أسامة السروت
كاتب وناقد مسرحي مغربي
لا شك أن الحديث عن المسرح هو حديث عن شكل مهم من أشكال التعبير الإنساني، وحيث إن نشأة المسرح قد تشربت التصور الديني الصرف لعلاقة الإنسان بالميتافيزيقي، فقد وجدت الميثولوجيا الإغريقية فرشا أساسيا من الأساطير التي بنى عليها الفن الدرامي صرحه الفني. ومع انفصال المسرح عن الشعيرة الدينية، بزغت آفاق جديدة للدراما والمسرح في سياق التطور التاريخي للحركة الإنسانية.
عندما كتب أرسطو مؤلفه “بويتيقا” محاولا استقراء الإنتاج المسرحي ليونان القرن الخامس قبل الميلاد، فقد ضم كتابه توصيفات مهمة لتحديد خصائص النوع الدرامي، فاصلا بينه وبين الملحمة، والحقيقة أننا في كل الأحوال كنا أمام تفصيلات لمادة فنية واحدة تنبعث من الذائقة الإنسانية عامة، وهي السرد. يحدد أرسطو الدراما مثلا في: “خرافة، حوار، …..إلخ”1 ورغم أنه يهمل مكونات الدراما المادية، نجده يصف المأساة في تعريفه المعروف بأنها “فعل….” والفعل هنا، وإن اتخذ صفته الأدبية الجامدة التي لا تتخذ رونقها إلا في ذهن القارئ، فحقيقة النص الدرامي وما يتجلى ظاهرا في بنيته من حوارات وممسرحات تؤكد على أنه معد للتشخيص، وهذا ما يميزه عن فن الملحمة المعروف بتركيزه على الحكي، وإذا حددت الدراما الأرسطية نفسها في ثلاثية وحدة الزمن والمكان والفعل، فقد اضطرت مجبرة لوصف المعطى البصري تحت صفة المرئيات المسرحية.
يقترح المنظر الإنجليزي في القرن التاسع عشر المخرج جوردن كريغ، إعادة النظر في التعامل مع الفن المسرحي في كتابه “فن المسرح”، فهذا المجدد الإنجليزي صاحب تجربة مجلة “الماسك” الصادرة في إيطاليا، يشير إلى أن على المسرح أن يهتم بميكانيكيته عوض الانغلاق داخل بلاغة اللغة ويرد هذا من خلال تعريف كريغ للفن المسرحي بقوله: “إن الفن المسرحي ليس هو التمثيل أو الرواية التمثيلية، وليس هو المناظر المسرحية أو الرقص المسرحي، إلا أنه يتألف من جميع العناصر التي تتكون منها كل هذه الأشياء إنه يتألف من الحركة المسرحية ACTION التي هي روح التمثيل ومن الكلام WORDS الذي هو جسم الرواية ومن الخطوط والألوان التي هي القلب النابض للمشهد ومن ضبط الإيقاع الذي هو قوام الرقص”2، وهكذا يبدو أن للمسرح صيغته الخاصة التي تميزه وتحدد معالمه عكس الارتباط العقيم بفنيات محدودة لا تعطي للفرجة حقها وما يميز التصور الكريغي هذا هو البحث عن مسرح شامل لا يفرق بين عناصره ويعلي من شعرية الركح ليصدح من خلال أدوات متعددة عروضا ونماذج متعددة تلغي الواقع نحو التخييل الحقيقي.
لقد انطلقت تنظيرات المسرح في القرن العشرين نحو التأسيس لواقع تنشق فيه الشعرية الأرسطية عن شعريات حديثة وما بعد حداثية، فبعد جوردن كريغ وأدولف آبيا، نستحضر مثلا : بيوميكانيكا مايرهولد، قسوة أرطو وملحمية بريشت، كنماذج جريئة تحاول تجاوز المعتاد المسرحي إلى المتعدد الركحي وطرح نظريات تخص مكونات العرض المسرحي من جهة أو تجعلنا نتحسس الجانب الحكواتي مرة أخرى، فالمسرح الملحمي مثلا حاول الابتعاد عن التشخيص التام والاتجاه نحو مسرح تتلخص فنيته في تكسير أفق توقع المشاهد، و دمجه في العرض المسرحي على أساس الوعي وليس التطهير الأرسطي.
لعل تحول المقاربة الفنية من التركيز على إنتاجية المادة الدرامية إلى سؤال تلقيها عبر البحث في الدراما المجسمة -صوتا وحركة ومادة سينوغرافية- في عرض مسرحي يحدث الآن وهنا، قد جعلنا نستحضر هذه الشعريات المسرحية في إطار المساءلة التقنية للعملية المسرحية، وفعلا قد كان لهذه المدارس الفنية الأثر الفعال في تغيير النهج العام للدراما عبر نشر تصورات شاملة للعملية المسرحية، نذكر هنا تجارب يوجنيو باربا وآريان منوشكين وجيرزي غروتوفسكي ثم تجارب ما بعد الحداثة المتمثلة في مسرح كانتور وزفوبودا وروبرت ويلسون.
لقد اتخذ المسرح منعطفا مهما جعل من هويته كعرض مرئي أساسا لكل الاجتهادات الفنية الحديثة والمعاصرة، وكل الإصرار هنا على صيغة الدراما كنص مكتوب يحيلنا في الواقع إلى ما يحمله النص في طياته من إمكانية الحدوث في فضاء العرض.
يتحدث رولان بارت في وصفه للعرض المسرحي أنه كتلة علامات سيبيرنيتيكية، والحقيقة أننا أمام خطابات متشابكة أكثر من مجرد سيول علاماتية جارفة، فالعرض المسرحي كمجال إبداعي يخلق من هذه الخطابات المنبعثة تركيبا سرديا تعزز صفته الدرامية صدقيته الفنية.
يتميز العرض المسرحي من حيث كونه سردا بالدرجة الأولى، ثم تركيزه بالدرجة الثانية في أكثر حالاته على الجانب البصري بما تتمثله اللغات الدرامية المرئية من (إضاءة، زي، ديكور، أكسسوار، جسد الممثل) أننا أمام سرد بصري بامتياز .
سردية الإضاءة:
تجد الإضاءة كلغة درامية نفسها ملزمة للخضوع لإكراهات المسرح وظيفيا وجماليا، وإذا وضعنا صفتها التقنية جانبا فإن تمظهرها الجمالي يمثل مدخلا مهما للحديث عن سردية الإضاءة في إطار العرض المسرحي، كمضمار غني بالسرد البصري. إن الإضاءة عبر تطور العصور المسرحية، وخاصة في العصر الحديث قد باتت تمثل “زخرفا حيا على حد تعبير رينهارت فهي لدنة متحركة منسابة تخلق الفضاءات وتوحي بالأزمنة والترابط بينها وتبدع كذلك كل الألوان كما ذهب إلى ذلك أدولف آبيا وقد تطورت إلى درجة أنها أصبحت ضربا من ضروب الرسم تنحت الأشكال وتوزع الظلال وتبدع مناخات متعددة كما أنها تقسم الفضاء وتعيد هندسته، تكثفه أو تشظيه تعوض الزخرف المبني الثابت أو تعدده”3، ومجموع الإمكانات الفنية التي باتت تقدمها الإضاءة لإغناء جمالية العرض، لم تعد مرتبطة بتشكيل الفضاء، بل أثرت في أداء الممثل نفسه. الإضاءة إذن، تظهره وتحجبه وقد تعيد تشكيل مظهره حسب لعبة الظل وتموضع جسد الممثل، ويمكن القول إن للإضاءة الحالية قدرة فائقة على إضفاء المعنى وتحيينه داخل العملية الإبداعية.
يخضع تصميم إضاءة عرض مسرحي ما عموما لمواضعات معروفة تعتمد محاور تثبيث البروجكتورات فهناك: الإضاءة الأمامية، الخلفية، الرأسية وغيرها من التنويعات، واختيار اللون والمساحة المضاءة، وفي مقاربة أخرى فهذه الإضاءة –في كثير من المرات- هي تمظهر أكيد لرغبات دفينة في استعراض بعض المفاهيم المدرسية أو الهدف التزويقي في الغالب، غير أن استجلاء حقيقة العمل الجبار التي تقوم به الإضاءة يؤكد أنها دراماتورجيا ركحية فاعلة تمتح قوتها من الوظيفة السردية للغات الدرامية، والإضاءة هنا تثير تساؤلنا المشروع في محاولة الإحاطة بثقلها داخل العرض المسرحي من خلال سؤال فعلي:
من أين تصدر الإضاءة ولماذا ستصدر هذه الإضاءة؟
لقد تجاوزت موضوعية استخدام فن الإضاءة في العرض المسرحي كل المنظورات الضيقة، ليكون السؤال الأساس الذي يفترض أن تجيب عنه الإضاءة هو: لماذا هذه الإضاءة أصلا، وما جدواها في العرض المسرحي؟
توجهنا الإجابة عن هذا السؤال للبحث في ثنائية الذاتي والموضوعي في استخدام أي مكون من مكونات العرض المسرحي، وحيث إن تاريخ المسرح يشهد على هذه الثنائية، بما هو موجود من نماذج يركز بعضها على المضمون، فيما يتعمق آخرون في صياغة الشكل، ففي كلتا الحالتين، فإن أي تصور جمالي تتطلب شعريته sa poétique فرشا نظريا دقيقا وإمكانات ركحية هامة، وحتى نستوعب فهم هذه الثنائية نقوم بالمقارنة بين الشعرية البريشتية والشعرية الأرطودية من خلال مقاربتهما لموضوع الإضاءة، باعتبارها مكونا بصريا ركحيا مهما في رؤيتهما للعرض المسرحي .
1 – الإضاءة في مسرح بريشت
يحدد بريشت شعرية مسرحه في كونها ملحمية الصفة والتطبيق، وهو يجمع بين التعليمي والجدلي في فلسفة إخراجه، أما آليات تنفيذ مسرحه الملحمي فهو يعتمد عدة عناصر
لا درامية للوصول لأهدافه، وما يهمنا هنا هو ما يتعلق بترتيب الخشبة وشكل الأداء. يبين بافيس التصور البريشتي للخشبة بقوله: “لم يطرأ أي تغيير على شكل الخشبة من جراء مكان الحدث، فهي تظهر ماديتها، (أو حقيقة أمرها) وطبيعتها التفاخرية والآلية التباينية (المنصة). فهي لا تجسد الحدث بل تحمله وتمسك به عن بعد”4. إن الخشبة البريشتية خشبة محايدة لا تستدعي شيئا من متطلبات الإيهام الأرسطي وهي تعبر مباشرة عن رغبتها في دمج المشاهد في واقع الحدث وليس في بنائه الإيهامي الأرسطي، حيث هناك الضرورة السببية وفخامة الوصف البصري ذو الغرض المحاكاتي، وهكذا فإن الأداء التمثيلي الملحمي هو تقمص لا يهدف محاكاة الشخصيات بل فقط سردها للمتفرج، يقول بافيس: “إذا لم يستطع الممثل بأدائه الملحمي منع المشاهد من تطابق أو تماثل شخصيته فعليه أن يجعلها أكثر صعوبة بطريقة مستمرة. يبقى الوجه على مسافة، لا يتقمصه بل يظهره”5. لقد تبلورت الشعرية الملحمية عند بريشت لتعبر عن رؤية شاملة للعالم والفن المسرحي فاعتبرت المباشرة وفضح الوهم أساس بناء أي تصور إخراجي، وهذا مايفيدنا في فهم التوجه الخاص بالتعامل مع لغة الإضاءة المسرحية حيث إن هذا “الذوق الملحمي” أفضى للتركيز على اللعب le jeu، واستجواب إمكانات العناصر المسرحية المتنوعة عوض البحث عن تفسيرات ملائمة لحقيقتها أو التبرير لها.
إن الفهم الموضوعي للتصور الملحمي في تطويع لغة الإضاءة يدفعنا للبحث في ممارسة بريشت المسرحية، ونقترح هنا ملاحظات أحد تقنيي الإضاءة الذين عاينوا اشتغال فرقة برلين أونسمبل الألمانية، وهو ريتشارد بيلبراو RICHARD PILBROW من خلال أحد المواسم المسرحية التي أمضتها الفرقة ببريطانيا وخاصة مسرح old vic theatre بلندن.
لقد قامت الفرقة حسب إفادته، ورغم توفر المسرح على تقنيات مهمة، باستقدام بروجكتورات أخرى بقدرة إجمالية لـ 30 أو 40 كيلواط كما استخدموا جيلاتين 67 cinemoid، وهو ما يحقق النسخة البريشتية من الأبيض brechtian whiteness. لقد مسحت القدرة الضوئية الكبيرة حسب ريتشارد تفاصيل الركح وجماليات الملمس البصري للسينوغرافيا. وهو ما يراه أمرا سلبيا في تشكيل الصورة المشهدية، وحتى يبقي على الأمانة المهنية فإنه يشير إلى أنه شاهد إضاءة المسرح الأم للفرقة بألمانيا برلين، حيث استخدموا عددا من المعدات منخفضة التوتر التي تعطي إضاءة بيضاء فولاذيه steely blue white light، ويقر أن النتيجة كانت مبهرة حيث إن الإضاءة وافقت الملمس البصري وزادت من قوة أداء العرض المسرحي6.
إن الملاحظ من شهادة أحد أهم رجالات الإضاءة المسرحية بإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، هو “جودة” القيمة الفنية للعمل المسرحي ضمن فرقة برلين أونسمبل، ورغم كون التصور البريشتي يدعو في أساساته النظرية إلى التغريب وفضح الوهم الدرامي، إلا أنه لم يتجاوز القيم الفنية والمتطلبات المهنية للإضاءة التي تحفظ للجهاز السينوغرافي والصورة المشهدية جمالياتها البصرية، وإذا كانت هنا مبالغة في صيغة الفضح الركحي فهي لضرورات تقنية فقط، حيث إن المسارح خارج ألمانيا ربما لا توافق الذوق الإضائي للإخراج البريشتي، فإذا كان استخدام اللون في العرض المسرحي العادي يعد مدخلا لخلق طقس واهم، فإن الإضاءة البريشتية لم تتجاوز العرف التقني في اختياراتها الضوئية حيث استخدام الجيلاتين أو البحث عن طبيعة لونية معينة من خلال حرارة لونية temperature de couleur في خيار البروجكتورات المستخدمة. فإذا كانت الإضاءة العامة بلون مائل للاصفرار تدفع للشعور بالحرارة، فإن الاختيار البريشتي باختباره إضاءة باردة نوعا ما يبحث عن جمالية بصرية تحيد الفضاء السينوغرافي لتتعزز ثنائية اللعب والحكي، كما أن برودة الإضاءة ومن خلال خواصها الفيزيائية لا تظهر جميع الطيف اللوني للموجودات الركحية عكس الإضاءة الحارة، وهو ما يساهم في خلق ثبات بصري للمتلقي ودفعه لتغريب نفسي يتحول لتغريب مسرحي حسب التصور المطروح من طرف بريشت.
2 – الإضاءة في مسرح أرطو
تبرز شعرية القسوة في مسرح أنطونان أرطو، من خلال ما أعلنه صراحة في بياناته ضمن مؤلفه “المسرح وقرينه”، حيث يوضح تقنيته الركحية في كونها محاولة ليجد المسرح نفسه من جديد عبر “تقديم رواسب حقيقية للأحلام”8، وتتخذ محاولاته تطبيقات مباشرة لتصوراته حول استعمال مختلف الأدوات الركحية المتاحة، ويحدد حرفيا تحت مادة الإضاءة ما يلي: “لم تعد أجهزة الإضاءة المستخدمة في المسارح وافية بالغرض، أن تثير النور في الفكر له مفعول خاص، لذا يجب البحث في كل أنواع الذبذبات الضوئية، والوسائل الجديدة لنشر الأمواج الضوئية، على شكل طبقات أو سهام نارية. أما جهاز الألوان المستعمل الآن فيجب إعادة النظر فيه من أوله إلى آخره وبغية استحداث أحاسيس الحرارة والبرودة والغضب والخوف الخ”9. إن القارئ الجيد لتصور أرطو وتمثله لوظيفة الإضاءة يدرك جليا مدى إدراكه للأهمية الملقاة على فكرة الضوء عموما ضمن فضاء اللعبة المسرحية، فيتعدى فهمه لفيزيائية الضوء المعروفة للخوض في أدرمة عناصره، عبر البحث الدقيق في مستوى الذبذبة الضوئية وإمكانات نشر الموجة الضوئية في فضاء اللعب لتحقيق الغرض الدرامي، وهو ما تحدده رؤية أرطو في الأحاسيس الممكنة والمرجوة من تدخل الضوء. يطرح أرطو نموذجا يتجاوز الكلاسيكية وخاصة ذلك التلقي البصري الذي يحكمه اللون ليصل لما هو أعمق ويتحول سعي المخرج من خلق الإحساس عبر تخييل درامي إلى خلق الإحساس عبر استخدام فيزيقي لمادة بصرية تشكل جزءا من موجودات فضاء اللعب. يؤكد الشكل المسرحي لشعرية القسوة بهذه الطريقة،على صرح بالغ على أن يلعب كل مكون دوره في صياغة الطقس المسرحي بفعالية تامة، للوصول إلى هدف منشود يورده في سياق حديثه عن “اللغة العيانية الموضوعية” -وهو ما يمكن تفسيره بمجموع اللغات الركحية التي يستخدمها العرض المسرحي-، حيث يقول إن هذه اللغة قادرة على أن “تسحق الإيقاع بوحشية وتمحق الضجيج وتهدف إلى الإثارة والسحر والتخدير وإيقاف مفعول الإحساس… والتخلص من عبودية اللغة الذهنية بإيصال إحساس لذهنية جديدة10”. إن فكرة القسوة هي فكرة مادية فيزيقية تستهدف إعادة النظر في النتيجة المعروفة لأثر العمل المسرحي، والسعي إلى إيقاف مفعولها، وهو ما سينعكس على إحساس المتفرج لتكون مجرد صدمة أو تخدير يخلصه من الامتثال الطبيعي للغة الذهنية العادية فتولد لدى المتفرج ذهنية جديدة، وتجد الإضاءة هنا نموذجَ شعريةٍ يعيد طرح وظيفتها الركحية، فيكاد يقول بلسان فصيح: لماذا الإضاءة المسرحية؟ فتجيب بيانات أرطو: طبعا، هي ضرورية لخلق الظروف الركحية المادية الموضوعية لتحقيق شعرية القسوة. فطالما الهدف هو “ذهن جديد” وجب حشد كل ما يمكن حشده من موارد وإمكانات مادية، فكل مكون من مكونات العرض والإضاءة جزء أساسي من هذا الحشد.
مقارنة بين الشعريتين:
إن المتأمل بالضرورة لسؤال الهدف من وجود الاضاءة، يستحضر ضرورة الارتكاز على الرؤية الفنية للمخرج وما تحدده الشعرية من متطلبات وظروف التحقق، فطبيعة المخرج تفرض ذاتها لا محالة، وقد يستجدي المخرج/ السينوغراف جمالية الصورة المشهدية بينما يركز المخرج /الممثل أو الكاتب على فضح فضاء الركح لتسهيل تلقي التشخيص والطرح الفني/ الأيديولوجي. وما طرحناه من شعريتين هامتين في سياق تنظيرات القرن العشرين نجده يحتاج لفضح الهوية البيبليوغرافية لأصحاب التنظير، فنحن أمام قطب مسرحي يعتنق الأيديولوجيا أساسا لبنيته الفكرية فيما يعتنق القطب الآخر التيار السريالي. وهكذا فاستثمار فكرة الضوء قد تعدى في كلتا الحالتين عتبة الضرورة التقنية في وظيفة الإظهار نحو الضرورة الوظيفية ضمن نسق مسرحي متكامل البناء فكرة وتطبيقا، وعليه فقد أبدع المسرح البريشتي إضاءة تخدم الطرح الدرامي وتبعث على التأمل في الصورة المشهدية من خلال تقريب المتفرج من معالم العرض المسرحي أما فيما يتعلق بالنموذج الأرطودي فإنه يفتح الباب نحو تطهير جديد يحاول تثوير عنصر الإضاءة ليكون أداة مادية لخلق تلق جديد حيث يكون الواقع على الخشبة هو دافع لخلق واقع ذهني يغير الشعور قبل الأفكار. وهكذا ندرك مدى الاختلاف في عمل الإضاءة ضمن نسقين مسرحيين مختلفين .
على سبيل الخلاصة:
تشكل سردية العرض المسرحي أساسا لتمثل لفهم ثنائية الذاتي والموضوعي في العمل المسرحي، وهو ما يعزز من مكانة سردية مكونات بصرية كالإضاءة، وتطرح دراماتورجيا الإضاءة في هذا المقام، نفسها كعماد أساسي لأي اشتغال فني حقيقي للضوء ضمن العرض المسرحي، فأدرمة الإضاءة هي كتابة ركحية تتكامل وتتفاعل مع باقي المكونات البصرية الماثلة أمام المتفرج على أساس ومنطلق متين لا يتحقق إلا بتحديد المنطلقات النظرية والرؤى الجمالية التي يجب أن تتوفر في المصمم والمخرج والسينوغراف، وتبقى فكرة ترشيد وتثمين استخدام أي عنصر من عناصر العرض المسرحي هدفا عزيزا نادرا في زحمة الاستخدامات الطائشة التي تخدم الإبهار والاستعراض التقني عوض الاهتمام بوظيفة وقيمة هذه الأداة التي تشكل الصورة المشهدية للعرض المسرحي.
الهوامش
المراجع المعتمدة:
– أرسطو طاليس: فن الشعر (ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة) بيروت لبنان ط2 1973
– نظرية المسرح الحديث –تقديم وتحرير اريك بينتلي- تر يوسف عبد المسيح ثروت –دار الشؤون الثقافية العامة– الطبعة الثانية 1986– بغداد العراق.
– باتريس بافيس -معجم المسرح– تر ميشيل خطار- المنظمة العربية للترجمة.
– معجم اللغة المسرحية -التيجاني الصلعاوي ورمضان العوري- مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللغة العربية- نسخة رقمية غير منشورة.
– جوردن كريغ –في الفن المسرحي– تر دريني خشبة –المطبعة النموذجية- ط 2-1960
– Richard pilbrow-stage lighting design- First Paperback Edition -usa- 2000.
الهوامش:
أرسطو طاليس : فن الشعر (ترجمة عبدالرحمان بدوي، دار الثقافة ) بيروت لبنان ط2 1973
جوردن كريغ – في الفن المسرحي – تر دريني خشبة – المطبعة النموذجية- ط 2- 1960- ص 170
التيجاني الصلعاوي و رمضان العوري- معجم اللغة المسرحية- مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة اللغة العربية- نسخة رقمية- ص 41 و42
باتريس بافيس- معجم المسرح – تر ميشيل خطار- المنظمة العربية للترجمة-ص 190
نفسه-ص192
Richard pilbrow-stage lighting design-p87
الطيف اللوني لإضاءة 3600 كلفن هو جد غني، فرغم اصفراره فهو يثري الأجسام المضاءة أكثر من الطيف اللوني لإضاءة 6500 كلفن التي تميل للبياض.
على حد تعبيره في بيانه الأول –- ورد مترجما في كتاب نظرية المسرح الحديث– تقديم وتحرير اريك بينتلي- تر يوسف عبد المسيح ثروت –دار الشؤون الثقافية العامة – الطبعة الثانية 1986 – بغداد العراق- ص 49
أرطو في بيانه الأول حول مسرح القسوة -ورد مترجما في كتاب نظرية المسرح الحديث– تقديم وتحرير اريك بينتلي- تر يوسف عبد المسيح ثروت –دار الشؤون الثقافية العامة – الطبعة الثانية 1986 – بغداد العراق- ص 53
ص 49 – البيان الأول لمسرح القسوة- المرجع نفسه .