعدا ما أمكن عن الحياة الخاصة أو الحميمية. إن معظم أطوار حياته الفكرية معروفة لدى الناس بحكم شهرته وصيته، لكنه عمد إلى تعليل بعض الوقائع (مثل الإخفاق في إنشاء جمعية الترجمة والبحث التكاملي) أو بعث أخرى من مراقدها (من قبيل إصابته بأمراض متتالية، لعل أخطرها مرض التهاب سحايا الدماغ) سعيا إلى نفض الغبار عن كثير من المعطيات المجهولة، وملء كثير من الثقوب والفرجات التي تخللت مسيرته في الحياة. وبهذا الصنيع اقتفى أثر أتباع الإيديولوجيا السيرذاتيه بتعزيز وظيفة الشهادة(15) أو التمييز بين الحياتين الخاصة والفكرية، أو بين الحميمية والبوح، أو بين الكتمان والمكاشفة. وفي هذا الصدد، أستشهد بقول فليب لوجون محللا السيرة الذاتية لرولان بارث “رولان بارث بقلم رولان بارث”. ” لا نكون حميمين إلا مع أشخاص من الدرجة نفسها في الكتمان. ما تبقى- المزاج، الثقافة ذاتها، الذوق-لا ينطبق عليه ذلك. تستند الحميمية الحقيقية إلى المعنى المتبادل بين العورة pudenda والستر tacenda . ولذا فهي تتيح حرية لا تصدق. ما تبقى يمكن أن نقوله”(16).
ما يهمنا من هذا القول هو أن الحميميّة تبقى محصورة بين أناس يشترط فيهم كتمان أسرارهم، وستر عوراتهم بالمعنى المجازي، وما عدا ذلك فلهم كامل الحق والحرية لقول ما يخالج شعورهم أو ما يعن لهم. فهذا القول يفند مسعى السيرة الذاتية، ويعتبرها، وهما وسرابا لأن اقتحامها “دائرة الحميميّة” أو “مناطق الحساسية” يورطها في الكشف عن عورة الذات أو إيذاء الآخرين بالحجة والدليل (القرائن المثبتة في مئات من النسخ). وهذا ما يدعم الإيديولوجيا السيرذاتية المضادة التي تتخذ التخييل ذريعة لتمويه الحقائق أو إعادة نقلها بمواربة ومداهنة، وما يحتم من جهة أخرى على أنصار الإيديولوجيا السيرذاتية البحث عن أعذار لبيان أن الشخص الذي يتحدث في النص ليس هو الشخص الحقيقي، وأن الكتابة هي التي تنتج السيرة الذاتية، ومع ذلك ظلوا متشبثين بكونها تمثل مشروعًا لقول الحقيقة. ” ليست السيرة الذاتيّة نصًّا يحكيه شخص عن ذاته، بل هي نص يقول –من خلاله- شخص واقعيّ ما قاله عنها” (17).
-4 التوفيق بين الفلسفة والأدب
تتسارع الأحداث لتفضي إلى الفترة التي أضحى فيها السارد شخصية عمومية بعد أن انتزع الاعتراف به فيلسوفا وروائيا بحكم ما راكمه من إصدارات في المجالين معا، ومشاركته في الندوات العلميّة داخل المغرب وخارجه، ومن ثم يتضح أن مواهبه المبكرة قد أينعت أزهارها، وأثمرت ثمارها بمرور الزمن؛ فتألق اسمه وأضاء في ربوع العالم العربي، وحصد بالتالي جائزة تلو الأخرى تنويها بعينة من أعماله الروائية على وجه الخصوص. وما يسترعي الانتباه في مسيرته أنه يضطر – في كل فترة- إلى مساءلة معارفه ومكتسباته، ومعاودة النظر فيها بحثا عن الجِدَّة والمغايرة، وحرصا على مواكبة المستحدثات المعرفية الكونية. ويتباطأ السرد أحيانا ليتيح المجال لتناسل الميتاتخييل في شكل معارف عالمة ونقدية يتخذها السارد مطية لإبراز مؤهلاته الثقافية والفكرية والروائية، ومعاودة النظر في كثير من التصورات والأفكار التي تأثر بها في فترة من حياته.
وفي هذا السياق، يشير إلى أن مشاركته في مؤتمر الكاط عام 1994 حفزته على الاستئناس بلغة جديدة لمقاربة الواقع الاقتصادي في ضوء الهزّات التي شهدها العالم في غضون العقود الأخيرة، والتخلي عن المفاهيم المتقادمة لعلماء الاقتصاد وعلم الاجتماع “العالمثالثيين” ذوي التوجه الماركسي ( أمثال كونتر فرانك، وسيمر أمين، وبيير جالي، وسيلسو فورتادو، وأنور عبد المالك، وشارل بيثالهم) بدعوى عدم قدرتها على فهم الطفرات التي طرأت بعد سقوط جدار برلين، وانهيار المعسكر الشيوعي، وتوطّد اقتصاد السوق الحر، واكتساح العولمة الضارية ( الرأسمالية القاتلة). وفي تساوقٍ مع تكوينه الفلسفي أدلى بدلوه في النقاش العمومي داعيًا إلى ضرورة أنْسنة العولمة للحد من مخاطرها على الإنسان بسنِّ قوانين الاقتصاد التضامني، والرفع من وتيرة الحكامة الجيدة والتنمية البشرية.
بيَّن- أيضا – مدى وعيه بالتراث الروائي العالمي كتابة ونقدا وصنعة، واستفادته منه في تجربته الروائية حرصًا على تجويدها. وشرح شعائره في الكتابة، وطريقته في استدامة المتعة أو طلب النشوة الحقيقيّة لإنجاز عمل على الوجه الأحسن، وتصوره للصناعة الروائية. وما جعله يميل إلى الرواية أكثر من باقي الأجناس تمتُعها بخاصيتين؛ وهما الانفتاح ( تنفتح الرواية- بفضل سعة بنياتها- على الأجناس الأخرى وتحتويها) والحرية (لا تتقيد الكتابة الروائية بقيود صارمة، فهي – في نظره- أرض حرْثٌ لمن يأتيها متى وأنّى شاء). ويخصص في الأخير حيِّزًا لبيان أسباب كتابة عيِّنة من الروايات وتعزيزها بالمعطيات المناسبة، والخلفيات التي تحكمت فيها، وذكر بعض الجوائز التي نالها، والإرهاص بمشروع ما فتئ يراوده (إنجاز رواية عن السلطان مولاي إسماعيل العلوي).
ظل وفيًّا لعشقه للأدب والفلسفة، واتضحت له- مع الزمن- مدى ملاءمة نصيحة محمد عزيز الحبابي باختيار شعبة الفلسفة لأنها فتحت له آفاقا لتطوير ملكاته الأدبية. وهذا ما حفزه على الارتواء من ينابيعها في هندسة السرد الروائي، وتبني الإمكانات التعبيرية المسعفة على تمثيل الوجود البشري. وأدرك أن للرواية علاقة وطيدة بالفلسفة اللانسقية الوجودية والحيوية التي تعنى بقضايا الإنسان بحثا عن الطمأنينة المفتقدة. ويشترط في الروائي أن يكون -فضلا عن سعة اطلاعه وإلمامه بالقضايا العامة- متمكنا من الصناعة الروائية حتى لا يقع في فخاخ الوعظ والخطابة والصخب الإيديولوجي. ” بناء على مجمل ما سجلت، صرت إذا سئلت عن فلسفتي قلت إنها في مظان أعمالي الفكرية وبالتشخيص في رواياتي التي كنت بها- محاكيا دوستويفسكي- أجيب عن قضايا ومسائل ذات طابع فلسفي”(18).
وهو -فضلا عن استفادته من الرافد الفلسفي- مدين ومرتهن في تكوينه بالرافد التاريخي الذي حفزه على إضفاء التخييل على التاريخ، وإعادة كتابته بطريقة فنيّة تجمع بين الوقائعي والتخييلي، وبين التوثيق والاختلاق، وبين الجد واللعب. وقد برع بنسالم حميش في هذا اللون من الكتابة الروائية بما يتمتع به من قدرة على تحبيك الوقائع التاريخية، وإضفاء الطابع التخييلي عليها، وتحويل المادة التاريخية إلى رواية محتملة الوقوع.
-5 المواضيع الأثيرة
ومن بين المواضيع التي استأثرت باهتمامه نذكر ما يأتي:
• السلطة: استثمرها في كثير من رواياته حرصا منه على بيان دسائس شخص أو أقلية للتحكم في رقاب عامة الناس، وعلى التقليل من قدسيتها وهيبتها حتى يتداولها الناس بينهم بشفافية وديمقراطية بحثا عن أنجع الأساليب للعيش الكريم، والتفاهم، والتوادد.
• الهوية: تعتبر الهوية برنامجا مفتوحا، وفتحا مستمرا، وبوتقة تنصهر فيها المقومات الأصلية والمكتسبة؛ وهي بذلك بنية دينامية تند عن الانطوائية (الهويات القاتلة)، وتعزز- بالمقابل- تفاعل الشيء ونقيضه (القراءة الطباقية) في إطار التناظر المرآتي بين المفاهيم من جهة، وفي إطار التفاهم اللغوي والثقافي على الحدود من جهة ثانية (ما يصطلح عليه بالفضاء الثالث). ومن بين المقومات التي أتى على ذكرها لملاءمتها وقيمتها، نذكر اللغة العربية ليس باعتبارها أداة فحسب، بل هي-أيضا- مكمن الهوية اللغوية والثقافية التي تُسدِّي نسيج الأمم العربية، وتقوي أواصر المحبة والأخوة بينها. وما يحز في نفس بنسالم حميش أن اللغة العربية تتعرض لهجمات منتظمة للتقليل من شأنها وجدواها، وتقويض دعاماتها للإجهاز عليها. وفي هذا الإطار، خاض معارك ضد دعاة الفرانكفونية (تعميم اللغة والثقافة الفرنسيتين في المغرب) والتمزيغ (التعصب الأعمى للأمازيغية) والتدريج (الدعوة إلى تعليم الأطفال في الأطوار التعليمية التمهيدية بالدارجة عوض الفصحى) دفاعا عن مكانة اللغة العربية لاعتبارات قومية وحضارية وثقافية (لغة جامعة وموحدة وميسرة)، واعتزازا بالهوية الدينامية التي تتفاعل فيها مكونات عديدة؛ ومن ضمنها المكون الأمازيغي. ” لذا أصنف نفسي، ككثير غيري، فأقول: أنا عربري” (19).
• الهيمنة: في سياق اهتمامه بأعمال ابن خلدون تبلورت لديه فكرة الهيمنة التي تحتم على المغلوب تقليد الغالب في نحلته وسائر أحواله وعوائده. وتوطدت هذه الهيمنة مع الاستعمار الجديد الذي ظل – وإن غادر مستعمراته إداريا وسياسيا- يكرس تبعيتها للمركز (الميتربول) الغربي ثقافيا ولغويا. ويدين حميش في هذا الصدد إلى إدوار سعيد بتصوراته وأفكاره النيرة التي تبين كيف تحولت الهيمنة من الاستعمار العسكري المباشر إلى الاستعمار الذهني والمعرفي ، ما سماه جوزيف ناي” القوة اللينة” في مقابل ” القوة الصلبة”. ومما راهن عليه المهيمن الغربي من إخضاع التابع نذكر ما يأتي: إحلال ذاكرة الأقوى محل ذاكرة التابع، تهجين شخصية هذا الأخير بإشعاره بدونية ثقافته وفجاجتها، وتعويده على التعامل مع هويته بصفتها عملة بخسة وتفاهة، وتجريده من إنسانيته.
وهذا ما يقتضي من التابع أن يتسلّح بالوعي والثقافة المعاكسين لمقاومة كثير من الأساطير التي يروجها الغرب عنه؛ حرصًا منه على إخضاعه وإذلاله، ولاكتساب المناعة والإرادة اللازمتين اللتين تسعفانه على التحرر من التبعيّة العمياء للمركز الغربي، والانخراط في الثقافة التنويرية سعيا إلى الخروج من منطقة القصور في استخدام العقل، وسعيًا إلى بذل الجهد للحاق بالدول المتقدمة.
-6 المسؤوليات
اشتغل أستاذا محاضرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية لتدريس مادتي الفلسفة العامة والمذاهب الفلسفية من عام 1975 إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون 4 عام 1983. واضطر سنة 2005 إلى مغادرة الجامعة طوعا بعد أن أصيب بخيبة أمل من إصلاح المنظومة التعليمية بسبب كثرة المشاكل التي يتخبط فيها القطاع، وقلة الميزانية المرصودة له، ونزوع الطرائق البيداغوجية إلى شحن عقول الطلبة بالمعلومات وحفزهم على استظهارها عوض تطوير مهاراتهم ومؤهلاتهم.
وتحمل أيضا مسؤوليات في حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” الذي انتمى إليه وعيا منه بأداء دور المثقف العضوي (أنطونيو كرامشي) أو المثقف النقدي (إدوارد سعيد) لمقاومة الفساد، وممارسة الديمقراطية الداخلية، وتوسيع صلاحيات المجلس الوطني، وإحياء مؤسسة الدراسات والأبحاث. واتّخذ مسافة من الحزب عندما عاين أنه يقصر في تأطير المواطنين سياسيا، ويهمش الثقافة في برامجه، ويبعد المثقفين من دائرة القرار ولا يستشيرهم على الأقل في بعض الأمور الحاسمة، ولا يدبر الصراعات الداخلية بطريقة ديمقراطية. وهذا ما حفز فئة من المثقفين إلى مغادرة سفينة الحزب من جراء ما كابدوه من صدود ونفور، وجعل فئة أخرى تجمد عضويتها في انتظار أن يتعافى ويأخذ العبر المناسبة من عثراته، وينتمي حميش إلى هذه الفئة “وهناك آخرون، وهم قلة، أملا في انبعاث جديد ممكن وتغلب على الانتكاسات المتواترة، آثروا الاكتفاء بالابتعاد وتجميد عضويتهم لأجل ما، وكان هذا خياري”(20).
تحمّل حقيبة وزارة الثقافة لمدة ثلاثين شهرا قبل أن تحل حكومة عباس الفاسي من جراء الاحتجاجات الشعبية التي شهدها المغرب أسوة بمعظم الدول العربية (ما يصطلح عليه الربيع العربي). وقد واجهته مشاكل كثيرة بسبب كثرة الألغاز والألغام في الوزارة، وضعف ميزانيتها، وتضارب مصالح مدرائها بحثا عن التموقع في المناصب العليا.
-7 السجالات
دخل في سجالات كثيرة تطلعنا عن سجيته وطبعه وانطوائه على ذاته. “إن ممارستي للسجال كانت دوما بالمنظور الذي سقته، ممارسة تدل عليّ وتنم جوهريا عن نفسيتي وعن بصماتي الشخصية وانطوائي الذاتي”(21).
ويدرج -في هذا الصدد- أربعة سجالات أقحمته في صراع وصدام فكري مع جهات معينة لتفنيد طرحها. يتوجه السجال الأول (لإنقاذ الإسلام من عبث التعميم) إلى الجهة (وخاصة اليمين الغربي) التي تحارب الإسلام على خلفية مؤامرة مدبرة، يوظف فيها الخلط الدلالي لتعويم الإسلام في التطرف سعيا إلى النيل من مبادئي وفلسفته في الحياة. وهكذا لاحظ أن اليهودي لا يُنعت باليهوداني (Judaiste) أي المتطرف اليهودي من إرهابيي إرغون وهاغانا أو أيكغل أمير قاتل إسحاق رابين، ولا يُنعت المسيحي بالمسيحاني (Christianiste) من إرهابيي الديانة المسيحية، في حين يُوصف المسلم المتطرف بالإسلامي (Islamiste)، ويُعمم الوصف على كل المسلمين لتأليب الرأي العام عليهم.
ويدور السجال الثاني (فضاءاتنا واكتساح الحرف اللاتيني)عن المبالغة في استعمال الحرف اللاتيني (التفرنس الكاسح) في المغرب على نطاق واسع (أسماء المقاهي والفنادق والمخازن والمراسلات الإدارية) على الرغم من اعتبار اللغة العربية اللغة الرسميّة في الدساتير المغربية المتعاقبة، واللغة المعتمدة في المراسلات الإدارية. “فالواجب الجماعيّ والعيني اليوم يقضي بحمايتها وصيانتها من حملات التهجين والتبخيس، وذلك بدءا بصياغة مشروع قانون تعرضه الحكومة على السلطة التشريعية حتى يصبح في أجل مقبول وساري المفعول “(22).
يُخصص السجال الثالث (أدونيس متدهورا) ليستهجن منجز أدونيس ومواقفه المتحاملة على العرب بوصفهم أمّة لا إبداعية لهم ولا دور لهم في مجال المعرفة والاختراع العلمي، وادعاؤه أن العنف متأصّل في الإسلام، وتحيّزه للثورة الخمينية، وتسفيه المقاومة السورية ضد نظام بشار الأسد. وعلاوة على استهجان مواقفه السياسيّة والفكرية، يعيب على شعره الاستغلاق والاعتياص.
أفرد السجال الرابع (يوسف زيدان والرمي بالمفرقعات) لمفرقعات يوسف زيدان الذي تَعرَّف إليه مرتين. مرة عندما نال جائزة البوكر عن روايته “عزازيل عام 2008″، ومرة ثانية في مكتبة الإسكندرية التي كان يشغل فيها منصب مدير قسم المخطوطات وقتئذ. وما أثار بنسالم حميش في هذا الشخص هو انكفاؤه على آلة الآيباد غير عابئ بجلسائه، ولا يلتفت إليهم إلا لماما. “وفي الغد أنبأني الغيطاني، ربما للتخفيف من استيائي أن صاحبنا هكذا دأبه حتى مع نخب المصريين يعاملهم بكثير من الخيلاء والاستكبار”(23). أتى حميش على ذكر مفرقعاته أو مغرباته (مجانبة الحقيقة في كثير من تدخلاته وآرائه) التي تجلي عدم تحريه فيما يقوله، ثم انتقدها بالحجة الدامغة. ومن ضمن هذه المفرقعات اعتباره الأمير الأندلسي عبد الرحمن الداخل رجلا سفيها، واعتماد الآية الشيطانية التي جنت على سلمان رشدي، وجلبت عليه كثيرا من المتاعب، ونفي نسبة ” الإشارات الإلهية” إلى أبي حيان التوحيدي، واختزال المغرب تعسفا في كلمة واحدة وهي الفرانكفونية. وعلاوة على هذه المفرقعات التي تدل- بحسب بنسالم حميش- على وقوع المعني بالأمر في بعض الأخطاء المعرفية، يلقي مداخلاته ومحاضراته بالعامية المصرية.
عمد السارد – بتقدمه في السن- إلى إبطاء السرد لمصلحة المعارف العالمة التي تبين على اختلافها (سواء فلسفية أكانت أم أدبية أم سجالية) نضج شخصيته، وتألقها في العالم العربي، وتحملها مسؤوليات جسام. وهكذا تحولت هذه الفترة من حياته إلى لوحات فكرية وتأملية يستعرض فيها مواقفه وآراءه من مختلف القضايا التي تستأثر باهتمامه. كما يضطر أحيانا إلى الدخول في سجال مع أشخاص معينين ليس بهدف كشف عوراتهم أو التنقيص من آرائهم بل سعيا إلى إثارة النقاش معهم، وتبادل المعارف والخبرات وإغنائها كما كان عليه الحال بين مختلف المجالات المعرفية في القديم (العلوم الطبيعية، وفقه اللغة، وعلم الكلام، والفقه، والفلسفة). فبالتناظر والجدال تتصادم المعارف (الرأي والرأي المعاكس) فيما بينها، وتتوالد التصورات الجديدة، وتنتقل البشرية من إبدال إلى آخر في جدلية قوامها الأبقى للأكثر ملاءمة للعصر، ومواكبةً لمستجداته ومتطلباته.
الخلاصات العامة
• بتوغلنا في قراءة المؤلَّف يتضح أن صاحبه سلك مسلكًا خاصا بتغليب المعرفة العالمة على السرد. أغلب من كتب في هذا اللون من الكتابة عن الذات اتخذوا السرد مطية لاسترجاع مسارهم الفكري في الحياة موضحين كيف تورطوا في الحياة، وانخرطوا في مجال معرفي محدد، ومبرزين تجربتهم في الحياة حتى تستلهم منها الأجيال القادمة العبر المناسبة. على العكس من ذلك استهدف بنسالم حميش المعرفة لذاتها لبيان العوامل التي حفزته على صعود الجبال وتحدي الصعاب لتحقيق مساعيه ومطامحه، وعلى خوض معارك شتى دفاعا عن اللغة العربية، وعن دور المثقف العضوي، وعن أهمية الحزب الطليعي، وتطلعا إلى النهوض الفكري والثقافي، وإلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا ما جعله عموما ينزع إلى إثارة القضايا النظرية والفكرية والسياسية من خلال البنية التخييلية والسردية عينها.
• يدمج أغلب الكتاب الميتا تخييل في البنية السردية كما لو كانت مرايا بنيوية (الإحالة الذاتية) لا تراهن على إثبات حضور الكاتب فيما يكتب وإنما إبراز وعيه بممارسته، وتعرُّفه العالم من خلال اللغة التي تسعف على الخروج من المتاهة التي تحجب الحقيقة، وهذا ما يؤشر على التحرر من مأزق اللغة التي أنهكتها الشفافية والإيدولوجيا (دور الوساطة الثقافية في تجديد نسغ اللغة). نعاين في السيرة الذاتية لبنسالم حميش أن الميتاتخييل مستهدف لذاته مؤديا الأدوار المتوخاة منه. فعلاوة على ما سبق ذكره، يبالغ في توطيد الشبكة التناصية، ويلغي الحدود بين المعارف والأجناس المتخللة، ويعزز آليات المحاكاة الساخرة،ويدعم الوعي الذاتي الشكلي (Autoconscience formelle) والإحالية الذاتية (Autoréférentialité) موسعا مساحة السردية النرجسية، (الأنا المبجل في تقابل مع الأنا المستكره)، ويراهن على استفزاز المتلقي وإشراكه في بناء النص عوض إيقاعه في وهم الواقع، أو إيهامه بتمثيل قصة محتملة الواقع.
عوض أن يراهن تجاور السرد والنقد على تمثيل الواقع، يكشف لنا كثيرا من العيِّنات السيرذاتية المضمرة فيه (استلهم المؤلف ملعب السجناء في روايته “معذبتي2010” من الفضاء الذي مارس فيه- وهو في ريعان شبابه- هواية كرة القدم بمكناس)، ويبين تصوره للرواية التي يرى أنها تتميز عن غيرها من الأجناس بجملة من الاعتبارات (الحرية والانفتاح واللاوعي)، ويرصد تكون بعض أعماله الروائية (مثلا كانت “مجنون الحكم”- في البداية- عبارة عن قصيدة شعرية، ثم سرعان ما حولها إلى مشروع روائي يستوعب ربع قرن من حكم أغرب خليفة في تاريخ العرب الوسيط، وهو أبو علي منصور الملقب بالحاكم بأمر الله).
• نطلع -من خلال المؤلف- على الوظيفة التوثيقية والبيبليوغرافية(24) التي اعتمدها المؤلف لإبراز ثقافته الواسعة، ومطالعاته الثرة، وميولاته الفلسفية والأدبية. و يمكن بذلك أن نستخرج منه قائمة المراجع والمصادر التي سبق للمؤلف أن قرأها واستفاد منها لتنمية شخصيته، وصقل مواهبه، وتمتين معارفه، وتعزيز قدراته الإبداعية. كما نتعرَّفُ الأدباءَ والفلاسفةَ الذين يشغلون مكانة كبيرة في حياته لملاءمة أفكارهم، وقوة التأثير الذي مارسوه عليه، وفي مقدمتهم نذكر مفكرين من قبيل كارل ماركس وجون بول سارتر و إدوارد سعيد، واقتصاديين من حجم جون كيتس وأمرتيا سين وجوزيف ستيكليتز، وروائيين من طراز مارسيل بروست، وفيدور دستويفسكي، وإميل زولا ونجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وجون شتانييك.