إذا كانت العلامة اللسانية عند سوسير، هي الدال والمدلول والجمع بينهما يفيد الحضور، فإنها في عرف دريدا شيء آخر، يحاول تقويض كل ما له صلة بفلسفة الحضور. ولتجاوز هذه الفلسفة، لا بد من إجراء عنف على فعل الكينونة في الجملة الآتية :
«لا نستطيع الإحاطة والتحايل عن إجابة (ما هي العلامة ؟) إلاّ إذا رفضنا شكل السؤال نفسه وبدأنا نفكر أن العلامة تكون هي هذا الشيء الذي أُسيء فهمه وتسميته»(١).
إننا إذن أمام انمحاء الدال الذي يبقي قابلا للقراءة في غيابه، لا في حضوره. فما هي دلالة هذا الغياب الذي لا يُدرك إلاّ كأثر ؟
بما أن العلامة غير وافية وناقصة، فإن ذلك يقتضي أن تُفهم على أنها تحت المَحْو(٭) Sous rature، وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها ؛ فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطّب عليها، فنحن نشطّب عليها لنشير إلى نقصها. ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة. ويقتضي الأمر ألاّ نأخذ فكرة محو أو تشطيب العلامة على نحو حرفي، بل على نحو إيحائي؛ فبنية المحو هذه، توحي بالغياب داخل نسيج العلامة بوصفها حضورا، بل عدم إمكانية الحسم فيما توحي به من مدلولات ورفض تثبيت أي دلالة ما ورُسوّها في نقطة محددة. ذلك أن وصف أنساق أو بنيات المعنى الكامن في العلامة انطلاقا من فرضية وجود مدلول نهائي، أمر تأباه طبيعة المعنى وترفضه بلغة رولان بارث. إذ لا وجود لعلامة يمكن أن نقول عنها إنها دالّ لشيء أزليّ ؛ فهي لا تتمتع بأيّة قيمة مطلقة، كما أنها لا تحيل إلى أيّ شيء متعالٍ ؛ فهي تخلق سراب المدلول، وأن كلّ ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثا عمّا تحتاج إليه. وتذكِّرنا بما تخفيه. ولهذا السبب فقد أصبحت أثرا. ولم تعُدْ ذلك التمثيل الصوتي أو الكتابي، الخطّي المحسوس للصورة الذهنية، بل الأثر الذي يعلن حضور ما هو غير كائن فيها، أي حضور الغياب. وتستطيع من خلال هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة وممارسة اللعب. وهكذا نقول إن العلامة أثر، وتحمل في أثرها قوتين هما : الإرجاء والمغايرة.؛ أي فعل الاختلاف Différance بلغة دريدا.
إلى جانب مفهوم الاختلاف (الإرجاء والمغايرة)، نحت دريدا سلسلة من المفاهيم تحمل في داخلها قوة على الخلخلة والتفكيك والقلب، وهي مفاهيم تندرج ضمن الاِستراتيجية الشّاملة للممارسة التفكيكية. وهذه الاستراتيجية، يلزمها تفادي الوقوع في شَرَك التقابلات الثنائية الميتافيزيقية وأن تقيم داخل النص الحامل لهذا التقابل عاملة على رجّه، وقلب سلاسله الهرمية. وقد أطلق دريدا على هذه المفاهيم: سمات الملتبِس أو ما لا يمكن حسمه Indécidables.
هذه الألفاظ ذات مرونة لامحدودة، ممّا يجعل منها هي الأخرى ألفاظا مشتتة، بحيث تعني هذا الشيء وذاك في الوقت نفسه.
فبينما يؤسس الفكر الميتافيزيقي منطقه على التقابل والتكامل بين الأضداد، يدعونا دريدا إلى الانفتاح على لعبة الاختلاف التي تعمل على تكسير وزحزحة البنيات العتيقة؛ بنيات النص الميتافيزيقي، والزيادة في تصدّعاته وإزالة حدوده. وفي هذا الإطار يقدِّم دريدا في كتابه «مواقع» شيئا يشبه تعريف سمات الملتبس أو ما لايمكن حسمه، ويصفها« بأنها وحدات سيمولاكرية أو خصائص لغوية، وإسمية ودلالية «خاطئة» لا تندرج ضمن المتعارضة الفلسفية (الثنائية). إلاّ أن هذه المفردات تسكن المتعارضة وتقاوم فعلها، بل إنها تُخلّ بنظامها دون أن تشكّل أبدا حدّا ثالثا ودون أن تكون مدخلا لحلّ ذي شكل جدلي/ تأملي يكون عبارة عن تركيب للمتناقضات»(٢).
وتشتمل قائمة ما لا يمكن حسمه على عدد لامتناهٍ من الألفاظ، وهي ألفاظ تخلخل كل ثبات داخل بنية التقابلات الثنائية؛ ومن أمثلة ذلك: الاختلاف، العلامة، البنية، النص، الكتابة، الأثر، وما إلى ذلك. ويشير دريدا إلى أمثلة أخرى نوردها على الشكل الآتي : « فالْ : Pharmakon ليس دواءً بقدر ما هو ليس سمّا وهو ليس الخير كما ليس الشر، ليس الداخل ولا الخارج، لا الكلام ولا الكتابة. كما أن الإضافة ليست شيئا زائدا ولا ناقصا، ولا هي بخارج ولا بتكملة للداخل، إنها لست جوهرا ولا عرضا.
والمهبل ليس هو الاختلاط ولا التمايز. لا هو هوية ولا هو اختلاف، ولا هو استهلاك ولا هو عذرية، لا هو حجاب ولا هو تعرية، لا هو بالداخل ولا هو بالخارج كما أن الحرف ليس بدال ولا بمدلول، فلا هو علامة ولا هو شيء، لا هو حضور ولا هو غياب، لا هو إيجاب ولا هو سلب والتباعد لا هو فضاء ولا هو زمن، كما أن البدء ليس هو الشمولية البدئية للابتداء أو القطيعة البسيطة ولا الثانوية البسيطة. إن بنية النفي المزدوج لا/ ولاNI/NI هي في الآن نفسه هذا وذاك»(٣).
تقيم هذه المفاهيم داخل النص، وتعمل على رجِّه، وهي استراتيجية تفكيكية تحاول تفادي التجميد البسيط للثنائيات الميتافيزيقية المتعارضة عبر قلبها وتفكيك بنياتها في النص. وهي مرحلة أساسية في بناء النص لأنها مرحلة تحليل لانهائي. كما أنها لا تميل إلى اتجاه دون آخر، بل تقوم في التمفصل القائم بينهما ؛ أي إنها تضمّ الاتجاهين معاً وتفصل بينهما في الوقت نفسه، فوظيفتها التّمييزية وكيفية اشتغالها، إنما تظهر في منطقة « المابين »، بتفكيكها لمواضع جوهرية في النص. إنها بنيات الكشف التي تفصح عن آثار الفعل الاختلافي، لأنها بمثابة ؛ «بؤر تكثيف اقتصادي وأمكنة مرور ضروري لكثير من السمات. إنها حفر أكثر فورانا كما أن آثارها المفرزة لا تنكمش على نفسها من خلال التعاطف المغلق مع الذات، إنها تنتشر على شكل سلاسل تشمل مجموع النص في جانبيه النظري والتطبيقي، كل مرة بشكل مغاير»(٤).
بناء على ذلك، تتطلع القراءة التفكيكية إلى :
ـ تحرير الدوال من مدلولاتها المعجمية وتحويلها إلى آثار عائمة منفلتة من هيمنة كل رقابة خاصة، لتقيم جسورا غورية تصِل الذات بالكينونة المتحجِّبة التي تفيض باشتياقات مختلفة، يُصبح النصّ معها كشفا رؤيويا عمّا هو منحجِب ومختفٍ عن الرؤية ؛ أي كشفا للذات المتوحّدة عن سواها. هذا الكشف هو بمعنى آخر، تفكيك لمعيارية اللغة وإعادة توظيف جديد يؤوِّل النص وفق نسق تتهاوى فيه الفروق، وتتلاشى الأضداد. وبذلك ينفتح النصّ، ويُصبح غير قابل للتّمركز وذا وجود معلّق بين دالّ حاضر ومدلول غائب. إنما النص حضور وغياب، وجود ونقص، وباستحضار الغياب وإتمام النقص، يصبح حقيقة ذات أبعاد لامتناهية، ويتأسس معناه ؛ وعلى القارئ أن يشيّد ويمدّ الجسور في مساحة الفراغ بين دوالّ تعوم، ومدلولات سابحة، فالنص شعراً كان، أو نثراً بما هو غائب، لا بما هو حاضر، بدلالاته الإيحائية، لا بمعطياته التقريرية المباشرة. وهذا ما يحرّر الذات من هيمنة السلطوي الخارجي ويمنحها فرصة كتابة مأزقها/ عشقها في لغة الغياب. من ذلك مثلا قصيدة الشاعرة «وفاء العمراني» التي سنجعل منها نموذجا لتفكيك التقابلات الثنائية.
مَجْدُ الْعُرْي٭٭
١ ـ كُرْمَى لِقلبٍ يُسابق حُلْمَه
٢ ـ يراوِدُ المَدَى
٣ ـ يقودُ عاصِفاً باتجاه هاتف
٤ ـ لاَ يَبين
٥ ـ كُرْمَى لِرَبيعٍ توقَّدَ في الخَفْق
٦ ـ خِلْسَة
٧ ـ هو اللِّقاءُ المنذورُ مُقْبِل
٨ ـ يسْتَنْفِرُ الأُنْسَ البحري
٩ ـ يستدْنيني إلي
10 ـ يُعثرُني عَلي
١١ ـ يَفْرَغُ من السِّوَى العاثِرُ عليه
12 ـ يتزوَّدُ من لاَ زادَ له
13 ـ يتواعدُ من لا موعدَ له
14 ـ يلتقي من لاَ وطنَ له
15 ـ يَتَجوْهَرُ من لاَ عرْضَ له
16 ـ يَظمأُ من لاَ نبْعَ له
17 ـالملآن لا يظمأ
18 ـ الشَّبعانُ لاَ يجوع
19 ـ العَارِفُ لاَ يتوهْ
20 ـأقولُ جَسَدِي منبعُ كلِّ شيْءٍ:
21 ـسَفَرُ الألْوانِ / الأَمْداءِ
٢٢ ـالْجِهَاتِ / الْمسافاتِ
23 ـالشَّوْقِ / المَابَيْنِ
24 ـ سائلا،
25 ـ غمَّرَ الصَّفاءُ حَضْرَتي
26 ـ انْخَصَبَ السُّؤالُ
27 ـ انْوَجَدَ الحال
28 ـ صَادَقَني المُحالُ
29 ـ سَارَرَني مَا لاَ يَنْقَال
30 ـ دعَوْتُهُ فاسْتبان
31 ـ حوَّطْتُهُ فاسْتباحَ
32 ـ اسْتَسْرَرْتُهُ فانفصَحَ
٣٣ ـ اسْتَوْثَقْتُهُ فانْحَلَّ
34 ـ اسْتَأْمَنْتُهُ فاسْتَعْرَى
35 ـ هُوَ الْجَسدُ الْواجِدُ المُنْوَجِدُ والْوَجْدُ
36 ـ اللاَّقِي الْمَلْقِيُّ واللُّقْيَا
37 ـ الرَّائِي الْمَرْئِيُّ والرُّؤْيَا
38ـ اِسْتوَى الغَجَرِيُّ على المَلَكوت
39 ـ انْبَسطَ الوِعاء
تحاول القصيدة، اجتياز حاجز المألوف وشرخه، لِتَلِج عتبة الكشف التخييلي الذي يحتفي وينتشي بلغة منفلِتة من أيّ سلطة / لغة ميتافيزيقية تحجبه وتحاول أسره. هذا الكشف عمّا هو مُحتجب يمرّ عبر قناة الجسد (وبشكل أخصّ عبر عُريه)، ليس بوصفه معطى فيزيولوجيا ظاهرا،بل في كونه هامشا يحفل بأكوان تأويلية لامتناهية، وبأبعاد رمزية تكسِّر كلّ ما له صِلة بالحضور.
تحاول الشاعرة استقراء الجسد بما هو رسم لمعالِم كينونة مقيمة في الزمان والمكان لا كتسلسل خطّي، بل بوصفه انوجادا ومطاوعة للوجود ؛ أي من واقع لا يمكن من خلاله حسم داخل / خارج الوجود. الجسد يتمدّد في الوجود بوصفه فعّالية مُنتِجة وفاعلة ومنوَجِدة داركة لوجودها بوصفها لُقيا في العالم. ومن ثمّ تتولّد وتتناسل رؤية الجسد المنفتِحة على تقابلات لامتناهية:
هو الجسد الواجد المُنْوَجِدُ الوجدُ
اللاَّقِي الملْقِيُّ اللُّقْيَا
الرَّائي المرئيُّ الرَّؤيا
وهذه إشارة فيما يبدو إلى المُستهلّ الذي يمكن من خلاله العبور إلى تفكيك نصّية الجسد عند الشاعرة بالتركيز على ما هو ثاوٍ خلف لغته،ومُحاولةِ تناوُلِهِ كنسق متصدّع دالٍّ على قُدرة الدّوال في الكشف والاكتشاف، في أُفق إعادة تشييد وبنية نسق شعري مُختلِف يُعادُ إنتاجه داخل فضاء تأويلي لامتناهٍ من خلال حضوره كأثر ينتج دلالاته انطلاقا من تشكّلات خطابية ترميزية لامتناهية تُحيل إليه كوجود متعدّد ولامتناه. وتخلخل البنية الدونية التي تزدري الجسد وتحتقره وتُعطي الأولوية للروح عليه(٭٭٭).
ولاوجود للجسد خارج اللغة التي تُعبِّر عنه والتي يعبِّر هو الآخر من خلالها وعبرها، فالجسد يسكن اللغة، والشاعرة هي المسؤولة عن هذا المسكن. يقول جيل دولوز: «لقد فتح سبّينوزا طريقا جديدا نحو العلوم والفلسفة وكان يقول: نحن لا نعرف حتى ما يستطيعه الجسد، إننا نتحدّث عن الوعي والروح ونثرثر حول كل هذا، لكننا لا نعرف ما يقدر عليه الجسد وما هي قواه»(٥). لذا نُلفي الجسد عند الشاعرة تقويض للتقليد الميتافيزيقي اللاّهوتي الذي أسّس وطوّر التمييز بين الجسد والروح،تكسير لهذا التقابل إذْ يقودنا بترنّحاته إلى اختراق أفق الدلالة من خلال هذه القصيدة التي تجعلنا نُدرك الحوار الداخلي الذي يؤسس لشعرية تأويل الجسد بوصفه ذلك الآخر الذي يسكننا:
أقولُ جَسَدِي منبعُ كلِّ شيْءٍ:
سَفَرُ الألْوانِ / الأَمْداءِ
الْجِهَاتِ / الْمسافاتِ
الشَّوْقِ / المَابَيْنِ
اللاّفت للنظر في هذه الأسطر هو فعل القول «أقول» متبوعا بالدّال جسد مقترنا بياء المتكلم التي تحيل إلى «الأنا» بوصفها ذاتا تمتلك جهازا مفهوميا قادرا على اختراق ظواهر الكون وتفكيك مركزيته انطلاقا من الجسد كهامش، لا ليصبح هذا الأخير مركزا بل لتجعل منه الشاعرة موقعا ممكنا للكتابة وفضاء فعليا للنص والتفكيك والمساءلة.
إن اللاّتناهي هو الأصل المتكرر للجسد. فالأشياء التي تقوم عليه تستمدّ حيويتها ونبضها من هذا الأصل المتكرر. وهنا تشير الشاعرة إلى كون هذه الأشياء هي من صنع الجسد لا بوصفه أصلا، بل في متاهاته المتكررة التي تخلقها هذه الأشياء نفسها (سفر الألوان ـ الأمداء ـ الجهات ـ المسافات ـ الشوق ـ المابين). فالجسد بما هو عبور ورحلة لاختراق البصري، والزماني والمكاني والوجداني، يكون كذلك هو ما لا يمكن حسمه (Indecidble المابين. فهو يضع نفسه في النقطة البينية أو في الخط المائل القائم بين هذه الأزواج المتقابلة،بين : الروح / الجسد ـ الزمان / المكان ـ الأبيض / الأسود ـ القريب / البعيد ـ الاغتراب / الحنين الجسد يميل إلى كلّ اتجاه من دون أن يؤكّد هذا الجانب أو ذاك، ومن دون أن يقتصر على أحدهما، إنه يقع في «المابين». لذا فهو هنا يمارس لعبة مزدوجة حيث يعلن عن تخطّي وتجاوز ذاته ويفصح عن إضافته بأن يكون شيئا أكثر ممّا هو عليه حقيقة.
ما ينجم عن هذه العلاقة هو النظر إلى الجسد في أبعاده اللامتناهية وهو ما يُحفّز على قراءة استجلائية لمظاهره اعتمادا على إضاءة عُريه وبالتّالي كشف لعبة التَّماس بين الحرفية والاستعارية فيه.
إن الجسد قوة متحرّرة تتجاوز التقابلات المفهومية وهو في ذلك يمارس الإرجاء الدّائم والمغايرة الدلالية اللامتناهية عبر التشتّت الفضائي للغته بوصفها نسقا غير متمركز ولا مغلق،وبالتّالي فإن حقيقته أو معناه ليست إلاّ من نتائج المجاز والاستعارة، ممّا يصعب احتواؤه في معنى نهائي.
انْكشفْتُ لكَ وأنْتَ ظَنِّي
انْزَوَيْتُ بِكَ وأنًتَ ظِلِّي
انْكَتَمْتُ لَكَ وأنْتَ سِرِّي
جاسَدْتُكَ وأنْتَ عُرْيِي
مغزوّ هو الجسد بشكّه
إن غياب هذا المعنى النهائي في الجسد يفتح فضاء لا حدود له للعبة الغواية والشكّ والذّهاب بالذّات إلى مواقع الظّل، بقدرته أكثر على المراوغة الدائمة وكشف ما لا يقال أو ما يستحيل التفكير فيه،
صادقني المحال
ساررني ما لايقال
وفي هذا المنحى تعطي الشاعرة للجسد صورته الكشفية والاِستكشافية،وسلطته في تجاوز النّسق المعيار والمألوف بحثا عن الظّن في وضوح هذا الجسد متجاوزة كلّ يقينية وكل سلطة متمركزة حول المعرفة الكاملة والحقيقة التي تقدِّم نفسها مطلَقا. إذ يتمّ إحداث شروخ داخل هذا المتّصل continuum.
إن كتابة الجسد بهذا الشكل، من حيث كونه كتابة الظّن والظّل والسّر والعُري، هي كتابة تسافر نحو المجهول متمسّكة بهويته، لا، في وحدتها بل في اختلافها ولا تناهيها وتصدّعها، وهي كتابة مغامِرة تخترق الزمان والمكان والحال، وتبيح لنفسها التّرحال في تيهٍ أو متاهة تمنح الكينونة هويتها الضائعة والمفقودة.
لاَ الأيْنُ حدٌّ
لاَ الكيفُ تعرُّفٌ
لاَ المتى مسلكٌ
لاَ الخللُ سِراجْ
بهذا يرسم العري عند الشاعرة خطوط انفلاته ؛ فهو ينفلت من كل شيء هذا الانفلات ليس هو الهروب أو الفرار من شيء ما، وإنما هو استراتيجية واعية أو غير واعية تقوم فيها الشاعرة بالتنقّل والسفر ـ دون أن تبرح مكانها ـ في سيرورة هذا الجسد ومتاهاته، بحثا عن مناسبة التحام وانصهار أكثر التصاقا بمصيره.
تدفعنا متاهات الجسد هذه كذلك إلى اكتشاف لغة ولعب المفارقات الدلالية، التي تترك فجوة بين دوالّهِ وبين الأشياء التي تحيل إليها هذه الدّوال في العالم الخارجي. إن سمات الشكّ والسّر والعري هي وصف لحالات الجسد المشروخ في سفره اللامتناهي. هذا الشّرخ، يفصح عن رؤيا مولِّدة للعشق بكلّ توتُّراته، والعُري بكلّ لغاته،والانخراط في طبّوغرافية هذا الجسد، يقتضي فتق وهتك حجب مكنونات الأشياء.
« الْعِشْقُ خَطْوِي
والْعُرْيُ لُغَتي،
ومَنْ شاءَني،
فَلْيَفْتِقْ سُجُفَ الأشْياء»
إن الجسد الذي تعوّدت قِيَم المجتمع على ستره وحجبه، تُظهره القصيدة الآن عاريا ومُمَجَّدا في عريه ومنكشفا في ستره.
انكشف السّتر
ولعلّ استحضاره بهذه الصّورة يُحدِث في سلوكنا تحوّلا جذريا مفاجئا، وتغيّرا في تمثّلاتنا عن ذواتنا وعن الجسد العاري أمامنا وعن العالم أيضا. فحين يتحرّر الجسد العاري من اللباس كلّيا أمام أخلاقيات المجتمع التي عوّدتنا على ستره ـ باستثناء لحظتي الولادة والموت ـ معناه أن هذا الجسد يرغب في الانفتاح وتكسير كلّ السّلط القيمية التي تكبّله، ليصبح العري مُعادَلة وسطٍ بين الولادة والموت، بين الأصل والنهاية.
ربّما يكون هذا هو مُعطى عري الجسد المادي في أبعاده التقريرية المباشرة، أمّا بعده الإيحائي، فيكمن في فضح ما يسعى المجتمع لحجبه والتّستّر عنه، لذا فهو صورة للانفلات من سلطة الشعور وكشف اللاّشعور عبر بناء استيهامي. إن العُري هنا كشف وفضح للمخفي وقدرة على التفكير خارج المألوف والسّائد.
وهذا ما حاولت قصيدة «مجد العُري» أن تقوم بتشييده بفكّ سنن وخُدَعِ هذا المخفي من الجسد ومن اللغة كذلك، انطلاقا من لغة تمّ التركيز فيها على الغياب والاستعارة. إنها لغة مرتبطة بتوليد وإنتاج المعرفة العشقية الكاشفة عن نوع من الوجد في نفحاته الصّوفية. بفعل هذا تلج الشاعرة عالم الكتابة بوصفها لعبة واستراتيجية تدفع نحو المغامرة والعبور الشائك، تقاوم من خلالها زيف المعنى وسلطة الحقيقة في الجسد، وهي إذ تفكّك الجسد، فإنها تفكّك قِيَم وأنساق الكون وفقه، ومُنطلق هذه التفكيكية هو العُري بوصفه فعلا للتجلّي والتمكن من ولوج عالم الرؤيا، والتخلص من اللبس والستر الذي يظل حافزا دون إحساس الكائن بكينونته في هذا الكون. فالعُري بذلك هو تأويل لغوي، ومن هذا المنطلق اعتبرته الشاعرة لغة قادرة على اقتحام واختراق كلّ المتّصِلات.
العري لغتي
وحينما تعيّن الشاعرة العري كخاصية أساسية وممجِّدة للجسد فهي لا تعمل كما يقول بوفري « إلا على شرح قولة لهراقليط : إن ما يميّز الظهور هو الاختفاء( ) للإشارة إلى قوة ظهور الأشياء تلك القوة التي تختفي كلّما ظهرت الأشياء كأشياء »(٦).
مع هذه النظرة للجسد تصبح الحقيقة/ العري تكشفا لامتناهيا يخترقنا كاللمح محدِثا فينا ارتعاشا يقتلع الذات القارئة مِمّا تفكّر فيه، وتتهيأ لاستجابة من أجل ترك العُري يتكلّم في لغتنا. على هذا الأساس، العُري يتكلّم هو أيضا وليس الإنسان فقط.
إن العُري عند الشاعرة هو انبجاس للحظات الكشف. والكشف (الاستكشاف) حسب هذه القراءة لغة يبتكرها السفر والتّيه في لحظات المكاشفة. وهذا الكشف هو بمعنى آخر تفكيك لقواعد اللغة وتوظيفها من جديد بكيفية ما يتمّ من خلالها تفكيك الوجود وفق منظور تتهاوى فيه الفروق، ويتمّ استحضار ما لايمكن حسمه. ومن ثمّ يتأوّل ويصير العُري سترا ولباسا جسديا يُجاسِد الذّات والوجود معا.
جاسدتك وأنت عريي
لهذا إن كان دريدا قد ميّز كلاّ من الكتابة والفارماكون بوصفهما إضافة، وكما أن الكتابة والفارماكون هما ما لايمكن حسمه (سواء كانت الكتابة كلاما أو كتابة، وسواء كان الفارماكون سمّا أو ترياقا)، كذلك «مجد العري» هو ما لايمكن حسمه سواء أكان المجد في حقيقة العري أم في عري الحقيقة). فتفكيك «مجد العري» يعني البحث عن حدوده ومداخله، والبحث عمّا لم يُكشف تماما في التكشّف والبحث عن اللاّمرئي في المرئي. إن اللاّمرئي هنا تكمِلة وإضافة للمرئي.
والشاعرة بذلك تدخل منطقة الخطورة القصوى، تقوض المركزيات،تخلخل المفاهيم، تهزّ أركان النسق الفكري الذي يرتاح له الكثير. وما قالته إنما عبّرت عنه بلغة الغياب وليس بالحاضر في النص.
بمثل هذا ينشأ المختلِف الشعري، حيث تتقوض المركزيات، وحيث يتحول النص الشعري إلى وجود عائم في لغة لا تكفّ دلالاتها النصية عن التشتيت وقلب الثنائيات،لبناء هرم جديد تتم إزاحته بدوره، ولا يُسمح له أن ينصّب نفسه حقيقة.
على إثر هذا التحويل لمفهوم العلامة، تضحى كل الثنائيات الميتافيزيقية المتعارضة (دال / مدلول ـ محسوس/ معقول ـ كتابة / كلام ـ جسد / روح الخ)، مأزومة ومتجاوزة لأنها تقيم كل شيء على فلسفة الحضور التي تكون سابقة على الاختلاف، والمغايرة وأكثر أصالة منهما.
هوامش
٭ وفاء (العمراني): «مجد العري »، ضمن مجلة آفاق يصدرها اتحاد كتاب المغرب العدد ١ ماي ١٩٩١، ص: 67/ 69 القصيدة واردة في ديوان الشاعرة: «أنين الأعالي»
٭٭ استعار دريدا هذا المفهوم أصلا من هايدغر الذي تكلم عن الكينونة تحت المحو. فامّحاء الكينونة هو كتابة أثر الكينونة.
٭٭٭ تنبني هذه النظرة على أساس التقابل الثنائي جسد / روح وهي نظرة جعلت الإنسان كائنا موزعا بين السماء والأرض، الخير والشر، الحياة والموت، الفكر والواقع وكان أوّل من تمثّل هذه الصورة الرافضة لكلّ نسق مادي : سقراط وأفلاطون إذ تؤسِّس فلسفة هذا الأخير خاصة في «محاورة فيدر» بيانا نظريا يؤسِس لمشروعية إقصاء الجسد من فعل التفكير والتفلسف.
١ ـ Jacques ( Derrida ) : De La Grammatologie ; Editions De Minuit ; 1967 ; Page: 31.
٢ جاك ( دريدا ) مواقع ـ جاك (دريدا ) : مواقع / حوارات، ترجمة وتقديم فريد الزاهي، الطبعة الأولى،1992،سلسلة المعرفة الفلسفية دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، الصفحة ص : 45/46.
٣ ـ المرجع نفسه، ص : ٤٤.
٤ ـ المرجع نفسه، ص : 41.
٥ ـDeleuze ( Gille ) : Nietzsche et la Philosophie ,edition ; P.U.F , 1977 .Page : 44 .
٦ ـ عبد السلام ( بنعبد العالي ) : هايدغر ضد هيجل، التراث والاختلاف الطبعة الأولى 1985 دار التنوير للطباعة والنشر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الصفحة : 67.