1 – فلسفة الدين الغربيّة وجذور التحديث الأولى
يعرض سؤال البدء في هذا التمهيد العامّ لفلسفة الدين الغربيّة: كيف أمكن نقد الدين بالفلسفة لتنفتح بذلك آفاق جديدة للدّين وتسْتثري الفلسفة بالدين في ذات الحين خلال فترتيْن حاسمتيْن مَفصليّتيْن هما القَرْنان السابع عشر والثامن عشر لميلاد المسيح؟
هذا السؤال قد يتولّد عنه سؤال آخر يخصّ واقعنا الفكريّ العربيّ المعاصر بعد الّذي أصابنا منذ أزمنة الانحطاط إلى اليوم من تخلّف: ما الّذي قضى تضييق الدّين (الإسلام تحديدًا) بالعشيرة والطائفة والكراهيّة بدلاً عن القِيم السامية وفلسفة الأخلاق تحديدًا عند البناء على الفكر الأخلاقيّ التُراثيّ والفكر الأخلاقيّ الغربيّ، ونحن نُقرّ العزم الآن على الخوض في مختلف مواضيعه وقضاياه؟
المقارنة، هنا، ضروريّة لا مفرّ منها بين دين تطوّر وتصالح مع الفلسفة، بل استفاد عميقا منها وبين دين لا يزال مُصْلحوه ومُفكّروه، منذ القرن التاسع عشر، يُغالبون قوى الجذب إلى الوراء، تلك الرافضة لأيّ عمل إصلاحيّ، وأيّ تنوير وتحديث بمُبرّرات شتّى.
فهل تتراتب الأديان، كالّذي ذهب شلايرماخر وغيره من فلاسفة الغرب الحداثيّين عند القول بـ«أديان عليا» وأخرى «دُنيا»، وبـ«الأديان الإيجابيّة» و«السلبيّة»، الأديان المتطوّرة والأديان الساكنة، المتغيّرة المجدّدة والجامدة التقليديّة؟
وتمهيدًا للخوض في تفاصيل تأمّلات فلاسفة القرنيْن السابع عشر والثامن عشر الغربيّين في الدين والأخلاق نُشير ابتداءً إلى أسماء ومراجع أساسيّة لتناوُل موضوع الحداثة الغربيّة الّتي فتحت الآفاق واسعة أمام إصلاح الفكر الدينيّ المسيحيّ بالرجوع إلى تراث فكريّ دينيّ يحمل جذور التنوير والتحديث، كالقدّيس أوغسطين ثمّ القدّيس طوماس الإكوينيّ، وإلى تراث فلسفيّ إغريقيّ قديم، كسقراط وأفلاطون وأرسطو وعدد من الفلاسفة الرواقيّين (les stoïciens)…
2 – «غريزة الإلهيّ» مرجع لكُلّ من الدين والأخلاق.
السؤال الّذي أثاره إيميل سيسي (Emile Saisset) في القرن التاسع عشر بخصوص الاختلاف بين الدين والفلسفة في اتّجاه، وبين الدولة والدين في اتّجاه آخر هو سؤال قديم يعود إلى بدايات النهضة الغربيّة، إذْ لولا الخوض في الدين والفلسفة والدولة والحسم النظريّ والإجرائيّ في الصلات القائمة بينها لما أمكن الخروج من دائرة الدوغما الغاشمة للاهوت طيلة قرون الّذي استحوذ على الأخلاق واستبدّ بالفكر والدولة والمجتمع في ذات الحين.
السؤال المرجعيّ الّذي شغل بال كُلّ فيلسوف منذ ديكارت، أي طيلة ثلاثة قرون، هو: كيف نُخلّص المسيحيّة من الدوغما للانخراط في العصر والانتقال بها إلى ديانة سماويّة إلهيّة منفتحة؟
الوعي، هنا، بخطر التزمّت يعني انقلاب الدين إلى نقيضه، ليستحيل بذلك إلى دين لا أخلاقيّ، كأن يُجوّز تكفير الآخر لفِكرةٍ مّا ويُحرّض على القتل والتمثيل بالجثّة والتمييز العنصريّ وغيرها من الآثام…
وُلد الإنسان وهو يحمل في ذاته حاجتيْن، حسب إيميل سيسي: الحاجة إلى الأخلاق والحاجة إلى الدين (1).
إنّ الفصل بين الّدين والأخلاق أو حصر الدين في الأخلاق يدفع كارثيّا إلى الزجّ بالدّين في دائرة مغلقة يُضحي بها فكرا جامدًا مُعاديا للفرد والفرديّة، قامعا للحرّيّة الإنسانيّة، وللمجموعة أيضا، مُهيْمنا بالسلب على مؤسّسات الدولة والمجتمع ليفقد بذلك البعض الكثير من قداسته وينقلب إلى مجرّد واجب زجريّ لا يرحم حتّى مُعتنقيه ويُحرّض البعض ضدّ البعض الآخر.
كذا يدعو الفرنسيّ إيميل سيسي، مترجم العدد الوفير من أعمال فلاسفة الحداثة الغربيّة من الإنجليز والألمان على وجه الخصوص في القرن التاسع عشر، إلى المبادئ الّتي تنصّ على الحريّة والإرادة والذكاء والمحبّة بمدى اقتدار الكائن البشريّ تفكيرا على التشميل والتخصيص في ذات الحين، بالتموقُع والاسترجاع والاستباق لما يحمله في ذاته من «غريزة اللاّ- نهائيّ»، هذه الغريزة الإلهيّة الّتي بها يُدرك الأبديّة (Eternité) ويُحدّد هذه الأبديّة بالزمن.
فليس بإمكان الإنسان الانتماء إلى المجموعة الإنسانيّة، حسب إيميل سيسي، من غير عقيدة. لذا فهو يُقرّ وُجود غريزتيْن مُتلازمتيْن في الذات الإنسانيّة: «الغريزة» الأخلاقيّة الدينيّة، مع الجمع والتفريق بينهما مفهومًا، و»الغريزة الإلهيّة»، مع الجمع والتفريق بينهما مفهومًا.
غريزتان وثالوث مفاهيميّ: أخلاق، دين، اعتقاد في الإله تختصر مجمل الصلات بين الأعمّ الّذي هو الأخلاق، مرجع كُلّ شيء في حياة الإنسان العمليّة وبين الدين الّذي يُحدّد الأخلاق بالمَأْسَسَة (الكنيسة) والواجب (مُتابعة الأخلاق وضْعًا) والاعتقاد في الإله الّذي هو اعتقاد فرديّ يُجسّد حالا فرديّة لا تتكرّر لدى فرد آخر، وبها يكون الانفتاح صوب اللاّ-نهائيّ، أفق الحريّة الفرديّة الحادث والممكن.
كذا «غريزة الإلهيّ» هي الأفق الأكثر اتّساعًا للتفكير والحريّة أو التفكير بحريّة لدى إيميل سيسي، وقد استقى معانيها العميقة من فلاسفة الغرب عُمومًا ومن سبينوزا، على وجه الخصوص. وابتداءً، إذْ كُلّ شيء ينبثق من هذا الكلّ الواحد المنفتح اللاّنهائيّ الّذي قضى الحاجة إلى الدين بما هو أبعد وأعمق منه بدلالة «الإلهيّ» (2).
إلاّ أنّ «غريزة الإلهيّ»، هنا، هي فكرة مرجعيّة سادت في القرن السابع عشر وقضت التوجُّهَ إلى تحرير الدّين من الدوغما بالعقل أو بـ»وحدة الوجود» (Panthéisme).
3 – من القدّيس أوغسطين إلى القدّيس طوماس الإكوينيّ: أفق الحريّة الممكن خارج مطبّ الدوغما الدينيّة
إنّ من أهمّ المراجع الّتي عاد إليها فلاسفة الحداثة الغربيّة خلال القرنيْن السابع والثامن عشر، إضافةً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطووالرواقيّين، القدّيس أوغسطين (Saint-Augustin) (354م-430م) والقدّيس طوماس الإكوينيّ (Thomas d’Aquin) (1228 م- 1274 م)، كما أسلفنا.
فالمُتتبع لمراجع ثقافة القدّيس أوغسطين يُدْرك الثراء المعرفيّ لمن كان يعتنق الديانة المانويّة الفارسيّة قبل اعتناقه المسيحيّة (3). فكان أن أثارسؤال «الحقيقيّ» بروح التسامح الّتي هي وليدة اعتقاد سابق مانويّ ثمّ لاحق مسيحيّ.
إنّ الحواسّ، في نظره، هي الّتي تجعلنا ندرك ابتداءً حقيقة الشيء، والذات هي الشاهدة على ما هو موجود (4).
فمن أين يتأتّى الخطأ أو الصواب في تحديد ما هو حقيقيّ؟
للإجابة على هذا السؤال يستعين القدّيس أوغسطين بالإله على الظلمات الّتي هي رمز الجهل والشرّ، كالاعتقاد المانويّ القديم الّذي يُقابل بين «مملكة الأنوار» (الخير) و«مملكة الظلمات» (الشرّ). فكما يحتاج الإنسان وُجودًا إلى الخير والشرّ معًا فإنّه لا يُدرك الخطأ إلاّ بالصواب، والصواب بالخطإ، شأن النور لا يتّضح للرائي إلاّ بالظُلمة، والظُلمة لا تنكشف إلاّ بالنور، ولا ديمومة لأيّ منهما، مثلما لا استمرار في الصواب أو الخطأ، بل هي المراوحة اقتضاها الوضع الإنسانيّ.
غير أنّ القول بالازدواج dualité، منذ التسليم اعتقادًا بـ«الأنوار» و«الظُلُمات» بمرجع عقديّ مانويّ مُتضمّن تناصّا في ذات الخطاب الواحد، يجزم بأنّ الحقيقة أبديّة، والإنسان خالد بالروح، و القوّة الإنسانيّة مستمدّة من اللّه.
الحقيقة، هنا، تظلّ سُؤالا قائمًا يستلزم إجابةً، من أجلها كان الوجود، والوجود الإنسانيّ على وجه الخصوص. فهل سيستمرّ العالم في البقاء مستقبلا أم سيندثر لتندثر معه الحقيقة؟ وهل بالإمكان وجود حقيقة أبديّة؟ وأيّ حقيقة (5)؟
وإذا وثوقيّة الدين تصطدم بروح التفلسف والحاجة إليه لدى القدّيس أوغسطين. وقياسًا على سؤال الحقيقة عمومًا يُثار سُؤال الروح: كيف نُدرك معنى الروح؟
إنّ بالحكمة نُفكّر في الروح. والروح هي مبعث السعادة، الأمل، في حين يُمثّل الجسد مَنْبت الألم.
بديهيّ أن ينتصر القدّيس أوغسطين للروح على الجسد، وللسعادة على الألم، كأن يدعو إلى مغالبة الشهوات ومعرفة الذات طريقا إلى معرفة الإله بموقف زُهديّ يُمسي حالاً شبه صوفيّة. فلا انفصال بين معرفة الذات ومعرفة الإله، ويقينُه أنّ اللّه موجود. غير أنّ هذه الحقيقة تستدعي من الإنسان المفكّر البحث عن البرهان، وهو بُرهان لا يُدرك بالحواس تشبيها بالشمس تُشعّ وتُضيء واستنادًا إلى أشياء ثلاثة: اللّه موجود، وهو قابل للتفكير فيه، وهو مانح المعرفة، معرفة الأشياء الأخرى.
فالمعرفة، هنا، لا تتقاطع مع العقيدة، لذا نراه يؤالف بين الدين والفلسفة رافضا القياس الجاهز لمعرفة الإله، كالقياس بالطبيعة والمرئيّ والمحسوس لمُقاربة وجود هو أبعد من الطبيعة، بمدلول الأقصى الميتا-فيزيقيّ.
وكُلّما تغلّقت السُبُل أمامه لاذ بالإله صلاةً أراد بها الاستعانة على الجهل، وحُجّته القلبيّة في ذلك أنّ الإله «جوهر أبديّ حقيقيّ» لا يعني التباسًا في ذاته، ولا بقبل تغيّرا وضرورة و موتًا، بل هو مُطلق النظام وأعلى درجات الاكتمال (6).
إنّ مانويّة القدّيس أوغسطين حاضرة في عميق خطابه، كما أسلفنا، وبالحكمة من خلق الخير والشرّ. إلاّ أنّ صفة تعالي الإله هي من المسيحيّة وإليها، لأنّ الإله المانويّ مُقيم بين عالم الأنوار وعالم الظلمات، و الإله المسيحيّ هو الأعلى من الإنسان ومن المسيح في بنية المثلّث.
وإذا الإرادة الإنسانيّة، كما ارتآها القدّيس أوغسطين نَزّاعة إلى الخير، والعقل ميّال إلى حقيقة الأشياء الّتي تختلف عن الحقيقة المطلقة القائمة في عالم آخر غير هذا العالم.
إنّ مُنطلق القدّيس أوغسطين هو الدّين، أمّا الفلسفة فهي الأفق الّذي أرادَ به توسيع مجال الدين بالحرص على تجاوُز وُثوقيّته الدوغمائيّة إلى يقين جديد لا يقطع مع الدين،إلاّ أنّه ينشد حقيقة أبعد من الواجب والإلزام والثواب والعقاب، وذلك بالتوجّه تفكيرًا إلى المعرفة والعقل والحريّة لإكساب المعرفة الدينيّة بالفلسفة صفة التعدّد والشمول والانفتاح على الحقيقة باعتبارها مشروعًا دائمًا للفهم بعيدًا عن المعطى الجاهز.
وبالنهج ذاته المتفلسف بالدّين سعى القدّيس طوماس الإكوينيّ بعد ثمانية قرون ونيف إلى إثارة سؤال: هل التيولوجيا علم؟
إنّ أولويّة الدّين حاضرة أيضا في تفكير القدّيس طوماس الإكوينيّ، والحقيقة لديه هي حقيقة نقليّة في الأساس والمرجع، كالّذي ذهب إليه القدّيس أوغسطين. إلاّ أنّ الحقيقة لدى القدّيس أوغسطين مشروع للفهم، وهي أقرب إلى الحقيقة الواحدة الثابتة لدى القدّيس طوماس الإكوينيّ كأن يُستدلّ عليها بالعقل انتهاءً كابتداء.
وهل «التيولوجيا علم تطبيقيّ»؟ ، هذا السؤال الثاني منبثق عن الأوّل.
وكأنّ المنهج التنظيريّ الغالب على مفهوم الدين في صلته بالتفلسُف لدى القدّيس أوغسطين يستحيل إلى منهج عمليّ عند القدّيس طوماس الإكوينيّ مُتّبعا في ذلك نهج أرسطو واصلا في تناول موضوع التيولوجيا بين القانون القديم والقانون الجديد لمُواكبة الوقائع الحادثة.
وإذا الأخلاق، حسب القدّيس طوماس الإكوينيّ، علم عمليّ محض (7).
فالمرجعيّة الدينيّة المسيحيّة واحدة لكُلّ من القدّيس أوغسطين والقدّيس طوماس الإكوينيّ مع الإلماح إلى اختلاف مفاده العقيدة المانويّة السابقة لدى الأوّل. إلاّ أنّ المرجعيّة الفلسفيّة تُباعد بينهما كالآتي:
القدّيس أوغسطين القدّيس طوماس الإكوينيّ
أفلاطون أفلوطين أرسطو على وجه الخصوص
وكأنّ هذين الإسميْن العلميْن يُمهّدان لاتّجاهات فلسفة الحداثة الغربيّة المُتجاذَبة بين المثاليّة والواقعيّة، بين النظر والعمل، بين التجريد والتجريب. فيتّضح للقدّيس طوماس الإكوينيّ أنّ التيولوجيا علم مُقدّس وعمليّ (8).
ولأنّ أيّ علم عمليّ موضوع هو الأشياء الّتي بإمكان الإنسان إنجازها فإنّ الأخلاق علم عمليّ يهتمّ أساسا بالأعمال الإنسانيّة. والتيولوجيا، بهذا المنظور الأخلاقيّ، هي علم عمليّ يتّخذ له هدفا هو تحقيق السعادة الأبديّة، وإليها تعود كلّ العلوم الأخرى (9).
إلاّ أنّ القدّيس طوماس الإكوينيّ لا يذهب بعيدًا في تحديد الصفة العمليّة للتيولوجيا والأخلاق ، وكأنّه بذلك يتدارك الإجحاف في القول بالصفة العمليّة، كأن يعتبر في موطن آخر من كتابه أنّ التيولوجيا لا يمكن أن تكون علما صرفا لأنّها لا تتناول الأشياء موضوعًا لها، بل الأخلاق العمليّة الإنسانيّة ليُقرّ ازدواج الصفة بأنْ تنزع التيولوجيا إلى الإطلاق نُزوعَها إلى التطبيق (10).
ومن الأفكار الأخرى الهامّة للقدّيس طوماس الإكوينيّ نفي الزمن عند ابتداء الخلق، وتأكيد التلازم في أصل العالم بين خلق المادّة والزمن، ولا معنى للكراهيّة في المطلق، وصلة الكراهيّة بالشرّ، ومثولها في الأشياء لا الروح (Esprit)، وعلاقة الرحمة (grace) بالإله لوحده (11)…
ولكنْ، كيف استفادت الفلسفة الغربيّة تحديدًا من أفكار كُلّ من القدّيس أوغسطيْن والقدّيس طوماس الإكوينيّ؟
4 – ريني ديكارت: «ينبغي أن نكون أكثر من إنسان».
فما الّذي يعنيه ريني ديكارت (René Descartes) (1596م-1650م) بالنزوع إلى ما هو أكثر من إنسان؟
لاشكّ أنّ هذا القول هو قول وتدٌ لم يُلْق على عواهِنه، بل نذهب هنا إلى التسليم بأنّه قول يختصر نواة المشروع الديكارتيّ في التفكير داخل الدين بما هو أبعد منه مجالا وأفقا، إذْ هو مختصر فلسفة ديكارت العامّة، والأخلاقيّة تحديدًا(12).
وإنْ بدا ديكارت عمليّا في منهجه فهو في الأساس والمرجع أخلاقيّ، لأنّه مدفوع بهذه الفكرة الأولى القائلة بمدى الحاجة إلى «أن نكون أكثر من إنسان» (13).
فديكارت الفيلسوف، هنا، هو المسيحيّ تنشئةً، بل المتحمّس لمسيحيّته المُرتعب من أجلها بسبب تحجّرها، المنتصر للتجربة مِحكّا يُمكن به تحريرها من الغُلوّ في الممارسات والسلوكات الفرديّة والعامّة، إذْ يقتضي. «الشكّ المنهجيّ» قاعدة أخلاقيّة شبه ثابتة مَفادُها الصرامة في الفعل باعتماد الأفكار الأقلّ شكّا والأكثر يقينًا، وتضييق ما ثبت صوابه بعْد تجربة، ثمّ الاعتقاد ثالثا في أنّ الّذي نمْتلكه حقّا هو أفكارنا للوصول إلى الحقيقة الّتي مُختصرها أنّنا «نريد ما نقدر عليه ونقدر على ما نريده» (14)، لتجنّب أخطار كثيرة جِسامٍ، ذلك أنّ التساوي بين الإرادة والرغبة الإنسانيّتيْن لا يجعل الإنسان إلها أو متألّها ولا يخفض الإنسان إلى درجة الإنسان العاديّ أو ما هو دون الإنسان، بل»الأكثر من إنسان»، أي في مرتبة تنزع إلى مقاربة الألوهيّة من غير التماهي المطلق مع الإله حدّ التفريق بين إنسان وآخر: مُكفِّر ومُكفَّر.
لقد صرّح ديكارت بأنّه قضّى حياته كاملة وهو يُثقّف عقله قصد تطوير نظره في الحقيقة باعتماد منهج لا يُباعد بين ذاته المفكّرة تخصيصا وإمكان التفكير بالرغبة والإرادة والحرص على الفعل.
وهنا يلتقي وسقراط وأفلاطون في ربط المعرفة بـ»الخير». إلاّ أنّ المعرفة الديكارتيّة هي تجسيد لحال الموجود في الوجود بمختصر الكوجيتو: «أنا أفكّر، إذن، أنا موجود». ذلك أنّ صفة الموجوديّة متلازمة والتفكير، مثلما التفكير هو قرين الموجوديّة، ثمّ إنّ التفكير بالموجوديّة والموجوديّة بالتفكير هُما في صميم سياق مُحدّد بلحظة (زمن) وموقع (مكان) (15).
إلاّ أنّ الكوجيتو الديكارتيّ قائم في منظومة الفكر الدينيّ، برفض الدوغما الدينيّة والتوجّه إلى الحريّة والتفكير استجابة «للطبيعة الإنسانيّة» (16). كما أنّ الكوجيتو هو نتاج الإقرار بأهمّيّة العقل الّذي يُقارب بين الإنسان والإله، كأن تُحيل الطبيعة الإنسانيّة حتْمًا إلى الطبيعة الإلهيّة، ويسعى إلى التفكير بماهو أبعد من الحواسّ وظاهر الجسد، أي العقل الّذي يعلو بالميتافيزيقا لمُقاربة الإله، والعقل الّذي يتوسّط الوُثوقيّة في اتّجاه والرّيْبيّة في اتّجاه آخر، بانتهاج سبيل ثالث يشكّ بالعقل لبلوغ يقين مّا، لا الشكّ المُقوّض لأيّ وُثوق كانَ.
5 – الشكّ الباسكاليّ وجْه آخر لممارسة الحريّة الإنسانيّة
فكّر بلاز دي باسكال (Blaise De Pascal) (1623م- 1662 م) فلسفةً داخل السياق الدينيّ أيضا مُعتبرا أنّه لا إمكان للمعرفة خارج حدود العقيدة. إلاّ أنّ الحقيقة الّتي نزع إليها باسكال ليست «حقيقة» الدوغمائيّين القائمة على «الشغور»(sentiment) (17).
العقل حاضر هو الآخر في بحث باسكال عن الحقيقة، شأنه في ذلك شأن ديكارت، وهو عقل لا يتناقض والدّين، بل إنّ الدين هو في حاجة ماسّة إليهما معًا (الفلسفة والعقل) للتحرّر من الدوغما وإنتاج أفكار جديدة يُمكن بها تغيير الوقائع.
فالإنسان، حسب باسكال مُتردّد بين الغريزة المحفّزة في الداخل على السعادة وبين الأهواء الدافعة إلى الإسفال في اتّجاه الخارج. والفلسفة، مثل الغريزة، تحرّض على التسامي داخل الذات والتوسّل بالعقل.
وإذا الإنسان في منزلة وسطٍ بين الألوهيّة والحيوانيّة (18). لذا فهو كائن ناقص، نتيجةَ هذه الوضعيّة، كأن ينشد الكمال في اتّجاهٍ ويتهدّده الشقاء في اتّجاهٍ آخر.
وما الدين إلاّ الأمل الوحيد لمُواجهة هذا الشعور الحادّ بالشقاء ومُغالبة القلق بنُشدان حياةٍ أبديّة بعْد الموت (19).
إلاّ أنّ الشعور بالشقاء الإنسانيّ يحتدّ حينما تُثار أسئلة الوجود الكبرى، كسُؤال الأصل والمآل وماهيّة العالم وغيرها…، لبلوغ حالةٍ من الجهل المرعب (20) الّذي لا يقتصر على قضايا الوجود الكبرى، بل يشمل الجسد والحواسّ والروح. فيحتدّ الشعور لدى باسكال بالانحباس داخل «أكوان مجهولة لا نهائيّة»، بما يظهر له من امتداد يليه امتداد، وبالنهاية المحتومة (الموت). غير أنّ الريْبيّة حاضرة في تفكيره، وهي الوجه الآخر للوثوقيّة الدينيّة، وخاصّة حينما يُنظر إلى المآل، إلى النهاية بعد الموت، في اتّجاه العدم أو الإله؟! (21).
كذا الشقاء الإنسانيّ بالمنظور الباسكاليّ عند ممارسة حريّة التفكير خارج فِخاخ الدوغما الدينيّة وتوسيع مجال هذا التفكير بالإله: عجز وظلمة حالكة (22) ولا مُساعد على مواجهة هذه الوضعيّة المأساويّة إلاّ بالّدين وما يُمثّله من أمل، كالمتجلّي في المسيح والمسيحيّة (23).
هذا الدين الّذي يُقرّب المسافة بين الزمن والأبديّة ويسعى بتسامُح إلى تفهّم انقسام البشريّة إلى معتقدين فيه وغير معتقدين، مع رفض تكفير البعض للبعض الآخر، بل تفهّم هؤلاء لأولائك والدعاء لهم بالمغفرة، لكونهم ينتمون جميعا إلى أسرة إنسانيّة واحدة (24).
اللّه، كما يرتئيه باسكال، لا ينكشف وجودًا بـ»الأنوار الطبيعيّة»، ثمّ إنّ هذه الأنوار لا تكشف عن وجود لا نهائيّ، بِهِ يُعرّف الإله.
لذا فالتدليل على الوجود الإلهيّ بما هو ظاهر طبيعيّ إمكانٌ مُستحيل. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالاعتقاد.
غير أنّ الاعتقاد عاجز عن البرْهنة، والعقل عاجز هو أيضا عن بلوغ المعرفة الإلهيّة، إلاّ بالمخاطرة (Le pari) الذتي مفادها التوجّه إلى إثبات وُجوده، فإن تأكّد ذلك بعد الموت كان الربح الأكبر، وإنْ ثبت العكس فلا ربح ولا خسارة (25).
هذا النهج العقلانيّ المُتَّبَع يصطدم بالحقيقة الّتي سبق أن أوضحنا مقصدها العامّ، ومحصّلُها أنّ الإله خفيّ، وليس بمقدور الحواسّ والعقل بلوغ هذا الّذي يُحدس و لا يُرى.
كذا يكون الالتجاء إلى الشعور (Sentiment) سبلا إلى الحقيقة الربّانيّة.
إنّ حيْرة باسْكال شبيهة بحيْرة ديكارت. غير أنّ منهج كلّ منهما مختلف عن الآخر بمدى اليقين والشكّ، عند تغلّب اليقين على الشكّ أو الشكّ على اليقين، بالشكّ المنهجيّ الديكارتيّ سبيلا إلى اليقين وبالشكّ المذهبيّ الباسكاليّ سبيلا إلى يقين غير يقينيّ، إذا جازت العبارة. وكلّ هذا الاختلاف قائم ضمن دائرة ممارسة حريّة التفكير بالدين ومن خلاله بما يسعى إلى تحريره من إرث الدوغما الثقيل.
6 – سبينوزا و»وحدة الوجود» (Pantheisme).
الشكّ بمنظور باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza) (1632م-1677 م) هو منهج نحو «توقيف الحكم» بمعالجة الفرضيّات والتوسّل بالتجربة للقياس عليها كي يستفيد منه في زمن لاحق عددٌ من الفلاسفة كدافيد هيوم وكافّة مُتّبعي «التيّار التحليليّ» وكانط وفيشته (Fichte) وشيلنغ (shelling) وهيقل (Hegel)…
إنّ «وحدة الوجود» هي الفكر الأساس في فلسفة سبينوزا، وقد كان لها أثر عميق في الفلسفة الغربيّة منذ القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد (26).
الوجود، حسب سبينوزا، «لا نهائيّ وأبديّ»، لأنّه محدّد ابتداءً وانتهاءً بالألوهيّة وقادم الزمن (المستقبل المنفتح).
وإذا المطلق السبينوزيّ قائم على «الإيتيقا»، كالمتضمَّن في كتابه «الإيتيقا» عند انتهاج سبيل الكتابة الرياضيّة لأداء الكتابة الفلسفيّة، بالتجريد الرياضيّ تفكيرًا في الكُلّ، في الخير لتحقيق سعادة الروح المطلقة الكاملة، وفي الحبّ، هذا المطلق الأبديّ الكلّيّ، الحبّ الدالّ على البهجة ونقيض الحزن والقلق.
إنّ فكرة «الوجود اللاّ-نهائيّ والأبديّ» هي الّتي حفّزت سبينوزا على توسيع آفاق الدين بالأخلاق والألوهيّة والمستقبل لتتحدّد المعرفة لديْه بأربع مراتِب (27).
إنّ أيّ مذهب فلسفيّ، حسب سبينوزا، قائم على اللاّ-نهائيّ (l’infini) والمُكتمل (le parfait) والجوهر (substance). و لا إدراك للجوهر إلاّ بالصفات المُحايثة له الّتي ليس بالإمكان فصلها عنه، وإلاّ فإنّه يفقد معنى الجوهر الّذي به يكون.
إنّ بدْء الحقيقة أو الطريق إليها لا يكون إلاّ ابتداءً من الاله والعود إليه لبيان «واحديّة الجوهر» بناءً على التسليم السبينوزيّ شبه اليقينيّ بأنّ الإله متكوّن من صفات لا نهائيّة، لكلّ واحدة منها ماهيّة أبديّة ولا نهائيّة أيضا.
وإذا الإله هو الجوهر، وهو الوجود في ذاته ولِذاته، الوجود الكامل اللاّ-نهائيّ غير القابل للتجزئة، اللاّ-مرئيّ، لأنّه بلا وجه ولا شكل ولا حُدود ولا جسد، كالفكر والامتداد المطلقين. هو الكلّ والطبيعة المُطبعة (nature naturante)، كوْن واحد بصفتيْن ماديّة وروحيّة، أي كُلّ بجوهر واحد وطبيعة واحدة أيضا.
فننتقل من «إله» سابق قاهر للإنسان الفرد وقامع لحريّته، كأن يتدخّل في كامل حياته الخاصّة وفي الحياة السياسيّة والمدنيّة العامّة بالهيمنة والاستعباد الكامليْن إلى إله لاحق (إله سبينوزيّ المفهوم)، يُحفّز على الحريّة، مُطلق لا-نهائيّ رافض للحدّ والعجز مُحرّض على الإرادة والفعل والمحبّة، وهو إله أكثر من خالق لتجاوُزه فعل الخلق بالأبديّة، سَبب كُلّ الأسْباب. هو خالق باستمرار، إذْ لا توقّف للخلق لديه، لأنّ العالم المخلوق بلا ابتداء ولا انتهاء.
وإذا مجال الدّين بالتفكير في الإله، في وُجوده بالحُجّة الما-قبليّة (a priori) وبالحجّة الما-بعديّة (a postriori). بالإله خالق كُلّ شيء وغير المُتوقّف على الخلق، لأنّه يُحيلُنا إلى عقل أعْلى فعّال (intellect) بلا انقطاع (28).
إنّ معرفة اللّه أبديّة، وأفضل دليل على وُجوده هو الطبيعة الّي تُحيل بدورها إلى جوهر واحد (29).
فكلّ شيء قابل للاجتزاء إلاّ اللّه، كما أنّ أيّ موجود هو موجود في ذاته، لأنّه السبب المحايِث لجميع الأشياء (30).
لقد خاض سبينوزا بأسوب حواريّ في ماهيّة الإله ضِمن مُلحقه المذكور الّذي خصّصه للأخلاق (31). فاتّضح له عند الخوض في الصفات الخاصّة بالإله أنّ الإله هو مجمع أسباب في سبب جوهريّ واحد، سبب مُحايث بفعله في ذاته (en soi) ولا شيء بخصوصه مُتأتّ من الخارج، لأنّه سبب حُرّ غير طبيعيّ، قائم بذاته (par soi)، وهو السبب الرئيسيّ لأعماله الّتي أنشأها بذاته وبصفةٍ مباشرة، كالحريّة الماثلة في المادّة (32).
فهذا السبب الأوّل الأساسيّ هو السبب العامّ لكَوْنِه المُقتدر على إنجاز أعمال لا محدودة مُتنوّعة، وهو أيضا السبب القريب من الأشياء اللاّ-محدودة وغير المتحرّكة، والسبب الأخير أيضا، بالنسبة لكلّ الأشياء الدقيقة.
إنّ الإله، هذا الواحد المطلق اللاّ-محدود، هو الّذي فتح التفكير الفلسفيّ الغربيّ بقوّة وافتتان على الأبديّة والجمال والعدل والخير والمحبّة، لكوْن الخلق مُتواصِلاً وغير مُحدّد بزمن، والخلق هو إتقان، والخلق تنسيب مُقدّر بحكمة، كالعقل والخير والشرّ، وكمعنى الخير يستقدِمُ إليه الشرّ كي ينكشف، والشرّ يستدعي إليه الخير. فهذا التنسيب القيميّ المُتّصل بالخلق يقضي إحالة صفات الإنسان إلى صفات الخالق، غير أنّ نُقصان الكائن البشريّ مُحدّد بـ»وُجهة النظر»، بالصواب والخطأ، بالعقل الّذي به نُدرك العقيدة الصحيحة، وبالهوى (passion) الماثل هو الآخر في طبيعة الإنسان استنادًا إلى حكمة الخلق ذاته.
إنّ الإنسان خلق إلهيّ ينشد الكمال. إلاّ أنّه يحمل أهواء، وهو متعدّد في واحد، كأن ينزع بالطبيعة المتأصّلة فيه إلى الخير والشرّ وتتجاذبه المحبّة والكراهيّة، وينزع بالمحبّة إلى المعرفة. ألم يتمثّل سُقراط الصراع بين الخير والشرّ فيه وهو يُعاقب عبده وتوصّل إلى أنّه ليس من حقّه الاستمرار في المعاقبة، فأدرك معنى الخير بنقيضه الّذي هو الشرّ، وبناءً على هذا الفهم توصّل إلى الحقيقة الّتي مفادها أنّه لا بُدّ من العقل لمُغالبة الكراهيّة، ولا شيء يتوسّط الحسن والقبيح، النفع والضرر إلاّ الترياق(33) pharmakon ، إذ بالعقل تنتفي الكراهيّة والعداء ونتعلّم محبّة الآخرين ونُدرك معنى الحسَن ونُقارب مفهوم «الإنسان الكامل»؟ (34)
بالمحبّة، إذن، ينزع الإنسان إلى التسامي والقوّة والكمال في حين تدفع الكراهيّة إلى الدمار، إلى الضعف، إلى النفي، إلى أحَطّ مراتب النُقصان.
إنّ «معرفة اللّه»، هي البديل عن الكراهيّة والانحدار إلى أسافل مراتب النقصان.
وكذا الإنسان، كما يتمثّله سبينوزا في أبعاده الأخرى، كائن مُتردّد بين شقاء الوضعيّة الدافع إلى اليأس وبين الأمل الّذي هو ضرب خاصّ من الفرح المشوب بالحزن، نقيض الخشية الناتجة عن التفكير في شيء قبيح…
لقد فكّر سبينوزا بالأهواء ونقائضها فأمكنه تمثُّل خارطة للمشاعر الإنسانيّة في اختلافها وتداخلها، كالفرح والحزن، الاطمئنان والخوف، الاستحياء والصفاقة، الأسف والغرور بمرجعيّة كُلّ من الخير والشرّ، الصواب والخطأ لينتهي به التفكير إلى الإرادة موْصُولةً بالرغبة (35)، كأن تنزع الإرادة إلى الإعلاء في القيمة في حين تنزع الرغبة إلى الإسفال استنادًا إلى أرسطو في هذا الشأن حينما اعتبر الإرادة ميْلاً إلى الخير وانتماءً إليه، والرغبة حالة مُبهمة، ولا واقعا كي يستفهم بخصوصها: هل هي حُرّة أم النقيض؟
الاستنتاج السبينوزيّ بخصوص الخلق الإلهيّ للإنسان والنُقصان المتأصّل فيه أنّ الإنسان هو عبد الإله. ولولا هذا الحظّ الخلقيّ لأغرق الإنسان في الخطأ والخطيئة إلى ما لا نهاية. كما أنّ النقصان حكمة ربّانيّة تُحفّز الإنسان على بذْل الجهد وتحسين أفعاله كي يتطوّر باستمرار ويتقدّم (36). و بـ«معرفة الإله» يندفع الإنسان إلى محبّة الآخر ضمن مفهوم «خدمة الإله» ليُحقّق بذلك سعادته العظمى (béatitude ). وبالعقل الّذي أودِع فيه يَتَدَبَّر جميع رغباته.
ولعلّ من أبرز النتائج الّتي توصّل إليها سبينوزا بخصوص العلاقة بين الدين والأخلاق هو معرفة الربّ من غير واسطة دينيّة، لأنّ الربّ هو سبب كُلّ معرفة، وهو الأساس المرجعيّ للدّين. مثلما أنّ الجسد هالك بالضرورة، مُندثر في حين أنّ الروح أبديّة بناءً على الحقيقة الّتي مفادها أنّ الجسد مُتحرّك آيِل إلى الانقضاء. ولأنّ الروح ثابتة فهي أبديّة (37).
إنّ الجسد قيْد، والروح اندفاع، حُريّة، مَبْعَثٌ للقوّة، للإرادة، لكَوْنها من أصل إلهيّ غير قابل للنفاد. وإنْ ورد العقل لدى سبينوزا قائمًا ضمن مفهوم البعض من كُلّ تأكيدًا على «وحدة الوجود» بين الخالق والمخلوق-الإنسان والعالم، أداةً ومرجعًا للتفكير والتمييز بين الخير والشرّ، بين الصواب والخطإ فهو عماد التفكير الأوّل لدى ديكارت بما يُؤالف ويُفارق بين الفيْلسوفيْن. فقَوْل سبينوزا بـ«الجوهر الواحد» جعله يختلف ضرورةً عن ديكارت المُعتَقِد في «الجوْهريْن» المختلفيْن (جسد-روح) بالمرجع الأرسطيّ القديم. لذا فإنّ العقل هو بعْض من هذا الكُلّ لدى سبينوزا، وهو المثال الدالّ المرجعيّ الشاهد على «الكليّة» بالازدواج المذكور. فالتأثير الديكارتيّ والسبينوزيّ حاضران بقوّة في القرْنيْن السابع عشر والثامن عشر: العقل والشعور، العقل المندفع إلى إنشاء أنساق معرفيّة جديدة، والشعور التوّاق إلى حريّة التفكير والاعتقاد والإرادة والفعل بمَجْمَع القوى الجسديّة والحدْسيّة والعقليّة والتخييليّة المتعطّشة إلى الإبداع فكرا وأدبا وفنّا.
7 – هوبز: بالمجتمع والأخلاق نضمن حياةً آمنة للإنسان
وإنْ نزع فلاسفة القرنيْن المذكوريْن إلى الخوض في قضايا الوجود الكبرى بالانتماء إلى الدين في اتّجاه واعتماد الفلسفة منهجا للتفكير الحرّ في اتّجاه آخر فقد حرص طوماس هوبز (Thomas Hobbs) (1588م-1679م) على الخوض في قضايا السياسة انطلاقا من فكرة مرجعيّة مفادها أنّ الإنسان مخلوق إلهيّ عاقل، وعلى نهجه سار روسّو (Jean Jacques Rousseau) (1712 م- 1778 م) داعيا إلى المساواة بمُسبق جديد استفاد منه في اللاّحق إيمانويل كانط.
لقد اتّبع هوبز في الأساس والمرجع فلسفة منفتحة لا تتقيّد بالدوغمائيّات السماويّة الّتي وسمت الفكر الدينيّ طيلة قرون (38)، بل حرص على النزول بالأخلاق من علياء المطلق إلى الوضع، فكان أن اتّخذ منهجا شبيها بالهندسة والفيزياء في التدليل على الأخلاق مُحدّدًا بالاستنتاج (déduction) المتّبع في العلوم. وإذا الأخلاق لديه تُقارب علم النفس والعقل العمليّ، وهي مُعقلَنَة وتجريبيّة بناءً على فكرة أولى مرجعيّة مفادها أنّ كُلّ فرد مُهدَّد من الآخر ومُهدٍّد له، وبالأخلاق يُمكن إنهاء التهديد من الاتّجاهيْن، ولكنْ كيف؟
الخير والشرّ، هنا، مُحدَّدان بالعلاقة بين الفرد والآخر داخل المجموعة الإنسانيّة الواحدة بناءً على تشبيه الإنسان بـ»الإله» و»الذئب». فكان استنتاج هوبز الوضعيّ في هذا الشأن هو أنّه بالمجتمع والأخلاق نضمن حقّ الإنسان في حياةٍ آمنة (39)، وبالدولة والأخلاق أيضا نضمن جميع الحقوق.
فلا بدّ، إذن، من الانتقال من «المساواة الطبيعيّة» إلى «المساواة المجتمعيّة» على أساس أخلاقيّ. فإذا استمرّ العمل بـ«المساواة الطبيعيّة» و«الحقّ الطبيعيّ» استمرّ نفوذ «دولة الحرب».
لذا وجب التحوّل من القانون الطبيعيّ إلى القانون الأخلاقيّ، لأنّ القانون الأخلاقيّ قابل لأيّ تفكير وصالح لأيّ إرادة (40).
وهذا القانون يستند إلى العقل الّذي لا يدعو بدوره إلاّ إلى السلم. وبهذا النهج الحادث ينتهي «تاريخ الحروب» ويبتدئ تاريخ آخر جديد للإنسانيّة (41).
فنَقْد دوغما الدين في فكر هوبز أفاد في اللاّحق كُلاّ من لوك ولبينيتز، وإنْ نزع هوبز إلى تجاوز هذا الدوغما في المجال السياسيّ والمجتمعيّ أكثر منه في المجال الكينونيّ الخاصّ بالتفكير في قضايا الوجود الكبرى وموقع الدين ضمنها.
فالحريّة الّتي فكّر فيها هوبز هي حريّة الفرد والمجموعة الّتي ينتمي إليها بمفهوم كُلّ من الحقّ والواجب منفصليْن متواصليْن في ذات الحين.
8 – لوك: القول بالأفكار المكتسبة تحرّر من فخاخ دُوغما الدّين
اعتمد جون لوك (John Locke) (1632م-1704م) مُسلّمة مفادها أنّ طريقة الإنسان في التفكير والتحصيل على المعرفة ليست فطريّة بل مُكتسبة. فلا صواب للفكرة القاتلة بأنّ العقل يكتشف مبادئه الفطريّة في اللاّحق. إلاّ أنّ هذا الدحض لا يذهب إلى حدّ نفي وُجود أفكار فطريّة أوّليّة يكون بها الاستعداد لتقبّل كلّ الأفكار المكتسبة بالتجربة، ذلك أنّ الاستعداد للذكاء البشريّ هو، لا محالة، فطريّ. إلاّ أنّ هذا الاستعداد قد يتحقّق وقد لا يتحقّق إنْ لم يسْع الإنسان إلى التجربة الّتي بها يتحصّل على الأفكار.
كذا استفاد لوك من إنزال هوبز الأخلاق من علياء المطلق والمجرّد الدّينيّيْن إلى الوضع عند الخوض في «العدالة» و»الحقيقة» بمنظور مجتمعيّ سياسيّ استنادًا إلى الطبيعة الّتي وضعت في الإنسان الرغبة والسعادة والميْل إلى الشفاء في آن واحد (42).
إنّ الرغبة في السعادة والارتعاب من الشقاء ماثلان بالفطرة في النفس البشريّة(43). وإذا البشر، كُلّ البشر، مُستعدّون، بالفطرة، مهما اختلفت لغاتهم وثقافاتهم، للأخلاق كأن يتحدّد هذا الاستعداد على شاكلة «حقائق فطريّة تظهر نورًا وغريزةً» (44).
فالإله ماثل في كلّ المواطن (فكرة سبينوزيّة يُعاد إنتاجها)، وهو المفهوم الّذي وسّع من مجال الاعتقاد الدينيّ بالحريّة والانفتاح على اللاّ-نهائيّ.
وإذا أنوار العقل مُتأتّية من هذا الفيض النورانيّ الّذي هو اللّه.
كذا الخلق في ماهيّته، هو الدالّ على الحريّة ابتداءً ومرجعًا، الحريّة الّتي بها تتحدّد الإرادة الإنسانيّة، كأن يسعى الإنسان إلى إنتاج الأفكار، إلى اكتسابها بالتجربة، إلى التدليل على نجاعتها بالعمل.
وكما تُراجَعُ المبادئ المُكتسبة في كُلّ حين تُنسّب الأخلاق، لأنّها أخلاق إنسانيّة وَضعيّة، أمّا «الأخلاق الفطريّة»، إنْ وُجدت، فهي آيلة حتْمًا إلى الفساد.
وقياسًا على الأخلاق عامّةً فإنّ فكرة الهُويّة ليست فطريّة هي الأخرى، لأنّ القول بفطريّتها يقضي جُمودها، كفكرة الكُلّ والأجزاء الّتي هي مكتسبة مُتغيّرة من سياق إلى آخر، بل إنّ لوك يذهب إلى حدّ القول بأنّ «العبادة» فكرة مُكتسبة، كفكرة الإله أيضا.
وبناءً على السالف فإنّه لا وُجود لأفكار فطريّة في الذاكرة.
وإذا سلّمنا بالنقيض نَفَيْنا عن الإنسان تفرُّده، إرادته الحُرّة في التفكير والعمل، انخراطه في الحياة بالتجربة القائمة على الخطإ والصواب.
ولكنْ، ماذا تعني الفكرة تحديدًا لدى لوك؟
سُؤال قد يبدو بسيطًا عارضا. إلاّ أنّ الإجابة عليه حاسمة للتحرّر الكامل من فخاخ دوغما الّدين. فكلّ الأفكار متأتّية من الإحساس (sensation) أو التفكير (Reflexion).
إلاّ أنّ جدلاً قائمًا، هنا، في توليد الأفكار بين المواضيع الخارجيّة تمنح الفكر أفكارًا بصفات حِسّيّة، والفكر يمنحُ الإدراك (Entendement) أفكارًا ناتجة عن اشتغالاته الخاصّة (45).
وإذا الأفكار البسيطة تعرض من الخارج، في حين تنشأ الأفكار المركّبة في الداخل (46)، إذ الأفكار المركّبة تستلزم وقتا من التفكير، من الانتباه لاكتشافها، كالأطفال يعتمدون عند البدء أفكارًا بسيطة تفد عليهم من الخارج ثمّ يتعلّمون إنتاج أفكارهم الخاصّة من الداخل بعد التدرّب والمُداومة على التفكير.
وإذا الإنسان يُفكّر عند اليقظة والنوم حينما يتحوّل من مُستهلك للأفكار البسيطة الوافدة عليه من الخارج إلى مُنتِج لها في الداخل، وهو أشبه ما يكون بالنبات في زمن المشيمة، لأنّه لا إدراك له نتيجة استرساله في النوم بحواسّ شبه مُعطّلة، وعند الولادة ينتقل إلى العالم الخارجيّ حيْثُ الابتداء في اكتساب الأفكار البسيطة تمهيدًا للتفكير، أي إنتاج الأفكار المُركّبة (47).
فثمّة أصل واحدٌ بازدواج ظاهر هو اللذّة والألم. هذا الأصل الواحد هو مُنشئ كُلّ الأفكار الحادثة والمُمكنة. والأسباب الّتي تُنشئ اللذّة هي ذاتها الّتي تُنشئ الألم (48)، وكالكينونة (Existence) والوحدة، فكرتان مُرتبطتان أيضا بالإدراك عن طريق كلّ شيء خارجيّ وأيّ فكرة نُدركها في ذواتنا (49)، مع إضافة الاستطاعة (puissance) الّتي هي فكرة مُتأتّية من الإحساس والتفكير مَعًا.
إنّ الفكرة، باختصار، هي كُلّ ما يدركه الفكر (Esprit) في ذاته، وكلّ موضوع مُباشر للإدراك الحسّيّ (perception)، للتفكير (pensée)، للإدراك العامّ (entendement) (50).
هذا التسليم بالصفة المكتَسبة للأفكار لدى لوك يهب الإنسان الحريّة في التفكير والعمل، ويُحمّله المسؤوليّة بإرادة من الإله الّذي فضّله عن غيره من الكائنات، مع منحه الاستطاعة الّتي بها يخوض تجربة الوجود بحرّيّة ومسؤوليّة.
إنّ مجال الاختيار بالنسبة للإنسان، حسب لوك، هو أوسع مِمّا ورد في فلسفة كلّ من ديكارت وسبينوزا، ذلك أنّ الفكرة المُكتسبة سواءٌ كانت بسيطة أو مركّبة، هي فكرة من الإنسان وإليه، كأنْ تنْشأ ابتداءً (في زمن الولادة الأوّل) من الخارج، ثمّ من الداخل والخارج، وباستعداد فطريّ طبيعيّ من الداخل منذ الولادة بتقدير من الإله الخالق.
9 – ليبنتز: فِطريّة الأفكار و«الموناد» مع التدليل على ما قبل الخير والشرّ
لا اختــــلاف بـــين لــــوك وليبنتـــــــز..
(Gottfried Wilhelm Leibniz) (1664م-1714م) بخصوص خلق العالم الّذي هو خلق إلهيّ، كخلق الإنسان وتفضيله عن غيره من الكائنات بالعقل كي يُفكّر بحريّة، نقيض الدوغما، ودوغما الدين على وجه الخصوص. ولكنْ كيف نُفكّر ابتداءً من العقل، في وجوده تحديدًا، وفي مدى فاعليّته؟
وكما فكّر لوك في الإدراك الإنسانيّ فكّر ليبنتز في الموضوع ذاته اقتداءً واختلافًا معه (51)
لقد بنى ليبنتز على مقال لوك حوْل الإدراك عددا من المقالات، وذلك بأسلوب حواريّ انطلاقا من أسئلة محدّدة، كعلاقة الإنسان بالإله والشرّ ومُعاقبة الإنسان لما اقترفه من إثم؟ ومفاهيم الإرادة والعقل والحريّة مُقابلَ مفهوم العقاب؟ والتمييز بين الخير والشرّ؟ والّذي يُجوّز العقاب؟…
الإله، حسب ليبنتز، هو عقل الأشياء الأوّل، ولا إمكان لفهم العقل الإنسانيّ من غير الإحالة إليه، وهو جوهر مُحفّز على المعرفة. فالحكمة الإلهيّة استلزمت خلْق الخير والشرّ، إذْ لا معنى للعالم بلا شرّ. وإنْ وُجد من غير شرّ فهو بلا فائدة، بلا معنى (52).
كذا يستمدّ الخير معناه من الشرّ، وحيثُ توجد آثام كثيرة تعمّ الرحمة الإلهيّة (53).
إنّ الدّين تبعًا لذلك هو تذكير، وعْظٌ، مُغالبة للشرّ، انتصارٌ للخير، حِكمة أنشأها الشرّ تواصُلاً وتوازيا مع الخير. وقياسًا على ثنائيّة الخير والشرّ نتمثّل النظام والفوضى.
لأفلاطون، هنا، حُضوره المرجعيّ، عند القول تحديدًا بالتواصُل بين الإله والطبيعة. وبناءً على أفكار أفلاطون تمثّل ليبنيتز «منطقة» بدائيّة هي والدة الخير والشرّ معًا، لها صفة أبديّة، وقد حفّزته على تناول موضوع الشرّ ميتافيزيقيّا وفيزيقيّا وأخلاقيّا في الآن ذاته (54).
وعند تفضيل القول في الشرّ عوْدًا إلى هذه المنطقة البدائيّة المشتركة بين الخير والشرّ أدرك ليبنتز أنّ الشرّ ميتافيزيقا يعني اللاّ- مُكتمل، النُقصان. أمّا الشرّ فيزيقيّا فهو يتحدّد بالعذاب (souffrance) وأمّا الشرّ أخلاقيّا فهو الخطيئة (Le péché ) (55).
لقد مرّ الإنسان من البراءة إلى الإثم (ما حدث لآدم وحوّاء بسبب الأفعى والثمرة المحرّمة) (56)…
ولكنْ، ما الّذي قضى، حسب ليبنتز، هذا المرور؟ وما الحكمة الإلهيّة من ذلك تحديدًا؟
لقد ذهب ديكارت ولوك مذْهبًا مُختلفا عن ليبنتز عند إقرار الأوّل الصريح لحريّة الإنسان واعتقاد الثاني، أي لوك في ذلك «الشعور الحيّ الداخليّ» في حين تردّد ليبنتز بين الحريّة والحتميّة، كتسْليمه بأنّ المستقبل محدّد بتقدير إلهيّ، ولا هامش للحريّة الإنسانيّة إلاّ في الحاضر، وذلك عند إعمال العقل في إنجاز الأعمال. وهنا نتساءل: كيف للإرادة الإنسانيّة أن تكون فاعلة، وهي المتردّدة بين العقل والحتْميّة؟ (57).
فينتصر ليبنتز للمنهج الميتافيزيقيّ بدافع الخروج من مطبّ التضارب بين الحريّة والحتميّة، ذلك أنّ نظريّة المعرفة والميتافيزيقا لديه تُمثّلان في الأصل سؤالاً واحدًا مشتركًا عند العود إلى أفلاطون في الأفكار وأرسطو في مذهب الأسباب الأربعة، وهما القائلان بالوصل بين الأنساق المنطقيّة والأنساق الميتافيزيقيّة.
لا شكّ أنّ الديكارتيّة أنشأت نظريّة جديدة للمعرفة، إلاّ أنّ ليبنتز مُختلف عن ديكارت، إذ كان همّه الأوّل هو مراجعة نظريّة المعرفة الديكارتيّة بالمنهج المقلوب الّذي ينطلق من الميتافيزيقا إلى المعرفة، وليس العكس، كما أنّه مُعترض على ميتافيزيقا ديكارت القائمة على ثنائيّة ماهَويّة: الامتداد (Etendue) والتفكير (Pensée)، المادّة والروح، فانتصر لوحدة الجوهر عند سبينوزا الّتي لا تُفارق بين المادّة والروح بل تضعهما في وجود واحدٍ مشترك.
إلاّ أنّه، وهو يتّفق مع سبينوزا في «وحدة الوجود» أو «وحدة الجوهر»، يذهب إلى القول بالكثرة داخل بنية هذا الكُلّ الواحد، كثرة الماهيّات الصغرى، وحدة الجوهر الفرد الحيّ أو الهيولى (monade ).
فيُمثّل الجوهر المتحرّك غير المتمدّد وغير القابل للانقسام ماهيّة الأشياء(58)، و«المونادات» هي الذرّات الجوهريّة، بها يُفسّر الكون. وإذا المونادولوجيا (monadologie) علم يسعى إلى النظر إلى الكون من خلال المونادات،هذه الماهيّات الصّغرى اللاّ-محدودة ضمن الجوهر الواحد بمجموع نزعات (Tendances) وجهود(éfforts) (59)، إذا الجهد لدى ليبنيتز إدراك، وبإمكان الإدراك أن يُصبح شعورًا (sentiment) ووعيا (conscience).
إنّ المونادات هي مصدر الطاقة، الحياة، وبها يكون الإدراك الحسيّ والإدراك الروحيّ، الإحساس والتفكير.
فلا معنى، هنا، لقوّة عمياء تُحرّك العالم والأشياء، وإنّما المونادات، وهي تُمثّل ماهيّات صغرى خاصّة بها، تتفاعل ضمن الجوهر الواحد للعالم، كالروح المطلقة تندسّ في كلّ الأشياء، فتُغيّر العالم من دون أن تتغيّر. لأنّ كُلّ موناد قائم بذاته، وليس له فتحات تسمح بالدخول إليه أو الخروج منه، بل هي طاقة الحياة تنشأ من التواصل الحيّ بينه وبين غيره من المونادات في بنية الشيء الواحد (60).
إنّ جَسَدَنَا هو جُزءٌ من الكون، وهو موناد، أي روح، روحنا، بها نتمثّل العالم. ولأنّ جسدنا موناد، والموناد لا يرى إلاّ جزءًا من العالم، لا غير، باعتبار الموقع الّذي من خلاله تكون الرؤية فإنّ الجسد، حسب ليبنيتز وفي المحصّل، لا يُمثّل إلاّ وجهة نظر الموناد (61).
فيشمل «الموناد» النبات والحيوان والإنسان، وكُلّ الكيانات الصّغرى، وحتّى الأجسام عبر العضويّة، وقد لا يشمل عضوا من جسم، أو عضلا أو خيْطا من هذا العضل أو خليّة حيّة. كما نتمثّل الروح بالموناد.
إلاّ أنّ المونادات الروحيّة تجعله يتناقض ليُقارب المثاليّة الديكارتيّة، ويذهب بعيدًا في مِثاليّته حدّ نفي وجود الذرّة الماديّة مُعتبرًا أنّ الذرّة الماديّة تتناقض وجودًا والعقل، لأنّ الخلق الإلهيّ يتّجه إلى الروح، أمّا المادّة فهي مظهر زائل.
هذه الازدواجيّة في القول بالروح والجسد تتناقض، لا محالة، و»وحدة الجوهر»، بل قد تتعارض ومفهوم «الموناد» الّذي يحمل صفة الكليّة في بنيته الجزئيّة.
وكأنّ خطاب ليبنيتز يحمل المعنى ونقيضه تردّدًا بين ديكارت وسبينوزا لينزع إلى الحتميّة في اتّجاهٍ وإلى الحريّة في اتّجاهٍ آخر.
ولعلّ الحتميّة، هنا، لا تتعارض أصلاً مع الحريّة، ذلك أنّ «المونادات» الّتي خلقها اللّه عمومًا احتوت ما ينبغي احتواؤه من إدراك وإرادة (62).
لذا فالحتميّة (déterminisme) لا تعني الضرورة (nécéssité)، لأنّ الضرورة لا تسمح بنقيضها الّذي هو إمكان الحريّة في حين تدعو الحتميّة إلى الحريّة، كأن خلق اللّه آدم وأخضعه لقانون الحتميّة لا الضرورة، لذا فهو كائن حُرّ.
وكذا فرّق الخلق بين الحيوان الخاضع للضرورة والإنسان المدفوع بالحتميّة إلى الحريّة (63).
إنّ أصل الكون، بل أصل الخلق هو «الموناد» الّذي يتكثّر مادّة وروحًا، و»المونادات» النباتيّة والحيوانيّة تختلف عن المونادات البشريّة، بين الضرورة والحتميّة، بين الإلزام والالتزام، بين الرضوخ الكامل لقوانين الطبيعة والاختلاف والاختيار والذكاء والتفكير والحريّة.
المونادات البشريّة هي الّتي تنزع إلى الأخلاق، إلى الانتصار للخير على الشرّ.
10- ما بين لوك وليبنيتز: سؤال المعرفة تحديدًا
إنْ قارنّا بين لوك وليبنتز في موضوع المعرفة تبيّن لنا أنّ لوك رافض لمبدأ الفطرة في تحديد الأفكار بناءً على الملاحظتين التاليتيْن:
أ- إنّ الفرضيّة القائمة بوجود أفكار أو حقائق فطريّة تتناقض والأحداث (les faits)، ذلك أنّ أيّ فكرة أو حقيقة فطريّة لا بُدّ من أن تكون كونيّة، ولا وجود في العامّ لمبدإ يتّفق عليه كلّ الناس.
ب- إنْ تأكّدت صحّة الإجماع الكونيّ فإنّ ذلك لا يُؤكّد أنّ الحقائق فطريّة لدى كُلّ النّاس…
لذا اعتقد لوك في التجربة، وبها نكتسب الأفكار. وما الروح عند الولادة إلاّ إسطوانة فارغة قابلة لكُلّ الأفكار. أمّا ليبنيتز فهو يعتقد جازما في وجود أفكار وحقائق فطريّة، كالموناد قائم بذاته منذ الخلق الأوّل، لا يستقبل أيّ شيء من الخارج، ومختلف تمثّلاته تنشأ من الداخل. إلاّ أنّ مثاليّة ليبنتز لم تمنعه من طرح السؤال ذاته الّذي أثاره كُلّ من ديكارت ولوك بخصوص الإدراكات الواضحة والإدراكات الغامضة، كأن تبيّن له أنّ الإدراكات الواضحة يُقارب بها الموناد عالم الظواهر، أي التجربة الحسيّة، وهي إدراكات متأتّية من الخارج اختلافًا مع الإدراكات الغامضة، الّتي هي إدراكات الداخل.
فلا ينفي لبينتز، بناءً على السابق، التأثير الخارجيّ في نشأة الأفكار الواضحة لِيقترب في هذا المفهوم من لوك القائل بالتجربة والمُكتسَب. غير أنّ الإنسان، حسب ليبنتز، مسكون بزخم هائل من الأفكار الملتبسة، وهي أفكار فطريّة، كذكريات كثيرة لا تحضر عند التفكير، وهي الماثلة في قاع الفكر، وعدمُ حُضورها لا يعني انتفاءها.
إنّ التجربة، بالمنظور اللّيبنتزيّ، هي إثبات لما هو أصليّ جوهريّ فطريّ، وليست إنشاءً لجديد، كإدراك الحُلو والمُرّ، الحارّ والبارد، الّتي هي من الحقائق الثابتة في كُلّ الأوقات والمواقف، كأن يُقرّ العقل وجود هذه الثوابت الما- قبليّة وما ماثلها ولا يخرج عنها.
فالتجربة، حسب ليبنتز، تعود بنا إلى الفطرة، كأن تسْتقدم الأفكار بالفطرة إليها التجربة للخروج من حال الالتباس إلى الوضوح. فيعتبر ليبنتز الأرسطيّ، هنا، أنّ الفرح الأعظم للإنسان العاقل هو معرفة الحقائق الّتي أنشأها اللّه، وخاصّة معرفة الكمال.
إنّ إعادة الفضيلة إلى العقل مبدأ أرسطيّ سار على نهجه الرواقيّون ثمّ اتّبعه ديكارت والديكارتيّون عموما. فما السعادة العظمى إلاّ نتاج ما يتحقّق من إتقان استخدام ملكاتنا للوصول إلى معرفة الجمال والحكمة الإلهيّتيْن (64).
العقل، في تقدير ليبنيتز، هو أبعد مدًى من الإدراك الحسيّ، بل منهج للأفكار الّتي تُساعد على الوصول إلى المفاهيم، وهو أعلى مراتب الإدراك لبلوغ الروح، لبلوغ الفكر المطلق، الموناد الأعلى، الإله (65).
فالإله، إذن، هو «الموناد» الأعلى، موناد كلّ المونادات، وبلا استثناء (66).
وإذا نحن أمام مدْرستيْن فلسفيّتيْن قد بدأتا في التشكّل: مدرسة مثاليّة ألمانيّة ومدرسة تجريبيّة إنقليزيّة بمرجعيّة فلسفيّة سابقة فرنسيّة عند ذكر ديكارت وبالتأثير السبينوزيّ ليتواصل حضور العقلانيّة المثاليّة والعقلانيّة التجريبيّة في نقد الفكر الدينيّ القديم والسعي إلى إنشاء فكر جديد حداثيّ.
11- هيوم على نهج لوك مع القول بالاختلاف: عدم التديّن مع الجزم بوجود إله
اهتمّ الانجليزيّ دافيد هيوم (David Hume) (1711م-1774م) بـ»الطبيعة الإنسانيّة» مُتّبعا النهج الّذي سار فيه لوك من قبله. وإذا «بيان الطبيعة الإنسانيّة» كتاب مرجعيّ يفتح على أعمال أخرى أسْهمت في ترسيخ المنهج الماديّ الطبيعيّ التجريبيّ والتوجّه من المطلق السماويّ إلى الوضع، منذ هوبز ومُجايليه مُتّبعي الماديّة والتجريب (67).
لقد استفاد هيوم أيّما استفادة من «إحساس» (sensation) لوك عند اهتمامه بـ»قوانين تجميع الأفكار» الّتي مثّلت الأعمدة الأساسيّة للفكر (68)، فكان اشتغاله بالخصوص على الإرادة والرغبة وتحليل الذكاء والخوض في مسائل الإدراك.
إنّ الفكر الإنسانيّ هو إدراكات حسيّة متفرّدة ومُتغايرة ابتداءً، ثمّ إدراكات مُجَمّعَة في اللاّحق تبعا لقوانين تُمثّل أفكارنا الأكثر تعقيدًا، وهذا التجميع إمّا أن يكون طبيعيّا يحمل العناصر الأوليّة للمعرفة وبها يكون الإثبات وإمّا أن يتّخذ له صفة إنشاء أفكار جديدة تنزع إلى الاحتمال لا الوثوق (69).
فيُؤالف فكر هيوم في هذا الشأن بين لوك وليبنيتز، بإقرار أفكار فطريّة وأخرى معقّدة، أفكار جوهريّة وأفكار حادِثة.
لذا تتأكّد صعوبة تناوُل موضوع الحكم (jugement ) والاعتقاد (croyance) لدى هيوم، صعوبة نلاحظها في التجريبيّة (empirisme) عُمومًا، كالمتضمّن في فكر ستيوارت ميل (M.Stuart Mill)، إذ الموضوع الاعتقاديّ تحديدًا هو مجال للتأوّل والتأويل لا التحليل.
فما هو الذكاء، حَسَب هيوم عَوْدًا إلى مفهوم المعرفة والتعالق بين «الأفكار الجوهريّة» و»الأفكار الحادثة»؟
هو نسيج أفكار مجمّعة، كخيوط متلاحمة في قماشة كبرى (70). أمّا الاعتقاد فهو إثبات لموضوع، حركة تتّجه من فكرةٍ في ذاتها إلى شيء خارج عنها.
بديهيّ أن تختلف المعتقدات الإنسانيّة، لأنّ «اللّه موجود» فكرةً تنشأ عن كائن نتمثّله بواسطة لفظ هو «الله»، وكينونّتُه لا تُتصوّر بفكرة محدّدة تنضمّ إلى أفكار أخرى بها يتركّب معنى محدّد، كتفكيرنا في الشيء ينتج عنه مفهوم محايث له. فاللّفظ (اللّه)، هنا، هو في مقام وموضوع كينونته في مقامٍ آخر، ولا تواصُل بينهما بما هو فكريّ متناظم.
إنّ فكرة اللّه تنزع إلى السكون، لأنّها لا تتضاءل ولا تتنامى في مُحصّل التفكير، كأن تنتهي عند نقطة ابتدائها بضرْب من الاستدارة.
وإذا الاعتقاد إحساس وليس ظاهرة فكريّة، لأنّ المفكّر فيه يستلزم موضوعًا، واللّه، شأن الروح، خارج عن أيّ حدّ بالموضوع والمادّة والحِسّ.
وكأنّنا بفكر هيوم نقترب من آخر حدّ للمثاليّة، إذ أدرك هيوم أنّه لا بدّ من إبدال للخروج من تراكمات المنهج العامّ الدّاعي إلى نقد دوغما الدّين بالفلسفة من داخل منظومة الفكر الدينيّ وبالنزوع الجارف إلى التفلسُف. فلم يكن مُتديّنا بالمسيحيّة كسابقيه مكتفيا بالاعتقاد في اللّه من غير أن يتّبع حماس روسّو أو وَرَع لوك في هذا الاعتقاد، بل بثقة فيلسوف مُطمئنّ لا يرى أصْلاً للعالم من غير إله (71). لذا نراه في «حوارات حول الدين الطبيعيّ» (72) يجزم بعدم تديّنه للمسيحيّة واعتقاده الجازم في الإله بأسلوب حوار شيّق دائر بين شخصيّات ثلاث تُمثّل أفكارًا ثلاثة، بين ديميا (Déméa) التيولوجيّ المعتقد في الدين وفيلون (Philon) المتشكّك في الدين ووجود اللّه وكلييانت (Cléante) المعتقِد في وجود اللّه الرافض للدين (73).
أبعاد ثلاثة قائمة في فكر هيوم، وإن نزع إلى كلييانت في استخدام العقل والتحرّر من مُسبقات كثيرة، كالّذي استفاد منه كانط في اللاّحق.
إنّ اعتماد أسلوب الحوار في مجال رافض للحوار طيلةَ قرون هو اقتداء منهجيّ بسقراط وأفلاطون وبعض فلاسفة الحداثة الغربيّة، كليبنيتز، على سبيل المثال لا الحصر.
وسُؤال الحوار المركزيّ هو: كيف يُمكن للعقل البشريّ تحويل الإله إلى مفهوم محدّد؟ وكيف الخروج بهذا المفهوم من المطلق إلى النسبيّ؟
يرى هيوم إمكان تمثُّل الإله بصفة ما-بعديّة وإخضاع الما-قبليّ للتجربة قصد التوصّل إلى معرفة بُرْهانيّة.
إلاّ أنّه اصطدم باستحالة التوفيق بين النظريّات المنطقيّة والاستنتاجات الدينيّة، فتوسّل بالاعتقادات الإنسانيّة للطبيعة، بالحسّ العامّ (sens commun)، بالغرائز الظاهرة للطبيعة الإنسانيّة، كأن عاد بالميتافيزيقا إلى الفيزيقا (الفيزياء)، إلى الطبيعة إثباتًا «للـدّين الطبيعيّ» معتمدا في هذا الشأن البراهين التجريبيّة الّتي تُدْرك بالمماثلة عند الوصل بين اللّه والإنسان.
لا شكّ أنّ نظام الكون وتناسُقه هما الدالاّن على حكمة عُليا ربّانيّة تجسّدت في الظواهر والأسباب، بمنطق المماثلة، إذ لكلّ سبب نتيجة، ولكلّ نتيجة سبب. ففي العالم آثار «فنّ إلهيّ».
إنّ «وحدة الوجود» السبينوزيّة الّتي أقرّها كُلّ من لوك وليبنيتز باختلاف ماثلة في فكر هيوم عند تسليمه بـ»الوحدة المطلقة» و»البساطة اللاّ-نهائيّة للإله» الخارجة لوَحْدها عن دائرة التجريب.
فوحدة العالم ملازمة للوحدة المطلقة لخالقه (74)، إلاّ أنّ كمال الإله نسبيّ ليظلّ إمكانا لموضوع للتفكير بالنسبة للإنسان، كأن يتّبع هيوم طريق الرواقيّين (Stoïciens) في زمانهم الّذين توسّلوا بالعقل لنقد الدين.
فلا تسوية، إذن، بين الإله والدين، لأنّ الإله أعلى مقامًا من الدين، ثمّ إنّه لا دين، بل أديان في المحصّل النهائيّ من غير إله.
وإذا قبول «وحدة الوجود» السبينوزيّة مشروطة لدى هيوم بالنقد حدّ الرفض العميق لنتائجها، ذلك أنّ عدم فهم الإله مُطلقا هو فكرة مدْحوضة لدى هيوم، إذْ وجوده يقتضي معرفة، فهمًا مّا. كما يستدعي المنهج التجريبيّ لديه التفريق بين الإله والعالم للقول بتعالِي الإله: فصل ضروريّ لتجزيء القضايا ثمّ التشميل بالاستنْتاج.
لا شكّ أنّ الحيرة ماثلة في فكر هيوم حدّ التناقض أحيانا، وهي حيرة ناتجة عن الحوار الذاتيّ فلسفةً بين القول بالألوهيّة (Déisme) والتديّن (Théisme) والإلحاد (athéisme)، بين «وحدة الوجود» أو «وحدة الجوهر» وبين اختلاف الإله عن العالم واختلاف صورة الإله من ديانة إلى أخرى، وبين الفيزيقا والما-وراء، بين محاولة توصيف الإله والتمثّل الخاصّ الفرديّ له.
إنّ استفادة هيوم من سابقيه تعني في اتّجاهٍ آخر إفادةً للاحقيه، ومن أبرزهم كانط.
12- كانط: العقل في الانتصار للتيولوجيا الفلسفيّة على التيولوجيا الإنجيليّة
مبدأ التعالي الّذي نصّ عليه هيوم هو الّذي فتح موضوع الدين لدى إيمانويل كانط (Emmanuel Kant) (1724م-1804م) على الأخلاق بمحاولة، ربّما، هي الأخيرة لإنقاذ الدّين وإثبات إمكان استمراره فِكْرًا متجدّدًا مستقبليّا بالفلسفة.
فالأخلاق إنسانيّة عمليّة تتحدّد وضْعًا بـ»العقل الخالص العمليّ» بمرجعيّة التجريب الهيوميّ وتُحيل إلى مُشرّع أعلى خارج عن دائرة الإنسان بإرادةٍ مُطلقة عليا، من أبرز العلامات الدالّة عليها خلق العالم، وهذا الوجود الأعلى المُطلق (اللّه) هوالهدف الأخير من المعرفة الإنسانيّة (75).
إنّ الإله هو الإرادة المُطلقة الّتي هي أساس الأخلاق ومرجعها، وهو مسبق يُجسّد فكرة الواجب، عماد الدين، وبه تتحدّد الصفة الأخلاقيّة تخصيصا.
وإذا وصلنا بين الأخلاق والدين تبيّن لنا التعالق بين الحريّة والواجب، ذلك أنّ اتّساع مجال الأخلاق يقضي الحريّة، ومجال الدين مُحدّد بالواجب.
على هذا الأساس فارق كانط بوضوح بين «التيولوجيا الإنجيليّة» و»التيولوجيا الفلسفيّة» واعتبر أنّ الدوغما ماثلة في «التيولوجيا الإنجيليّة»، غائبة أو شبه غائبة في «التيولوجيا الفلسفيّة» لاعتماد العقل البسيط والحرص على إثبات مقولاته وتطبيقها توسّلا بالتاريخ واللّغات ومختلف الكتُب المقدّسة، بما فيها الإنجيل. وإذا الأخلاق تستدعي حريّة البحث، تحرّر العقل بالفلسفة في حين يُراهن الدين على الثابت (الدوغما)، المسبق (76).
وبناءً على الأخلاق العمليّة في صلتها بالدّين فإنّه من الخطأ القول بالخير الكامل أو الشرّ المحض في الطبيعة الإنسانيّة، كالوارد في الخطاب الدينيّ التقليديّ المنتصر للخير على الشرّ ، بل يستدعي البحث في الخير والشرّ بالمنظور الأخلاقيّ العمليّ التنسيب.
إنّ تنسيب كُلّ من الخير والشرّ أخلاقًا هو مفهوم فلسفيّ، منذ سينيكا (Lucius Annaeus Sénéque ) (4 ق م-65 م) الّذي ذهب إلى أنّ العالم مُنبثق وجودًا من الشرّ ومُتّجه تدريجا إلى الخير، وهو رأي سادَ طيلة قرون إلى زمن رُوسّو بالسؤال المتكرّر: كيف للإنسان التحرّر من نزعة الشرّ الكامنة فيه نحو الخير؟
المرجّح لدى كانط أنّ الإنسان في الأصل ليس خيّرا أو شرٍّيرًا، أوْ هو خيّر بقدْر ماهو شرّير لأنّه يحمل في ذاته صفتيْ الحسن والقبيح (77). وبالحريّة يُمكنه أن يسير في هذا الاتّجاه او ذاك. لذا تأكّدت نِسبيّة الحُكم بخصوص الحسن والسَيّئ الأخلاقيّيْن لدى الإنسان. كما أنّ الجزم بإحدى الصفتيْن يتناقض مع الحريّة.
لذا فالقانون الأخلاقيّ خاضع للعقل والحكم والحريّة في ذات الحين.
وبناءً على المفهوم التنسيبيّ لكلّ من الخير والشرّ فإنّه لا يُمكن للإنسان أن يكون حسنًا وسيّئا في ذات الحين، لأنّ الحسن تابع لقانون أخلاقيّ له ثابتُهُ المرجعيّ، وكذلك الشأن بالنسبة إلى السيّئ (78).
هو الاستعداد، إذن، داخل الإنسان للخير أو الشرّ، بحوافز ثلاثة: ضمان وجود الكائن في ذاته، واستمرار نسله عن طريق الغريزة الجنسيّة، واجتماع الإنسان مع غيره من البشر(79)، إذْ لا سعادة إلاّ بالآخر.
أمّا الحكم بما هو أخلاقيّ أو لا أخلاقيّ فإنّه من العقل وإليه، ذلك أنّ حريّة الإنسان طبيعيّة، وقد تذهب إلى الشرّ، ولا مُغالبة لهذا النزوع إلاّ بالأخلاق.
والرأي لدى كانط أنّ الأصل لا يُجوّز القول الجازم بأولويّة الشرّ ذلك أنّ «الإثم البدائيّ» (آدم وحوّاء والثمرة المحرّمة) هو «شرّ زمنيّ» زائل لعدم اكتمال العقل في الإنسان (80)، وهو «البراءة»، لا الشرّ، الّتي حفّزت الإنسان الأوّل على ارتكاب الإثم من غير اقتدار على التمييز بين الحسن والقبيح.
لذا فالتعليل الزمنيّ يرى أنّ الشرّ هو ابتداء العالم بحكمة ربّانيّة، وهو لا يعني شرّا بالمنظور الأخلاقيّ، في حين أنّ الشرّ الأخلاقيّ لا يمكن إدراكه لاحقا، بالمفهوم الزمنيّ، إلاّ بالعقل الّذي به يستطيع الإنسان أن يُغالب سلطة الغِواية.
وبناءً على هذا التعريف للخير والشرّ يُقسّم كانط الأديان إلى نوْعَيْن: أديان تبحث لها عن منافع بالممارسات الطقوسيّة وغيرها، وأديان أخلاقيّة، كالمسيحيّة، يسعى بها الفرد إلى تحقيق سُمُوّه مثلما تحرص بها المجموعة على تجاوز دولة الحروب إلى قيام «دولة سياسيّة ومدنيّة» تضمن حقوق التعايش بسلام بين كافّة الشعوب (81).
إنّ مفهوم «مجموعة أخلاقيّة» هو مفهوم شعب يعتقد في إله مُسيّر ويستدعي هذا المفهوم تشريعا عامّا يُخضع له كُلّ الأفراد. كما تستلزم «المجموعة القضائيّة» قوانين دستوريّة تضمن حقوق الأفراد وواجباتهم لتجسيد معنى المُواطنة (82).
لقد ارتأى كانط، تتويجا لتحديث الفكر الدينيّ بالفلسفة، التحوّل التدريجيّ من «عقيدة الكنيسة» إلى عقيدة حرّة تسعى إلى مقاربة «مملكة الإله» بالتوجّه إلى الوضع في مفهوم الدولة وضرورة فصلها عن الدين (83).
وإذا الدين، بهذا المنظور الجديد الحادث الكانطيّ، هو إدراك الواجبات الأخلاقيّة باعتبارها وصايا إلهيّة تستجيب في الأصل والمرجع إلى الطبيعة (84).
إنّ القصد من التفكير بـ»الدين الطبيعيّ» والعقل معًا هو تحويل الدين إلى عموم الناس كي يُصبح دينا للفرد، أيّ فرد داخل المجموعة.
لقد استفاد كانط، هنا تحديدًا، من الديانة المسيحيّة (العهد الجديد) الّتي هي «ديانة طبيعيّة» وعالمة تبعا لمضمونها والمبادئ الماثلة فيها (85)، ديانة تسعى مفهومًا عمليّا إلى العقل وتحيل في الآن ذاته إلى «ملكة العقل النظريّ» لتستمرّ في البقاء خارج مطبّات الدوغما (86).
لا بدّ، إذن، من التوجّه إلى العقل والتخفيف من وطأة الكنيسة على الدين باعتماد الطبيعة والعقل معًا؟
إنّ «الأخلاق الدينيّة» هي المنقذ من ظلمات «الوهم الدينيّ»، إذْ لا رفض للدين بل للدوغما المتلبّس بالدين المتخفّي داخل الممارسات الطقوسيّة بتعلّة التقرّب من الإله وتحويل الكنيسة إلى سلطة غاشمة يستفيد رُهبانها من دوغما الوهم الدينيّ.
فهل وُفّق كانط في إنقاذ الدين من الدوغما؟ وهل يُعتبر آخر فلاسفة الغرب الّذين حاولوا إنقاذ الدين بالفلسفة أم هو الّذي حمل بفكره المزدوج حدّ التناقض، حسب قراءة شوبنهاور له، بذور فكر جديد ما بعد- دينيّ بأفق حداثيّ مختلف عن سابقيه، أفق يفتح على فلاسفة الحل ّما بعد- الدينيّ.
13- شوبنهاور ناقدً لكانط
لا نتعمّد بالمرور مباشرة من كانط إلى شوبنهاور القفز على فلاسفة آخرين أسّسوا لأفكار جديدة في حقول معرفيّة مختلفة، كأن نذكر هيردر (Johnn Gottfried Von Herder) (1744م-1803م) (87) وفيشته (Johann Gottlieb Fichte) (1762م-1814م) (88) وشلاير ماخر (Friedrich Daniel Ernest Schleinmacher) (1768م-1834 م) (89) وهيغل (Friedrich Hegel) (1770م-1831م) (90)، على سبيل المثال لا الحصر، وهُم الّذين استفادوا من أفكار فلاسفة القرْنيْن السابع عشر والمنتصف الأوّل من القرن الثامن عشر، ومن كانط، على وجه الخصوص وأمْكنهم بنقد دوغما الدين الانطلاق نحو آفاق جديدة من التفكير الفلسفيّ، كالتأسيس لتاريخ شامل للإنسانيّة (هردر)، والتنظيم للفرد والفرديّة والحريّة (فيشته) والانتصار تأويلا جديدًا للحريّة والحتميّة على الضرورة (شلاير ماخر) والبناء على كانط وتجاوُزه في ذات الحين بالجدليّة التاريخيّة (هيغل)…
لا شكّ أنّ هذه الأفكار ما بعد- الكانطيّة تستلزم بحثًا آخر قائم الذات. وما توقّفُنا عند شوبنهاور في خاتمة هذا الفصل إلاّ لأهميّة كتابه «أساس الأخلاق» (91) وما تضمّنه من نقد لكانط وفتْحه لآفاق فلسفيّة جديدة خارج حدود نقد دُوغما الدين بالفلسفة إلى فلسفة أخلاقيّة جديدة غير مُلزَمة بالدين، وإنْ واصلت التفكير في الظاهرة الدينيّة خلال القرن التاسع عشر والعشرين الميلادِيّيْن.
لقد أدرك شوبنهاور أهميّة تراكم الأفكار الخاصّة بفلسفة الدين من قبْله، وهو الّذي مهّد لإبدالات كبرى حاسمة، منذ فريديريك نيتشه وصولا إلى مارتن هيدغر وغيره من كبار فلاسفة القرن الماضي ومُفكّريه.
لقد أعاد شوبنهاور طرح سؤال ما بين الفلسفة والدّين بعد استفادته العميقة من كانط، مُعتبرًا أنّ الفلسفة كوسمولوجيّة ولا بدّ من أن تستمرّ بهذه الصفة لا أنْ تتحوّل إلى تيولوجيا أو جُزْءًا مكمّلا لها. ولكوْنه كانطيّا جديدًا في قرن تأثير الكانطيّة أقرّ شوبنهاور أنّ كانط هو الّذي أكسب الفلسفة الصفة الجدّيّة.
فقارن بينه وبين هيغل، كأن حافظ كانط على ثنائيّة الظاهرة والشيء في ذاته ضمن نسقه الخاصّ الّذي يتحدّد بـ»التمثّل والإرادة» واتّجه إلى «الديالكتيك المتعالي» وأولى الأطروحة النقيض الأهميّة الكبرى قبل الأطروحة مُتّجها بهذا العرض إلى نقد هيغل.
اعتبر ألان روجي (Alain Roger) أنّ شوبنهاور قد بدأ مسارّه الفلسفيّ كانطيّا عند اهتمامه البحثيّ بـ»الشيء في ذاته» كي ينتهي أفلاطونيّا بـ»موضوعيّة الإرادة» مستفيدًا في الآن ذاته بالنرفانا الهندوسيّة واشتغاله على تطوّر العلوم الكيميائيّة والفيزيائيّة كي يظلّ أحد أبرز الكانطيّين الجدد، منتصرًا للـ»مثاليّة المتعالية» (92)، إذ العالم بمنظور كانط، هو ظاهرة وليس شيئا في ذاته. وكما تُنتج العين الألوان فإنّ الدماغ هو الّذي يُنشئ الرمز والمكان والسببيّة. لذا اختار شوبنهاور موقعا وسطا بين العقل والحدس لتحديد مفهوم المعرفة، وهو موقع هجين، حسب ألان روجي.
فكيف أثار شوبنهاور سؤال الدين في صلته بالأخلاق ضمن كتابه «أساس الأخلاق» (93)؟ وبِمَ تُحدّ قراءته لكانط في فلسفة الدين تحديدًا؟
تبيّن لشوبنهاور أنّ الأخلاق لدى الشعب، تعني الدين، والدين هو الإرادة الإلهيّة مجسّدة على الأرض في حين يتّسع مدى فهم الأخلاق لدى الفلاسفة بما هو أبعد مدى من الدين، ذلك أنّ «الإيتيقا» منذ كانط هي الأوسع مجالا من علم الدين المجرّد (94).
وبناءً على قراءة كانط الجديدة للدّين في علاقته بالأخلاق ذهب شوبنهاور بعيدًا في مبحثه الأخلاقيّ كأن استدلّ بالدين البدائيّ استنادًا إلى كلّ من البراهميّة والبوذيّة لاستقراء الأصل الّذي به أدرك أنّ مفهوم الدين لدى الأوروبيّين يعود إلى أصل آسيويّ، وحقيقة البدء الأخلاقيّة ماثلة في هذا الأصل (95).
إنّ مشروع شوبنهاور مُستمدّ من فكر كانط، كأن يقتدي به ابتداءً ثمّ يسعى إلى نقده وتجاوُزه عند الخروج عن «الأمر القطعيّ للعقل العمليّ» والتفكير المختلف في أصل الأخلاق (96).
يعتبر شوبنهاور أنّ كانط في مفهومه للأخلاق لم يتجاوز الفلاسفة الإغريق القدامى، باستثناء أفلاطون، القائلين بأنّ الفضيلة هي السبب الأخلاقيّ الأوّل والسعادة هي النتيجة. وهذا المفهوم السببيّ للأخلاق لا يُقرّه شوبنهاور، لكَوْنه يتوسّل بالفلسفة العمليّة لدى كانط المواصل للنهج القديم، بالفلسفة الّتي تتّجه إلى ما يجب أن يكون بدلاً عمّا هو كائن أو الّذي كان (97).
ففكرة «الواجب» لا تدع كانط، حسب شوبنهاور، ينجو من تأثير»الأخلاق التيولوجيّة» (الدين)، وكذا «الضرورة» و»الإلزام» (98).
وهنا يُفارق شوبنهاور بوُضوح بين «الأخلاق الدينيّة»و»الأخلاق الفلسفيّة»، مع التسليم بالاختلاف القائم بينهما، ذلك أنّ الأخلاق الدينيّة تستلزم الطاعة، قبول الأحكام، احترام القواعد والقوانين، وفي المقابل هناك ثواب وعقاب، كالّذي نصّص عليه كلّ من لوك وكانط بخصوص الصفة الإلزاميّة للأخلاق وما تعارض مع حريّة الاختيار والتصرّف نتيجة «الضرورة الأخلاقيّة المطلقة، كالوارد أيضا في «نقد العقل الخالص» لكانط، حسب قراءة شوبنهاور له، وما اصطدم بالواقع في «نقد العقل العمليّ» (99). أمّا الأخلاق الفلسفيّة، بمنظور شوبنهاور استرسالاً في هذا المقام البحثيّ، فهي الرافضة للأخلاق المشروطة بالثواب والعقاب، لأنها تقوم مفهوما على الاقتناع، المعرفة، نُشدان السعادة، التوق إلى الأبديّة (100).
كذا ظلّ كانط قريبا من الأخلاق الدينيّة في حين انتصر شوبنهاور للأخلاق الفلسفيّة. وإنْ أمكن لكانط التحرّر من دوغما الدين فهو لم يستطع الخروج من دائرة تأثير الأخلاق الدّينيّة بالصفة الإلزاميّة للأخلاق، كأن خرج من «يجب عليك» إلى «هذا واجبك»، حسَب عبارة شوبنهاور (101).
لا شكّ أنّ كانط، بسعْيه إلى إنشاء «أخلاق إلزاميّة» وحرصه على التفريق بين الما-قبليّ (a priori) والما-بعديّ (a posteriori)، أفاد الميتافيزيقا عامّة.
غير أنّ خللا منهجيّا ومفاهيميّا تطرّق إلى منظوره الأخلاقيّ نتيجة الفصل بين «الأخلاق الخالصة» النظريّة أو الما-قبليّة وبين «الأخلاق العمليّة» الما-بعديّة. والنتيجة أنّه لم ينج من تأثير التيولوجيا وثنائيّة الواجب وضرورة التنفيذ (102).
إنّ كلمة «الواجب» تستدعي تغييرًا، حسب شوبنهاور، بـ»الاحترام»، هذا اللفظ الّذي ينسجم مع روح المسيحيّة، وهو نقيض الرضوخ.
إنّ الّذي يبدو مُتماسكا كانطيّا في «نقد العقل الخالص» بصفة أخلاقيّة يرتبك تماما في «نقد العمل العمليّ» نتيجة صعوبة الاستجابة للواقع. ولإمكان التنفيذ يقترح شوبنهاور عقلا مرتبطا بالإرادة قصد الخروج من مطبّ ثنائيّة «العقل الخالص» و»العقل العمليّ»، الانتقال من الواجب والإلزام إلى الحريّة والالتزام.
كما أنّ العقل مُوَحَّدًا بالمفهوم الشوبنهاوريّ يحتاج إلى مرجع آخر هو الحدْس، لأنّ العقل لوَحْدِه لا يعني قيمة أخلاقيّة، ذلك أنّ القيمة الأخلاقيّة هي مجمع العقل والفضيلة (103).
فالخوض هُنا في الميتافيزيقا ضروريّ لتوسيع مجال الأخلاق شوبنهاوريّا بعد توسيع الدين بالأخلاق كانطيّا، إذْ هناك المحسوس والمحسوس الأعلى الّذي هو المُطلق، الألوهيّة، ذلك أنّ الإنسان يحمل في ذاته ميتافيزيقا فطريّة هي السائدة بين البشر، وهي أساس الاختلاف بينهم، والأصل لكثرة الأديان وتنوّعها.
إنّ أيّ استخدام للفكرة يعني اشتغالا لعقل. لذا فإنّ الميتافيزيقا والدين دالاّن على استخدام العقل، وليس على نقيضه، لأنّهما من الفكر وإليه.
غير أنّ التفكير بالميتافيزيقا والدين معا يُحتّم التعالي (Transcendance)، مع القول بإمكان التفكير في الذات وتحويلها إلى موضوع واتّخاذ موقف مُتباعِد عن الموضوع، مثلما يُمكن إدراك الما فوق- حسّيّ بالعقل.
لقد أدرك شوبنهاور بعد ستّين سنة من موت كانط أنّ الأخلاق، بمنظور كانط، هي حبيسة فضاء منغلق نتيجة التناقض بين الظاهر والخفيّ ورفضه القول بـ»الأخلاق الطبيعيّة»، إذْ لا معنى للخير والشرّ في الطبيعة، وإنّما الخير والشرّ حُكمان في الإنسان، مثلما لا يجوز اعتبار أيّ حكم قضائيّ أخلاقيّا (104).
والضمير (conscience) الّذي يعتبره كانط أهمّ مرجع أخلاقيّ، هل يعود أصله إلى الطبيعة أم هو حال ملتبسة ناتجة عن حالات شتّى، كالّتي أحْصاها بخمْس: خوف بشريّ وخوف دينيّ وأحكام مسبقة وغرور واعتياد؟ ألا يُحيل «الضمير» إلى الدين من غير أن يكون بالضرورة أخلاقيّا؟ (105).
فلا يثق شوبنهاور ولا يعتقد في الضمير. لذا يدْعو إلى التوسُّل بالأصل الأوّل، بالغرائز الّتي لا تتناقض في الجوهر مع القيم الأخلاقيّة. ذلك أنّ الدين، حسب تقدير شوبنهاور، قد يُضلّل السائر في طريق الأخلاق ويدفع به إلى «فساد العادات» (106).
فلا بُدّ، إذن، من أن نبحث شوبنهاوريّا عن الأخلاق خارج حدود الما-قبل الدينيّ الأخلاقويّ، خارج حدود المدرسة والنُخبة بالتوجّه قويّا إلى الحياة، إلى التجربة.
كذا»أصل الأخلاق»، عند شوبنهاور، يدفع ضرورة إلى التفكير في الأنانيّة الماثلة في الحيوان مثولها في الإنسان. وكُلّ ما يقف حاجزا أمام هذه الأنانيّة يُمسي مُعرّضا للغضب، للكراهيّة، للعدوان (107).
إنّ اعتبار الأنا (Ego) مركز العالم هو شعور دائم لا ينقضي إلاّ بالموت نتيجة توهّم الأنا بأنّه مالك كُلّ شيء، وبالموت يكون توهّم انقضاء كُلّ شيء. لذا تأكّد القول بفكرة هُوبز الداعية إلى التوسّل بالدولة لتفادي أخطار الأنانيّة وضمان حقوق المجموعة بالتساوي.
فيُعيد شوبنهاور صياغة فكرة هوبز في ضرورة صدّ الكراهيّة والعدوان بالدولة بناءً على واقع إنسانيّ مَفاده أنّ الأنانيّة هي مُولّدة الجشع والإدمان والبُخل والغرور والادّعاء. أمّا الكراهيّة فهي مُنشئة الغيرة والشهوة والتوحّش والفضول والوقاحة والحقد والرغبة في الثأر…(108)
14- من قبيل الخاتمة: آثار الدوغما وآفاق الحريّة، نحو ميتافيزيقا جديدة أساسها العمليّ هو الأخلاق
مسارّ طويل من الفكر الفلسفيّ بالدين مثّل تراكمات وإبدالات جسّدتها أعمال الفلاسفة المذكورين. فكان للدين حضوره الأقوى عند بدْء المشروع التنويريّ عوْدًا إلى الجذور الأولى، إلى القدّيس أوغسطين ثمّ إلى القدّيس طوماس الإكوينيّ.
إنّ القول بـ»غريزة الإلهيّ» الحاضرة بكثافة في فكر القدّيس أوغسطين بمرجعيْن مانويّ ومسيحيّ هي ابتداء المشروع عند إعادة قراءة أعماله.
ففكرة الأبديّة الّتي اقترن وجودها بنشأة النظر المستقبليّ واستلزمت السعادة هدفا ومشروعا اتّخذت لها وجها أخلاقيّا تطبيقيّا لدى القدّيس طوماس الإكوينيّ.
هذا الحدث المعرفيّ البدائيّ المرجعيّ أفاد ديكارت، فكان مشروعه الّذي انتصر لفكرة «ماهو أكثر من إنسان» وأحال «الطبيعة الإنسانيّة» إلى الطبيعة الإلهيّة».
أفق الحريّة، هنا، مُشْرَع على مستقبل رافض لدوغما الدين بممارسة «شكّ مذهبيّ» حارق هو لباسكال بعد شكّ ديكارت المنهجيّ لتحقيق «ماهو أكثر من إنسان» بالمَوْجوديّة وحريّة التفكير، شكّ يذهب بعيدًا في ريبيّته حدّ المخاطرة نُشدانا لأمل منبثق من الدين، وهو أبعد مدى منه في مغالبة أعتى حالات القلق الوجوديّ وأشدّها. وكأنّ القرن السابع عشر هو قرن الشكّ المتعدّد المتكثّر بامتياز، كالشكّ السبينوزيّ يدعو إلى «توقيف الحكم» والتوسّل بالتجربة فاتحا الباب على مصراعيه أمام فلاسفة التجريب والتحليل القادمين، من الفلاسفة الانقليز، على وجه الخصوص، مع القول بـ»وحدة الوجود» و»وحدة الجوهر» الّذي يتضمّن في ذاته صفتين هما الجسد والروح، وكالجوهر الواحد الإلهيّ القائم على تعدّد الصفات.
فالعقل السبينوزيّ هو بعض من كُلّ، وهو أداة للتمييز بين الخير والشرّ وبلوغ أعلى مراتب المعرفة.
كذا تنزل الأخلاق تدريجا من عليائها بفكرة الوضع لدى هوبز، بالفرد داخل المجتمع وصلته المباشرة بإمكان الدولة العادلة، بمشروع الانتقال من «المساواة الطبيعيّة» إلى المساواة المجتمعيّة»، من «دولة الحرب» إلى «دولة السلم»، من القانون الطبيعيّ إلى القانون الأخلاقيّ.
إنّ النزول بالأخلاق من عليائها وانتهاج سبيل الحريّة في مغالبة دوغما الدين هما في صميم القول بالأفكار المكتسبة والتجربة لدى لوك والاستمرار في نهج هوبز الداعي إلى فلسفة للأخلاق الوضعيّة، وإنْ واصل لوك الخوض في مشكلة المعرفة، ما بين الاستعداد الفطريّ للتفكير والأفكار المكتسبة.
سقف الحريّة قد يعلو وقد ينخفض في فلسفة الدين الغربيّة، كليبنتز ذهب إلى القول بفطريّة الأفكار بما لا يتناقض تمامًا مع الحريّة. إلاّ أنّها حريّة مشروطة بأحكام الخلق الأوّل نراها تتكثّف بمفهوم الموناد، بما يتوحّد جوْهرًا، كوحدة الجوهر السبينوزيّة، وما يتكثّر بالمونادات النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة، بالجسديّة والروحيّة وصولا إلى أعلى موناد الّذي هو موناد الإله.
فالحريّة قد تُصبح إمكانا آخر في فكر هيوم عند السعي إلى المؤالفة بين كُلّ من لوك وليبنتز عند القول بالأفكار الفطريّة والأخرى المكتسبة.
هنا توسّل هيوم مرجعا بالدين الطبيعيّ، فذهب إلى القول بوجود الإله ورفْض الدّين ليُفارق بين التديّن والإلحاد والقول فحسب بوجود اللّه: اختلاف، لا شكّ ، أنّه سيُوسّع من مجال التفكير في الدين والأخلاق.
هذا التراكم في الأفكار منذ القدّيس أوغسطين ثمّ القدّيس طوماس الإكوينيّ ومرورًا بديكارت وباسكال وسبينوزا وهوبز ولوك وليبنيتز وهيوم انتهى إلى كانط.
غير أنّ كانط، وهو يستقدم إليه آثار سابقيه، ومنهم هيوم على وجه الخصوص، وَصَل بين الحريّة والواجب رغم ظاهر انتصاره للـ»تيولوجيا الفلاسفيّة» على التيولوجيا الانجيليّة، لتنسيب الأخلاق بدلا عن القول بصفتها الإطلاقيّة.
أفكار كثيرة مفصليّة وردت في فلسفة كانط، كتقسيم الأديان إلى أخلاقيّة وغير أخلاقيّة، أديان سلميّة وأخرى مُحرّضة على الحروب، وكالدعوة إلى المحبّة والانفتاح على الآخر، والقول بالصفة الطبيعيّة للحريّة الإنسانيّة والتوجّه إلى العقيدة الحرّة بمُقاربة «مملكة الإله» بدلاً عن الكنيسة والانتصار للعقل والوضع ووجوب فصل الدين عن الدولة…
لا شكّ أنّ سقف الحريّة يعلو ويعلو في الزمن ما بعد-الكانطيّ، ومفهوم الأخلاق يزداد وضْعًا بعد إطلاق، والميتافيزيقا تُحرّر الأخلاق مثلما تتحرّر من دوغما الدين الموروثة عبر قرون.
إنّ لشوبنهاور صَوْلته في هذا المجال، بنقده لكانط، لـ»فكرة الواجب» واقتراح الاحترام بَدَلاً عنه، بوضعه أفقا، بل آفاقا جديدة للميتافيزيقا استمرارًا في القول بالإرادة والعقل والحدس معًا، واقتراح ما به تستثري الأخلاق من الفلسفة بالميتافيزيقا تحديدًا خارج دائرة الدين وبدون تغييب له، الدين متحرّرًا من الدوغما، الدين بأخلاق جديدة تُجوّز اعتناقه والاعتقاد فيه بصفة فرديّة أو تجاوُزه بكامل الإرادة، بكامل الحرّيّة.
* الهوامش:
1- Emile Saisset, ‘’Essais sur la philosophie et la religion au XIX ème siècle’’, Paris : charpentien , Librairie-Editeur, 1845, p 296. (Gallica, Bibliothèque Nationale Française).
2- ‘’Le fond commun de toute religion, comme de toute philosophie, c’est l’invincible besoin qui pousse l’homme à dévélopper cet instinct et de sa nature, l’instinct du divin’’, Ibid, p 297.
3- مؤسّس المانويّة البابليّ هو مَاني. ولهذه العقيدة انتشار في إفريقيّة قبل الاحتلال الرومانيّ، وهي قائمة على تصوّر ثنائيّ للعالم: الخير مُمثّلا في «مملكة الأنوار» (الروح)، والشرّ في «مملكة الظلمات» (المادّة). وقد انتقل تأثير المانويّة إثر ذلك إلى زرادشت وبوذا ثمّ المسيح…
4- Saint Augustin, ‘’œuvres complètes’’, Paris : Librairie de Louis vives, Editeur, 1870, p 593 (Gallica).
5- Ibid, p 590.
6- Ibid, p 568.
7- Saint Thomas d’Aquin, ‘’Somme théologique’’, Traduction de M.Drioux et celle de M.Lachat, p 2 (Gallica).
8- Ibid, p 3.
9- Ibid, p 5.
10- Ibid, p 5.
11- أثّر القدّيس طوماس الإكوينيّ لاحقا بظهور «الطوماسيّة الجديدة» في القرن التاسع عشر عند فتح المسيحيّة على فكر الحداثة، إذ دعا إلى الوصل بين الدين والعقل، بالإحالة المَرجعيّة الأولى إلى أرسطو…
12- منهج قائم على أربعة عناصر: 1- عدم التسليم بالحقيقة إلاّ بعد التثبّت منها. 2- تجزئة المشكل قصد الوصول إلى حلّه. 3- الابتداء تفكيرًا بالمسائل الأكثر تبسيطا ثمّ الانتقال إلى ما هو أشدّ تعقيدًا. 4- تشميل النظر لتفادي التغافل عن عناصر هامّة في بنية المشكل.
René Descartes, ‘’Discours de la méthode’’, France : société générale de librairie catholique, 1881, p34. (Gallica).
13- من الأفكار الّتي أعاد فريديريك نيتشه صياغتها في اللاّحق، ومن أهمّها «الإنسان الأعلى».
14- السابق، ص 43.
15- كثافة الحضور، فكرة مهّدت السبيل، في تقديرنا، لـ»دازاين» (Dasein) مارتن هيدغر في زمن لاحق.
Martin Heïdegger, ‘’L’Etre et le temps’’, France : Gallimard, 1964.
16- السابق، ص 49.
17- Blaise de Pascal, Tome Second, Paris : chez le Fevre, 1819, Second Partie contenant les pensées immédiatement relatives à la religion, p 201.
18- Ibid, p 208.
19- Ibid, p 212.
20- Ibid, p 215.
21- Ibid, p 215.
22- Ibid, p 214.
23- Ibid, p 216.
24- Ibid, p 221.
25- Ibid, p 227.
26- استفاد سبينوزا في قوله بـ»وحدة الوجود» من تاريخ الفكر الصوفيّ عوْدًا إلى كُلّ من اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام… فكفّرته الكنيسة بهذا المذهب وتنكّر له فلاسفة زمانه، كمالبرانش (Malebranche ) وفينيلون (Fénélon) وليبنيتز (Leibniz)…
27- وهي: 1- البسيط أو العلامة. 2- التجربة الأوليّة الّتي لا تُحدّ بإدراك. 3- تصوّر شيء في علاقته بشيء آخر. 4- إدراك الشيء في ذاته وبِفهم سببه الخاصّ توسُّلا بالمعرفة الحدْسيّة.
28- Supplément aux oeuvres de Spinoza, ‘’Dieu, l’homme et la béatitude’’, Traduit par Paul Janet, Paris : Librairie Germer Baillière et C ie, 1878 , p 10. (Gallica).
29- Ibid, p 14.
30- Ibid, p 18.
31- تمّ العثور على هذا الكتاب الهامّ المختصَر في هولندا عام 1851، وقد عاد بول جاني (Paul Janet ) المترجم إلى نُسختيْن منه، واحدة بالهولنديّة وثانية باللاّتينيّة، وهي الأصليّة، وتعود إلى القرن 17م.
تضمّن الكتاب حوارًا دائرًا بين إرازم (Erasme) القائل بأنّ اللّه هو سبب كُلّ الأشياء، وهو أيضا سبب محايث وبين تيوفيل (Théophile) الجازم بأنّ اللّه سبب متباعد إلى حدّ مّا عن الأشياء. وإذا رأي إرازم هو رأي سبينوزا القائل بمعنى الكُلّ في توصيف الإله، لكوْن التباعُد يقضي سبب البعض وعدم سبب البعض الآخر. وحجّة تيوفيل تكمن في نقيض الوحدة، ذلك أنّ التبعيد ضروريّ لفهم الكُلّ وإدراكه. السابق، ص25.
32- ‘’Dieu est cause de lui-même et par conséquent de toutes choses’’. Ibid, p 30.
33- Ibid, p 68.
34- قد يعني، هنا، نواةً دلاليّة أوّليّة للإنسان الأعلى النيتشهيّ لاحقا.
35- Ibid, p 146.
36- Ibid, p 151.
37- Ibid, p 170.
38- Georges Lyon, ‘’La philosophie de Hobbes’’, France : Felix Alcan, Editeur, 1893, pp 148-149. (Gallica).
39- Ibid, p 152.
40- Ibid, p 167.
41- جرّبت الإنسانيّة الحروب لأسباب مُختلفة. ومن أبرز هذه الأسباب الدين، كالحروب الصليبيّة بين المسيحيّة والإسلام الّتي دامت قرونا. فكان أن اعتبر هوبز منها، كاعتباره من حروب أخرى بأسباب غير دينيّة في تاريخ الإنسانيّة.
42- John Locke, ‘’L’Essai sur l’entendement humain’’, revu, corrigé et accompagné de notes par M.F.Thurot, Paris : chez Fermin Didot Frin, édité à la fin du 19 ème siècle (Gallica).
43- Ibid, p 15.
44- Ibid, p 16.
45- يُحيل لوك مرّة أخرى مسألة توالد الأفكار وصلتها بالتجربة والمُكتَسَب، لا الفطرة، إلى الأطفال الّذين يتحصّلون على الأفكار في ترابط وثيق قائم بين الفكر الناشئ والعالم الخارجيّ (الأشياء).
46- Ibid, p 42.
47- Ibid, pp 50-51.
48- Ibid, p 58.
49- Ibid, p 59.
50- Ibid, p 61.
51- G.W.Leïbniz, ‘’Nouveaux éssais sur l’entendement humain’’, in ‘’oeuvres de Locke et Leibniz’’, revu, corrigé et accompagné de notes par M.F.Thurot, Paris : chez Fermin Didot Frin, édité à la fin du 19 ème siècle (Gallica).
52- Ibid, p 522.
53- Ibid, p 523.
54- Ibid, p 526.
55- Ibid.
56- Ibid.
57- Ibid, p 536.
58- مهّد ليبينتز بهذه الأفكار لكانط الّذي اعتبر أنّه لا معنى لمادّة متمدّدة، بل المادّة هي شيء في ذاته وليست ظاهرة (phénomène).
59- Leibniz, ‘’Nouveaux Essais sur l’entendement humain’’, Introduction par Henri Lachelier, Paris : Librairie Hachette, 1886, p 23 (Gallica).
60- يتكوّن الموناد، حسب ليبنيتز، من عنصريْن: 1- الجهد أو النزعة إلى الجهد. 2- الإحساس المقترن بالجهد وترجمة اللّفظ قد يكون حسب التقريب، بوحدة الجوهر الفرد الحيّ أو عُنصر آحاديّ الذرّات أو الهيولى.
السابق، ص25-26.
61- Ibid, p 28.
62- Ibid, p 38.
لا تتعارض الحتميّة مع الحريّة. ذلك ما ذهب إليه كانط في اللاّحق، إذْ لم يشكّ في الحتميّة الفيزيائيّة والبسيكولوجيّة لأفعالنا، فكان أن حصل اتّفاق بين المدْرستيْن الانقليزيّة والألمانيّة بخصوص مفهوم الحتميّة المذكور.
السابق، من مقدّمة الكتاب لهنري لاشليي (Henri Lachelier)، ص40.
63- حتّم الإله عند خلق الإنسان الذكاء والتفكير والحُريّة والإرادة والاختيار. فقرن ستيوارت ميل (Stuart Mill) الحريّة بالاختيار، والاختيار مُرتبط بالوعي، ومرتبط أيضا بظرف، بعوامل من السياق الخارجيّ، وقد لا يكون الاختيار صائبا. فالإنسان الحرّ هو كائن أخلاقيّ، راغب، قادر على الاختيار، مُريد.
64- Ibid, p 80.
65- Ibid, p 82-83.
66- اعتمد أسلوب الحوار للتدليل على وجود الأفكار الفطريّة مقابل رفض وُجودها أصلا، واعتبار الأفكار من التجربة وإليها (لوك)، واتّخذ لإدارة هذا الحوار إسميْن هما: فيلاتات (philathète ) القائل بالأفكار والحقائق الفِطريّة، وتيوفيل (Théophile) المُعْتَقِد في الفكرة الفطريّة الأولى الخاصّة بوُجود اللّه.
67- Gabriel Compayré, «La philosophie de David Hume», France : Ernest Thorin, Editeur-librairie de collège de Françe, 1873, p 59. (Gallica).
وقد ذكر المؤلّف من دعاة التجريبيّة الانقليز: كيدوورث (Cudworth) وكلارك (Clarke) وَوُولاستون (Wollaston) وشافتسبوري (Shaftesbury)، على سبيل المثال لا الحصر.
68- Ibid, p 68.
69- Ibid, p 95.
70- Ibid, p 223.
71- Ibid, p 320.
72- كتاب أُلّف قبل 1751، ولم يصدر إلاّ عام 1779، أي بعد ثلاثة أعوام من وفاة مُؤلّفه.
73- Ibid, p 323.
74- ‹›وحدة العالم» و»الوحدة المطلقة لخالقه» هما فكرتان مشتركتان بين هيوم وكانط، بل إنّ كانط تبنّى فكرة هيوم وطوّرها ودعّمها.
السابق، ص 339.
75- Emmanuel Kant, ‘’La Religion dans les limites de la simple raison, France : Librairie philosophique J. Vrin, 1996, p 55-56.
76- Ibid, p 58.
77- Ibid, p 66.
78- Ibid, p 69.
79- Ibid, p 71.
80- Ibid, p 84.
81- Ibid, p 129.
82- Ibid, p 130.
83- Ibid, p 133.
84- Ibid, p 175.
85- Ibid, p 176.
86- Ibid, p 186.
87- Johan Gottfried Von Herder, «Idées sur la philosophie de l’histoire de l’humanité», ouvrage traduit de l’Allemand et précédé d’une intoduction par Edgar Quinet, Paris : chez F.G.Levrault, 1827. (Gallica).
88- Johann Gottlieb Fichte, ‘’Destination de l’homme’’, traduit de l’Allemend par Barchon De Penhoën, Paris : Paulin, 1832. (Gallica).
89- Friedrich Daniel Ernest Schleirmacher, ‘’Monologues’’, Traduits de l’Allemand par Louis Second, Paris : Joët cherbullez, 1868. (Gallica).
90- Friedrich Hegel, ‘’la phénémonologie de l’esprit’’, France : Aubier, bibliothèque philosophique, 1941.
91- Arthur Schopenhauer, ‘’Le fondement de la morale’’, introduction par Alain Roger, France : Aubier, bibliothèque philosophique, 1978.
92- اُنظر مُقدّمة الكتاب!
93- قُدّم هذا الكتاب بحثا للحصول على جائزة «المجمع الملكيّ للعلوم في الدنمارك».
94- Ibid, p 6.
95- Ibid, p 8.
96- Ibid, p 10.
97- Ibid, p 15.
98- Ibid, p 18.
99- Ibid, p 19.
100- Ibid, p 20.
101- Ibid, p 21.
102- Ibid, p 30.
103- Ibid, p 50.
104- Ibid, p 94.
105- Ibid, p 100.
106- Ibid, p 101.
107- Ibid, p 105.
108- Ibid, p 110.
1
مصطفى الكيلاني *