حسين بن حمزة
كاتب وشاعر سوري
ولدتُ في بيتٍ كانت فيه مكتبة صغيرة تعود لأخي الأكبر الذي كان شاعرًا أيضًا. علاقتي بالحروف والكلمات وبالقراءة بدأت مبكرًا. لا أقصد قراءة الكتب المدرسية، بل قراءة كتب تجعل القراءة متعة خالصة، وتمنحك فرصة الهرب من الجفاف الموجود في كتب المدرسة، وفي حياتنا اليومية في “الحسكة”، المدينة الصغيرة والمهمشة التي ولدتُ فيها. كانت القراءة منفذًا سريًا إلى عوالم أخرى أقل قسوة وأكثر ثراءً وخيالًا.
وُلدتُ ووجدتُ نفسي محاطًا بالكلمات. تربيّت مع الكلمات، كبرتُ معها ومع معانيها التي، سأعرف لاحقًا، كيف تتغير بحسب الجملة أو الصياغة التي تَرِدُ فيها. الكلمات، خصوصًا المكتوبة منها، كان لها في منزلنا تقدير يصل إلى القداسة. الكتب نفسها، القليلة على أي حال، كانت تُوضع في أمكنة ليست في متناول تفاصيل حياتنا العادية. لا أزال حتى اليوم أتذكر كتابًا للغزالي في عدة مجلدات كان أبي يقرأ فيه. أبي الذي لم يدخل أي مدرسة كان يكتب ويقرأ بالعربية، ويتحدث -إضافة إلى الكردية لغته الأم– بالتركية. حينذاك كان أبي يتحول إلى شخص آخر تقريبًا. كانت القراءة تمنحه هالة من السَكينة والجمال. لطالما اعتقدتُ أن الكلمات كانت تفعل ذلك به. أحيانًا كان يقرأ لأمي الأميّة حكايات من ذلك الكتاب. كانت أمي، التي لم تكن تفهم العربية، تبكي غالبًا بسبب العبرة التي تنتهي بها تلك الحكايات. كانت قصصًا تاريخية ودينية بسيطة تمدح الإيمان بالله وتثمّن الأعمال الصالحة للبشر، ولكني أحب أن أصدّق أن دموع أمي كان بسبب النبرة التي كان يقرأ بها أبي، وأن الكلمات كانت تجعل أمي تتأثر وترقّ وتبدأ عيناها بالغرق في الدموع. أمي نفسها كانت ترتجلُ بالكردية ما يشبه الشعر أو السّجع الذي له إيقاع وقافية، وكان ذلك يمنحها هي أيضًا تلك الهالة الغريبة التي تصنعها الكلمات. أبي وأمي كانا متديّنين، ويتبعان طريقة صوفية اسمها “النقشبندية”، وهذا يعني أنهما مُريدان يتبعان شيخ هذه الطريقة. علاقة أبي وأمي بالكلمات جعلت لهما مكانة خاصة بين المريدين الآخرين الذين كنا نعرفهم ويحلّ بعضهم ضيوفًا عندنا أحيانًا. أتذكر أن ما كانت تؤلّفه أمي ارتجالًا وتحفظه غيبًا، كان يعطيها حضورًا خاصًا مقارنة مع جاراتها ومع مُريدات أُخريات للشيخ النقشبندي. أتذكر هذا لأن المريدات كنّ يجتمعن أحيانًا في بيتنا، وتنعقد جلسات صوفية تُنشد فيها أمي قصائدها أو سَجعيّاتها، بينما تبدأ المريدات بالدخول في حالة جذب صوفية كنّ يصلن فيها إلى حد السُّكر والنشوة. بعض النساء كنّ يبكين ويضربن أنفسهن. نحن الأطفال كنا نخاف ولا نفهم ما يحدث، ولكن المشهد كان يجذبنا لنبقى مشدوهين وغير مصدّقين. كنت أظن ولا أزال أظن أن الكلمات التي كانت تقولها أمي هي السبب، أو ربما نبرتها الحزينة في ارتجال قصائدها كانت تثير حزن المُريدات وتدخلهنّ في مزاج النشوة والسُّكر الصوفي. فيما بعد، صاروا يدعون أمي إلى العزاءات التي تلي دفن الموتى، لكي تثير حزن أهل الميت وأقربائه، فيذرفون دموعًا أكثر على الموتى وعلى أنفسهم وعلى حيواتهم أيضًا.
الآن تبدو لي هذه المشاهد مثل قراءة شعرية صافية، إذْ بغضّ النظر عن أهمية ما كانت ترتجله أمي، كانت كلماتها تجذب مستمعاتٍ مستعدات لجعل الدموع مساوية لانطباعاتهن حول ما يسمعنه. أن تنتشي وتسكر لسماع قصيدة .. كان ذلك مديحًا ثمينًا للكلمات ونوعًا من الطقس السحري.
علاقتي بالكلمات بدأت على الأرجح من هناك. من علاقة أبي وأمي بالكلمات، ومن الكتب التي كانت حولنا في البيت. الكلمات كانت كفيلة بأن تأخذني إلى مساحة أخرى، وتعزلني داخل فقاعة كبيرة وشفافة، ويبدأ العالم الخارجي القاسي بالاختفاء. أن تنزوي مثلًا، وتفتح كتابًا، فهذا كان يُبعدكَ عن الآخرين، ويصنع مسافات بينك وبين إخوتك وأهلك أيضًا. بمجرد أن تقرأ، تصبح شخصًا أجنبيًا. القراءة تخلق لك نوعًا من الغُربة وأنت لا تزال صغيرًا، وتعيش بين أهلك.
***
كانت للكلمات جاذبية وفتنة، ولكن كانت لها هيبة وقداسة أيضًا، والأرجح أن هذا كان سببًا في أني كتبتُ قليلًا. افتتاني بالكلمات جعلني أتهيَّب كتابتها. كنتُ مُقلًا في كتابة الشعر، مقلًا في الكلام، بل انتهت بي القلّة إلى نوع من الفن اسمه “فن القلة”.. فنّ الحذف.. فنّ الاختصار.. فنّ كبح الكلام عن الاسترسال. الشعر نفسه كان يعني أن تكثّف اللغة وأن تستعيض عن الاستطراد والثرثرة بالإيجاز والصور المدهشة. كان ذلك أشبه ربما بفنٍّ ومزاج شخصي في الكتابة يتشكل بالتدريج.
بعد الدراسة الثانوية، انتقلتُ إلى مدينة حلب. هناك درست الاقتصاد في الجامعة. ربما كان ذلك نوعًا من الإشارة الخفية إلى فكرة القلّة وعدم الثرثرة. الاقتصاد يعني أن تقتصد في الإنفاق.. أن تتعلم التوفير..وكان هذا يشبه أن لا تُسرف في استعمال الكلمات، ولكن الأهم أن لا تفقد قيمتك وقيمة كلماتك بالكلام الكثير.. خصوصًا الكلام السطحي الذي لا يعوم على عمقٍ كاف.. الكلام الذي يتقدم بدون أحشاء.. بلا دواخل وبلا أعماق.. بدون ذلك النوع الثمين من التمهل والبطء الذي يمنح الكاتب نفسه والقارئ أيضًا فرصة أن يحصل على الوقت الكافي كي يتذوق الكلمات، ويرى كيف تقوم الاستعارات بزحزحة الكلمات عن معانيها القاموسية.. وكيف أن وضع كلمة بجوار كلمة أخرى يمكن أن يمنح اللغة ذلك اللمعان الفريد الذي يؤكد أنها حية وأنها تتنفس، وأنها منتمية إلى أسلوب وإلى طريقة ما في الكتابة.
بعد صدور ديواني الأول “رجل نائم في ثياب الأحد” (1997) في بيروت التي سأنتقل إليها لاحقًا، كتب أحد الشعراء مراجعة نقدية عنه. قال إن صاحب هذا الكتاب يقتصد في الكتابة ويمحو أكثر مما يكتب، وأنه يُجبر قصائده على أن لا تطول لكي لا تفلتَ من أسلوبه المقتضب وقاموسه الضيق والصغير، وأنه إن تابع الكتابة هكذا سينتهي الى الصمت والعجز. سوف تقلّ الكلمات التي يصنع بها قصيدته إلى أن تصبح في النهاية ثلاث كلمات.. كلمتين.. كلمة.. ثم لا شيء. وهذا ما حدث فعلًا. حدث أكثر من مرة! إذْ توقفتُ فترات متقطعة وطويلة عن الكتابة.. فترات استمرت شهورًا وأحيانًا سنوات، وفيها كنت أشعر أني شاعر سابق.. وليس شاعرًا متوقفًا عن الكتابة.. وأحيانًا أشعر أني لم أكتب الشعر أبدًا. ولكني كنتُ أعود إلى الكتابة. وانتبهتُ أني في عوداتي المتكررة تلك كنت أكتب قصائد عن التوقف عن الكتابة.. عن ترك الشعر. كان ذلك أشبه بمن يوصلُ شيئًا سابقًا بشيء يحدث الآن.. لكي يسمح للكتابة بالسّيلان والتدفق مجددًا. كأن ذلك كان يصنع صلة وصل بين الشعر الذي تركتُه ورائي وبين الشعر الذي قد أبدأ بكتابته. كان ذلك يفتح قناة صغيرة، ضيقة طبعًا، ولكنها تسمح لمياه الشعر القليلة بالجريان مرة أخرى.
القلّة في الكتابة. الانقطاع عن الكتابة. تأجيل الكتابة. كل ذلك كان ترجمة خفيّة لهيبة الكلمات، للخوف منها، للجمال الذي يتحقق ويستمر بعدم استعمال الكثير منها. القلّة تحوّلت إلى كسل أحيانًا وإلى تأجيل أحيانًا وإلى امتناع عن الكتابة أحيانًا. كنت مسحورًا بالأثر الذي تتركه الكلمات عند استعمالها، الأثر الذي يبقى من الكتابة.. أن أقول القليل.. أن أمتنع عن الكتابة.. أن أؤجّل الكتابة.. الكسل والتأجيل والتوقف.. كان ذلك بالنسبة لي نوعًا من الكتابة أيضًا. تجنّب كتابة ما لا يروق لي كان كتابة أيضًا. التجنّب نفسه هو في النهاية أسلوب!. لعلّ الكتابة ذاتها كانت مؤلفة من تجنّبات متتالية. كتابة تُكبَتُ فيها أي محاولة مجانية لقول أشياء إضافية لا تضيف شيئا للمعنى المُستهدَف. كتابة تُكمَّم فيها أيضا الأصوات العالية والصاخبة التي تصدر عن كلمات وتراكيب وكليشهات وبديهيات دارجة ومكرورة. كتابة ضد فكرة الاستطراد والتوسع.. ضد الهذر. كتابة ضد الكتابة نفسها وفي مواجهتها تقريبًا. كأنك تكتب وأنت تُعادي الكتابة. تُعادي نفسك أيضًا. تُعادي السهولة والتلقائية والغنائية المستهلكة، تُعادي تلك الرغبة الأزلية في الاسترسال والشرح. كتابة تحترم الكلمات وتَهابُها. في المكتوب، القليل طبعًا، كانت تجري عملية احترام الهيبة وأيضًا عملية إخفائها ودسّها بين الجمل والسطور والاستعارات الشعرية. كانت الكتابة تعني أن تكتب شيئًا يُشبهك. شيئًا تُحبه ويُحبك. شيئًا ينتمي لمزاجك ولفكرتك الشخصية عن الكتابة. لقد كانت الكتابةُ تجنبًّا للكتابة. كانت القصائد والنصوص القليلة هي حصيلة تلك التجنّبات المتواصلة.
في حلب، كنا مجموعة شعراء وكتّاب يدرسون في الجامعة. وكان هناك لقاء أدبي اسمه “ملتقى جامعة حلب الأدبي” يقام مرتين في السنة. هناك قرأنا قصائدنا ونصوصنا الأولى. بالغ بعضنا في التجريب وفي البحث عن منافذ أخرى وعن دروب جانبية للكتابة. كان البعض من شعراء الجيل الذي سبقنا قد بدأ في اكتشاف فكرة وجود الشعر في اليوميات الشخصية وفي التفاصيل المهملة وفي سيرة الإنسان العادي. كنا محظوظين أنهم أداروا ظهورهم لشعر القضايا الكبرى والأزمات القومية والوطنية، وتخففت نصوصهم من الأيديولوجيا ومن الإيقاعات الصاخبة، ومن فكرة أن الشاعر نبيٌّ أو قائد أو صوت الجماعة والأمة. كنا محظوظين لأنهم أراحونا من مواجهة ذلك مباشرةً. بالنسبة لي، لم يكن ذاك الشعر وحده يلفت انتباهي. كانت هناك كوّة صغيرة في رأسي، تتسرّب إليها أصوات وتجارب شعرية قادمة من بيروت، تجارب لبنانية وعربية مختلفة عما كنا نقرأه وعما يُكتب في سوريا. بيروت كانت عاصمة النشر في العالم العربي، وكان الشعراء يرسلون أعمالهم إلى صحافتها وإلى ناشريها لكي تُنشر هناك. إلى بيروت كان يذهب شعراء وكتّاب عرب طمعًا في حرية أوسع وعوالم متنوعة أكثر للكتابة. كانت سِيَر هؤلاء ونصوصهم تشجّع آخرين على الذهاب. كانت بيروت حلمًا، وكنت أصدّق أن ما أكتبه، وما سوف أكتبه ينبغي أن يُكتب هناك. لذلك، حين ضاقت مدينة حلب بتجاربنا وطموحاتنا، كانت دمشق (العاصمة) هي الهدف التالي لأكثرنا. أنا اخترتُ أن أقفز فوق هذا الهدف، الذي لم يكن يختلف كثيرًا بالنسبة لي عن حلب، إلى هدف أبعد هو بيروت، حيث الصحافة أكثر انفتاحًا وحرية، وحيث الحياة نفسها يمكن أن تقدم مناخات وأجواء جديدة للشعر والكتابة، وحيث اسم المدينة وحده كان كافيًا لترك كل شيء وعبور الحدود إليها.
هناك، في بيروت، كانت أسماء الشعراء والكتاب تُولد وتُصنع، ويصير لها مساحة وصيت وحياة مختلفة. في بيروت يمكن فحص الموهبة في كل قصيدة وفي كل نص وفي كل مقال. هناك في بيروت أحببتُ أن “يُصنع” اسمٌ لي. هناك أحببتُ أن أنشر ديواني الأول الذي كان جاهزًا للنشر وأنا ما زلت في حلب، ولكني أجّلت نشره إلى أن يصدر في المدينة التي حلمتُ بالإقامة والعمل فيها.
في بيروت، عملتُ في الصحافة الثقافية. قراءتي لأعمال الآخرين حوّلتني بالتدريج إلى “ناقد”. النقد ضَيّقَ وقتَ الكتابة الشعرية الذي كان ضيّقًا أصلًا. صارت القصائد تتأجل ولا تأتي، ثم لم أَعُد أنتظرُها أيضًا. على حساب الشعر، بدأت سيرتي الجانبية كناقد. النقد نفسه كان يعني أن تختبرَ الكلمات في قصائد الآخرين، وتتأكد إن كانوا يهابون الكلمات، مثلكَ، أم لا. تتأكد إن كانوا يستدرجون اللغة إلى صور واستعارات وإمكانيات شعرية جديدة أم لا. بهذه الطريقة، صارت كتابة الشعر أصعب. كلما قرأتُ الآخرين وكتبتُ نقدًا عنهم، كلما ازدادت صعوبة كتابتي للشعر.
هكذا، وبعد صدور مجموعتي الشعرية الأولى “رجل نائم في ثياب الأحد”، توقفت عن الكتابة مرات عديدة، وتوقفت أيضًا عن نشر القليل الذي أكتبه في الصحافة. على سبيل المزاح، صار بعض أصدقائي يلقّبونني بـ “صاحب الديوان الوحيد”. بالطبع يمكن لديوانٍ واحد أن يجعل منك شاعرًا. ولكن ذلك لن يُعفيك من سؤال الآخرين الدائم عن الديوان التالي. هل تكتب؟. لماذا لا تنشر؟ متى ستصدر كتابك الثاني؟. أنت “شاعر جيد” ومن المؤسف أن تتوقف عن الكتابة والنشر!.
في ألمانيا، حيثُ أعيش منذ ثلاثة أعوام، توقفتُ ليس فقط عن الشعر، بل عن الكتابة النقدية أيضًا. كانت لدي مهام وتحديات أخرى. تعلّم لغة جديدة. التعرّف على مجتمع جديد وثقافة جديدة. وسط هذه الضغوط الهائلة، وجدت نفسي فجأة أدندن ببعض الكلمات كما كنت أفعل حين أكتب الشعر. ثم بدأت أستحسن تلك الكلمات التي تحولت إلى جملة، إلى جملتين، إلى ثلاث جمل. لم أكن أحتاج في الواقع إلى أكثر من ثلاث جمل لكتابة قصيدة قصيرة وخافتة كالقصائد التي اعتدتُ كتابتها من قبل. وهكذا، كتبتُ ذات يوم قصيدة، تلتها قصيدة أخرى. فاجأتني “غزارتي” غير المعتادة. مع الوقت بدأت أستعيد لياقة سابقة في الكتابة، بل الأرجح أني عثرت على شاعر جديد في داخلي. كان ذلك كمن يبدأ الكتابة من الصفر لا كمن يستأنفها من حيث توقف سابقًا. المكان الجديد والتحرّر من ضغوط العمل الصحافي جعلاني أهتدي إلى الشاعر الذي توقف في داخلي، إلى الشاعر الذي كان يؤجّل الكتابة، ويؤجّل النشر، الشاعر الذي يحتفظ منذ سنوات بقصائد تكفي لديوان ثانٍ، ولكنه لا يفكر بنشرها لأنه فقد إيمانه بالكتابة أو لعلّه عرف كيف يُكتب الشعر، فتوقف عن كتابته. لعله أحسَّ أن الشعر صار سهلًا ويكتبه كل من يشاء، فتوقف عن كتابته.
في ألمانيا وجدتُ دربًا ضيقة قادتني إلى التلذذ مجددًا بالكلمات. لم نتأخر كثيرًا، الكلمات وأنا، على استعادة ثقتنا القديمة ببعضنا. لطالما احترمتُ الكلمات ولطالما كافأتني، وها هي تفعل مرة أخرى وتُشعرني بالامتنان. القصائد الجديدة جعلتني أستعيد شيئًا من إيماني بما كنت قد كتبتُه واحتفظت به في الأدراج. القصائد الجديدة منحت قصائدي القديمة حياةً إضافية. فكرت بنشر ديوان ثانٍ يضم فقط تلك القصائد القديمة. كانت هناك صعوبة هائلة بل كان هناك نوع من “الحَرَج الشخصي” في أن تنشر ديوانًا ثانيًا بعد عشرين سنة على صدور ديوانك الأول. كأنك توقفتَ عن التدخين سنوات طويلة، وصار صعبًا أن تُطيح بسُمعتك كشخص غير مدخّن وتعود للتدخين. ربما هذا المثال لا يبدو دقيقًا كفاية أو لا يوضح الحالة جيدًا. التوقف عن الكتابة يصنع لك صيتًا بين الشعراء. تشتهر لا كشاعر فقط، بل كشاعر توقف عن الشعر. التوقف كان يعني أنك لا تشبه الآخرين، وكان هذا يجعلك تحصل على تقدير ومديح أيضًا. من أجل تجاوز ذلك، خطرت لي فكرة أن أعيد نشر ديواني الأول في طبعة جديدة، كي يصبح نشر كتاب ثانٍ أمرًا مقبولًا وعاديًا. طبعة جديدة من الكتاب الأول كانت تعني أيضًا عودة إلى الكتابة. كنت محظوظًا بالعثور على ناشر متحمّس لنشر طبعة ثانية من ديوان صدر قبل عشرين عامًا. وهكذا بات الطريق مفتوحًا لنشر الديوان الثاني “قصائد دون سن الرّشد” لدى نفس الناشر، وصار لدي إحساس بأني تخلصت من ماضٍ شعري كامل، وصار في إمكاني أن أواصل الكتابة كشاعر جديد في المكان الجديد. الحقيقة أن الشاعر الجديد ليس جديدًا فعلًا بل هو الشاعر القديم نفسه وقد استعاد عافيته وإيمانه بالكتابة. ربما اختلفت بعض الموضوعات والتفاصيل الموجودة في القصائد. تسرّبت موضوعات وتفاصيل ألمانية إلى القصائد، ولكن الأسلوب هو نفسه تقريبًا. الحذف والاقتصاد في الكتابة مستمران. الخوف من الكلمات مستمر. احترام الكلمات مستمر. استعمال القليل منها لكتابة قصيدة صغيرة وخافتة تعيش في الظل وتشبه مزاج صاحبها الخافت والمتواري والغارق في ظلال وحدته الثمينة.
حين كنت في مسقط الرأس، طالبًا في المدرسة الإعدادية. انتشرت سلسلة كتب جيب شهيرة يمكن للمرء من خلالها أن يتعلم لغة أجنبية “في خمسة أيام بدون معلم” كما كُتب على أغلفتها. الأغلبية كانت تشتري نسخة تعلّم الإنكليزية أو الفرنسية، فقد كانتا اللغتين الأقرب إلى وعينا، وكانتا مقررتين علينا في المدارس السورية. أتذكر أني اشتريت وقتها نسخة “كيف تتعلم الألمانية في خمسة أيام بدون معلم”. ربما أردتُ فقط أن أكون مختلفًا أو أن أثير الانتباه. لا أعرف. كان الكتاب موجهًا للسياح والمبتدئين، ويحتوي على مبادئ أساسية للغة الألمانية وطريقة نطق حروفها، وكانت هناك محادثات بسيطة من نوع كيف تتصرف في ألمانيا إذا كنتَ في المطعم أو المطار أو الفندق. الطريف أني نسيت هذه الذكرى تمامًا، ولم أتذكرها إلا منذ فترة قريبة وأنا في ألمانيا. تذكرت أن جملة وحيدة من ذاك الكتاب بقيت في ذاكرتي. جملة تقول:
besuchen Sie mich bitte morgen
وترجمتها تقول: زُرني غدًا رجاءً
لم أتخيل يومًا أني سألجأ إلى ألمانيا وأعيش فيها، ولكني أجد اليوم في هذه الجملة إشارة مصيرية خفية. كأنّ شخصًا ما في ذلك الكتاب كان يلحّ على دعوتي لزيارته في ألمانيا. ولكثرة ما ظلت هذه الدعوة ترنّ في رأسي، يبدو أنني أخيرًا لبّيتُ الدعوة، وها أنا هنا!.
الهوامش
* كُتبت هذه المادة في الأصل لكي تُترجم فقرات منها إلى اللغة الألمانية، وتُنشر كجزء من سيرة شعرية مختصرة مع ديواني «أتحدث عن الزّرقة لا البحر» الذي صدر مترجمًا إلى الألمانية قبل ثلاثة أعوام.