همدان زيد دمّاج
شاعر وروائي يمني
كلما هاجمني الخوف أشعر ببطني تنقبض، وها هو حلقي أصبح جافًا من كثرة الصراخ، والشمس بدأت بالمغيب. أشعر الآن بالعطش والجوع. أتلمس شفتي التي قتلها الظمأ، وأمسح ما تبقى من آثار الدموع على خدي. أتأمل أصابعي. متى كسرتُ ظفر إبهامي؟ لا، ليس مكسورًا، بل مخلوعًا بكامله! لم أشعر به ولا بأي ألم!! ماذا يعني هذا يا إلهي؟! تكورتُ على نفسي وحاولت البكاء، لكنني لم أستطع.
* * *
لا أعرف كيف سقطتُ إلى هنا، إلى هذه الحفرة المختبئة بين الحشائش والأشجار والتين الشوكي، لكنني أعرف أنني كنتُ مغفلًا بما فيه الكفاية لتثق قدماي بالطين الذي تحتهما، وأنا أحاول الوصول إلى قصب الغاب، الذي وجدته لوحدي مصادفة بعد بحث طويل، بعد أن تمكنتُ من الهروب من أصدقائي الذين قرروا أن يتنمروا عليّ كلهم هذا الصباح؛ كلهم بلا استثناء… كما لو كنتُ طبلًا يقرعون عليه بعصًا غليظة في صبيحة يوم عيد! كان جلبُ قصبِ الغاب الطويل من منابته في دروب السيول، أو أسفل الشلالات، أحد النشاطات المتعارف عليها بيننا، نحن أطفال القرية، نقوم بها لا لحاجة للقصب الذي نغامر بأنفسنا من أجله، بل ربما لطرد الملل، أو لمجرد فعل شيء ما. نهبط المنحدرات الخطيرة فقط لنتباهى بعد ذلك بما حصلنا عليه من القصب، قبل أن نرميه في أول منعطف بعد أن نكون قد استهلكنا حاجتنا منه في اللعب.
كنا قد تراهنّا كالعادة؛ من يحصد أطول وأمتن قصبة هو الفائز، وسيدفع الآخرون قيمة البسكويت وعلبة العصير للفائز منا، الذي سيشتريها بكل زهوٍ من الدكان. لم تكن الجائزة هي دافعي للفوز، بل الانتصار على أصدقائي المتهكمين، الذين لا ينسون الإشارة بلؤم إلى أني أصبحت “ابن مدينة” منذ غادر والدي القرية للعمل في “تعز” قبل سنوات. قالوا لي ساخرين: “توقف! أنت ابن مدينة… لا تذهب بمفردك!… ستضيع!”، لكنني تجاهلتهم وانطلقت نحو الشلال كحصان جامح، تاركًا أصواتهم الزاعقة وراء ظهري. مغادرتهم في أسرع وقت، والابتعاد عنهم، كان هدفي الوحيد في تلك اللحظة، وقد نجحتُ في ذلك على أكمل وجه. صحيح أنني لستُ خبيرًا في إيجاد قصب الغاب، ولا في انتزاعه أو كسره، ولا حتى في معرفة جيده من رديئه، لكن هذا لا يهم!… المهم أنني ابتعدت بما فيه الكفاية… وسأعود منتصرًا!
كان والدي بالأمس قد وعدني أن يأخذني معه إلى المهرجان الذي سيقام اليوم في المدينة. إمام الجامع في الصلاة حثَّ الجميع على الذهاب، رغم اعتراض بعض المصلين. نعم، وعدني والدي أن يأخذني معه، وهذا ما فعله آباء أصدقائي أيضًا؛ لكنهم في الصباح رفضوا اصطحابنا معهم، في انقلاب مفاجئ، أو ربما انقلاب معتاد. بعضنا أصرَّ على الذهاب ولو مشيًا على الأقدام، لكن الأغلبية رضخوا للأمر الواقع، وربما كان هذا سبب غضبهم الذي تحول إلى المزيد من التنمر عليّ، كما لو أن والدي هو الذي أقنع آباءهم بذلك الانقلاب الخسيس!
لم أكن قد شاهدت أطول من هذا القصب في حياتي. تلفتُّ يمينًا وشمالًا لأتأكد أن لا أحد غيري هنا. كان من الصعب سماع أي شيء سوى هدير مياه الشلال، وكانت أشعة الشمس تخترق سيقان القصب العملاق وتنفذ إلى عيني بشراسة، لكن يدي لم تعد بعيدة عن منابت القصب. مددت يدي إلى الأعلى أكثر، وخطوت إلى الأمام بحذر، وما إن لمستُ أحد سيقان القصب حتى تكسّرتِ الصورُ في عيني، وشعرتُ بي أهوي قبل أن يرتطم رأسي بالأرض، وأفقد الوعي!
كنتُ متكومًا وشبه مبتل عندما أفقت. لوهلاتٍ لم أعرف لماذا كنتُ في هذا المكان. كان صوت مياه الشلال صاخبًا، وأشعة الشمس تحجبها أوراق الأشجار والحشائش البرية في الأعلى. لم أكن أشعر بأي ألم. نهضتُ وبدأت أتلفت حولي مستكشفًا المكان. ليس هناك أي منفذ. الجدارُ الذي انزلقتُ منه مرتفعٌ جدًا، وزلِق، والجهة الأخرى مسيّجةٌ بسورٍ عريض وصلب من أشجار التين الشوكي والقصب والطلح والأشواك، مختلطة بعضها ببعض في تحدٍّ صارخ. لم يكن أمامي إلا محاولة تسلق الجدار الأملس المبتل. بعد محاولات فاشلة كثيرة انكسرتْ روحي، وبدأ الرعب يتسلل إلى داخلي. بدأتُ أصرخ بكل قوتي طلبًا للنجدة، مستغيثًا، لكن صوتي كان مثل ريشة تبتلعها مياه الشلال الهادرة. حاولتُ أن أخترق جدار الأشجار الشوكية، لكني تراجعت بعد أول قطراتِ دم سالت من يدي وساقي. روحي المنكسرة تشظت أكثر، ولم يكن لي من شيء آخر أقوم به سوى البكاء.
لا أدري كم مرَّ من الوقت وأنا متكومٌ على نفسي، لكن الدموع التي سالت على خدي كانت قد جفت. تنفستُ بعمق، وقلت في نفسي مطمئنًا أنهم سيبحثون عني، وينتشلونني من هنا دون شك، وسيعطفون عليّ، بل وسيواسونني، ويغدقون عليّ بالهدايا. والدي وأمي وعمتي “ملوك” سيشيدون بشجاعتي، وسأروي لأصدقائي الأوغاد في القرية، وزملائي في المدرسة، حكاياتٍ كثيرة، وبطولاتٍ سأخترعها، حتى وإن حاولوا التشكيك بها سأصرّ عليها، فهم لا يقدرون على إثبات بطلانها، أليس كذلك؟!… ارتسمت ابتسامةٌ ماكرة على وجهي، وبدأ ذهني يسحبني رويدًا رويدًا نحو خيالاتٍ لذيذة استطاعت أن تُحلّق بي عاليًا خارج هذه الحفرة، وأن تُسكت حتى هدير الشلال المزعج، وأن تتجاهل هذا الثعبان الذي يتلوى بين الأشجار… ماذاااا؟! ثعبااااان؟!… انطلقتْ قدماي كالصاروخ نحو الأعلى، وأصابعي نشبت أظافرها في الجدار الأملس، وبدأت أتسلقُ بجنون وأنا أشعر برئتيّ تكادان تخرجان من حلقي من الخوف.
كان جسدي مبتلًا تمامًا، ومنهكًا، وركبتي اليمنى تؤلمني، والجروح التي في يدي وساقي تشكل خريطة لجزر تائهة في المحيط. كنتُ قد استطعت الوصول إلى منتصف الجدار تقريبًا قبل أن تنزلق قدمي وأهوي إلى قاع الحفرة من جديد. نظرتُ بصمت نحو الأشجار، وتنفستُ الصعداء عندما لم أجد أي أثر لذلك الثعبان، بل وجدت بعض الحرادين تنظر نحوي وتهز رؤوسها الزرقاء وجذوعها الأمامية صعودًا وهبوطًا. يقولون إنها تصلي مثلنا نحن المسلمين، ولهذا ينهروننا عن رجمها. يقولون أيضًا إنها تخيف الثعابين، وهذا هو الأهم الآن، وما جعلني أتنفس الصعداء لرؤيتها. كاحلي التوى أيضًا. عرفت هذا عندما حاولت الوقوف على قدمي ولم أستطع، فجلست منهارًا، وما هي إلا لحظات وبدأت أبكي. رفعتُ رأسي إلى الأعلى وبدأت في جولة جديدة من الصراخ والاستغاثات المنهَكة.
الشمس بدأت بالمغيب. أشعر الآن بالعطش والجوع. أتلمس شفتي التي قتلها الظمأ، أبللها بمياه الجدار، وأمسح ما تبقى من آثار الدموع على خدي. أتأمل أصابعي. إبهامي الذي انخلع ظفره بدأ يؤلمني. انتزعت بعض أوراق “العُثرب” ورحتُ أداوي جروحي. شيءٌ ما في داخلي يقول لي بخبث: “لا فائدة”، فيسقط حجرٌ ثقيلٌ في معدتي، ويضيقُ تنفسي من الخوف. كان هديرُ الشلال يزداد صخبًا. نهضتُ على قدمٍ واحدة، ورفعتُ رأسي إلى الأعلى. كانت مياهُ الشلال قد زادت، وبدأ رذاذها ينهمرُ فوقي. أصخت السمع، أغمضتُ عينيّ وأصختُ السمع أكثر. لم تكن تمطر، لكن السيول قد تأتي من أماكن بعيدة. لطالما حذرونا من السيول المفاجئة. هل هذا صوت سيلٍ قادم يا ترى؟! مرتعبًا ألصقتُ جسدي وذراعي بالجدار وأنا ما أزال مغمض العينين. تنفستُ بعمق، وبدأت بالصراخ بشكل هستيري ومتواصل كالمجنون، قبل أن يزيغ عقلي ويغمى عليّ مجددًا!
استيقظت بهدوء، وتلفتُّ حولي. كنتُ نائمًا في مكاني ببيت عمتي “ملوك”، مغطى ببطانية ثقيلة، والظلامُ يلفُّ الغرفة، وصوت مطرٍ خفيف في الخارج بالكاد يُسمع. بصيصُ ضوءٍ كان يتسرب من فتحة الباب، ويتشابك مع الضوء الباهت القادم من قمريات النوافذ. كانت ركبتي تؤلمني، وقدمي الملتوية مربوطة بقماش يضغط عليها، وإبهامي الذي انخلع ظفره ينبض. تذكرتُ حينها كيف استيقظتُ في الحفرة على لطمات يدٍ خشنة، وكيف تم حملي فوق كتف أحدهم كما لو كنتُ كيسًا قطنيًا مبتلًا. أتذكر كيف وصلنا القرية التي كانت ساحتها مكتظة بالبشر وبسيارات توقفت بعشوائية هنا وهناك، وكيف كنتُ أحاول أن أطلب من الرجل الذي يحملني، والذي لم أعرف من هو، أن يبطئ قليلًا لأنني كنتُ أتألم، أو أن أسأله لماذا القرية مكتظةٌ بالبشر على غير العادة في مثل هذا الوقت، هل عادوا للتو من المهرجان؟ لكنه لم يكن يجيبني، أو ربما لم يكن يسمعني. كان يغذُّ السير، يريد أن يوصلني بسرعة، قبل أن يداهمنا السيل، إلى بيت عمتي الذي ننزل فيه دائمًا كلما جئنا إلى القرية. أتذكر كيف أنه ما إن وضعني عند باب البيت حتى تخطفتني أيدي أمي وعمتي، وهما يذرفان الدموع، وأدخلتاني فورًا الغرفة. كنتُ سعيدًا بهذا الاستقبال، وبدأتُ أتخيل ما سألاقيه من اهتمام بعد ذلك، وارتسمتْ على وجهي ابتسامةُ رضى لا حدود له. أعطتني أمي منشفة وطلبت مني أن أخلع ملابسي المبتلة، وأخرجتْ من الصندوق الحديدي الملون في أسفل الغرفة ملابس جديدة. أكلتُ “الفتوت بالمرق” الذي قدموه لي بشراهة، وشربتُ كأس الشاي بسرعة، وما هي إلا ثوان حتى تساقطت جدران جفوني، وغلبني النعاس.
مرَّ الوقت ولم يأتِ لرؤيتي أحد. تجرأتُ ودستُ على قدمي الملتوية فلم تؤلمني كثيرًا. عندما اقتربت من الباب بدأت أسمع أصواتًا مختلطة وبكاء، بل وعويلَ نسوة. خرجتُ من الغرفة واندهشتُ عندما رأيت البيت مكتظًا بنساء القرية. كان باب البيت مفتوحًا، والناسُ يدخلون ويخرجون، وبعض صبية القرية يتلصصون بجانبه، ولم يكترث لوجودي أحد. بحثتُ عن أمي وعمتي في المطبخ فلم أجدهما. لاحظتُ أن باب الغرفة المجاورة كان مشرعًا، وكان هناك زحام حوله. اقتربت بهدوء، وتلصصتُ من الباب دون أن يشعر بي الواقفون بجانبه. كانت هناك جثة ملفوفة بقماشٍ أبيض تتوسط الغرفة. عرفت وجهها من بين مشاقر الريحان التي أحاطته. امتقع وجهي وهوى قلبي!… كان أبي، وكان مبتسمًا، وعلى نصف وجهه الذي بدا مترهلًا ظهرتْ آثارُ كدماتٍ ونزيف. اقتربتُ من الجثمان، وقبل أن أتمكن من لمس وجهه انتشلتني يدُ أمي وقد زاد نحيبها في تلك اللحظة. متصنمًا نظرتُ إليها، ثم حولت نظري نحو الآخرين قبل أن ألتفت إلى وجه أبي. حاولت أمي أن تقول شيئًا، وبعض النسوة حاولن احتضاني، لكنني استطعت أن أتخلص من حضن أمي ومن أيديهن وخرجتُ من الغرفة، ثم من البيت، وانطلقت إلى ساحة القرية لا أشعر بشيء، ولا ألوي على شيء.
قيل لي كثيرًا كم كنتُ محظوظًا أن وقعتُ في تلك الحفرة التي أخفتني عن عيون وآذان أصدقائي، الذين بحثوا عني ليخبروني أن آباءنا قرروا أخيرًا أخذنا معهم إلى المهرجان. بحثوا عني لفترة طويلة، لكنهم اضطروا إلى العودة خائفين من أن تفوتهم السيارات المستعدة للرحيل. قيل لي كثيرًا كيف انتظرني أبي، لكنه تحت إلحاح أصدقائه اضطر أن يرحل معهم لكي لا يتأخروا عن المهرجان. قيل لي إن جثث أصدقائي كانت آخر الجثث التي استطاعوا أن يتعرفوا عليها، وكيف أن القرية فقدت ثلاثة من رجالها وخمسة من أطفالها ذلك اليوم المشؤوم. قيل لي كثيرًا كم كنتُ محظوظًا أن وقعت في تلك الحفرة، وكيف كتب الله لي عمرًا جديدًا؛ لكنني، وبعد كل هذه السنوات، كلما فكرت في الأمر ينتابني شعورٌ عميقٌ أن تلك الحفرة لم تفارقني أبدًا، وأنها دائمًا بداخلي… وإلى الأبد!
الهوامش
في 12 سبتمبر 2006، نقلت وكالة «رويترز» عن مصدر رسمي يمني أن خمسين شخصًا على الأقل قتلوا، وأصيب أكثر من مائتين، في حادث تدافع أثناء المهرجان الانتخابي لمرشح الرئاسة على عبد الله صالح، الذي حضره ما يزيد على مائة ألف شخص في ملعب مدينة إب وسط اليمن. وقالت الوكالة إن من المرجح أن يكون سبب التدافع هو انهيار أحد مدرجات الملعب بسبب ضغط الجماهير لحظة خروج صالح فور انتهائه من خطابه الانتخابي. وأفادت مصادر أمنية وطبية بأن معظم القتلى هم من الأطفال وتلاميذ المدارس، وأن جثث القتلى شوهدت ممددة على أرض الملعب إلى جانب أشخاص غابوا عن الوعي، فيما كانت سيارات الإنقاذ والإسعاف تهرع إلى مكان الحادث.