-1-
بنصفِ يقينٍ ، ونصفِ شك ، وبدرجة سماحيّةٍ تتأرجح في فراغِ واسعِ .. سترفعُ سكينكَ المثلوم الحدّ في وجهِ الريح ، وسترجوها أن تشحذها لك ، .. فمن الغباء أن تدخل هذه الحرب ، وأنتَ عنقٌ أعزلٌ .. في غابة أنصال . !
هذا المساء ستتأكد من جاهزيتك .. فبعد نصف شكٍ .. ونصف يقين .. ستقرر أن تدخل هذه الحرب ، ستقول الآن :
ـ مضى عليك ما مضى ـ أيّها الشقي ـ من سنين ، وأنتَ ترفلُ في أحلامك ، جسدكَ المكسو بالقصائد سيعرى بعد قليل .. أحلامك الموزّعة بالتساوي بين هوسك بالكتب ورائحة الورق القديم ولوحات الانطباعيين وسيلان الغناء البائد .. وصفقات الخمر المسائية وأصدقاء تضبط الزمن على حضورهم الحميم في خرائبِ أيّامكَ ( ربّما لم تكن خرائبَ قبل هذا المساء ) ؟
الآن فقط .. ستتأكّد من طغيان حضور هذه المرأة ذات النمشات النائسات على خدّيها في حياتك .. وستعرفُ وكمن يتفاجأ بخبرٍ طازجٍ أنَّ ثمّة كتلتين عزيزتين قد سلختهما منك .. وصارا طفلين ..؟
( في الحرب .. يغدو الحب أكثر إصراراً على الظهور .. وتبدو الأشياء المركونةِ في عتمةِ أناك أشدُّ وخزاً لك ) ..
هذا المساء إذاً أخذتُ قراري … وربّما وطئتُ أو أكاد ـ أرض الحرب ـ .. وسأبادل هذه البلهاء قصائدي وكتبي وذاكرتي المتخمة بالكلام وألوان الانطباعيين .. بنصلٍ لامع الحدّ .. تشحذهُ ريحُ رابع ابريل على مهل …
-2-
ذلك الذئب الذي هو فيك .. كان ولم يزل عصيّاً على الترويض ، المدينة الوادعة ، وصباحاتُ الأصدقاء ، وكتابة الشعر وأنت ترد على أسئلة الزبائن عن اللبن الخالي من الحموضة والبيض البلدي .. بيدٍ توثقُ أكياس الحليب وتشدُّ أعناقها جيّداً .. وبالأخرى تكتبُ أشياءً تضيعُ منكَ بعدَ قليل .. هذا الكمُّ من السنوات وأنت ترفلُ في جنّة هذا الفصام ..
( ذئبٌ حبيسٌ في دكّان ) .. التوصيفُ الأكثرُ صواباً لِما أنتَ عليه !!
على مقربةٍ منكَ ، أناخت الحربُ رحالها .. أربعٌ وأربعونَ سنةً لم تكن تكفي لتمنعَ ذلك الذئب أن يعودَ لِما خُلقَ من أجله ..
يكفي أن يشتمّ .. لكي يفترس ..
يكفي أن يرى .. لتشتعل جمرتا عينيه ..
يكفي أن ينقطعَ حلمهُ .. ليدخلَ في أتونِ دمِ فرائسه …
إنها الحربُ إذاً .. شهوةُ الموت بذيلٍ مقعيِ تجلسُ أمام ناظري ذئبٍ كهل !!؟
-3-
لطالما سألني .. والحرب في المدينة تطرقُ بإلحاح شحاذٍ على الأبواب .. !
ـ ألن تسافر ؟
لم آخذ الكثير من الوقت لكي أجيب ..
ـ الذئابُ لا تتركُ أماكن صيدها أبداً !!
-4-
الحربُ بدأت منذ زمن .. وقبلَ قليلٍ .. وقليلٍ فقط .. قررتُ أن أكونَ فيها ..
منفضةُ السجائر التي هي أمامي الآن .. تركتُ فيها معظمُ حروف الأبجدية تشتعلُ وادعة في سكينة حتفها ..
لا يلزمني منها في الحرب سوى حرفين أو ثلاث ..
هو بالضبط ما يلزمُ ذئبٌ كي يعوي على قمّة موت .. ليلة اكتمال قمر !!
-5-
حلمتُ هذهِ الليلة أنني أتخبّطُ وحدي في قيءِ حيوانٍ منقرضِ ، ..
من حجم بركة الهلام التي كنتُ فيها .. علمت كم هو هذا الكائن ضخم ..
حموضةٌ وبقايا فرائس ودمٌ فاسدٌ … بعوضٌ بحجم غراب يلعقُ ما بدا من جسدي ..
في الأحلام أيضاً .. يمكنك التذكّر ..
في بركة الفرائس المتعفّنة كنت أتذكر شطراً من بيت لا أعرف من قاله :
( وصوّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ )
فصلٌ آخرٌ سَيُروى عن مأثرةِ ما أنجزناه ..
” … إنها الحربُ إذاً ” … !!
-6-
بادلتٌ هذا اليوم ، ـ ومن دون دفع أي زيادة – ..
مؤلفات ـ ديستوفسكي – الكاملة بكتاب ؟ المِلل والنِحل ؟ للشهرستاني ..
.. أوّلُ صفقةٍ رابحةٍ لي في أتون هذه الحرب !!
-7-
صبيحة الأوّل من ابريل ..
صديقي المهاجر قبل عام إلى ألمانيا ..
على عجلٍ قال لي :
ـ أنا بخير .. طمنوني عنكم …
ضحكت قبل أن أجيبهُ … سؤالهُ وجوابي سيكونان أول كذبةٍ أتبادلها مع أحد في صبيحة كذبة أوّل ابريل …
-8-
ربّما اختار بعضهم أن يسمّيها هجرة ..
وآخرون فراراً ..
والبعض رحيلاً ..
مزاد الكلام في صبيحة مجالدة الناس في الدكّان يبدأ بها .. وكذلك ينتهي ..
ـ بألفي يورو تكون في تركيا والوصول مضمون ..
ـ من هنا وبفيزا نظامية وعن طريق لبنان ستكون في صربيا وبـ 3500 يورو فقط .
ـ حفيدي هذا اليوم حادثنا على السكايب وعدّ من الواحد وحتّى العشرة بالألمانية .
ـ السويديون أعطوا زوجتي وأطفالي أحذيةً يحلمُ بمثلها رئيس البلاد !!!
….
…..
أجالدُ هذا الكلام بفضيلة الصمت …
وأنا أقلّبُ المفاتيح الصفراء في يدي معلناً لهم أن الإغلاق قد حان ..
وفي الطريق إلى البيت .. كنتُ شجرةً يابسةً ومئةُ نقار خشب يعملُ فيها هذا الشيء الجهنمي الذي في مقدّمة رأسه …
-9-
كلّما احتضرَ الليل .. وأوشكت السماءُ على الدخول في خضرتها .. أتلصصُ على الحرب من ثقبٍ في باب بيتِ الذاكرة المتهدّم ..
أقطّعُ ساعات الليل لكي أنتظرُ قدومها وأرقبها وهي تأتي متعبةً وتخلعُ ثيابها ورائحةُ دمٍ بشريٍ تفوحُ منها ..
هذا الصباح رأيتها وللمرّة الأولى وحيثُ لم يكن ذلك الثقب اللعين صلة الوصل بيننا ..
رأيتها ولم تكن في فاصل تبديل ملابسها ..
كانت عاريةً كالرحمة .. وأمامي تماماً وكما خلقها الله ..
( أتسائل عن الجدوى التي أرادها الرب من خلقهِ لها ) ..
أطرقتُ ولم أجرؤ أن أنهب من فتنة عريها .. عيناي كانتا تعدّان الحصى في المسافة التي تفصلُ بيننا ..
بثقةَ احتمال الموت قالت لي ..
ـ أيّها الجبان .. من رامَ وصالاً لا يتلصص ..
نظرتُ إليها .. وكان ذراعاها ممدودان نحوي .. كانا طويلان ولأثرهما أثرُ دمِ طريدةٍ جريحةٍ على التراب ..
… وأردفت ..
ـ الوصالُ أيّها الوغد أن تكون الآن بين ذراعي .. وأنا حينها من سيتلصص على قلبكَ ومن ثقبٍ صغيرٍ وصغيرٍ جدّاً .. في أسفل ويسار صدرك .. !!
( ربّما أصغر من ثقبِ باب بيت الذاكرة المتهدّم ) .
-10-
رأيتُ البشرَ غابةُ يابسة ..
ورأيتُ الحربَ حطّاب ..
متعبٌ لا أجرؤ أن أرتاحَ على قاعدةِ جذع ..
مقرورٌ لا أجرؤ أن أشعلَ عود ! .
-11-
الحربُ ميلان الاحتمالات ..
في تلك الصورة العتيقة التي لي معها ..
ستكون خلفي .. وأكون أمامها ..
باسماً سأبدو لحظة الالتقاط ..
باكياً سأكون لحظة إيقاف الزمن … !
-12-
ليس من قبيل المصادفة أن تكون رحلة ـ قدموس ـ الباحث عن أخته ـ أوربّة ـ .. من ذات المكان وذات الطريق وفي نفس البحر المجدور بنفس الجزر .. قد عادت للحضور الآن ..
لم يغرق قدموس في رحلة ذهابه ..
الآن .. وفي سبعٍ ليالٍ وستةِ نهارات بقين من ابريل 2015
غرقَ هذا المأفون في طريق إيابه المقلوب .. وتركَ لنا صورةً شمسية له ولأخته ـ أوربة ـ باسمين خلفَ علمٍِ غريب ناصع الألوان .. يرفرفُ في إحدى الساحات … !
-13-
سأموت الآن ..
وبعد ألفٍ من السنوات .. ولن يكون قد بقي من رميم جسدي سوى كلامٌ أثيرٌ عن الحرب كان عصيّاً على الدود وتقادم الحقب ..
لم أقله حينها ..
لأنَّ تلك المأفونة التي تسمّى الحرب باغتتني بقبلتها العظيمة على فمي قبل أن أسكبه .. !!
-14-
لطالما أحببتُ مطر أوّل الصيف ..
هذا العام ..
شغلتني الحرب عن الاستمتاع بهِ ..
حتّى كدتُ أظنُ أن الغيمَ سقفٌ خفيضٌ فوق رأسي ..
وحبّاتُ المطر ..
دمٌ يسيلُ من أجسادٍ معلّقةٍ مابين رحمة الأرض .. وجور السماء !! .
-15-
ستنتهي الحرب ..
حمامةٌ أطلقتها من نافذة قمرة سفينتي بعد سبعة أيامٍ وسبع ليالٍ من طوفان الدم ..
هي من أخبرتني بذلك !!
-16-
سألتني ..
ـ أتكتبُ الشعر ..
وقدماك تغوصان في هذه الحرب ..
على عجلٍ أخبرتها ..
ـ كتب داوود أجمل مزاميره ..
ويداه تقطرانِ دماً ..
-17-
العلماء والشعراء ..
وفي منتصفِ كل خريف ..
ينتظرون وكشحاذين على قارعة طريق هبات مخترع الديناميت ..
….
….
الموسيقي الأصم ,,
والرسام الأعمى ..
والخطاط ذو الأصابع المقطوعة ..
ستطحنهم آلة الحرب ..
ولن يظفروا ..
ولو بشاهدة تعريفٍ على قبرهم المجهول المكان ..!ّ
-17-
زرعتُ شجرةً
قطعها أخي
كتبتُ قصيدةً
مزّقها ولدي
رسمتُ سماءً
قلبتها الحربُ على قفاها ..
كما يقلبُ النديمُ الثملُ طاولة الخمر ..
آخرُ توقيعي ..
( هذا هو كلُّ شيء ) *
(*) ـ من قصيدة للشاعر بروتولد بريخت .
-18-
في الحرب ..
الأمّهات يفقدنَّ أولادهنَّ
الزوجات يفقدن أكفّ أزواجهنَّ تنزلقُ على عُري أجسادهنُّ فيكتسينَ بالعشبِ الرطب ..
الحبيباتُ ..
يتركُ العشّاقُ الذين صاروا جنوداً على شفاههنَّ جمراتٍ باردة ..
نزيل زنزانتي قال لي ..
أنا لا أحبُ الشعراء ..
فهم آخر من يظهر في نهاية مسرحيّة الموت ..
ـ إنهم لا يفقدون شيئاً أبداً ـ !!
-19-
في منامي ..
أحببتُ امرأةً اسمها الحرب ..
كان بطنها ( راحُ حنطة ) ..
( وساقاها صنوبرتان ) ..
استيقظتُ ..
وقد هدّني الجوع ..
وقتلني البرد .. !! *
(*)ـ لنشيد الأناشيد خالص ودّي .
-20-
تحتَ تلكَ الشجرة ..
وفي الصيف ..
كتبتُ شعراً عن النماء والخُضرة والظلال المديدة
في الشتاء ..
وتحتَ ذات الشجرة ,,
كتبتُ عن النار ومتعة الحرق ..
وأيّامي التي ستغدو حطباً ..
……
إنها ..
إنها …
إنها الحرب !!
-21-
الزلازلُ
وكما الجنود قبل لحظة الهجوم
تراوحُ في مكانها ..
البراكين ..
بُرازٌ من نارٍ حبيس في أحشاء الأرض ..
الريحُ تضعُ يدها على مقبض الباب
ولا يهمها من سيفتحه لها ..
الأوبئةُ
طابعٌ لُصِقَ بإحكام على رسالةٍ موجهةٍ لمدرسة أطفال ,,
الحب ..
الحُب فقط ..
ماءٌ قليلٌ ..
والمدينةُ بأسرها صادية .. !!
-22-
في صندوق كارل ماركس السري
ومابين ركام أسطوانات موسيقا بتهوفن المدمجة
بين أمتعة كافكا ونهاية التاريخ
بين كل ما ادعينا من مدنيّة ..
وبحرص يهودي ..
أخفينا جيّداً
رايتي صفين المغبرّتين !!
-23-
في الحرب ..
تميلُ أحلامي باتجاه التجريد ..
ليس غريباً ..
فالفتوحات الكبرى في الفن
ولدت ما بين حربين ..
-24-
تمزج الحرب الألوان جيّداً ..
ولا تستعملُ الأزرق إطلاقاً ..
-25-
العصفور في الثكنة ..
ينقد فتاف خبز الجنود اليابس ..
في هذه الحرب
هو شريكٌ أيضاً ..
-26-
كلّما اقتربتُ من الخرافة
ابتعدتُ عن الحرب ..
-27-
لم أعرف من الحرب ..
سوى ارتباكي وارتجاف ركبتي ..
في اختبار جدول الضرب …
-28-
وقال لي
ـ أحزم حقائبك
فالحربُ على الأبواب ..
ضحكتُ حتّى آخر قدم جنديٍ مطبوعةٍ على ظهري
ـ عن أي أبوابٍ تتحدثُ يا هذا !!
-29-
في الحرب
تضيقُ البلاد
حلمي كذلك يتسع !!
-30-
قبل الحرب ..
كنت أضع عيني على الثقب
فأرى ..
بعد الحرب ..
الثقب غدا في عيني تماماً ..
عبدالله ونّوس