ليس هناك في المكتبة العربية، بقدر ما أعلم، مرجع حقيقي واحد يمكن أن يحقق للقارىء إطلالة على حد أدنى من الدقة على مسرح النو الياباني، ولعله ليس من قبيل الصدفة أن عروض النو لم تقدم في عالمنا العربي الا مرات قلائل، وفي هذه المرات كان العرض مخيبا لآمال الجميع، فهو قد بدا لغزا حيا ومضجرا لجمهور لم يجيء الى المسرح الا مسلحا بفكرة ضبابية تماما عما يعنيه المسرح التقليدي الياباني ومسرح النو بشكل خاص، وهو قد بدا للجانب الياباني تجربة مريرة، لأن عرض النو يتكبد قدرا هائلا من الاستعداد والجهد والعنا0في تقديمه، ولم يكن رد فعل الجمهور العربي مما يعتز به فنانو النو اليابانيون، الذين اعتادوا تقديم عروضهم لجمهور ليس مسلحا بالمعرفة فقط وإنما بالوعي الجمالي والحساسية الروحية، وهما أمران لا يتكامل عرض النو إلا بهما.
قد يبادر معترض بالقول إن هناك من الكتب والمصادر ما يحقق ما يبغيه القارىء العربي، فهناك كتب مثل "المسرح في الشرق " وكتب أخرى تتحدث عن التقاليد الدر امية الآسيوية، بالإضافة الى العديد من الكتب المدرسية، التي تضم بالضرورة عدة صفحات على الأقل عن مسرح النو، هذا فضلا عن عدد كبير من المقالات التي نشرت في الدوريات العربية عن مسرح النو، وبعضها بقلم كاتب هذه السطور.
وكان بودي أن أوافق على هذا الاعتراض، لولا أن كتاب " المسرح في الشرق " على سبيل المثال مضى أكثر من ربع قرن على إصدار آخر طبعة له، والكتب المناظرة محدودة للغاية، أما الكتب المدرسية فإن طابعها التعليمي يخنق أي محاولة لاقتراب حقيقي من مسرح النو، والمقالات المنشورة في الدوريات العربية قد يصعب الحصول عليها، كما أن لها عيوبها في الكثير من الحالات. وعلى سبيل المثال، فإن المقالات التي نشرها كاتب هذه السطور في عدد من الدوريات والمجلات العربية يجمع بينها عيب أساسي هي أنها جميعها كتبت انطلاقا من الاهتمام بالأساس الفلسفي الذي قامت عليه هذه الفنون الدرامية، وبينها النو، ومن هنا فإنها قد ترضي دارس الفلسفة، ولكنها بالضرورة ستثير سخط دارس المسرح. الآن، هل نحاول هنا استدراك هذا الجانب ؟
ليس تماما، فتلك على وجه الحصر مهمة المختصين بالمسرح في شتى تجلياته. وما أحاوله هنا ليس إلا التفكير بصوت عال حول السر في أنني عندما سئلت مؤخرا عما إذا كان من المناسب تقديم عرض للنو في منطقة الخليج، بادرت الى تأكيد أن ذلك أمر نتوق اليه، ونتطلع له بشدة، كحدث فني كبير، لم يشهده هذا الجزء من العالم أبدا، ولكن ذلك العرض سيغدو تكرارا جديدا لفشل قديم، ما لم يسبقه تعريف حقيقي بهذا المسرح، وبعالمه الفلسفي – الروحي الرحب، وبجوهر التجربة الجمالية المندرجة فيه.
هنا يطرح سؤال على الفور. من الذي يقوم بهذا التعريف ؟ الإجابة هي، على الفور، ليس الجانب الياباني، فمن المؤسف أن العالم العربي يدخل مع افريقيا في آخر الدوائر التي يهتم بها اليابانيون، على أي صعيد، وحتى في الاطار الاقتصادي فإن اليابان لا يهمها في الوطن العربي إلا الغاز والنفط من منطقة الخليج، وقناة السويس والاستثمار فيها، واغراق السوق العربية بالسلع اليابانية وخاصة الاستهلاكية منها كالسيارات والأجهزة الكهربائية والالكترونية.
واذا كان هناك من هو بحاجة الى دليل في هذا الصدد، فيكفي أن أقول إن أي دارس لتطور العلاقات العربية – اليابانية يعرف أنه حتى سنوات قليلة مضت لم تكن هناك سياسة واضحة في طوكيو حيال العالم العربي، بل كانت هناك سياسة إسلامية، الأمر الذي يعني أن صانع القرار الياباني كان يدرج العالم العربي بكامله في عكة الدول الإسلامية، تسهيلا للتعامل معه، وتعبيرا عن عدم استحقاقه لاهتمام خاص داخل هذا الإطار. وهو الوضع الذي نعلم جميعا أنه ظل ساريا حتى العام 1973، ولم تغيره إلا صدمة حرب أكتوبر ووقف تصدير النفط العربي.
وليس سرا أنه على الصعيد الاقتصادي، وعندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن العديد من الدوائر في طوكيو تؤثر التعامل مع اسرائيل، ومن هنا يأتي الاستثمار الياباني الهائل في صناعات اسرائيلية كصقل الماس والطائرات والأسلحة وغيرها، ولم يأت من فراغ قيام رئيس الوزراء الاسرائيلي بزيارة طوكيو فور الترويج الإسرائيلي العالمي للسلام والمشروع الاقتصادي الشرق أوسطي، حيث أعلن رسميا عن نطاق مذهل للتعاون الياباني الإسرائيلي. ولكن ماذا عن الصعيد الثقافي والفني؟
ليس هناك أي اهتمام في طوكيو بالعالم العربي على هذا الصعيد. والبرامج التي تشمل العالم العربي في نشاط مؤسسة اليابان، وهي الهيئة الرسمية المسؤولة عن تطوير علاقات اليابان الثقافية بالعالم الخارجي، هذه البرامج محدودة للغاية بحيث يمكن أن تؤول للصفي، ولولا بعض الاهتمام من جانب عدد من الجامعات اليابانية بالدراسات العربية وتمويلها لتعليم اللغة اليابانية في القاهرة ودمشق، وبعض المنح الهزيلة لعدد من الدارسين والباحثين العرب لأمكن القول إن العالم العربي ليس موجودا على خارطة الاهتمامات الثقافية والفنية اليابانية.
ماذا إذن ؟
لا أمل، على الإطلاق في أن يغير الجانب الياباني ملامح هذه الصورة المؤسفة لحركة التثاقف العربي – الياباني، فنحن ببساطة لا نعنيه،والأمل الوحيد معقود على إدراك المؤسسات العربية وصناع القرار الثقافي العربي أنه لابد من الاهتمام بالشرق على كافة الأصعدة، ولابد من علاقات عربية جادة في كل المجالات ومن بينها الثقافة والفن بين العالم العربي والعواصم الشرقية وفي مقدمتها طوكيو وبكين.
ولكن ألم يأخذنا هذا الاستطراد بعيدا عن مسرح النو؟
تماما، فلنعد إذن الى مناط اهتمامنا هنا، ولنبدأ من البداية، كما يقولون، ولنطرح السؤال البديهي: ما هو النو؟
المعنى الحرفي لكلمة النو في اللغة اليابانية هو الموهبة أو الانجاز أو العمل البارع، وقبل أن تطلق على وجه الحصر على الشكل التقليدي من المسرح الياباني المرتبط بها، من بين أكثر من اثني عشر شكلا آخر للمسرح، فقد تم استخدامها للإشارة الى شكلين من أشكال المسرح الياباني التقليدي، هما الساروجاكو والدنجاكو، وهما تجليان أكثر خشونة لفن البوجاكو، وهو في جوهره رقصات تصاحبها الموسيقى، كانت في بعض الأحيان تؤدي كفقرات منفردة، لا تشكل الدراما فيها إلا الحد الأدنى.
ومن المؤكد أنه لا سبيل الى فهم النو إلا من خلال ارتباطه بهذه الغابة من الفنون التي انتقلت معا من البر الآسيوي الى الأرخبيل الياباني منذ العقود الأولى للقرن السابع الميلادي، وأيضا من خلال متابعة تطوره التاريخي منذ هذه البدايات الغائمة وحتى اليوم.
والواقع أن هذه البدايات لمسرح النو تتخلص من هذا الالتباس والغموض إذا ما أوغلنا في المسيرة التاريخية معها الى عصر النارا، أي حوالي الفترة من العام 710 الى العام 794 حيث غدت اشكال الرقص تلك بما يصحبها من موسيقى ودراما جزءا ثابتا من الاحتفالات البلاطية والدينية.
هنا نلاحظ أنه في العصر الهايني لم 794-1158) ستتبلور رقصات البوجاكو لتكتسب العديد من السمات التي ميزت مسرح النو، بعد ذلك بعدة قرون، فهناك الأقنعة الخشبية المؤسلبة في تنفيذها، وكذلك الملابس الفنية بالوانها ونسيجها. وهناك النموذج المحدد في التقديم، الذي سيتحول عقب ذلك الى ما يشبه قانونا صارما، حيث البدء بـ" الجو" او الاستهلال، ثم يعقب ذلك "الها" أو التطوير، تمهيدا لبلوغ «الكايو» أو الذروة. وهو ما يعرف بمبدأ اليوجين.
ومسرح النو يدين بالكثير لرعاية البلاط له، ولكنه في الوقت نفسه كان يلقى رواجا كبيرا في احتفالات المزارات والمعابد وهو ما يعني احتكاك هذا المسرح بالنخبة من ناحية وبالجموع الغفيرة من السكان المحليين من جهة أخرى.
مع انحسار تأثير البلاط، وبروز تأثير الحكومة العسكرية سكة في "الشوجون"، برز الساروجاكو والدنجاكو، منذ أوائل القرن الثالث عشر، بما يعكسانه من ارتباط أوثق بالأشكال الاحتفالية الريفية.
ومسرح النو، على نحو ما نعرفه اليوم، سيبرز من رحم احتكاك فناني الساروجاكو والدنجاكو، وهم عادة من أصول اجتماعية متواضعة، ولا يترددون في تقديم عروض متخللة وبذيئة، بالثقافة والفن في تقاليدهما الرفيعة في كيرتو.
وداخل هذا الإطار يمكن القول إن النو، كما نواه اليوم، هو من ابداع اثنين من فناني الساروجاكو، هما كانامي (1333- 1384) وابنه زيا مي (1363 – 1443) والواقع أن الأب لم يحتك بثقافة البلاط وفنونه إلا في أواخر عمره، بينما أمضى الابن عمره كله تقريبا واقعا تحت تأثير تقاليد البلاط.
وبينما أدخل كانامي الى فن الساروجاكو رقصا إيقاعيا قويا، عرف باسم «الكيوسي» كان يضفي على العرض توترا دراميا ويعطيه بؤرة دراسية يصب فيها، وقام بتحويل هذا الفن الى دراما راقصة مطورة، فإنه ابتداء من زيا مي نستطيع بالفعل الحديث عن النو. فقد كان ممثلا، وكاتبا مسرحيا، ومنظرا، ورئيسا لمجموعة المبدعين الأثيرة لدى الشوجون. ومن خلال دراساته الشاملة عن النو ترك بصمة لم يقدر لأحد أن يقاربها على تطور هذا الفن. ويعزى كث المسرحيات التي تشكل ريبرتوار مسرح النو اليوم الى زيا مي، كما ان كافة جوانب عرض النو تنبع من توصيفاته لأصول هذا الفن.
ولكن ما هي الملامح العامة لمسرح النو كما نراها اليوم وكما أرساها زيامي؟
ابتداء، هناك قاعدة أساسية، وهي أن النسيج العام لمسرح النو نسيج نبيل، ولا مكان فيه للكمات أو الإشارات أو الإيماءات البذيئة، التي قد تجرح عين أو أذن المشاهد.
وقد انبنى على هذا بالضرورة، أن اللغة حتى في المقاطع التي قد لا تكون مفهومة تماما، هي لغة تشريفية طنانة، بغض النظر عن الشخصية التي تطرح الكلمات، وسواء أعانت إلها، أم هولة، أم محاربا، أم امرأة جميلة، أم حيزبونا تعسة، أو خادمة بائسة أو شبحا شريرا.
والموضوع ثالثا يستمد دائما من عيون الأدب الياباني، بما في ذلك الروايات ويوميات الحياة في البلاط وقصص الغرام وحكايات البطولة في الحرب، بالإضافة الى رصيد هائل من الشعر الغنائي، الأمر الذي يعني أن ما يقدم معروف مسبقا لدى الجمهور والفارق يكمن في طريقة التقديم.
وسياق التقديم يتبع دائما التقسيم الثلاثي لمبدأ اليوجين الجمالي، الذي أشرنا اليه قبل قليل، الى «جو – ها – كايو» أو استهلال – تطوير – ذروة، ولكن مع ملاحظة أن مقطع " الها " هو نفسه يقسم تقسيما فرعيا الى استهلال وتطوير وذروة. ويتعين أن تؤدي رقصا " الكيوسي " الإيقاعية القوية بحسبانها الجزء الثالث من "الها" تعقبها استراحة قبل الرقص المفعم بالحيوية الذي سيصل بالمسرحية الى نهايتها.
والملمح الخامس ينعكس فيه هذا البناء المحدد، حيث يتألف البرنامج الكامل لعرض النو، والذي كان قديما يقدم على امتداد يوم بأسره. فالمسرحية الأولى تدور حول إله شامخ كبداية متألقة للبرنامج. وتدور المسرحية الثانية حول محارب خالد حيث نلتقي بشبح المحارب في البداية، وهو يصف ضروب معاناته منذ موته، وفي المسرحية الثالثة سنلتقي مع امرأة بارعة الجمال، ونحن نعلم بالطبع أن النو لا مكان فيه للنساء، وأن الأدوار النسائية يقدمها رجال تخصصوا فيها، وتتنوع المسرحية الرابعة لكنها دائما تركز على المزيد من الشموخ للمناخ الدرامي. وفي المسرحية الخامسة تقدم الشخصية الرئيسية،وعادة ما تكون إلها أو هولة، رقصة بالغة القوة،
والملمح السادس يتعلق بتركيب عناصر الأداء، فالمسكون جميعا – كما قلنا حالا – هم من الذكور وتساندهم جوقة يتراوح عدد أفرادها بين ثمانية الى عشرة فنانين وتتألف الفرقة الموسيقية من عازفين الى ثلاثة يستخدمون الطبول والناي.
والملمح السابع هو دور ما يعرف بالكايوجين في مسرح النو. والواقع أن مسرح الكايوجين هو أحد الأشكال الخمسة الأكثر قوة من اشكال المسرح التقليدي الياباني، وهي: البوجاكو، النو، البونراكو، والكابوكي. ورغم اعتباره اليوم مسرحا قائما بذاته، إلا أنه في فترات سابقة كان بمثابة الفواصل الفكاهية المنبثة في مسرح النو، ويستمد هذا الجانب من مهناه الحرز نفسا، فالكايوجين في اليابانية يعني «الكلمات اللاذعة» أو إن شئت الحرفية لقلت «الكلمات المجنونة ». وغالبا ما كانت هذه الفواصل، التي تؤدي بشكل مفهوم وواضح وغير مؤسلب في النطق تصور خادما يتفوق من خلال براعته وحسن تخلصه على مخدومه المفتقر للالمعية.
و تتعدد الملامح بشكل يثير دهشتنا، حيث لم تنجم عن التراكم في العروض فحسب، وانما كذلك عن التأصيل النظري من خلال كتابات زيامي وغيرها من الكتابات التي تضرب جذورها في صميم الدراما الآسيوية وخاصة التي رأت النور ما بين القرنين الثالث والثامن الميلاديين.
وفي ضوء هذه الملامح يبرز سؤال على جانب كبير من الأهمية، وهو: ما هو الهدف من عرض النو؟
يستمد هذا السؤال أهميته من أننا عندما نتحدث عن الهدف من المسرح، ينصرف ذهننا على الفور تقريبا، الى التقاليد الأرسطية، وبالتحديد الى مفهوم المحاكاة أو تقليد الواقع حيث العمل الدرامي يستهدف في النهاية الوصول بالمشاهد الى مرحلة التطهير.
في تقاليد المسرح الياباني بعامة، وفي النو على وجه الخصوص، نحن على النقيض من هذا تماما، مع مسرح يركز على النزعة الرمزية والتخييل المؤسلب، حيث يتم تكريس كل شيء للدفع باتجاه أسمى هو في جوهره حالة مزاجية، تجربة جمالية، تستخرج استجابة فورية من المشاهد تتجاوز الكوابح التجريبية للزمان والمكان، ويتم تحقيق هذا على مستويات مختلفة من الإثارة والاستفزاز تتفق مع طبيعة النوعية المسرحية المحددة ولكن المبدأ الكامن تحتها واحد لا يتغير أيا كان مستوى المقاربة.
ما الذي يعنيه هذا؟
الواقع أن الإجابة على هذا السؤال مرتبطة بجوهر هذا المقال، مرتبطة بالرسالة التي ينقلها، لنا نحن العرب، مسرح النو، وقوامها، إنه إذا كان اليابانيون قد حافظوا على هذا المسرح كل هذه القرون فإن بمقدورنا أن نحافظ على ما وصفه باحث عربي بالظواهر المسرحية العربية، وتدخل في ذلك عشرات الأشكال من مسرح الطل والعرائس وغير ذلك، لأن موت هذه الأشكال يعني موت جزء من الروح العربية، من الهوية العربية، وهو أمر لا يمكن السماح به.
مرة أخرى ما الذي يعنيه ما أشرنا اليه حالا فيما يتعلق بالهدف من مسرح النو؟
هنا يأتي السر في اهتمام كاتب هذه السطور بمسرح النو، فهذا المسرح هو أكثر أشكال المسرح الياباني التقليدي التصاقا بالتراث الفلسفي – الديني الشرقي، حيث تأثر بعمق في المضمون الجمالي والهيكل الدرامي على السواء بتقاليد الفكر البوذي في القرون الوسطى.
وهذه التقاليد تعلمنا، كما يدرك كل من ألقى نظرة على كتاب جون كولر "الفكر الشرقي القديم " من ترجمتنا واصدار سلسلة عالم المعرفة الكويتية أننا لا ينبغي أن نسقط في قبضة معطيات الواقع المباشر، فغالبا ما تكون هذه المعطيات وهما، وانما علينا أن نرحل الى قلب الأشياء، الى جوهرها الخالد، وأن ندرك حقيقتها دونما تأثر بالمؤشرات النابهة من الطابع الزائل والعاجل للوجود كله.
بهذا المعنى فإنه سيتم توظيف كل ما يخدم التخيل والمجاز والرمزية في مسرح النو لتحقيق التقارب بين المؤدي والمشاهد، للوصول الى فهم جمالي متبادل يستخرج عبر الفورية التجاوزية للعملية المسرحية.
دعنا نبسط ما نريد أن نقوله هنا، فالهدف الحقيقي من مسرح النو هو، دون اللجوء الى اصطلاحات فنية، تعرية الروح، والكشف عن مغاليقها وأسرارها، وقد تأخذ الروح شكل إنسان أو إله،وقد تأخذ صورة تجليات شتى للخير أو الشر، وقد تكون من المشاهير أو النكرات، وقد تكون على قيد الحياة، أو بعد عهد الموت بها. وأيا كان الأمر، فإنها سوف تجرد أمامنا، حتى الوصول الى جوهر يمكن للجميع تلمسه بحميمية.
وربما لهذا بالضبط فإنه لا سبيل الى فهم عرض النو إلا من خلال حد أدنى من الفهم، بأوسع المعاني، لجانب من المعتقدات الدينية – الفلسفية، وبصفة خاصة مجموعة المفاهيم المتعلقة بأمرين محددين، هما: التجلي الإلهي، وتذكر الموتى.
من المهم هنا أن نتذكر أن التجلي الدنيوي للآلهة، وخاصة هبوط إله أو روح، ليظهر للبشر في صورة رجل أو امرأة، هو واقع مطلق في المعتقدات الدينية اليابانية، ويرتبط ذلك بجوهر مفهوم الألوهة نفسه في التقاليد الفكرية اليابانية، فكل إله، أو روح ينظر اليه على أنه تجل أو تجسيد لجانب من الطبيعة أو لإله متجاوز أو متعال أو كلي الحضور وأسماء الآلهة نفسها تصور هذه الجوانب.
هذه الفكرة تنعكس بوضوح في الهريات المختلفة لـ «الشايت » أو "المؤدي" وهو الشخصية الوحيدة في مسرح النو التي يتم تطويرها بشكل حقيقي. فالشايت عادة هو روح أسمى حبس في إهاب عادي، بل ومبتذل ثم يتم الكشف عنها باعتبارها تشير الى شي ء أسمى يتفهمه الجميع.
وبالنسبة للجانب الآخر المتعلق بتذكر الموتى، فإنه كما أن جوانب الألوهة موجودة في كل مكان، فإن أرواح الموتى لا يمكنها أن تقطع الروابط التي تشدها الى الأرض. ومن المألوف للناس في اليابان، حتى يومنا هذا، أن يصلوا للموتى، وأن يحسوا بوجودهم، بل أن هناك عيدا باسمهم، وهكذا فإن من أكثر موضوعات النو شيوعا تذكر أرواح الموتى والصلاة من أجل انعتاقها من قيد المعاناة.
وربما كان المثال الأكثر بروزا على هذا هو ما نجده في مسرحية "جينجي كايو" حيث الشايت لا يعدو أن يكون السيدة شيكيبو موراساكي، المؤلفة العتيدة لرواية "حكاية جينجي" التي تعود الى القرن العاشر الميلادي، وينظر اليها الكثيرون على أنها أقدم رواية، بالمعنى الصحيح، على مستوى العالم، حيث نجد موراساكي في المسرحية مجبرة على البقاء في الأرض بعيد اعن إمكانية الخلاص، لأنها ألفت كتابها الشهير دون أن تضمنه صلاة على شخصية ميتة مدرجة في صفحاته، وهي تطلب من «الواكي» أو "متابع الأحداث " أن يصلي من أجل خلاصها.
هذا يقودنا الى ملاحظة مهمة ينساها الكثيرون أو يجهلونها، فالدين في اليابان – حيث ينهار النمط الفاصل بين العقيدة والتأمل الفلسفي – ليس إلا كيانا فكريا متشابكا، متعدد الخطوط والملامح، ومعظم الناس يمارسون بعض الجوانب من ديانتين أو ثلاث ديانات.
وكما هو معروف،فإن الشنتوية أو "طريق الآلهة " هي الأساس في هذا الكيان. وهي تقدم التصور الأساسي والمبادئ الجمالية لتجربة النو. ولكن الأمر لا يقف هنا، وانما تأتي البوذية لتقدم المواقف العقائدية الأولية، وخاصة النظريات التي يتم تطويرها عبر قرون طويلة والخاصة بأفكار الكارما والبعث وغيرها.
وغني عن البيان أن فرع البوذية المعروف باسم "الرن " مضى الى الحد الأقصى بجماليات تجربة النو، وهو الأمر الذي ينطبق على معظم الفنون اليابانية الأخرى. وربما كان مصدر ذلك أن الرن كان يلقى الكثير من الحماس من الشوجون، أو الحكام العسكريين الذين كفلوا النو برعايتهم.
وقد يكون من المناسب هنا، دون إغراق القارىء في الكثير من التفاصيل أن نشير الى ثلاثة مؤثرات دينية أخرى في تجربة النو الجمالية، أولها النزعة الأميدية، وهي شكل أخلاقي من أشكال البوذية، يعلم أن أميدا بوذا سيمنح أي شخص البعث في فردوسه. وخلافا لما يتصور الكثيرون فإن معظم المقتطفات البوذية المدرجة في صميم نصوص النو هي نصوص أميدية وليست من نصوص الرن.
وعلى الرغم من أن الرن يسري تياره بعمق في عروق النو، إلا أن ذلك يتم بشكل محدود في صراحته ووضوحه، بينما "الشينجون " و"الننداي"، وهما فرعان صوفيان من فروع البوذية، يبدوان أكثر انغماسا في النو، ويتركان أثرهما بوضوح في مناهجه ومواقفه المركبة.
هنا يفرض نفسه سؤال بديهي: كيف انعكست هذه المؤثرات الدينية – الفلسفية على تجربة النو الجمالية ؟
لقد وصف زيامي مرارا وتكرارا بأنه "شكسبير اليابان " ورغم أن ذلك يبدو اصطلاحا بارع الصياغة من وجهة النظر الغربية، إلا أنه في الحقيقة يعكس تقليلا من شأن زيامي، وليس أدل على ذلك من أن كتابات زيا مي النظرية عن تجربة النو الجمالية تشكل المصدر الذي سيمنحنا الإجابة الواضحة على السؤال الذي طرحناه هنا، ضمن العديد من انجازاته التي لا حصر لها في كل الجوانب المتعلقة بالنو.
رأينا حالا كيف أن مبدأ اليوجين يوشك أن يرتفع الى مرتبة القانون، الذي يحكم مسرحية النو وتقسيمها الداخلي، والتقسيم الفرعي لأقسامها بل وكذلك عرض النو نفسه. ولكن اليوجين، في جوهره ليبس مبدأ جماليا فحسب وانما هو مبدأ روحي أيضا. فهو يتضمن التركيز على مفاهيم "العمق " و "الغموض" و "الجمال المعتم" و " الرشاقة " و" التألق ". وقد شدد زيامي بشكل خاص على ضرورة الالتزام بهذا المستوى في كل عروض النو باعتباره الأداة الأولية للوصول الى أرواح المشاهدين وربطهم بـ "الشايت " وهو الفارس الأول في النو.
ومن الأبعاد الأخرى ذات الأهمية الكبرى التي يشدد عليها زيامي ما يعرف بـ"كبح الجماح" أو "الآنضباط " كأداة جوهرية للنو وليس كتفضيل جمالي فحسب. وجانب كبير من الطبيعة المؤسلبة والرمزية لفن النو ناتج عن كبح الجماح.
هنا يلفت نظرنا الفارق في هذه الجزئية بين النو والتقاليد الأرسطية، فزيا مي يؤكد على أن التقليد ينبغي أن يظهر على المسرح باعتباره تقليدا، بحيث لا ينصب الضوء في نهاية المطاف على الشيء المقلد، ذلك أنه إذا اقترب المرء أكثر مما ينبغي من الواقع فإن الانتباه سيتركز على الواقع وليس على "الزهرة " الجمالية – الدرامية الروحية التي تثيرها المسرحية.
هنا قد يبادر القارىء الى الاعتراض – الاحتجاج – الاستفهام قائلا: مهلا! ما الذي تقصده بمفهوم الزهرة ؟
والقارىء محق بالطبع، سواء أعان معترضا أو محتجا أم مستفهما فلا معنى للحديث عن النو إذا لم يتصدر مفهوم الزهرة هذا الحديث.
مفهوم الزهرة هو ببساطة المفهوم الذي يشدد زيامي على التضحية بأي شيء على خشبة النو لكي يتم تقديمه، فالزهرة، لا يعدو هدف الدراما، بحسب رواية زيامي، أن يكون تقديمها للمشاهد.
كيف ؟
الزهرة هي في آن المبدأ الجمالي و" روح " الممثل أو الشخصية أو المسرحية. إنها في المقام الأول مسعى روحي، تشق اليه كل الدروب، وتركب اليه كل الدواب وتسخر في خدمته كل الأدوات.
بتعبير آخر فإن كل عنصر في النو كل إيماءة، ينبغي أن تكرس من أجل الوصول الى الزهرة، إنها تكمن وراء الكلمات والانغام والألوان، وبكلمة وراء المفاهيم الانسانية، ولكنها في الوقت نفسا ليست بعيدة عن التجربة والإدراك الانسانيين.
والقناع المؤسلب في مسرح النو، وان كان غريبا، فإنه يشير الى الزهرة، من خلال اشارته الى الممثل، وهذا الأخير يشير اليها من خلال الإشارة الى الشخصية، وهذه تشير – في نهاية المطاف – باتجاه الروح. والروح تشير، ولكن عليك أنت المشارك في تجربة النو أن تحدد لنفسك ما تشير اليه الروح.
ونحن هنا لا نتحدث عن الغاز، ولا عن معميات. ولا نطرح لغزا من تلك الألغاز التي يولع معلمو الرن بطرحها على تلاميذهم، والتي لا حل لها في نهاية المطاف، لأن الحل يكمن في تجاوز مفهوم اللغز نفسه، وتأصيل علاقة مختلفة أكثر روحانية وقربا بين المعلم والتلميذ، وانما ما نتحدث هنا عنه واضح وصريح ومحدد، فالتجربة الجمالية هي أوثق ما تكون صلة بالتجربة الروحية، ومحاولة الفصل بينهما ضرب من ضروب العبث الحقيقي.
هكذا فإن التجرد من الانانية والغرور يعد شرطا مسبقا لا غنى عنه، لمعرفة كيفية الإشارة في مسرح النو، وما الذي يشار اليه بالضبط.
ومن خلال هذا التجرد وحده يمكن تحقيق مقومات الس ؤية الخاصة، وهذا بالضبط هو السر في صلابة النو، وهو السبب في أن "الواكي" أو "متابع الحدث " لن يلعب أبدا دور "الشايت " أو "المؤدي" وهو أيضا السر في أن قناع النو مصمم بحيث أن الشايت لا يستطيع رؤية أي شيء من خلاله، إلا العمود الذي تثبت عليه العين في مسرح النو، وأي شي ء آخر من شأنه أن يؤثر على التركيز السليم للشايت.
ومن العجيب حقا أن قناع الشخصيات الضريرة في النو هو وحده الذي يشكل استثناء من هذه القاعدة، والفتحتان اللتان تؤكدان العمى تتيحان رؤية لا يحول دونها شيء للخشبة.
هنا نقطة مهمة، في إيضاح البعد الروحي للنو، فالانتصار النهائي في دنيا النو معقود لواؤه لما يعرف باسم "النو المتجمد". ولكن ما هو "النو المتجمد"؟
إنه ذلك العمل من أعمال مسرح النو الذي يتم فيه التخلص من كل عناصر التجسيد والرقص والمحاكاة، والعمل والحركة السريعة. ويتكشف الممثل والشخصية والمسرحية في العراء الرهيب لهذا النوع النادر من النو، مفصحين عن الزهرة، من خلال القوة الروحية وحدها.
هذه الظاهرة تبدو أقوى ما تكون في مسرحية "سيكيديرا كوماتشي" حيث يجلس الشايت، بلا حراك تقريبا، على امتداد ساعة ونصف الساعة، مؤديا الدور، الذي يعد الأكثر صعوبة في مسرح النو بكامله، لأن المعكر لا تسند له حركات ولا كلمات تساعده في التعبير عن الشخصية، ولابد أن يعتمد على قوته الداخلية وحدها التي تتجل من خلال معجزة ما عبر القناع. وهذا الدور لا يسند تقليديا إلا الى ممثلين يعرفون بقوتهم الروحية الهائلة.
هنا قد يبادر معترض الى القول: مهلا! إنك تعود الى اهتمامك بالأساس الفكري لمسرح النو ولا تحدثنا عما يعنينا نحن وهو الأبعاد الجمالية لتجربة النو. لا تحدثنا عما سنجده في عرض النو، وكيف يمكننا الاقتراب منه، والتعامل معه.
ومرة أخرى فإن هذا الاعتراض في موضعه أيضا، فلنبادر بالانتقال الى هذا الجانب لإلقاء الضوء عليه.
في اعتقادي أنه من العبث أن نقدم تجربة النو قبل أن نوضح أين تعرض هذه التجربة، وهذا أمر شديد الأهمية وبخاصة لمن لم يتح لهم الحظ لشهود عرض حي للنو، أو على الأقل لرؤيته في الشرائط المسجلة، والمتداول منها بعيدا عن دوائر الاختصاص جد قليل، على أي حال.
وابتداء فإن على القارىء لكي يشاهد بعين الخيال مسرح النو أن يمحو من ذهنه تماما مشهد العلبة الإيطالية، بل في الواقع مشهد أي شي ء يقترب من المسرح في تقاليده الغربية.
فجمهور المسرح الياباني التقليدي كان أصلا يجلس في الهواء الطلق، وغالبا في ركن مخصص من الحديقة اليابانية التقليدية. وما يبدو لهذا الجمهور هو عبارة عن خشبة مرتفعة قليلا عن الأرض، تتقدمها من ناحية الجمهور ثلاث درجات، أبرز ما فيها أنها لن تستخدم أبدا، ثم يأتي عمق المسرح، والذي يمتد منه على يسار الجالس وسط الجمهور ما يعرف بالجسر، والذي ينتهي بستار يحجب غرفة الملابس وغرفة المرايا.
وبأبسط المفاهيم وأكثرها بعدا عن التعقيد وتجنبا للمصطلحات الفنية، يمكن الحديث عن سبعة عشر معلما ظاهرا في مسرح النو.
والمعلم الأول هو عمود الشايت، ويقع عند الركن الداخلي الأيسر بالنسبة للمشاهد، والى جواره مقعد الشايت، وفي الركن الخارجي الأيسر سوف نجد عمود تثبيت العين، وقد سبق أن أشرنا الى أنه المكان الوحيد الذي يسمح القناع بوقوع عين الشايت عليه من مجمل الخشبة.
وقرب الركن الأمامي الأيمن هناك عمود الواعي والى جواره بالطبع، مقعد الواعي، ويقابله في الركن الأيمن الداخلي عمود عازف الناي والى الخلف منه مع الابتعاد الى اليسار قليلا مكان عازف الناي، والى جواره مباشرة من ناحية اليسار قارع الطبل اليدوي، ويليه الى اليسار أيضا قارع الطبل اليدوي الكبير. وفي خلفية عمق المسرح والى أقصى اليمين هناك باب منزلق يقابله في أقصى اليسار هناك مقعد المشرف على الخشبة.
وبجوار مقعد المشرف على الخشبة هناك عمود الكايوجين، والى يساره على مسافة في داخل الجسر، هناك مقعد الكايوجين.وقبل نهاية الجسر هناك الستار التقليدي.
أما المعلم السادس عشر فهو مقدمة المسرح من جهة الجمهور، وتلتصق به من جهة الجمهور الدرجات الثلاث التي أشرنا اليها. والمعلم السابع عشر هو مقدمة الواعي، وهو ذلك المكان الواقع في وسط الجانب الأيسر من الخشبة. والمقابل لمكان جلوس الجوقة.
هذا هو مكان التجربة الجمالية للنو، فما الذي سنشاهده فيه ؟
دعنا، أولا، نوجز ما سنشاهده على أن نعود فنحلل جزئيات هذا الذي نشاهده، ونحاول تثبيت ما قد يغمض علينا، ويتعذر فهمه، دع جانبا تذوقه.
في مسرحية النو النموذجية، تظهر الشخصية الرئيسية، في صورة شخص عادي في مكان تاريخي، وبعدان يكشف عن نفسه، كمحارب خاض معركة شهيرة قبل قرون بعيدة في المكان نفسه، يختفي ليعاود الظهور في مقطع الكايو، أو الذروة بشكله الأصلي، وبكل ما كان عليه من بهاء وفخامة.
والمشاهد العادي، الذي جاء الى مسرح النو بعيون غربية، وبذهنية الفرجة بمعناها اللاهي سيصدم يقينا ويضرب أخماسا في أسداس، كما حدث في عرض النو في أوبرا القاهرة، التي بناها اليابانيون، بالمناسبة،فجاءت تعبيرا فاجعا عن زمن من رماد.
بالنسبة لمثل هذا المشاهد فإن عرض النو يبدو عرضا مسرحيا شديد الأسلبة، ممطوطا الى حد بعيد، وسكونيا الى حد الإضجار، فالممثل على سبيل المثال قد يعبر عن رحلة هائلة ومفعمة بالمغامرات والأخطار والأهوال بمجرد الدوران حول نفسه.
مع ذلك فلنتذكر أن الأساس الفكري- الفلسفي للنو يعلمنا أنه ما من شيء هو في حقيقته على ما يبدو، وأن وراء هذا المظهر المخاتل والمؤقت، والذي ينداح الى الغياب سريعا جوهر آخر هو الحقيقة المختفية، الجوهر الذي يتألق بضياء الصدق والاستمرارية. فيكف نمسك بهذا الجوهر؟
دعنا نبدأ من البداية،كما يقولون. إنك في تجربة النو أمام أدوات مسرحية هي البساطة بعينها، وبعضها ليس الا مجرد رمز أو إيماء الى وظيفتها، إنك أمام حوار وأغنيات، وموسيقى ورقص.
الآن توقف توا. إن هناك ما هو أهم من هذا كه، وان غاب عن حواسك، فينبغي – كما يعلمنا الرن – الا يغيب عن وعيك فهناك الضراوة الجوهرية في توظيف هذه الأدوات.
مرة أخرى كيف ؟
في عرض النو، وقبل أن يهيمن انتظار الدراما كلية على الجمهور، يرفع الستار الموجود في يسار الخشبة، وتدخل الجوقة، التي تردد صدى كلمات الشايت أو تتحدث نيابة عنه عندما يرقص، وتشق طريقها وتجلس القرفصاء الى يمين الخشبة بالنسبة للجالس للمشاهدة، غير بعيد عن الفرقة الموسيقية، التي تجلس بدورها أمام الصنوبرة الكلية الحضور في مسرح النو، والمرسومة على ستارة المسرح الخلفية، والتي ترمز الى الميلاد الأسطوري للنو.
لن يبدأ عرض النو إلا مع انطلاق عزف الناي المصنوع من الخيزران. ولمن لم يسمع من قبل الموسيقى التقليدية اليابانية، فإن الناي هنا لا علاقة له بالناي في التخت الشرقي، فهو لا يستهدف امتاعنا ولا خلق جو من التطريب والتسلية وانما هو هنا لإطلاق مداه الكامل في الرمز والتخييل فهو يبدو لنا أقرب الى رفيف الريح منه الى أي شيء آخر.
وبالمنة فالطبول لها حضور بالغ الأهمية، فهي بمثابة "وجيب قلب " الدراما، فهي تحدد النغمة العامة لانسياب العرض أو اندياحه أو اندلاعه، وهي تؤكد عبارات المعكر، أو تباعد بينها، بحسب ما يمليه المزاج السائد على جزء محدد من العرض.
ودون تطرق الى المزيد من التفاصيل الفنية، نقول إنه مع انطلاق الناي معلنا بدء عرض النو، يدخل الواعي (المتابع للأحداث) عبر الجسر الموجود على يسار المشاهد، ويتحرك ببطء نحو الخشبة، معنا عن نفسه بأغنية استهلالية، يوضح فيها أنه مسافر، كاهن في معظم الأحوال، وأنه يقصد مكانا شهيرا يرتبط بدلالات تاريخية أو روحية عند اليابانيين. وهو في أغنية السفر التي يؤديها يشير الى الأماكن والأحداث على امتداد الطريق، وقد يحادث مرافقا له أو يخاطب الجمهور.
هنا يدخل الشايت، ولكنه يبدو لنا شخصا عاديا، بل ومبتذلا، لا تتوقف عنده العين، ولا تنشغل به الأذهان والخواطر، ولكن عند المساءلة والالحاح عليه سيبدأ في الكشف عن معرفة خاصة أو توق خاص لمكان أو لشخص، وهو يلمح،و قد يفصح، عن هويته الحقيقية. إنه إله أو بطل، أو امرأة جميلة، أو مجنون، أو هوله، لم يقدر لمصيره أن يتحقق ويأخذ مداه الكامل.
هنا يقف الواعي، بالمعنى الحرفي، بين الشايت والجمهور، ويؤدي وظيفة كهنوتية بطرح الأسئلة التي لا شك ل أنها تراود أذهان الجمهور عن الشايت، ويعمل كقناة توصيل لكلمات الشايت ومشاعره.
والذين لم يستطيعوا انتزاع أنفسهم، رغم هذا كله، من التقاليد الغربية المسرحية، سيدركون مدى خطئهم، فهنا سيحدث انقطاع أو توقف، عقب كشف الشايت عن هويته الحقيقية. وفي هذا الوقت غالبا ما تؤدي "الآي – كايوجين " أو «الفاصلة المؤلفة من العبارات اللاذعة».
خلال هذه الفاصلة يجمع الواعي المزيد من التفاصيل والمعلومات عن الأحداث المتعلقة بالمكان الذي يقصده الشايت. ولكن هذا لا يعنينا هنا حقا، وانما يعنينا أن هذا المقطع من عرض النو يؤدى بشكل متدفق وينطق واضح، وغير مؤسلب وعل نحو يسمح للجمهور بفهم الأحداث المشار اليها بلغة النو الغامضة والمؤسلبة الى أبعد الحدود، وفي غضون ذلك يغيب الشايت، ليغير زيه ومظهره كلية، أو على الأقل ليغير قناعه وحده.
وعندما يعاود الشايت دخول المسرح، فإن مرآه يذهلنا، لما طرأ من تغير، حتى ولو كان هذا التغير يقتصر عمليا على تغيير القناع، فهو هنا يظهر في إطار البهاء الكامل أو المأساة المطلقة لماضيه. وسرعان ما ينطلق العمل الى الذروة ليتكشف المدى الكامل لقوة موقف الشخصية الانفعالي – الروحي في أغنية الشايت ورقصته وكلماته الأخيرة، التي قد يدعمها ترتيل الصلوات أو التحرك من جانب الواعي على نحو يشير الى تحقق سلام أعظم للشخصية، وربما تناغم أكبر للكون.
هذه النقطة الأخيرة ستدعوني للتوقف عند جزئية تهمني كثيرا، ولطالما كتبت عنها، وهي العلاقة بين الكلام والصمت.
ولعل القارىء الذي يتابع الكتابات المتناثرة لنا في مقدمات الكتب، وفي العديد من الدوريات العربية، يذكر أننا صدعنا رأسه بالحديث عن الصمت، باعتباره خطابا، بحسبانه رسالة بوصفه ظاهرة مركبة، أبعد ما تكون عن السلبية، وضربنا أمثلة لهذا الخطاب بالصمت الصوفي والصمت العاطفي، والصمت الطقوسي.
الآن هو ذا نموذج بالغ الروعة، لما عنيته بالصمت كخطاب يطل علينا من خشبة النو العظيمة.
فمن الأسس الجوهرية في مسرح النو أن الصمت يقوم بوظيفة إفصاحية لا تقل أهمية عن الكلمات المنطوقة، والصمت الذي يكمن بصفة خاصة بين الكلمات المنطوقة على خشبة النو هو في بلاغة السكون الذي يتخلل الحركة.
ودعنا نضرب مثالا محددا، فالصيحة المترعة بالعذاب التي تطلقها المرأة التي استبد بها الجنون في مسرحية "سوميداجاوا" عندما تكتشف أن الفتى الميت ليس إلا ولدها، وهي لحظة من لحظات الشموخ المسرحي الحقيقي. غير أن الصمت الذي يعقبها هو لحظة من لحظات التجاوز الروحي.
ويهمني أن أقدم للقارىء هنا ست أغنيات للنو. سيتبدى حتى في صميم نسيج كلماتها ذلك الدور الهائل للصمت، باعتباره الجوهر الحق للكلمة الصادقة، حيث تتكشف الظواهر عن بواطنها الحقيقية، فنعجب من بعد المسافة بين الظاهر والباطن.
في هذه الأغنيات، قصة الحب يرويها.. شبح. واللبلاب يغدو في جوهره شاهد القبر الذي يتسلقه هذا النبات المعترش، ويصبح الناظر ال هذا اللبلاب جزءا من الصخرة التي اقتعدها ولحظة يقظتنا هي ذاتها اللحظة التي نلج فيها بوابات الليل. دعنا نقرأ معا كلمات هذه الأغنيات، وفي غضون هذا كلا نرهف السمع لنلتقط الصوت. ولكن في نهاية لا يتناهى صوت الينا، فليست هناك اذن، وليست هناك كلمات.. وحده الصمت يسود المدى.
أفل القمر
فيما وراء البرج الغربي.
لم يدم وقتنا معا
مقدار ازدهار
براعم الكرز.
واهنة للغاية
كانت الصلة بيننا واهنة للغاية
ويتقد فؤادي
مثلما اللهب المحتضر
في المصباح.
ما أبغض
رؤية نفسي على هذا النحو!
من الأحلام
في الليل أغفو
على الطريق
ثم أرحل مجددا قبيل الفجر
الى رحاب الوهم.
وبوابات الليل
تفتح، وتوصد.
أتطلع الى الوراء
وأفكر
في بهاء كيوتو
تحت سنا البدر.
ولكن سحبا عديدة
تترامى الآن بيني
وبين المدينة.
عبر السماء المكفهرة
يتناهى الي دوي جرس
لابد أن هناك قرية في القريب.
يتناهى دوي جرس
لابد أن هناك قرية في القريب.
على هذا التل
قرب البحر
أنتظر برهة
ضاربا جذوري في الصخر
مثلما صنوبرة
من ذا الذي يركب
ذواق، الليل
الذي ينزلق عبر الأمواج المتكسرة المزبدة ؟
يتناهى الي صوت مجداف.
الليلة
الخليج يغمره السكون
ها هنا في ناروتو
الليلة
الخليج يغمره السكون.
قطرة الندى تنزلق
عبر وريقات القيقب الحمراء
على سفح الجبل
تنزلق عبر
وريقات القيقب
على سفح الجبل
مثل مطر بديع.
من خلل كل هذا اللون
تهب رياح الخريف
تأخذني الرجفة
في ثياب رحيلي
في غمار مسيرتي
وسط الغمام والسحب
في الجبال التي لا تعرف لها دروب
اجدني عاجزا، ضل الطريق.
أنى لي
أن أعرف الطريق ؟ أنى لي أن أعرف
الطريق ؟
تأمل برهة
في دنيا البشر هذه
ولسوف تدرك
أننا لسنا الاعراس
تصارع احداها الأخرى
على خشبة مسرح للعرائس
تري أين
عسانا نظن
أنفسنا؟
في دنيا
الخيال الأبله هذه،
دنيا التفكير العشوائي،
دنيا الأحلام والوهم.
ما نراه
نحسبه حقيقيا!
متألقا
مثلما حواف السديم
تبدد
كيانه الأرضي
منداحا في البعيد.
الآن يخفي اللبلاب
حتى شكل
شاهد
قبره.
"آه، أطلق سراحي
من هذا العنا؟!"
فيما هو يقولها
تبدد
فيما هو يقولها
تبدد.
لسوف يلاحظ القارىء، على الفور تقريبا، أنني حرصت على ترك مسافات بيضاء في قلب الأغنيات، هي نفسها التي يسود الصمت خلالها خشبة النو، لكي أنقل للقارىء بقدر المستطاع حقيقة أن هذا الصمت المنجم وسط الكلمات هو أداة إفصاح، وبعد تأكيد، واضاءة للمعاني، ربما على نحو يتجاوز بكثير في قوته الكلمات المتتابعة في الأغنيات.
وهذا التوظيف للممت على هذا النحو، طبيعي تماما، ففي النو هناك هدف كبير، هو الكشف عن الروح والإمساك بجوهرها الحق،
حتى ولو أدى ذلك الى مخالفة كل الأعراف الدر امية وحشد أدوات لا تخطر على بال.
ونحن نعلم أن النو يوصف بأنه "اعتدالي الطابع " ومع ذلك فقد استعار مشات العناصر والأدوات والأشياء من الفنون والأشكال الدرامية الأخرى يوظف معظمها في أي مسرحية بعينها.
وفي النو تتم التضحية بالعديد من القواعد والأعراف الدرامية، الأمر الذي يصب في تعميق الإحساس الرمزي، فمسرحية النو ليست لها حبكة بالضرورة، ومعظم مسرحيات النو ليست بها إلا إيماءة بعيدة الى قصة وهي لا تمثل إلا في الذاكرة، وموسيقى النو إذا سمعت بمعزل عن المسرحية، بمعنى إذا انتزعت من سياقها الدرامي، فإنها قد تبدو مثل ضجة شبه منتظمة.
والرقصات في النو أبعد ما تكون عن البهلوانية، بل وقد تخاطب درجة انتباه الكهول والرجال الأكبر سنا. وفي كثير من الأحيان يصعب الإصغاء الى الحوار والأغنيات ويتعذر إدراك معانيها على وجه الدقة، وحتى لدى تحقيق هذا الإدراك فإننا قد نجد أنفسنا أمام فكرة واحدة في حالة مناقلة ما بين ممثلين مختلفين، بحيث قد نضل في نهاية المطاف عن أصل الفكرة.
واذا كان المكان، كما سبق لنا الإيضاح، يتم التعامل معه على نحو من التخييل والإيغال في الرمز بحيث يغدو في نهاية المطاف الهنا واللاهنا معا، فإن الزمان يفقد أطره أيضا، فيما المسكون يستغرقون دقائق متطاولة لإظهار ثوان قلائل من الحدث، أو تظهر ثوان معدودات كمرور يوم، أو يتوقف الزمن كلية.
وعناصر الإخراج ورغم تعددها إلا أنها جميعها تتسم بالبساطة الى حد أنها توحي بوظيفتها فحسب، ولا تقدم إلا شخصية واحدة بأي درجة من العمق هي شخصية الشايت.
وفي عالم النو، وفي غمار الكشف عن الروح، قد يراكم – ويا للمفارقة – اللفن فوق الآخر، وتخلق المفاجآت العديدة هالة من الأصداء الذهنية والعاطفية هي من العمق والامتداد، بحيث أنه حتى أكثر المتحمسين للنو لا يستطيع أن يتعلم ما يكفي للتخلص من الشعور بالاندهاش والتعجب. ومع ذلك فإن ما في النو من تصميم على المني قدما يتجاوز ملامحه بقوة، بحيث أنه يمكن أن يؤثر بقوة وبعمق في أولئك الذين لم يشاهد وه من قبل قط. والذين لا يعرفون الكثير عن اللغة والثقافة اليابانيتين، وهو شي ء يتحقق دائما على الرغم من اندراج ثقافة اليابان وتصوراتها الفلسفية – الدينية في صميم معظم هياكل مسرحيات النو.
وعندما تنحسر أصداء النو ورموزه، ولا يسود الا الصمت، فإننا في قلب هذا الصمت قد تلهمنا قوة ما، هي التجلي الأكثر عنفوانا لإرادة الحياة، أن نبقى على ذاكرتنا العربية المنداحة للنسيان، على المظاهر المسرحية العربية، التي لا تكاد الأجيال الجديدة تعرف عنها شيئا، وعلى كل جزئية يمكن أن تصب في نهاية المطاف في الهوية العربية.
كامل يوسف حسين ( كاتب ومترجم من مصر)