زياد خداش
لـم أكن أعرف أنني سأخطئ في الوصول إلى بيتي في ليلة ما، ستبدو الصورة مضحكةً وسرياليةً لو دخلت بيتًا آخر في حارة أخرى متفاجئًا بسكان لا أعرفهم ينامون في سريري أو يقرأون كتبي، حتى في عزّ سكري كنت أصل إلى البيت بسهولة، حسبي أن أدع أنفي يقودني، فرائحة شجرة الليمون الكبيرة، والتي تتكئ نصف أغصانها على كتف نافذتي، وتصل عنق مكتبتي، تمدّ رائحتها من أجلي حتى دوار الـمنارة، وكثيرًا ما رأيت أنني أصعد درج هذه الرائحة الوفيّة غير الـمرئي، متجهًا إلى بيتي، مكللًا بمجد غامض لا أعرف سرّه.
الـمرأة الـمصعوقة التي تقف أمامي الآن حاملةً سكين مطبخ وتستعدُّ لصرخة، وتبحث بتخبط عن هاتفها الخلوي، تغطي بيدها نهدها الذي يكاد يفر من جسدها، لـم تكن تعرف أنها ذات ليلة ستخطئ الاهتداء إلى بيتها. كنت عائدًا من سهرة مع أصدقاء، لـم أكن حزينًا أو سعيدًا، كنت فحسب عائدًا من بيت أهلي متفقدًا كتبي التي عبث بها جنود الاحتلال أثناء اقتحامهم بيوت المخيم، محتاجًا بقوة إلى حمام ساخن وعشاء ونوم سريع. فجأة كنت أمامها، كانت أمامي:
ــ ماذا تفعلين في بيتي يا سيدتي؟
ــ ماذا تفعل أنت في بيتي يا سيدي؟ وكيف حصلت على مفتاح بابي؟
ــ أرجوك اخرج حالًا فزوجي قادم وسيظن أنني…
ــ أي زوج وأي خروج؟! هل أنت مجنونة؟ هذا بيتي يا امرأة.
كان واضحًا أن الـمرأة خبيثة، تُضمر حكاية، كانت تعبث بعقلي، هل أنا ضحية لعبة رتبها لي أصدقائي ليضحكوا علي لاحقًا؟ كان مؤكدًا جدًا أنني لست أحلـم ولست سكرانًا، فهذا البيت بيتي بالتأكيد، أنا لست بحاجة لتأكيد هوية بيتي، كل شيء فيه يعرفني وأعرفه، المكتبة المسروقة كلها من مكتبات أصدقائي، صور أصدقائي الموتى: حسين وعزت وخليل، سريري الذي هو أصلًا أريكة، طلاء جدراني الـمقشور، سبع شعيرات سود من رأس البنت الحيفاوية التي زارتني خطفًا قبل أسابيع، ملصقة على حروف عبارة: “لك كل الحب من حيفا” رسمت بلون أسود مجبول بقطرات بيرة وقهوة معًا، لاحقًا، غطيت الشعيرات السبع والعبارة بصورة أبي خوفًا من انكشاف أمري مع امرأة جديدة وعدتني بزيارة. أطباقي القذرة، إلهي، كيف لا أميّز أطباقي الـمغطاة ببقايا طعامي الناشف؟ خبزي اليابس القديم المرميّ على الطاولة، فراشي الكريه الذي لـم ير الشمس يومًا، السجادة الأرضية الـمهترئة التي وجدتها في حاوية بالقرب من بيت مسؤول كبير في السلطة، ستارتي الوسخة التي أهداني إياها صديق يكرهني قبل أن يسرق ستارة فاخرة من محل سجاد تركه صاحبه مفتوحًا وذهب للصلاة، زجاجات البيرة نصف الفارغة التي تركها ضيوفي وهربوا إلى مدنهم خوفًا من تدهورالحالة الأمنية في مدينة تقتل نفسها كل يوم.
الـمرأة والسكين، والنهد الطفل الـمقاتل الأبيض الـمخنوق معظمه، والهاتف الخلوي أمامي، ورائحة ليمون نافذتي تكاد تعصر أشياء غرفتي عصرًا: إلهي، هل هي حقًّا غرفتي؟
يا سيدة، أرجوك إذا كنت هاربة من أحد فأنا مستعدٌ لاستقبالك في بيتي، أما أن تزعمي أن هذا بيتك وأنني أقتحمه، فهذا كلام مجانين لن يصدقه أحد؛ لأنني أستطيع الآن أن أحضر الشرطة، وهي تقرر بيت من هذا، فلديّ عقد إيجار يثبت هوية الـمستأجر.
ـ شرطة؟ تقتحم بيتي في منتصف الليل وتقول لي شرطة؟! أنا التي سوف أتصل بالشرطة، فلدينا عقد إيجار واسم زوجي فيه واضح جدًا، وكل ما في البيت ينتمي إليّ وإلى زوجي. انظر صور أصدقاء زوجي الأموات: حسين الذي استشهد في أحداث النفق العام 1996، خليل الذي مات بالسرطان في عمّان، وعزت الذي انتحر بإطلاق النار على نفسه؛ لأنه أخفق في حبه الأخير. انظر خزانة ملابسي، هل لديك امرأة حتى تكون لديك كل هذه الملابس النسائية؟ لكنني أخاف من الفضيحة أرجوك، نوبة زوجي في حراسة بيت الوزير، ستنتهي بعد نصف ساعة. اخرج أقبّل يدك.
تحركت باتجاه خزانتي، ارتعبت الـمرأة، ظنّت أنني أريد مهاجمتها، طمأنتها بحركة من يدي، قلت لها: انتظري قليلًا سوف أقنعك الآن. فتحت الدرج الأول، أخرجت جواز سفري، قلت لها: اقرئي اسم صاحب هذا الجواز. مدت يدها، فتحت الجواز، قرأت الاسم بصوت مسموع: أيمن شريف. جنّ جنوني، من أنت يا سيدة؟ وماذا تريدين مني؟ هذا جواز سفري أنا واسمي زياد خداش.
خطفتُ الجواز من يدها وجسمي كله يرتعد، وضعت إصبعي تحت اسمي وسألتها: هل أنت عمياء؟ تهجي معي: ز ي ا د خ د ا ش. صرخت الـمرأة بصوت كاسر ومجروح ارتجفت معه جدران الغرفة: بل أنت الـمجنون والأمي والخبيث، اخرج بحق السماء، زوجي في طريقه إلى هنا، كيف سأقنعه أنك تائه عن بيتك وضللت طريقك؟ أو أنك مجرد أبله أو مريض؟
أين سأخرج يا امرأة؟ هذا بيتي ليس لي بيت سواه، والـملابس النسائية تعود لصديقاتي اللواتي يزرنني ويتركن قطعًا من ملابسهن كذكرى أو كتحية مؤقتة أو كوداع نهائي، هل فهمت؟
أطرقت الـمرأة… عيناها تذبلان، السكين تسقط والهاتف الخلوي، النهد يهوي ولكن للأعلى ويبقى معلقًا في سقف اللحظات بسذاجة طفل وتوتر فراشة، تركت جسدها يسقط، كان واضحًا أنها تنهار وتفقد قدرتها على الكلام، أخذت تتنفس بصعوبة، اقتربت منها.
اهدئي أرجوك، بإمكانك أن تغادري بهدوء أو تبقي عندي هذه الليلة، أعرف أنك بحاجة إلى شخص يؤويك، فأنا الآن بت متأكدًا أنك هاربة من عائلتك أو من زوجك. صدقيني أنت صاحبة حظ جيد، فأنا كاتب، وأفهم معاناة النساء في بلادي، وأحب أن أقدّم المساعدة دائمًا، احكي لي حكايتك أنا مصغٍ.
ـ إلهي، ماذا يحدث لي؟ أيها السيد، كفَّ عن تعذيبي، أنا لا أدري من أنت وماذا تريد، أنا لست هاربة من أحد، أنا في بيتي الذي استأجرته أنا وزوجي قبل أربع سنوات من (أبو إلياس وأم إلياس)، الجيران كلهم يعرفونني ويعرفون زوجي، أنا بانتظار زوجي الذي سيأتي في أية لحظة وسيذبحني بهذه السكين؛ لأنه سيعتقد بأنني أخونه معك.
هذه السيدة خطيرة وغريبة، ثمة مؤامرة تحاك ضدي، لا أعرف مصدرها، فـ(أبو إلياس) هو من استأجرت منه بيتي قبل أربع سنوات تمامًا. هذه السيدة تعرف عني كل شيء، لا أدري الآن ماذا سأفعل؟ هل أغادر وأحضر الشرطة؟ هل أذهب لإحضار صاحب البيت؟ هل أجبر الـمرأة على مغادرة بيتي بالقوة؟ هل أغادر بيتي وأذهب إلى بيت أحد أصدقائي لأنام عنده هذه الليلة و”الصباح رباح”؟ هل أنام على فراشي فأنا متعب جدًا، وأغطُّ في نوم عميق غير مبال بوجودها؟
جلست على الكرسي البلاستيكي القريب من الباب، محيطًا رأسي بيدي كغريب يتوسل طعامًا، أو نومًا مؤقتًا، الـمرأة تبكي أمامي كالأطفال، فجأة رأيت نفسي أبكي، أبكي بقوة كما لـم أبكِ في حياتي كلها، غريب أمري كان، لـم يكن من سبب قوي للبكاء، لكني بكيت على كل سنوات حياتي الأربعين، على كل الأشياء التي فقدتها، ولـم أستطع إرجاعها أبدًا، صار فقدان هذا البيت تتويجًا أو رمزًا أو عنوانًا لكل مفقوداتي في حياتي كلها، يا الله، ألن تنتهيَ هذه الليلة؟!
سيتم ذبحي الليلة… أوه يا الله، الليلة سأُذبح من الوريد إلى الوريد!
لن تُذبحي يا سيدتي، فأنا سأغادر البيت الآن، سأعود غدًا صباحًا حتى أحلق ذقني وأغير ملابسي، وأذهب إلى مدرستي، سأنام عند صاحبي هذه الليلة، أرجو أن تتفهمي الأمر وتبحثي عن بيت آخر وأبله آخر ولعبة أخرى، فقد انكشفت لعبتك معي.
لن تعود صباحًا؛ لأن الشرطة ستلقي القبض عليك الآن، ضغطت الـمرأة على أرقام الشرطة، وراحت تتنفس بصعوبة وهي تدعو الله أن يؤخر زوجها قليلًا. كان الشرطي البدين يمطّ شفتيه تعجبًا وهو يقرأ الاسم المكتوب في خانة المستأجر: سمير خالد. صرخت الـمرأة بأعلى صوتها: إلهي… حتى أنت أيها الشرطي؟! ارحموني أرجوكم، زوجي قادم وسيذبحني، من سمير خالد هذا؟ زوجي اسمه أيمن شريف… وراحت تمّد اسم “شريف” بشكل هستيري.
تهجيت للشرطي اسمي في العقد فدفعني بيديه الضخمتين قائلًا: هل تريد أن تعلـمني القراءة أيها الوغد؟. في هذه اللحظة دخل علينا صاحب الدار (أبو إلياس)، كان مستغربًا من علو أصواتنا، نظر إلينا ثلاثتنا مندهشًا وكأنه يرانا لأول مرة.
صاحت الـمرأة بلهجة فزع وفرح وقفزت أمامنا كالـمجانين: كنت أعرف أن الله لن يتركني وحيدة أمامكما أيها الـمتآمران. كانت تبدو وكأنها حصلت على حكم براءة بعد قرار إعدامها: أخي (أبو إلياس)، قل لهما من أنا، ألست أنا زوجة أيمن شريف الذي استأجر بيتك قبل أربع سنوات؟ ألا نسهر مع بعضنا البعض كل ليلة تقريبًا في الحديقة الخلفية؟ ألـم تعدنا بتخفيض إيجارنا؛ نظرًا لتوقف الرواتب؟ ألـم تحدثنا أنت وأم إلياس البارحة عن ضرورة إنجاب طفل؟ ألـم تحضر لنا أم إلياس صحن مهلبية لأنها سمعت زوجي يقول إنه مشتاق إلى مهلبية متقنة؟
نظر إليها (أبو إلياس) نظرات مرتابة وغاضبة، شملني أنا والشرطي أيضًا بالنظرات نفسها.
وبدأت أنفاسه وحركات عينيه ووجهه تتحول إلى تهديد..
أنا سئمت من ألاعيب النساء الكذّابات اللواتي يدعين دائمًا أنهن مضطهدات وفقيرات ومريضات ومطاردات، قبل أسبوع طرقت بابي امرأة مسنّة وادعت أنها مرسلة من قبل أخي الـمريض في البرازيل، وأنها تريد أن أعطيها بناء على طلب أخي مبلغًا من المال لاستكمال العلاج، لـم تعرف المسنة المخادعة أن أخي مات قبل سنتين وشبع موتًا، هل أنتِ من هذا الصنف يا امرأة؟ ماذا تفعلين في بيت الطالب الجامعي فادي؟ هل أنت صديقته؟ الـمسكين سافر إلى جنين؛ لأن أمه مريضة جدًا، لكنه تحت تأثير اضطرابه ترك باب بيته مفتوحًا، وقد اتصل بي قبل قليل لأغلق الباب، وفوجئت بأصوات في بيته.
كانت الـمرأة تبكي بصوت أيقظ كل الجيران الذين تجمّعوا أمام بيتي -هل هو بيتي؟- مستغربين مما يحدث.
ومن أنتَ أيها السيد؟ وأشار (أبو إلياس) بيده نحوي وكأنه يطعنني، لم أستطع أن أجيبه بأية كلمة، لقد هُزمت ولا أعرف من المنتصر في هذه اللعبة الغريبة، كل ما أعرفه أن هذا البيت بيتي أنا، تحركت باتجاه الباب، ألقيتُ نظرة أخيرةً على الـمرأة، كانت تحاول أن تقف، أمسكت بيدها، ساعدتها على النهوض، كانت تبكي بصمت ولـم تكفَّ عن القول: آه سيذبحني… سيذبحني. كنت أنا دائخًا لا أعرف ما الذي يجري، عاجزًا عن التفكير، خرجنا معًا، مشينا باتجاه شارع ركب، رام الله نائمة، لـم ننبس مع بعضنا البعض بأية كلمة، أمام مقهى رام الله بالضبط افترقنا، واصلت هي طريقها باتجاه نزلة الكلية الأهلية، بينما أشعلت أنا سيجارة، ووقفت أنتظر.