سمير اليوسف
“إنما من طبيعتنا الحركة” يقول باسكال، “الهدوء التام هو الموت.”
هناك من الناس ممن لا يطيقون البقاء في المكان نفسه إلا لفترة قصيرة، ثمّة دافعٌ غامض يدفعهم إلى الحركة، إلى الرحيل والانتقال، من مكان إلى آخر. ما الذي يوقد رغبتهم في الانتقال والرحيل؟ لماذا يكرهون الاستقرار إلى هذا الحد؟ ما سرّ رهاب (فوبيا) الاستقرار هذا؟
( 1 )
“على قلقٍ كأنّ الريح تحتي” يقول المتنبي في عبارة من أروع ما كُتب في تصوير رهاب الاستقرار، هو الذي قضى حياته متنقّلاً من إمارة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
” هيا بنا أيّها الطريق! أنا عابرُ سبيلٍ لا أكثر” يقول أرثر رامبو، شاعر آخر لا يقلّ عبقريّة عن المتنبي، سيُعاني منذ وقت مبكّر من رهاب الاستقرار ويشرع في التنقّل والارتحال منذ سن الخامسة عشرة وحتى وفاته وهو في السابعة والثلاثين من العمر.
“ما الذي أفعله هنا” عنوان كتاب لروائي وأحد كبار كتّاب “أدب الرحلات”، البريطاني الراحل بروس تشاتوِّن، وهي عبارة مأخوذة من إحدى رسائل رامبو.
تشاتون كان مصابًا بـرهاب الاستقرار أيضاً. لم يكن يستطيع البقاء في مكان واحد، بيت أو وظيفة، لمدة طويلة. شعور غامض كان يحضّه دائما على السفر.
تشاتون أبدى عناية خاصّة بمجتمعات الرحّل والمهاجرين. جمع عنها الكثير من المعلومات وكتب عنها، وهو لم يقصد جماعات الرّعاة التي ترحل طلباً للكلأ والماء لأجل الماشية؛ وإنما الجماعات الأخرى، التي لم تكن الدوافع الطبيعية والماديّة وحدها ما يحضّها على الانتقال والرّحيل؛ وإنّما طقوس دينيّة وثقافيّة غامضة الطبيعة والمصدر.
بحسب تشاتون؛ فإن البشرية في عصورها الأولى كانت جماعات رحالة ومهاجرة، وإن الاستقرار حصل لاحقًا مع اكتشاف الزراعة ونشوء القرى والمدن، بما أدّى إلى الموت التدريجيّ لمجتمعات الرحّل، ولم تبق منها سوى الجماعات التي ما زالت تعيش في الزمن البدائي.
تشاتون هو مؤلف كتاب “خطوط الأغنية” وهو يقع ما بين الرواية وأدب الرحلات. وفيه يروي وقائع بحثه في ثقافة الارتحال والتنقل عند الأستراليين الأصليين من خلال اتباع ما يُعرف بـ “خطوط الأغنية”، كما سنشرح لاحقاً.
ولكن المثيرَ في هذا الكتاب- الرواية، ما ينطوي عليه من مقالات قصيرة واسكتشات واستشهادات متنوعة كان تشاتون جمعها ودوّنها في دفاتر ملاحظات على مدى عقدين من الزمن تتعلق بتاريخ الارتحال وثقافته.
في واحدة من هذه الاسكتشات، يعود تشاتون إلى الرواية الدينيّة لأصل الصراع ما بين نمطين من الحياة والثقافة، الاستقرار والارتحال. الصراع الأول في تاريخ البشرية، الصدام ما بين قابيل، المزارع، أي المستقر، وهابيل، الراعي، أي المتنقّل الرحالة. المستقر يقتل الرحّالة، كما نعلم، ثم يكون مصيرُه هو أيضاً التّيه في البريّة تكفيراً عن جريمة قتل أخيه. بهذا المعنى سواء انحدرنا من الأب القاتل أو المقتول فنحن أبناء أب مُرتحل، أو تائه في البرية، متنقل.
وهناك من يعزو الارتحال إلى حاجة اللقاء بالمقدّس. مثلاً، بحسب القول الشعبي، “الحركة بركة” أو “في الحركة بركة”، بما يعني أن ثمّة مصادقة إلهيّة في حركة الإنسان، ولكنّ الحركة المقصودة تبعًا لهذا القول هي حركة ذات غاية عمليّة وهدف معيشيّ.
وعلى ما بلغنا، فإن صلاة الفجر بالنسبة للتاجر، في بعض المجتمعات الإسلامية التقليدية، هي بمثابة فاتحة نهار العمل. التّاجر يؤدي صلاة الفجر في المسجد ثم يتوجّه إلى متجره في البازار. أن يذهب إلى السوق مباشرة من دون أداء صلاة الفجر فهو كمن يذهب إلى السوق من دون أن يحمل مفتاح متجره في جيبه. الرزق سيكون ممتنعاً عليه.
هذا الربط ما بين السلوك الإنساني الذي يسعى نحو الرزق والكسب والفائدة وما بين البركة، بمعنى المباركة أوالمصادقة الإلهية، سيبدو من قبيل توظيف البشر للمقدس في خدمة غير المقدس، للدين في سبيل الدنيا. هذا على الأقل هو التأويل العلماني الوضعي المنهجية. وليس ثمّة ما هو أبعد عن الحقيقة من ذلك.
ونحن إذا ما قمنا برحلة من المجتمعات الإسلامية التقليديّة إلى الطرف الآخر من العالم، تحديدًا أستراليا؛ سنرى بأن الحركة هي بالأصل إلهية، روحيّة الغاية، وأن الفائدة العملية الإنسانية هي مجرّد نتيجة من نتائج هذه الحركة.
( 2)
هناك عند الأستراليين الأصليين علم اسمه “خطوط الأغنية”. إنه أشبه بعلم جغرافيا القارة الأسترالية، وتعود أصوله إلى آلاف السنين، وحتى الآن يتم تناقله شفوياً وعمليًّا من جيل إلى جيل. إنه علم الحركة والانتقال في سياق رحلة روحيّة ترمي إلى اقتفاء أثر أرواح الأسلاف الذين خلقوا الأرض والحيوان والنبات، يقوم بها كلّ جيلٍ من الأجيال وفقًا لـ “خطوط الأغنية”.
ففي كل منطقة ثمّة أغنية تدلّ على الطريق. والرحالة يمشي ويغني الأغنية، وتبعاً لكلمات الأغنية وموسيقاها، يواصل السير أو ينعطف شمالاً أو يميناً إلى أن تنتهي الأغنية فتكون نهاية منطقة فتبدأ منطقة جديدة وأغنية جديدة، وهكذا.
يمشي الأسترالي الأصلي، اذاً، ويُغنّي ويستدلّ على الطريق من خلال الأغنية في سياق رحلة حج غايتها اقتفاء أرواح الأسلاف. وهناك في كل منطقة موقعٌ مقدّس، وعنده يؤدي الرحّالة، أو الحاج، طقوسًا دينية معينة، ثم يستأنف الرحلة. وفي سياقها يحصل على ما يقيم أوده من طعام وشراب.
العلماني، صاحب المنهج الوضعي، سيزعم بأن غاية الرّحلة هي البحث عن أسباب البقاء، الطعام والشراب والدفء. أما البحث عن المواقع المقدّسة فهي مجرّد ذريعة من أجل اتباع الطريق الصحيح، جيلاً بعد جيل، للحصول على أسباب البقاء. وما استخدام الأغنية إلا لأنّ الأسهل هو حفظ الأغنية وتذكرها، من حفظ جملة معلومات جافة. تُدرج المعلومات الضرورية في سياق الأغنية فيسهل استعادتها واتباعها في السير على الطريق الصحيح.
العلمانيّ هو عموماً مؤمن بالتطوريّة، وأن السلوك البشري في الأصل لا يختلف عن سلوك الكثير من الكائنات الحيوانية. والكثير من فصائل هذه ترتحل من مكان إلى آخر طلباً لأسباب البقاء الماديّة المجرّدة.
بالنسبة للعلماني فالحيوانات مجرّد كائنات دنيا في هرم الكائنات الحيّة. لا تتمتع سوى بغريزة البقاء، وربما القليل من العاطفة تجاه بعضها بعضًا؛ ولكن الحيوانات، أو بعضها على الأقل، ليست كذلك بالنسبة للاستراليين الأصليين أو غيرهم من أبناء الثقافات الطوطمية. إنّها كائنات ذات روح ودلالة رمزيّة بالغة الأهمية بالنسبة لوجود الإنسان. طبعًا العلماني لن يتورّع عن إيجاد تفسير عقلاني لهذا الموقف البدائي من الحيوانات يربطه بالحاجات الضروريّة للإنسان.
المنهج الوضعيّ الذي يتبعه الباحث العلماني بإخلاص دينيّ الطابع هو منهج تصغيري النزعة ومن ثم فشل، في غير مناسبة واحدة، في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية. مثلاً لماذا نزعت بعض المجتمعات نزعة البحث عن المقدس في حين لم تفعل جماعات أخرى؟ ما الحاجة إلى تعقيد المسألة إذا كان الأمر يتلخّص بالبحث عن أسباب البقاء؟ إلى ذلك هل حقاً أنّ الحيوانات غير الناطقة هي بسيطة بساطة الأدوات البشرية التي تقوم بوظيفة يحددها الصانع البشري؟ أليس في هذا من “المركزية الإنسانية” ما ينمّ عن جهل وتحاملٍ يستدعي إعادة النظر؟
( 3 )
لم تختفِ حالة رهاب الاستقرار. الرغبة في الرحيل والانتقال من مكان إلى آخر ما انفكت تنتاب الأفراد، وإن بدوافع وغايات متباينة. فكرّ بالرحالة الكبار مثل ابن بطوطة أو ماركو بولو، بل فكّر بيسوع المسيح وتلامذته يجوبون أرض فلسطين، أو بشاعر مثل باشو أو نرفال ورامبو، كما سبق وذكرنا، برجال الدين التبشيريين ورحالة الشرق البوذيين، تي اتش لورنس وغاندي وتشي غيفارا ومئات غيرهم. بعضهم ارتحل طلباً للمغامرة والمعرفة، وبعضهم نشراً لدعوة دينية أو استجابة لغاية الروح في عدم المكوث بمكان واحد أو من أجل قضية سياسيّة ما.
قد تكون الدوافع والغايات المعلنة والواعية هي وحدها دوافع الرحيل والانتقال من مكان إلى آخر؛ ولكن ماذا لو كان ثمة دافع أعمق غوراً من كافّة الدوافع المعلنة والواعية؟ إن هذه الأخيرة مجرّد تبريرٍ عقلانيٍّ لمخالفة مجتمعات الاستقرار وثقافة الاستقرار؟
لماذا نرحل، إذاً؟
ربما عودة إلى الأصل المؤنث، مثلاً؟
“تضيق بنا الأرض” يقول محمود درويش، “تحشرنا في الممرّ الأخير/ فنخلع أعضاءنا كيّ نمر/ وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. يا/ ليتها أمّنا/ لترحمنا أمنّا.”
كالعادة، الرائع درويش يسخو بإفشاء السرّ وحلّ اللغز.
الأرض تضيق بنا وتحشرنا وتعصرنا. فما الذي نحس به حينما يحدث كل ذلك؟
نحس بالاختناق طبعاً. حينما نحس بالاختناق نبادر إلى الحركة، نرحل عن المكان الذي يخنقنا، ننتقل إلى مكان آخر طلباً للهواء. وقد نحس بالاختناق في الأماكن الخاصّة أو العامّة، وأيضًا في المنزل ومع العائلة والوظيفة والزواج والعلاقة العاطفية أو الاجتماعية والحزب السياسيّ والوطن نفسه.
لترحمنا أمّنا! المقصود لترحمنا الأرض. الأرض تُسمّى الأم، ومن هنا المصطلح الشائع “الأرض الأم”. مناشدة درويش للأرض، طالباً الرحمة، يضعنا على مشارف السؤال الآتي:
هل الأرض هي الأم حقا؟ أم أن الأم هي عنصر آخر من العناصر الأربعة (التراب والماء والهواء والنار) ماذا لو أن الأم ليست هي التي تخنقنا فنفرّ منها، وإنما من نطلبه، ونفرّ إليه هرباً من الاختناق؟ ماذا لو أنّه الهواء؟
في كتابها “نسيان الهواء في فلسفة هيدغر” تجادل الفيلسوفة النسويّة الفرنسية لوسي ايرغاراي بأن هيدغر قد نسي أهمّ عنصر في الكون، وضرورة الكون، بمعنى أن نكون، وهو عنصر الهواء.
كان الفيلسوف الألماني الكبير قد تكلّم عن نسيان سؤال الكون في الميتافيزيقيا الغربية منذ أفلاطون وحتى ظهوره هو المخلّص. هيدغر جادل لأجل تكريس الغائب من خلال الكلام على السّكن والإقامة، وغني عن القول، الاستقرار، أي المكان أو الفضاء وفي النهاية الأرض حيث في تربتها تضرب الشجرة جذورها (وللأشجار والجذور مكانة لا تعلو عليها مكانة في فلسفة هيدغر) ولكن لماذا نسي، أو بالأحرى، تناسى الفيلسوف الكبير الهواء؟
لأنّ الفلسفة للمذكر والهواء مؤنث. والمذكر دائما يسعى إلى قتل أو إقصاء المؤنث وفي أحسن الأحوال استعباده بما يخدم مآربه. لقد تمّ استبعاد الهواء من الفلسفة، ليس فقط منذ أفلاطون وإنما ما قبل ذلك. طاليس هو فيلسوف السائل، الماء، هراقليطس المتحرك النار وبارمنيدس الصلب الثابت، الأرض. ولكن لا فيلسوف هناك للهواء.
ولكن لماذا الهواء مؤنث؟
لأنّه مثل الأم، بمعنى المؤنث للأم، عطاء متواصل من دون حساب أو مقابل. بخلاف التراب والماء والنار التي يجب أن ندفع ثمنها، الهواء نستخدمه بشكل متواصل ومن دون حساب، ومن دون أن نعطيه أيّ شيء بالمقابل. بل إننا نادراً ما ننتبه لوجوده، إنه غير مرئي. ونحن إذا نتحرك، نغادر أو نرحل، وننتقل من مكان إلى آخر، إنما نفعل طلبًا للهواء؛ طلباً للأم.
( 4 )
والحركة متمثّلة في فعل الانتقال، طلباً للمقدس أو لأيّ غرضٍ آخر، نجدها ذات أهمية استثنائيّة لدى الإغريق أيضاً في زمن ولادة العقلانية الغربيّة.
يتجلّى ذلك بشكل خاص في شخصيّة هرمس، إله الحركة الانتقاليّة، الرسول والشفيع. هو الذي انتقل من طبقة الآلهة إلى عرق البشر، ورعى بعنايته كل حالة انتقال للثروة والحظ والنوم والخصوبة، تخصيب الحيوانات مثلاً، أو كل من انتقل، أو نقل أشياء، بطريقة أو بأخرى: المسافرون والتجّار ينقلون الأموال والسلع، والمترجمون الذين ينقلون النصوص من لغة إلى أخرى؛ بل وحتى اللصوص الذين ينقلون المال من جيب إلى آخر. راعاهم هرمس بعنايته السماوية.
العالم نهرٌ في حالة حركة مستمرّة بالنسبة لهرقليطس والعقلانيين الإغريق. هذ الحركة قد تكون طبيعيّة أو طوعيّة؛ وفي كلا الحالين لا مفرّ منها مجاراةً منا لتدفّق الحياة نفسها. لا شيء يبقى على حاله بفعل التحام أو صراع العناصر المضادة في الطبيعة أو يبقى مكانه بفعل الجريان والتحوّل.
هيرقليطس كان متأثّراً بشدة بأعمال هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة. وعلى الأرجح فإن تأثره بملحمتي هوميرس هاتين هو ما أوصله إلى فكرة أن العالم أشبه بالنار، من حيث صراع العوامل المضادّة، والنّهر، من حيث الجريان المتواصل؛ ومن ثم كان الخلوص إلى مفهوم الصيرورة.
وفكرة الصيرورة كان لها أثرها الكبير في الفلسفة الغربية خاصة عند هيغل ونيتشه. نيتشه بالتحديد، طالما أن البعض يرى بأن نظرية “العود الأبدي” ما هي إلا تطوير لفكرة الصيرورة. نيتشه، بحسب هيدغر، هو هيرقليطس القرن التاسع عشر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هيرقليطس ذاته ما هو إلا نيتشه العصور السابقة لأفلاطون.
نيتشه كان نصير الشاعر ضد الفيلسوف، أو بالأحرى الشاعر الفيلسوف ضد الفيلسوف العقلاني، وتحديدًا سقراط. أعاد الشعر إلى عالم الفلسفة بعدما حكم أفلاطون عليه بالمنفى، وحياة البرية.
وفي البرية يهيم الشعراء، على ما يرد في القرآن الكريم:
“ألم تر أنّهم في كل وادٍ يهيمون” (سورة الشعراء)
في النهاية؛ معظم الناس تستخدم ما يقع في متناول يدها من معاجم ومجازات. الشعراء وحدهم من يترفعون عن الاكتفاء بما هو في متناول اليد فحسب. لهذا نراهم، على ما تذهب الآية القرآنية، في كل واد يهيمون؛ فمن البرية يأتي المجاز الجديد.
الشعراء وحدهم من يمتلكون الشجاعة، شجاعة المجنون، لكي يتجاوزوا حدود اللغة المتداولة، ويغامروا متوغّلين في عالمٍ ما انفكّ حرّاً من الملكيّة الخاصة للأفراد والجماعات.
واللغة لا تتجدد وتتطور إلا من خلال ولادة مجازات جديدة. هذه المجازات تصير تدريجياً جزءاً لا يتجزأ من اللغة؛ أي تصير المعنى الحرفي. ذلك أنّ المجاز هو أصل اللغة. الله حينما علمّ آدم اللغة، إنما، بحسب الآية القرانية، علّمه الأسماء. الأسماء مجازات. الاسم مجاز للشخص أو الشيء: هذا آدم، رجل، هذه حواء، امرأة، وذاك إبليس، ملاك متمرد.
وحده إبليس الذي يحظى باسم وصفة، أي مجازين اثنين. إبليس الملاك، المتمرد أو الضال، هو الذي تمادى وتجاوز الحدود المرسومة. والشاعر في سعيه إلى ابتكار مجازات جديدة إنما يتجاوز الحدود القائمة، ويحذو حذو الملاك المتمرد.
لا غرابة أن الله يكره الشعراء. وكذلك أفلاطون.
فيلسوف العقل اليوناني ما كان ليثق بمن يهيم في البريّة سعياً خلف مجاز جديد. الحكمة، ذروة المعرفة النقيّة، اليقينية، عند أفلاطون، إنما هي نتاج العقل القادر على استخدام سلاح الجدل المنطقي؛ لذلك وقف أفلاطون على باب “الجمهورية” وهتف: ابق في الخارج، في البرية، يا سيد هوميروس! ادخل يا سيد سقراط!
سقراط، الفيلسوف العقلاني، استطاع أن يبيّن كيفية الحصول على المعرفة الصادقة بواسطة الجدل المنطقي. أما هوميروس، الشاعر، المسرحي، المغني والممثل، فلم يستطع أن يفسّر مصدر معارفه، الخيال. بالضبط كيف يستقي الخيال معارفه؟
حينما تمرّد الملاك ورفض أن يسجد لآدم تذرع بزعم أن النار أفضل من التراب. والملاك المتمرد من نار بينما آدم الإنسان من تراب. فمن أين أتى الملاك بهذا الزعم الحكم أن النار أفضل من التراب؟
ليس بواسطة الجدل المنطقي حتما! الخيال ربما؟ ما المجازات التي تثيرها النار والمجازات التي يثيرها التراب؟
النار: النور، الدفء، الحركة، التطهير، الفاعل، المهاجم، السلاح .. الخ.
التراب: السواد، الظلام، البرد، العجز عن الحركة، المتلقي السلبي، المفعول به.. إلخ.
الملاك المتمرّد أول من ظفر بمجاز إضافي، جديد، وأول من بحث عن مجاز جديد مستخدماً الخيال.
هناك الله، إذاً، والمتشبهين به، من حيث السعي إلى اقامة الفردوس على الأرض، شأن جمهورية أفلاطون. وهناك الملاك المتمرد والذين يحذون حذوه، الشعراء، في سعيهم التمرّد على اللغة المرسومة مُسبقاً.
( 5 )
نيتشه مرة أخرى!
كان التّفكير الفلسفي والكتابة عنده متساوقان مع الحركة، المشي. حتى في السنوات الأخيرة من حياته، بعدما استبدّ به الجنون والعجز الجسماني، بحيث لم يعد قادراً على الحركة، من دون الاستعانة بكرسي متحرك، كان من الضروري أن يُنقل على شرفة البيت من مكان إلى آخر.
لأسباب صحيّة؛ وهو بعد في سن الرابعة والثلاثين، استقال نيتشه من منصبه في جامعة بازل كأستاذ كرسي دراسات فقه اللغة الكلاسيكيّة. ولعشرة أعوام بعد ذلك عانى الفيلسوف الألماني من أمراض مختلفة أبرزها الصداع النصفي وضعف في النظر بلغ حد فقدان القدرة على القراءة. راتبه التقاعدي المتواضع كان مصدر رزقه المادي الوحيد بما اضطره للعيش حياة شظف.
بعد عشرة أعوام لم تعد معاناته تقتصر على الأمراض الجسدية فحسب؛ وإنما طالت قواه العقليّة أيضا، لذلك فقد قضى الأعوام الستة الأخيرة مصاباً بالجنون.
حياته الفلسفية لم تتجاوز أكثر من عقد واحد أنتج خلاله بعض أهم الأعمال الفلسفية في تاريخ البشريّة. وعلى رغم حياة الفاقة والمرض التي كابدها إلا أن فلسفته كانت، سواء على مستوى التعبير أو المعنى أو المنهج، تمجيدًا للقوة ضد الضعف للأمل، ضد اليأس، للهجوم، ضد التراجع، ولتحطيم الأوثان عوضًا عن الخضوع لها، وطبعًا نظريّات جديدة وخطيرة شأن “الإنسان الأعلى” و”العود الأبدي”.
لم يتورّع نيتشه عن الإحالة إلى حياته الشخصية. وكتابه الأخير “هذا هو الإنسان” هو بمثابة سيرة ذاتية فكرية مقتضبة من خلال الكلام على مؤلفاته. لكن فلسفة نيتشه لم تكن مجرّد ردة فعلّ على ما كابده من ألم جسمانيّ أو حاجة مادية.
لا فيلسوف من قبل أولى الجسد الإنساني الأهميّة التي أولاها نيتشه له. التأكيد على أولويّة الجسد حكّم فلسفته في شتى المواضيع التي عالجها، الميتافيزيقيا والأخلاق وعلم الجمال والدين والعلم الحديث. ولكنّ الجسد بالنسبة لنيتشه لا يقتصر على مركب فيزيولوجي ولا هو المضاد للروح، وحتماً ليس الأدنى منها. وليس أيضًا المضاد للعقل أو التفكير. الجسد هو المرساة التي تتعلق بها كافة الحقائق والمزاعم والتصورات المعنية بالروح والعقل والذات والهويّة الشخصيّة واللغة والأحكام والمعتقدات.
نيتشه كان نصير الشاعر ضد الفيلسوف، أو بالأحرى الشاعر الفيلسوف ضد الفيلسوف العقلاني، والكثير مما كتبه دوّنه في دفاتر ملاحظات بينما كان يمشي. أحيانًا كان يمشي ما لا يقل عن خمس ساعات في اليوم الواحد.
الجسد بالنسبة لنيتشه لا يعنى السكون ولا الثقل، وحتماً لا يعني الانحدار. نيتشه كان فيلسوف الأعالي بالمعنى الحرفيّ والمجازي على السواء. وأنت لا تبلغ الأعالي، قمم الجبال أو الفلسفة، إلا بالحركة. بالمشي والوثوب وتسلّق الجبال والطيران.
الجسد أيضاً يعني الخفّة والرّشاقة والرقص، أي الفن. نيتشه كان من أهمّ العقول الفلسفيّة التي أنتجتها البشريّة غير أنّه كان عاشقًا للفنّ (خصوصًا الموسيقى) وفناناً. هو صاحب المقولة الشهيرة “لولا الموسيقى لكان الوجود الإنساني خطأً كبيرا”. ولم يسلم من شرّ نقده أحد إلا من تمتّع بأسلوب أدبيٍّ جميلٍ مثل شكسبير ورالف إيمرسون وهاينرش هينه. كان حريصاً على كتابة أسلوب أدبيّ يضاهي أسلوب الأدباء أنفسهم، وقد أصرّ دائماً أنّه، إلى جانب هينه، أفضل من كتب النثر باللغة الألمانية.
في الحقيقة نحن حينما نقرأ نيتشه حتى في الترجمة (العربية أو الإنكليزية) لن نستطيع أن نتجاهل العناية التي أولاها لأسلوب التعبير. في عبارة نيتشه ما يشبه مجازات حركة الجسد نفسه، المشي والوثوب وتسلق الأعالي، وعلاوة على كل ذلك، الرقص.
( 6 )
مشّاء مهم آخر هو الشاعر الفرنسي ارثر رامبو، كما أشرنا من قبل.
“دعنا نذهب، أيها الطريق! ما أنا إلا عابر سبيل لا أكثر” يقول رامبو ولعلّ في هذا القول ما يلخص حياة الشاعر الشخصية والشعرية. يظهر فجأة ويختفي بسرعة في الحياة والكتابة على السواء.
أُصيب رامبو برهاب الاستقرار باكراً ومدفوعاً بهذا الداء قام بأول رحلة وهو ما زال في الخامسة عشرة من العمر. وتوالت حالات التنقل والارتحال داخل فرنسا ثم القارة الأوروبية وأخيراً أفريقيا متنقلاً ما بين اليمن وأثيوبيا.
الانغماس في الشعر، الكتابة والتعبير، كان أيضاً بمثابة التعبير عن رهاب الاستقرار والرغبة في الرحيل. حياته الأدبية القصيرة كانت فصلاً من مغامرة الارتحال المتواصلة، بالمعنى المجازي الخيالي، والواقعي معاً. ومثل عابر سبيل ظهر في الحياة الأدبية الباريسية واختفى ومثل عابر سبيل دخل تاريخ الأدب لفترة قصيرة اختفى وان بقيت أعماله طبعاً. فبخلاف اي عابر سبيل آخر، أو ما يشي به مصطلح عابر سبيل، فإنه ترك أثراً لا يُنسى سواء في الوسط الأدبي أو تاريخ الأدب. هذا الرحالة المغامر كان صدامياً فظاً ومتهوراً بحيث أخاف من التقى بهم. علاقته مع الشاعر فرلين كانت صاخبة ومضطربة وانتهت بإطلاق فرلين النار عليه، بما أدى إلى جرحٍ في ذراعه، بينما دخل فيرلين السجن.
أما أعماله الأدبية، ومع أنّها باهرة ورياديّة، فلقد كانت حصيلة جهد لم يتجاوز خمسة أعوام. ولعل أهمها “فصل في الجحيم” القصيدة الطويلة التي كتبها وهو لم يبلغ العشرين بعد.
“فصلٌ في الجحيم” هي أشبه بمنولوج شكسبيري طويل. إنها أقرب إلى مسرحيّة الشخصيّة الواحدة. تتراوح ما بين الشعر والنثر وتتأرجح ما بين السيرة الذاتية والتاريخ ما بين الخيال والواقع ما بين الخرافة والحقيقة، المسيحية والوثنية، الشرق والغرب .. الخ.
ثمة في العبارة حركة انتقال متواصلة في اتجاهات مختلفة ومستويات متباينة، مرّة في السماء وأخرى في المجارير. المتكلّم لا يرسو على أمر أو صورة أو حكاية لأكثر من فقرة واحدة أحياناً. متابعته تشبهُ متابعة حركة نحلة أو فراشة، تنتقل من زهرة إلى أخرى، إنها حركة العاجز عن المكوث في مكان واحد لوقت طويل. الخائف خوفاً مرضياً من الاستقرار.
يمكننا أن نقرأ “فصل في الجحيم” كتعبير عن الحالة النفسية لمؤلفها. ويمكننا أيضاً قراءتها كنص تمكن مؤلفه خلاله من تحويل حالة الخوف من الاستقرار إلى عمل أدبيّ ريادي رائع.
والنص ينطلق من تقرير حقيقة أن المتكلم، كان سعيداً، مستقراً، في يوم من الأيام؛ إلا أنّ جرثومة اخترقت روحه وجعلته عاجزًا عن الرضا بالحياة في الوطن. النتيجة الانزلاق إلى عالمٍ كابوسيٍّ لا نهاية له، وحيث الأمور تحصل بسرعة البرق ومن دون منطق أو نظام. إنّه عالم السواد والدم والجريمة واللعنة والجنون حيث تتلاشى الحدود التي تفصل الأمكنة عن بعضها بعضا، أو تميّز عصرًا عن آخر، وتختلط الصفات والقيم.
الشاعر هو نبيل المنحدر، مرة، والوضيع مرة أخرى، وثني النزعة ومسيحي، أوروبي ولكن منتهى رغباته الهروب إلى الشرق، في اليقظة والنوم، البرد والحرّ. هذا الكابوس هو الذي أراد الشاعر أن ينهض منه، أو يخرج من سجنه، وأن يمضي مضي عابر السبيل. وهو عبر في النهاية؛ ولكن إلى الموت.
مات رامبو بعدما بُترت ساقه، وصار عاجزاً عن المشي والترحال والتنقل. إحدى آخر العبارات التي نطقها، متحسّراً على عجزه عن الحركة، قوله لشقيقته: “أنا سأهبط إلى باطن الأرض بينما أنت ستظلين قادرة على أن تمشي في الشمس.” وقبل موته بدقائق توهّم بأنه كان سائراً، مغادراً ثانية، منتقلاً من هرر في أثيوبيا، إلى عدن، في رحلة أخرى في الشمس التي منذ البداية غذّ الخطى باتجاها.