محمد خفيفي
«إن كل مؤلف يتمنى أن تدب «الحياة» في حكاياته وأن تستولي تخييلاته على ذهن القارئ، ولكنه لا يتمنى أن يصل الأمر إلى حد الاعتقاد بأن أبطاله قالوا فعلا ما قالوه وأن لهم وجودا خارج هيمنته.»
عبد الفتاح كيليطو
عديدة هي الروايات التي جعلت من الحرب مادتها الحكائية الأساس، كُتّاب من جغرافيات متعددة عمدوا لإعادة تشكيل وقائعها بما يتلاءم مع متخيلهم السردي انطلاقا من مواقعهم إما كمشاركين أو مستمعين لروايات الحرب (شولوخوف، جورج أورويل، همنغواي، تولستوي، كاميلو خوسيه، غسان كنفاني، حنا مينه، خالد خليفة….)، تراكم لا زال ناميا بصدور روايات تؤرخ للحرب وما جاورها من فظاعات وقتل وتعذيب وتنكيل، وما واكب ذلك من مشاعر امتزج فيها الخوف والحب والكراهية والمقت والاستعباد والجنون والتدمير النفسي. انجذاب خاص لتيمة يرى لورانس كامبا الأستاذ المحاضر بجامعة باريس الثانية عشرة أنها «تفعل ذلك لأنها تحمل تأثيرات خاصة ودوافع وأسئلة ومناخا فهي أكثر من مجرد بيئة تاريخية».
أدب الحرب ممتد في زمن الكتابة وتاريخها، ومستمر بما يشهده العالم من اضطرابات وصراع المصالح وسباق نحو التسلح والهيمنة، كتابة نجد سندها في الملاحم، الإلياذة والأوديسا، وفي حرب الآلهة وفي حرب الإخوة، وحرب القبائل والدول والشعوب، وفي الروايات بكل تفريعاتها واتجاهاتها ومذاهبها…
وفي العالم العربي، ونظرا لما يعرفه واقعه من تمزق وصراعات وحروب وأطماع ومحاولات للهيمنة، فقد عرفت الرواية العربية المعالجة لموضوع الحرب في السنوات الأخيرة تراكما كميا ملاحظا، روايات اختارت أن تُلم بالحرب وويلاتها انطلاقا من بؤر التوتر والاحتقان والصراع القائمة، كما هو الشأن في سورية والعراق واليمن وليبيا…
ولعل ما يشهده الأدب السوري اليوم من توجه بارز نحو هذا الموضوع الذي جعل عددا من الصحفيين والشعراء يلبسون جبة الرواية، ويرتادون فضاءاتها، كواجهة نضالية، لفضح الواقع المعقد الذي جعل الثورة تتحول إلى حرب تنخرط وتتورط فيها دول مثل إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة وغيرها…
في هذا السياق، سياق الحرب المشتعلة بين الإخوة الأعداء في عدد من المناطق العربية، تأتي الرواية الأخيرة لعائشة البصري «الحياة من دوني»، حاملة للعديد من المسوغات التي تجعلها رواية استثنائية في المشهد الثقافي الوطني والعربي، لاعتبارات عديدة يلخصها الجهد الذي بُذل على مستوى كتابتها وصياغتها فنيا وجماليا قبل الحديث عن مكوناتها البنائية التي جعلت مادتها الحكائية تحظى باهتمام ومتابعة..
يقوم المشروع التخييلي في رواية «الحياة من دوني» مسنودا بأرضية فكرية واضحة واثقة واعية مدركة لأهدافها، تعيد ترتيب الأولويات وتوجهها نحو مقصدية مكشوفة في البناء السردي العام، وفي نصوصها الموازية الباذخة من عنوان وصورة غلاف وإهداء وتقديم، ومُعلنة في التصاريح الصحافية التي تلت صدور الرواية، خصوصا بعد فوزها بجائزة أفضل رواية عربية لسنة 2018، وفيها أكدت أن موضوع المرأة هو الحافز المباشر والمُوجَّه للتأليف والإبداع. تقول في أحد تصريحاتها الصحفية: «يهيمن واقع المرأة كموضوع على كتاباتي الشعرية والأدبية، وبالتالي فإن موضوع الرواية «اغتصاب النساء في الحروب»، وبالتحديد في الحرب العالمية الثانية، هو الذي فرض علي خطًا سرديا ينتقل بين الصين وفيتنام، وهو ما لا تنقصه مبررات أو محفزات للكتابة عنه، نظرا لما يعرفه العالم في السنوات الأخيرة من حروب وصراعات. كنت أتابع برنامجا وثائقيا عن كيفية استقطاب النساء وتجنيدهن لـ«جهاد النكاح» في سوريا والعراق، وتحولهن إلى سبايا. شيء مستفز، يدعو للغضب والكتابة عنه، ثم بحثت عن أسود نقطة في تاريخ النساء في القرن العشرين، فوجدت «مذبحة نانجينغ»،وهي مدينة في شرق الصين عرفت أواخر 1937 أبشع مذبحة وعددا مهولا من حالات الاغتصاب والقتل في وقت قياسي (عشرون ألف حالة اغتصاب خلال ستة أسابيع بحسب وثائق صينية)، من هذه النقطة بدأت الرواية.1
مدينة نانجينغ الصينية التي أخذت شهرتها من كونها كانت معقل القوميين الصينيين الذين فشلوا في صد العدوان الياباني، هي في الرواية منطلق الحكي ومرتكزه، شهدت مذبحة شهيرة حدثت في 13 ديسمبر 1937،ولا يمكن مقارنتها، في التاريخ، إلا بمذبحة شبيهة قام بها النازيون الألمان في سجن أوشفيتز، فقد احتل الجيش الياباني مدينة نانجينغ، تحت قيادة قائد الجيش الياباني بوسط الصين ماتسوي يشيناي وقائد الفرقة السادسة ناني توشيو، وقام الجيش الياباني بمذبحة كبيرة للمدنيين والعسكريين الذين تركوا الأسلحة لمدة ستة أسابيع. تجاوز عدد القتلى فيها 300 ألف، في واحدة من أكبر المذابح التي شهدها تاريخ الإنسانية.
فموضوع بهذا الحجم لاتناسبه إلا الرواية ،ولا يمكن أن يقوم بناؤه وتشييده إلا ضمن استراتيجية تفكر في المعمار الروائي القادر على احتضان المضامين والدفع بها نحو شبكة علاقات تُدخلها مسار الحبكة الروائية والتوليف الروائي المنحاز لحدث تاريخي بارز هو الحرب العالمية الثانية وما شابها من فظاعات وانتهاكات ووحشية، كانت الحرب اليابانية على الصين أحد تمثلاتها الواقعية على أرض المعركة، ورغم أن عددا من الكتابات الوثائقية والتاريخية ألمت بالموضوع وحاولت الإحاطة به من زوايا الحرب والمقاومة الصينية، أو من جانب البحث عن التقنيات الحربية المستعملة، المباحة والمحظورة، أو طبيعة التحالفات الدولية الداعمة والمناهضة أو المتورطة، أو جرد أنواع التعذيب الممارسة من انتهاكات لحقوق الإنسان بشتى أنواعها، فإن المدونات السردية تبقى هي المؤهلة أكثر من غيرها، كما يرى جان بودريار، لاستقطاب هذه الانحرافات والتفاعلات المختلة عن عالم فاقد لتوازناته القِيَميَّة، المفرط في أنانيته وعصبيته ونبذ إنسانيته.
ومعنى ذلك أن التوجه نحو الشكل الروائي، كقالب فني ووعاء أدبي، حاضر في لا وعي الكاتبة بانتقاء يبرز قدرة هذا الشكل الإبداعي على احتضان الموضوع والإحاطة به، أكثر من غيره من الأشكال، خصوصا الشعر الذي تمرست المبدعة بالخوض فيه من خلال عدة دواوين جعلت اسمها كشاعرة، لها فرادة صوتها الشعري، حاضرة في المشهد الشعري المغربي. فالرواية، كفضاء أدبي مفتوح وأصيل، يستقطب الحاضر والماضي عن طريق التخييل لها من القدرات والإمكانات ما يغري القارئ بالتورط في المتاه الحكائي بشتى تمظهراته الظاهرة والمضمرة المغرية بالجذب وبالإقامة الرمزية.2
إن تجنيد النساء لما سمي جهاد النكاح، كحدث وواقع شهدته الحرب السورية والعراقية، أمر شكل صدمة لكل الضمائر الحية المناهضة للتأويل المغرض لشريعة الإسلام، والرافضة للتعصب الديني الذي طرحته داعش في سياق محاولاتها التأسيس النظري والميداني لبناء الدولة الإسلامية اعتمادا على التغرير بالفتيات وغسل أدمغتهن، ففتوى هذا الزواج التي نسبت إلى أحد رجال الدين سنة 2012، وما شكلته من النقاشات التي امتدت لكل المجالات، كان لا بد أن تجد مناهضة دينية وأدبيّة وفكرية، وتنهض الأقلام، والأفلام، وكل الابداعات، بكل أدواتها، لمواجهة هذا الانحراف الذي اعتبر أن «زواج المناكحة التي تقوم به المسلمة المحتشمة البالغة 14 عامًا فما فوق أو المطلّقة أو الأرملة، جائز شرعًا مع المجاهدين في سوريا، وهو زواج محدود الأجل بساعات لكي يفسح المجال لمجاهدين آخرين بالزواج، وهو يشدّ عزيمة المجاهدين، وكذلك هو من الموجبات لدخول الجنَّة لمن تجاهد به»، فهذا الانحراف لا يمكن إلا أن يستنهض النفوس الحرة الديمقراطية، المناضلة والمجاهدة لمجابهة هذه الردة التي تُنزل المرأة في درك الحياة، وتجعلها سلعة مُهانة تتقاذفها الأهواء والرجال وتعود بها لزمن السبي، في ضرب سافر لسيرورة الحياة وتطورها نحو قيم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ولتاريخ النضال النسائي المستميت الذي مكنها من مجموعة من الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الوطنية والدولية…
«الحياة من دوني» تقود القراءة بناء على معمارها وعلى وعيها السردي المستقطب لتعدد الأصوات واللغات وتواشج الشخصيات وصراعها وتعارضها، وتداخل الأزمنة وتباعدها، في سيرورة تحكمها دورة زمنية ممتدة من 1937 إلى 2012 ، وهي فترة يملأ الحكي بياضاتها بتبئير حكاية «جين مي» و«قوتشين» التوأمين اللتين اقتسمتا السرد بينهما مناوبة بصيغة تحدد المكان والزمان في بداية كل مقطع سردي. رحلة تبدأ من الدار البيضاء لتنتهي إليها، سفر في أزمنة متعددة يحكمها التركيز على الغزو الياباني على الصين إبان الحرب العالمية الثانية وبالتحديد هجوم سنة 1937 على قرية جسر تشولانغ وبعدها مذبحة نانجينغ وما ارتكب فيها من فظاعات القتل والإحراق واختطاف النساء واحتجازهن كنساء متعة….
في سياق هذا الحدث التاريخي المهيمن، كوحدة سردية، يؤسس عليها الحكي تفريعاته، تنهض حكاية جين مي وقوتشين الأختين التوأمين اللتين عاشتا طفولتهما بجسر تشولانغ قبل أن يفرا مع أسرتهما إلى مدينة نانجينغ تحت تهديد الحرب والقصف والقتل المتربص في كل مكان. توأمان مختلفتان على مستوى التركيبة الجسدية والنفسية التي أهلت قوتشين أن تكون مختلفة، مسكونة بروح المغامرة والحلم والرفض والبحث عن آفاق تحقق فيها عنفوانها وطموحها الموؤود بمعانقة بلاد أوروبا ،خصوصا فرنسا، فعاشت تجارب حياتية كلها كانت تنتهي بالفشل والاغتراب وتعميق الإحساس بالخيبة وانكسار الأحلام، لقد لخصت قوتشين هزائمها الداخلية في لحظة وهي تستعيد حياتها الماضية التي رست بها أخيرا في المغرب بجانب محمد، العسكري الذي تزوجته بعد لقائهما في فيتنام، «غربتي ليست مكانا، وأنني أحمل غربة فظيعة ومزمنة في داخلي. فقد تغربت في وطني الصين، يوم استعمل حبيبي الأول جسدي طمعا لعدوه في الحرب. تغربت عندما رحل تاجر السلاح الفرنسي وتركني ضائعة في فيتنام، تغربت في سايغون، صباح اختفاء مصور الحرب الإسباني دون كلمة وداع، تغربت يوم ودعني عاشق دون أن يطلب مني موعدا آخر، تغربت يوم نام رجل في سريري ليلة كاملة معانقا بندقيته مستعرا من جسدي، تغربت في حروب لم تكن حروبي، في لغات ليست لي، في اللغة الفيتنامية، الفرنسية، العربية.» ص 161.
إن التقابل بين التوأمين وتعارضهما ،كشخصيتين داعمتين للحكي ومحركتين له، يسير في اتجاه عرض وبسط الحياة ونمط العيش في الصين، وبالضبط تشريح الحياة اليومية لعائلة متوسطة كانت تعيش على الفلاحة قبل أن تهاجر وتفر خوفا من بطش العسكر الياباني بحثا عن الأمن والأمان والاستقرار، حياة موشومة بالبساطة والفقر والمرض والتشرد، تنعدم فيها ضرورات الحياة ويلفها الانتظار والخوف من القصف والهجوم المباغت للعدو الياباني في كل لحظة وحين. وعبر هذا المسار تكبر التوأمان وتختار قوتشين، وهي المتطلعة لحياة أفضل وأجمل بطموح كبُر معها منذ الصغر، العمل عند بائع السلاح الفرنسي لتجد نفسها بعد ذلك في فيتنام ثم سايغون حيث ستتعرف على محمد العسكري المغربي الذي جندته فرنسا للدفاع عنها في الهند الصينية، ومعه ستواصل الرحلة لتختاره زوجا وتقرر العودة معه إلى المغرب، والعيش بين أهله مغتربة تجتر ذكرياتها وآلامها.
فظاعة الحرب وقسوتها شكلت عاملا مهما في توجيه الاختيارات والمصائر، الخوف من الحرب دفع قوتشين للبحث عن بيت آمن يكون منطلقا لتحقيق أملها في الانتقال لباريس، وهو ما لم يتحقق في ظل ظروف يسودها الابتزاز والاستغلال والرعب، لذلك تكون الحرب «أفسدت ميول قوتشين، وأزمت نفسيتها، وبدأت تستمتع بممارسة الحب تحت القصف، والمواعدة تحت وابل من القذائف، رفقة جنود عابرين وتائهين، لا يعرفون هم كذلك، لماذا يحاربون.» ص90 .
الحرب في رواية «الحياة من دوني» قرينة الفظاعات والوحشية التي ارتكبها اليابانيون تجاه المدنيين العزل، حتى وإن فتحت الرواية هوامش للمقاومة الصينية، كما تجسدت في قتل العسكري الياباني الذي كان يحرس الجسر أو في المواجهات التلقائية أوالمنظمة على الجبهة، أو في إشارات إلى الصمود والثبات للمدنيين ومقاومتهم للفاشية، فإن العين الروائية كانت قادرة على التقاط التفاصيل التي تبين هول الفعل الفاشي وانعدام إنسانيته وتغلغل الحقد داخله من خلال:
اغتصاب الجارة عائشة أمام زوجها فاختارت أن تلقي بنفسها في النهر.
امتلاء النهر جثثا «حتى أن تمساح النهر أصيب بالتخمة».
إحراق الزرع والمحاصيل لتجويع الأهالي.
قتل الوالد وقطع رأسه بالسيف من طرف دورية يابانية.
كثرة المفقودين وكثرة العاهات في صفوف المدنيين وكذا الأيتام والأرامل.
المقابر الجماعية التي لم يعرف أحد عددها……
في كتابنا «الكتابة بصيغة المؤنث»3 الذي تناولنا فيه بالدراسة عددا من الروايات المغربية النسوية، أكدنا على أن المرأة لها من القدرات الطبيعية والجمالية واللغوية والفكرية ما يجعلها أقرب للإنصات للمرأة ودواخلها، ولها من التجربة عن طريق القراءة وتمحص التجارب الروائية العربية والكونية ما يؤهلها لأن تكون الصوت المعبر بصدق ومصداقية عن عوالم المرأة الظاهرة والمضمرة، المكشوفة والمستورة، فهي وحدها في إطار المشترك الجيني والفسيولوجي بينهما، قادرة على اقتحام سرائرها دون تصنع أو مجاهدة. لذلك لا غرابة أن يكون هذا النص الروائي من كاتبة، راكمت تجربة روائية مهمة، وتوجهت نحو الإحاطة بعالم المرأة في سياق الكشف عن المعاناة، وفضح الذي جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق المرأة، بنية إدانة ما يحدث من استمرار تغول الفكر الذكوري وتخلفه، ومحاولاته العدائية إقبار صوت المرأة والرجوع بها لظلامية غير مستساغة ومنافية لما يعرفه التقدم البشري وتوجهه نحو المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية. «كل ما أرومه من حكايتي هنا، هو الحديث عن حروبي الداخلية التي أججتها حرب عالمية كبرى، وأن تعرف النساء ما حدث لبنات جنسهن حتى لا يتكرر، وأن يعرف الناس قسوة الحرب، لعل معرفتهم بأهوال الحرب تجعلهم يتشبثون بالسلام». ص26
اغتصاب النساء في الرواية يأخذ مظهرين متباينين، يرتبطان كلاهما بهمجية اليابانيين وقسوتهم في التعامل مع المرأة بالخصوص، يتعلق الشكل الأول بممارسة عنيفة اُثناء اكتساح المدن والقرى والهجوم على النساء واغتصابهن أمام عائلاتهم، في تحد صارخ لكل القواعد السماوية والوضعية، لكل النواميس والقيم، اغتصاب بشكل وحشي تنعدم فيه كل الأصول الإنسانية المتجذرة في الإنسان وطبعه، وتغيب فيه كل القيم التي حاولت الثقافة ترسيخها وتثبيتها عبر تاريخها الطويل. تجاوز لكل المواثيق الأساسية لحقوق الإنسان والمثبتة فيما يسمى الشرعنة الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
في الرواية كانت «الجارة عائشة» إحدى الضحايا البارزات لهذا السلوك العدواني النشاز، حينما تعرضت القرية للهجوم، «كانت الجارة عائشة امرأة جميلة جدا، أنجبت ثلاث بنات آية في الجمال، فكن -هي والبنات- من أوائل ضحايا الاغتصاب حين دخل الجيش الياباني إلى القرية. اغتُصبت أمام زوجها، فألقت بجسدها المدنس في النهر. واختفت الثلاث وسط فوضى الحرب». ص43. إنها فوضى الحرب التي تجعل الغازي يتلذذ بتعذيب الضحية ويرقص على أشلائه وعلى دماره النفسي، غير عابئ بألمه ومعاناته، ألم جعل المحاكم الدولية لحقوق الإنسان تعتبر الاغتصاب «شكلا من أشكال التعذيب بسبب ما يلحقه بالضحية من ألم ومعاناة شديدين جسديا وعقليا»4.
أما المظهر الثاني من مظاهر الاغتصاب فلا يقل بشاعة عن الأول، إذ «عملت اليابان على إجبار حوالي 200 ألف امرأة على ممارسة العبودية الجنسية، واستدرجتهن إلى «محطات المتعة» التي تم إعدادها في جميع أنحاء شرق آسيا من قبل الجيش الياباني في الفترة الممتدة منذ العام 1932 حتى نهاية الحرب، وقد تمت تسميتهن بـ«نساء المتعة»، أي عبدات الجنس اللواتي استخدمهن واعتقلهن الجنود اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية، والمصطلح هو أكثر تهذيبا من الدعارة بالإكراه، أو السلعة الصنم بلغة والتر بنيامين، وعلى اعتبار أن الموضوع كانت له امتداداته وتبعاته لدرجة أن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، وخجلا من الموضوع، قال بأنه لا يوجد دليل على أنه تم إجبار نساء آنذاك -ومعظمهن من كوريا الجنوبية والصين- على العمل كرقيق لمتعة الجيش الياباني، وفي سنة 2015 قدمت اليابان اعتذارا لكوريا، وكانت القضية قد أدت إلى توتر العلاقات بين البلدين، بعدما طالبت كوريا الجنوبية باعتذار قوي، وتعويضات مناسبة للضحايا. وقد تكفلت اليابان بدفع نحو مليار ين، أي ما يعادل 8.3 ملايين دولار، لصندوق تشرف عليه كوريا الجنوبية للضحايا. وقال وزير الخارجية الياباني فوميو كيشيدا خلال مؤتمر صحفي بعد لقاء نظيره الكوري الجنوبي يون بيونج سيه: إن الحكومة اليابانية تشعر «بمسؤولية عميقة» تجاه قضية نساء المتعة، وستساهم في صندوق مالي لمساعدة النساء .
إن بشاعة الفعل الإجرامي المرتكب، كوصمة عار في جبين الجيش الإمبراطوري الياباني بما خلفه من ندوب وجروح في نفسية النساء، جريمة حرب باعتبار «أعمال العنف ضد المرأة في الصراعات والحروب محظورة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويمثل كثيرا من أعمال العنف ضد المرأة التي ترتكبها أطراف أي صراع ضربا من التعذيب بموجب القانون الدولي. وبالإضافة إلى ذلك تعتبر الأعمال التالية جرائم حرب: الاغتصاب، الاسترقاق الجنسي، البغاء القسري، والحمل الإجباري، والتعقيم القسري، وبعض الأشكال الأخرى من العنف الجنسي ذات الشدة المماثلة». ص77
إن الوقوف عند هذه الانتهاكات وإعادة إحيائها في ذهنية القارئ يستشرف الإدانة والفضح والمطالبة بعدم التكرار، حتى وإن كان التاريخ يسجل أن هذا الفعل وجد أمثلة له فيما حدث في كوسوفو والبوسنة وجنوب السودان وليبيريا وغيرها، رغم أن الآلية القانونية الدولية لم تستطع أن توقف هذا الفعل الإجرامي بتقديم مرتكبيه للمحاكمة الدولية كمجرمي حرب.
عمق الحكي وتدفقه ظل قريبا من هذه الأحداث بحكم أن الساردة قوتشين كانت هي أيضا ضحية الحرب والغزو الياباني حينما وجدت نفسها بائعة هوى للجنود المشاركين في حرب فيتنام لتتمم رحلة الضياع التي ابتدأتها مع باريير بائع السلاح الفرنسي الذي اختفى في سايغون وغادر المدينة خفية.
مع قوتشين يأخذ الاغتصاب منحى آخر، ينتفي الإكراه لتكون الظروف الاقتصادية والاجتماعية هي المتحكمة في الاختيار، رفضت العودة إلى الديار مثقلة بالهزائم والخيبات، وبصيص الأمل في معانقة أوروبا ظل جذوة متقدة في ظلال النفس تتحرك مع كل زبون قادم من تلك الديار، لذلك سيتجاوز سرد قوتشين فترات حرجة من حياتها، نفهم أنها كانت مجالا للخيبات والانكسارات والفقر والعدم والتعنيف، «لكل منا فترة من حياته يجهد في إخفائها عن الآخرين، وحتى عن نفسه، يدفنها عميقا في الذاكرة كي لا تباغته في يوم ما ويبوح بها، لذلك لن أتحدث عن الكثير مما عشته في المرحلة التي ابتدأت يوم تركني تاجر الأسلحة النتن وانتهت بلقائي بمحمد» ص101.
ما أناره السرد من سيرة قوتشين كافٍ لتعرية واقع مرير عاشته برفقة عدد كبير من النساء، بحثا عن أمن وأمان درءا للجوع والخوف والقهر والتسلط والاستعباد، وبيع الهوى وما جاوره من انحرافات في انتظار القادمين من العسكر، المحملين بالخيبة والغبار، الحالمين بأحضان الزوجة والحبيبة، القابعين في استراحة تنتظر الأوامر للعودة للأدغال وانتظار المفاجآت.
من الاغتصاب إلى الاغتراب
بقدر ما شكلت محنة النساء الصينيات مدخلا لتكوُّن الرواية، وفرصة للوقوف عند حياة المرأة الصينية مجسدة في نماذج متباينة، نموذجية، تستقل كل واحدة بكفاءتها واختلافها وحضورها وملئها لمساحات النص الروائي، فإن قوتشين تتميز بانفرادها في استقطاب الخيط الناظم للرواية والسير به نحو النهاية عبر متواليات سردية يرتبط فيها السابق باللاحق، فيها تتبدل وضعياتها الفكرية والمعيشية والمصيرية التي أوصلتها لتعيش في المغرب في بيئة مفارقة عن تلك التي نشأت فيها.
يبدأ الاغتراب بالمعنى الذي يحيل إلى تصدعات وانهيارات في العلاقة العضوية بين الإنسان وتجربته الوجودية، وبمعناه النفسي الذي يشير إلى العزلة واللاجدوى في حياة الشخص الذي يعيش نمطا من التجربة كشيء غريب ويصبح غريبا حتى عن نفسه5.
في حياة قوتشين قبل أن تطأ قدماها بلاد المغرب مع زوجها محمد، كان اغترابها رهين اقتلاع الجذور وانكسار الروح والأماني، وصعوبة الحياة التي مرت منها، لكن قضاءها لأربع وأربعين سنة في المغرب يمكن القول بأنها كانت فعلا سنوات اغتراب فعلي جسدت عدم القدرة على الاندماج مع ثقافة بدت غريبة عنها وظلت منفصلة عما يحيط بها حتى وهي تنجب أطفالا.
إن الإحساس بهذا الاغتراب تهيئ له الرواية والزوجان على مشارف الدخول للمغرب على متن السفينة، «في الباخرة، بين الجزيرة الخضراء وطنجة، أمرني محمد بالالتحاق به إلى مطعم الباخرة حيث كان يسكر، ودعاني للعشاء. على مائدة العشاء، ملأ كأسي، وبلهجة لم أعهدها فيه أخبرني: هذا هو خمرك الأخير، هناك، وأشار في اتجاه الجنوب، ممنوع على المرأة أن تشرب الخمر» ص151، ويبدو أن قوتشين كانت مدركة لما ينتظرها، فقد أعلنت في ختام هذه الليلة صارخة: هذا المساء أعلن لكم موت قوتشين».
يمثل الاغتراب في حياة قوتشين سمة سلوكية بارزة ظلت تلازمها طيلة مدة مكوثها بالمغرب، أربع وأربعون سنة من الانفصال المجسد لما اعتبرته منفى أرخى بظلاله على النفس بتمظهرات شتى تختلف حدتها وعنفها الواقعي والرمزي.
الاغتراب اللغوي الثقافي
اللغة في المنفى ملاذ الاحتماء، هي المسكن الرمزي الذي يمكن من خلاله توطيد العلاقة مع الذات ومع الآخر، لكنها مع قوتشين تتحول لعائق تواصلي يبعد أكثر ما يقرب، التواصل اللغوي كان من شأنه ردم الهوة بين ثقافتين منفصلتين، لكنه عمق الجرح بما عراه من تناقضات فكرية وعقائدية وسلوكية غير مستساغة في مجتمع ينسلخ من حجر استعماري فرنسي دام سنوات، ويُمنِّي نفسه بعهد جديد، عهد الحرية والاستقلال «أول عقبة واجهتني في المغرب هي مشكلة اللغة، خصوصا مع أفراد عائلة محمد التي رفضتني رفضا باتا». وليس الرفض هنا إلا ردة فعل تلقائية من أسرة بدوية منغلقة تحمل في لا وعيها صورة محتقرة عن الصينيين الذين يأكلون ويطبخون الكلاب والقطط والضفادع وقوادم الدجاج، بل ويعبدون الأصنام.
شكل الاصطدام اللغوي صراعا بين حضارتين وثقافتين متباعدتين وغير متكافئتين على مستوى عناصر الصراع، العائلة وقوتشين، تماهى في صورته العنيفة بفرض لباس الجلباب على امرأة تعودت القميص والبنطلون الواسع، والضغط عليها بأشكال ظاهرة ومستترة لتعلن إسلامها متخلية عن بوذيتها، وبقدر ما استنزف هذا الوضع المغتربة فقد «أدخلها في صمت واكتئاب» .
اغتراب وفقدان هوية
اعتبر حسن حنفي «أن الهوية تتحول إلى اغتراب عندما تنقسم الذات على نفسها بسبب الاستبداد الواقع عليها، فتشعر بالانكسار»6، تعنيف وقهر نفسي يسير أيضا في اتجاه انطوائية وعزلة عن الجميع، قوتشين لم تستسغ محاولة استبدال اسمها بزهرة، « استبدلوا اسمي بزهرة، وهو ما لم أقبله بتاتا، فاسمي هو ما تبقى لي من حياتي السابقة، غضبت».
الاسم جزء لا يتجزأ من الهوية، إنه «رفيق الحياة» كما تقول فتيحة ديب واختياره من طرف العائلة يكون مرتبطا بشيء أو حالة، «للاسم تأثير غريب على شخصية حامله. خالتي هي من اختارت لي هذا الاسم»، وقوتشين في دلالتها اللغوية -كما تفصح عن ذلك الرواية- «اسم آلة موسيقية عريقة وراقية لا يعرفها سوى علية القوم من الأدباء والشعراء والنبلاء، لا يمسها العازف إلا بعد الاستحمام وإشعال البخور». وفي هذا السياق يمكن فهم محاولة طمس الهوية الحميمية للفرد باستبدال الاسم سواء من طرف العائلة أو باقي العامة الذين كانوا ينادونها بالصينية أو الفيتنامية، الاسم لم تكن دلالته تعني للمغاربة شيئا، وخصوصا عائلة الزوج، إنه مجردٌ من إيحاءاته الباذخة التي تحفظها اللغة الصينية في قواميسها، هو قرين مسمى غير مرغوب فيه، لذلك وجب قبره بالنسيان عن طريق الاستبدال قبل المحو وقتل الهوية ووأدها.
جماليات السرد ومقترحاته
اشتغلت الرواية على إنتاج شعريتها الخاصة بمنطق التجديد والتنويع، والبحث عن فرادة تميزها عن النصوص السابقة لعائشة البصري، ومعنى ذلك أن تشييد البناء الروائي ،خارج استلهام الحدث التاريخي المرتبط بمخلفات الحرب العالمية الثانية، كان بوعي مفكر فيه يتوخى محاورة القارئ عبر تواطؤ ضمني تحبذه جمالية التلقي حينما تستقطب اهتمام المتلقي وتستفزه في البحث والسؤال عن منطلقات السرد وتوقعاته، والانخراط في المتاه الحكائي عبر فك شفرات معطاة تعمق أواصر التواصل والتوافق مثل أن تتحول «الجرة» التي تحوي رماد جين مي إلى ناطقة رسمية باسمها، إلى صوت سردي عالم بكل شيء، له القدرة على نظم الأزمنة من خلال التناوب بينه وبين قوتشين في جدلية محكومة بالتتابع الذي تختلف فيه زوايا النظر بين الساردتين، وهو اختلاف مبرر باختلاف موقع كل واحدة منهما»، أنا الآن في جرة من الخزف الصيني الرفيع، فوق رف رخامي لمدفأة تتصدر غرفة المعيشة لبيت صغير. مكان ملائم لمراقبة ومتابعة كل ما يجري في العائلة وفي العالم، وتأمل الحياة وهي تمضي من دوني» ص19 ، فالحياة وهي تستدعي وعي الشخصيتين عبر التذكر المنظم تتوقف عند التاريخ في مرحلة الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والبدايات الأولى لاستقلال المغرب.. رصد لأحداث تاريخية واقعية، بتجاوز للسرد التاريخي الموغل في التفاصيل والجزئيات، ولكن باستثماره كآلية لتحقيق التطور الزمني، ومعنى ذلك أن الرواية تنحاز للزمن السردي على حساب الزمن التاريخي من موقع البحث عن تطور الشخصيات ونموها.
«الحياة من دوني» منجز روائي باذخ بعوالمه وبشخصياته وبلغته التي استطاعت احتضان حوار التخييل والمعرفة وبرهنت على أن أزمنة العنف الساكنة في قلب التاريخ الإنساني يمكن أن تكون ملهمة لعمل فني إذا تم الانتباه لمعمارية النص، ليس بالمفهوم الذي تحدث عنه جيرار جنيت ولكن بالفهم الذي تشيد فيه الرواية جماليتها ضمن فضاء يتسع لاحتضان هذا البناء الشامخ الذي تتقاطع فيه كل مكونات الإبداع خصوصا اللغة والمتخيل.