غالبا» ما تُعبر الرواية عن واقع حياة الناس ، لأن التعبير الشامل لكل نواحي الحياة والغوص في الماضي أيضا» يتطلب مساحة واسعة من القدرة على التحليل والغوص في تحليل حياة الناس وآلامهم وآمالهم وظروفهم ، وهو ما تتسع له الرواية ، مثل ثلاثية نجيب محفوظ مثلا» التي تُعتبر تأريخا» رائعا» لحقبة معينة في مصر ، أما أن يتسع الشعر للتعبير عن الواقع ، خاصة واقع مثل الجحيم السوري المُستمر منذ أكثر من ست سنوات ، وأن تتمكن شاعرة لم تغادر اللاذقية أبدا» بل تعيش في قرية رائعة هي القطيلبية في ريف اللاذقية من رسم الجحيم السوري وما يعانيه كل سوري بالكلمات فتلك قدرة مُدهشة فعلا» ، كتاب الشاعرة هنادي زرقة (حياة هادئة في الفيترين) لا يتجاوز المائة وعشر صفحات وهي لم تقسمه إلى قصائد ، ولا توجد عناوين لمقاطعها الشعرية المميزة ،نصها الشعري أشبه بقصيدة واحدة مسكوبة ومكتوبة دفعة واحدة ، ولا يتمكن القارئ من ترك الكتاب حتى إنهائه ، لأن كتابتها أشبه بالموشور المتعدد الوجوه ، حيث النظر في كل وجه يُريك جانبا» من الألم السوري ، وكنت أشعر ( أنا التي لم أغادر وطني الحبيب سوريا إلا للضرورة ) أن هنادي تُعبر عني تماما» ، كما تُعبر عن كل سوري ، كلماتها أشبه بالحياكة ، تُحيك الزمن السوري الدامي بكلماتها المدهشة البسيطة ، التي يُمكن لطفل في العاشرة أن يفهم اللغة الواضحة والآسرة في الوقت نفسه لهنادي ، ولا يُمكننا ركن أيه عبارة في شعرها جانبا» ، إذ أن كل سطر في الكتاب يرسم لنا لوحة المعاناة السورية والجحيم السوري ، حتى أنك لا تحتاج أن تحفظ مقطعا» شعريا» ليعطيك معنى متكاملا» لوصف المشهد السوري المؤلم ، بل يتميز شعر هنادي بأن كل سطر فيه يُمكنه أن يُعبر عن حالة بأكمالها وكل شعرو كتبته يحسه القارئ طالعا» من روحه ، كما لو أن كل سوري فوض هنادي للكتابة عنه ، ولا أبالغ إذا اعترفت أن ثمة عبارات قرأتها في شعر هنادي كنتُ قد كتبت تقريبا «ما يطابقها لأن الألم السوري يوحد الناس وأذكر بعضا» من لوحاتها التي عبرت عنها بالكلمات ، ونصها الأشبه بموشور متعدد الوجوه يُرينا الجحيم السوري ، وأترك لإبداعها المُوجع بصدقه أن يعبر عنا نحن السوريون المُروعون.
أما من هزيمة جديدة ؟ – أقولها كل صباح –وأنا ماضية إلى هزائم أخرى . –أكتب لأنقذ أوهامي –فقط – ولا لشيء آخر – وهذه الأغاني الوطنية كلها –لم تخفف من شعورنا بالهزيمة –أنا مُتعبة يا الله –ولا وقت لدي للندم وطلب المغفرة .
ولو نظرنا إلى حياتنا في سوريا من وجه في الموشور من شعر هنادي نشعر أن كلامها يطلع من قلب كل سوري ، تقول في مقطع من ديوانها :
مضى الجنود إلى الحرب – وانشغلت الأمهات بخياطة الأكفان – والآباء المُتقاعدون تسلحوا من جديد – بحفر القبور !
وتُكمل : أرتعش – مثل عشبة صغيرة –تسمع صوت جزازة العشب – وهي تقترب –لا أنتظر أحدا» – كل ما في الأمر – أنا وحيدة –وأتظاهر بالانتظار –حتى أقتل الوقت –كما لو أن هذا الرصاص الطائش كله – لا يفلح في – قتله أيضا» !
ومن منا نحن السوريين الذين أطلقوا على مأساتنا مأساة القرن ، لا توجعه تلك النعوات اليومية الجديدة لشباب سوريا الذين ماتوا موتا «عبثيا» وزجوهم في حرب لم يختاروها ، من منا لا يستيقظ كل يوم ويقول بأسلوبه الذي عبرت عنه هنادي : هو الخوف – سرطان ينتشر بسرعة الضوء –أرقبه – وأعض على شفتي السفلى ليسيل- دم الانتظار . من منا لا يشعر بالخذلان وببؤس الحياة السورية والنفاق في المبادئ والشعارات التي تربت عليها أجيال حيث كانت حناجرنا تصدح بشعارات مُنافقه يُطبق عكسها في الواقع ، كل سوري يشعر ما عبرت عنه هنادي : أطيل التأمل في النعوات الجديدة – وبنظرة هازئة إلى السماء – أبحث عن معنى لهذا العبث كله .
الوطن خيمة أوتادها الريح –كنا نقف في الصف أرتالا» نحيي العلم –نرتل النشيد –وعيوننا مُعلقة على طائر – وسط السماء ولا يلتفت – يفرد جناحيه . وتتابع برشاقة آسرة : ثمة ثقب في روحي – أكبر وأخطر من ثقب الأوزون –فقط لو أنك تنتبه – هذه الصواريخ الكثيرة التي أطلقوها –كافية لثقوب عديدة في روح السماء .
وأي وصف للإحباط السوري والإحساس بتخثر الحياة ، وبأن الموت استوطن في سوريا ، ولم تعد حياتنا تشبة الحياة بشيء ، فالموت اليومي وعلى مدى سنوات والبراميل المتفجرة التي تقتل المئات من السوريين كل يوم ، والجرائم المروعة التي ترتكبها الجماعات المتطرفة ، كل حياتنا في سوريا لم تعد تشبه الحياة ، ثمة وجع يفوق الوصف ويتحدى آلام النبي أيوب يحسه كل سوري وتعبر عنه هنادي بصورعديدة :
-الذبابة دليلي إلى الحياة الصاخبة في الخارج – الهواء فسد ولا يحتمل شهقة رضيع –
– الحرب صارت وقتا» –وعادات ومراجعات للماضي –الحرب وقد تحولت إلى حياة بالمقلوب – أية حياة لا تتجه إلى المستقبل – بل ترجع إلى الماضي .
وكما يشعر كل سوري تكتب هنادي : كل يوم أمارس الخديعة –وأقنع نفسي أنني على قيد الحياة –حتى حين صوبوا سهامهم نحوي –كنتُ أبتسم وأقول –هذا السهم لا يقتل جثة . وفي مقطع آخر تكتب : ضيقة أنت يا سورية – ضيقة –حتى أنني أرتطم بنفسي مرات كثيرة – في النهار الواحد –ولا أجد مكانا أركن فيه ظلي . وحين تتحدث عن الحب يتجلى التحول الأليم للحب حيث ارتشح فيه الألم والفقدان :
لن تموتي بطلقة قناص –لن يجزوا عنقك – الأصدقاء غادروا- والوحدة تسدد آخر طلقة إلى قلبك .
عد يا حبيبي – لأولد من ضلعك نطفة – تتلمس طريقها إليك .
نادرا «ما قرأت نصا شعريا مسكوبا» دفعة واحدة كما لو أنه جدارية الألم السوري والجحيم السوري ، ونادرا» ما إستطعت أن تُشبع حواسي وتذوقي للشعر بإنتقاء مجرد أسطر صغيرة (مجرد بضع كلمات لكنها ترسم لوحة حياة ) ، أسطر منفردة دون أن نحتاج للمقطع الشعري كله . هنادي كثفت الحياة التي لا تشبه الحياة بشيء في سوريا وكتبت نصا رائعا» أشبه بشهادة عصر على المكان والزمان والأهم روح الإنسان السوري المُروعة والمعذبة ، ولم تترك تفصيلا» في حياة السوريين إلا وكانت مُخلصة له وكتبته . أية عبارة موجعة حين تقول : الأمل عكاز أعمى . أو حين قول : هذا الكون لم يعد يحتمل –قسوة بهذا الجحيم . وهي تعي أنها شاعرة أي فنانة الكلمات ، تبدع منها حياة موازية لحياتنا : الشعراء كئيبون – تغار منهم الآلهة
الآلهة هي نفسها الآلهة – أدير لها ظهري –وأراها أمامي في كل حين .
الحياة هادئة في الفيترين ، قصيدة متكاملة أشبه بجدارية للألم السوري . لكن المُدهش والرائع أنك بعد أن تنتهي من قراءة شعر هنادي المرتشح بالألم والفقدان والإحساس بذبول الحياة وسطوة الموت ، بعد كل تلك المشاهد الموجعة لحد الاختناق من الجحيم السوري ، فإن ثمة إشراق رائع يشع من روحك ، وتشعر بنبض الحياة يتحدى كل أشكال الموت ، تشعر أن الإبداع الحقيقي يحول الموت إلى حياة ، وبأن بذرة الأمل تولد من تربة اليأس ، تنتشي روحك وتمتلئ بهوى الحياة ، كما لو أن كلمات هنادي وصورها أيقظت هوى الحياة عندنا رغم آلامنا المزمنة ووحشية ما يجري على أرض سوريا . وهي تذكرني بالعبارة الرائعة التي قالها أندرية جيد : غاية الحياة هي الفن . وأخيرا» أختم بعبارة من شعر هنادي : مثل غيمة تنهض من قذيفة !لو كنت أعلم أن مزيدا» من الحزن ينتظرني ، لأقتنصتُ فراشات الفرح العابرة كلها .
هيفاء بيطار