لم تكن العلاقة بين مصر والجزائر مجرد شعارات متبادلة بين شعبين في مرحلة من مراحلها، أو زيارات بروتوكولية كما يحدث عادة بين الدول، بل كانت العلاقة متجذرة إلى حد بعيد على أرضية من الكفاح المشترك ضد كافة أشكال الاستعمار المتعدد والذي كان متنفذا في جسد المنطقة العربية والأفريقية بشكل متوحش، وكان هذا الاستعمار الذي يعود الآن بأقنعة أخرى، يعيش على نهب ثروات هذه الشعوب، من خلال توحش سياسي وعسكري واقتصادي، وكان الاستعمار الفرنسي يكثف كافة أشكال توحشه في الجزائر منذ قرن ونيف، وكان يعتبر هذا الأمر مهمة مقدسة، دون أي اعتبارات، مع تواطؤات دولية عديدة، دخلت في لعبة تقسيم ثروات الأمم، ومقدرات الشعوب،وكانت الجزائر مقاطعة فرنسية، تعود ثرواتها على أغنياء فرنسا، والعملاء الذين يتعاونون معها بالداخل، وقد ظهرت مؤلفات وكتب في مصر وغيرها من البلدان العربية عديدة، وإن لم تكن بالكثلفة التي ظهرت بها بعد عام 1954، ومن هذه الكتب التي ظهرت في الاربعينيات كتاب جاد للكاتب السياسي أحمد رمزي، وكان عنوانه «الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية»، وأسهب الباحث في الكتاب شارحا الاوضاع التي آلت إليها السياسات الاستعمارية في الجزائر، ومن خلال الفصول التي خصصت للجزائر كتب عن قصة الاعتداء على الجزائر منذ بداية الاحتلال، ثم كتب فصلا رائعا عن الأمير عبد القادر الجزائري، ثم اختتم الكتاب بفصلين عن المواجهة العربية للاستعمار، والثاني عن المواجهة الإسلامية لهذا الاستعمار، وقد صدر الكتاب عام 1948 عن دار «لجنة البيان العربي»، ولأن انتصار الجزائر فيما بعد وفي مرحلتها النضالية الأعنف والأكثر شمولا منذ نوفمبر 1954، كان انتصارا لكافة الشعوب المناضلة ضد الاستعمار وأعوانه، وقيادات هذه الشعوب، وكانت الدولة المصرية الفتية في ذلك الوقت، بقيادة جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو من أشد المناصرين لثورة الجزائر، وكانت الدولة المصرية تحتضن في ذلك الوقت كافة قيادات الحركات التحررية في العالم العربي، وكذلك كانت الحركة الثقافية والسياسية التقدمية المصرية تلعب دورا كبيرا في التعريف بالثقافة الجزائرية، وبالكتاب الجزائريين على نطاق واسع، وفي مجلات وصحف واسعة الانتشار، وبأقلام كتاب ومفكرين مصريين كبار ومؤثرين، وذي حضور ثقافي واسع بين الجماهير، وعلى رأس هؤلاء الدكتور طه حسين، وكان حضور طه حسين كبيرا في الثقافة المصرية والعربية، ومازال هذا الحضور يحظى باحترام وتقدير كبيرين، وبالإضافة إلى ذلك فطه حسين كان يكتب عن أعمال ذات قيمة عالية، وكان لا يعرف المجاملة، وعندما صدرت رواية الكاتب الجزائري «مولود معمري» الربوة المنسية عام 1952، وكانت الرواية تتعرض للعلاقة بين الجديد والقديم، وكان معمري منحازا ككاتب طليعي للعالم الجديد، دون كراهية للتقاليد والعادات والقيم النبيلة والأصيلة التي يحملها أهله، بل أنه كان متمسكا بهذه الأبعاد، شريطة أن تكون مناسبة للعصر الذي نعيش فيه، ولا تكون مناقضة له بأي شكل من الأشكال، لذلك فقد عانى من هجوم عنيف من بعض النقاد الكلاسيكيين، والذين كانوا منحازين بقوة للقديم تحت رايات الاصالة والدين وماشابه ذلك من ذرائع، فماكان من معمري إلا أن أرسل روايته للدكتور طه حسين، وقرأها العميد، وتحمس لها، وكتب مقالا نقديا رصينا ومنصفا للرواية،ونشره في أول يناير عام 1954 بجريدة الجمهورية، ثم أعاد نشره في كتاب «نقد وإصلاح» وصدرت طبعته الأولي في بيروت عام 1956، وقد لفت هذا المقال النظر للرواية فيما بعد، ولم يكن طه حسين يعرف مولود معمري على أي مستوى شخصي أو أدبي، أي أن المقال جاء لوجه النقد خالصا، يقول طه حسين في صدر المقال : (صاحب هذا الكتاب أخ لنا من أهل الجزائر لا أعرفه ولا أكاد أحقق اسمه الذي يحمله كتابه هذا مكتوبا باللغة الفرنسية)، وبعد أن يلخص طه حسين الرواية، وهو يعتبرها كتابا، حيث يقول : (الكتاب دراسة اجتماعية عميقة دقيقة مفصلة مستقاة تصور أهل الربوة هذه في عزلتهم تلك، وقد فرغوا لأنفسهم واعتمدوا عليها)، وبعد تحليل دقيق للرواية، وقراءة وافية يختتم طه حسين مقاله قائلا: (ما اشد إعجابي بهذا الكتاب الذي لا أنكر من أمره شيئا إلا أنه لم يكتب بالعربية، وكان خليقا أن يكتب بها، ولكن هذا عيب لا يؤخذ به الكاتب وإنما يؤخذ به الاستعمار، وما أكثر ما يؤخذ به الاستعمار من العيوب والذنوب).
وأظن أن هذا المقال لم يكن تعريفا بمولود معمري فحسب، ولا بروايته «الربوة المنسية» فقط، بل كان لفتاحادا لأدب يكتبه جزائريون، ولا يعرف المشرقيون عنهم شيئا، ولذلك تواترت الكتابة النقدية عن الكتاب الجزائريين والتعريف بهم بشكل واسع في محيط الثقافة المصرية والعربية ككل، وتضافرت هذه الحملة الواسعة التي تقوم بالتعريف بالأدب الجزائري، مع محاولات لترجمة نصوص روائية وقصصية وشعرية جزائرية، وأحيانا تتم ترجمة العمل الواحد أكثر من ترجمة، مثلما حدث مثلا مع محمد ديب الذي ترجم له المترجم والشاعر المصري محمد البخاري مجموعته القصصية «في المقهي» عام 1959، وصدرت عن سلسلة «كتب ثقافية» بالقاهرة، وأعيد ترجمة المجوعة نفسها في بيروت، وقام بترجمتها أحمد غرايبة عام 1964، وصدرت عن مؤسسة المعارف اللبنانية، كذلك حدث مع ثلاثيته، وقام بترجمتها الكاتب والدبلوماسي السوري سامي الدروبي، وكذلك قام بترجمتها الكاتب بهيج شعبان، هذا يدل على أن هناك حركة تعريف واسعة حدث في الشرق العربي عبر النقد والترجمة والصحافة، ولا نستطيع بالطبع في هذه الصفحات القليلة أن نلم بكل ذلك، لكنني سأحاول الإشارة إلى أبرز تلك المتابعات التي كتبت في مصر، وقام بها كتاب فاعلون، وعلى خطي طه حسين، وكانت أبرز هذه المحاولات سلسلة دراسات كتبها المفكر الذي رحل منذ شهور الدكتور أنور عبدالملك، وكانت هذه الدراسات في مجلة المجلة، والتي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الدكتور محمد عوض محمد،ففي العدد الثامن الصادر في أغسطس عام 1957، كتب عبدالملك تحت عنوان «أضواء على الأدب الجزائري» قائلا : (في الجزائر اليوم، وفي قلب المعركة التحريرية الكبرى، نهضة أدبيةتلعب دورا هاما في الحركة الوطنية الجزائرية، وفي إثارة الرأي العام العالمي ووعيه لفهم حقيقة هذا الشعب الشقيق الباسل الذي يابى إلا أن يحيا حياة مستقلة، إن معالم الأدب الجزائري المعاصر تحجبها عنا أنباء الدماء من ناحية، ودعاية الاستعمار المغرضة من ناحية أخرى، ولابد لنا، أن نبرز ما للأدب الجزائري المعاصر من خصائص مميزة تكاد تكون مزيدة في مجال الآداب المعاصرة)، ويستطرد عبدالملك قائلا : (ذلك أن السياسة الفرنسية الاستعمارية التي كانت _ولا تزال_ تعمل على إدماج الجزائر في فرنسا، وكأن الجزائر لا تعدو أن تكون ثلاث مقاطعات من مقاطعات فرنسا) ويستمر عبدالملك في طرح القضية الجزائرية بشكل موسع، وكما هو معروف، ولا يوجد مجال لاستعادته هنا، حيث أن ذلك صار من الكلاسيكيات السياسية، ولكن الملفت للنظر أن عبد الملك كتب ذلك مبكرا، وربطه بالقضية الثقافية والأدبية، ومحاولات التعبير عنه في الشعر والقصة والرواية، وكانت أولى تطبيقاته على الكاتب الكبير محمد ديب، هذا الكاتب الذي مساحة من التعريف والنقد واسعة جدا في مصر، وبعد أن كتب عبدالملك تمهيدا طويلا عن الأدب الجزائري، وارتباطه الجدلي بالقضية الوطنية، قال عن محمد ديب : (إنه شاعر أولا وقبل كل شئ فهو لا يرى الواقع كما هو، ولايصفه في ركوده، وإنما نراه دائما يتلمس الجوانب الوجدانية في هذا الواقع ليصوره لنا تصويرا حيا متأججا، ينفذ إلي قلوبنا، ويهز كيان القارئ، وهو كاتب واقعي بالمعني الدقيق، إنه لا يحلق بخياله في الفضاء، ولكنه يقف وقفة راسخة على أرض الجزائر، بين الفلاحين وأهله وعشيرته، يتحدث حديثهم، ويستنشق هواءهم، ويتألم آلامهم، ويكتب لهم وعنهم)، ويأخذ عبدالملك القارئ في رحلة مشوقة، غزيرة بالمعاومات، وعميقة وناصعة في التحليل، ثم يتناول في الأعداد اللاحقة أعمال مولود معمري ومولود فرعون، وأنا هنا لا أرى أن هذه الدراسات المجهولة تأخذ أهميتها من حيث ريادتها في الثقافة المصرية فحسب، ولا من زاوية أهميتها التاريخية، ولكن العمق الذي تناول به عبدالملك نصوص الكتاب الجزائريين، كان ملفتا للنظر، والزاوية الثانية، هي الأهمية التي صار يشغلها عبد الملك نفسه في الساحة الفكرية العالمية، ومن هنا أشدد على جمع هذه المقالات وإعادة نشرها للأبعاد المتعددة التي تمثلها هذه الدراسات في مجال النقد والتحليل للأدب الجزائري في بواكير نهضته.
وأظن أن قوة الدفع التي بدأت تغزو الحالة الثقافية العربية، واهتمامها بالأدب الجزائري عموما، المكتوب بالفرنسية والعربية على حد سواء، وإن كان الأدب المكتوب بالعربية كان مازال قليلا، ولكننا صرنا نرى اهتماما كبيرا راح يفرض نفسه على الصحف والمجلات المصرية، خاصة المجلات والصحف التي تنحاز بقوة للأدب والفكر الطليعي عموما، وسنلاحظ أن مجلة الرسالة الجديدة، وهي المجلة الثقافية التي كانت تصدرها الدولة الفتية آنذاك، وكان يرأس تحريرها الكاتب يوسف السباعي، اتخذت المجلة في الصادر في مايو 1958 محمد ديب شخصية العدد، تحت عنوان خبر وصورة، هذه الصورة – الببوتريه، جاءت مصحوبة بتعريف فخم ورصين، وبعد معلومات عن الكاتب يقول الخبر : (الفنان الجزائري الذي تعذب طويلا بمأساة كتابة أعماله ونشرها باللغة الفرنسية، سوف تحقق أخيرا له ثورة الجزائر حلما عاش يحلم به وتصدر له قريبا في المنطقة المحررة من الجزائر وباللغة العربية مجموعة قصصية «في المقهي».
ولأن الباب صار مفتوحا، واشتد عود الثورة الجزائرية، وكذلك اشتد الحقد الاستعماري المتمثل في السحق والمحو والإلغاء، وكان حوار الرصاص بين الأطراف المتعادية كثيفا، وعلى التوازي كانت المؤازرات الثقافية والأدبية والفكرية جنبا إلى جنب مع المؤازرات السياسية، ففي ديسمبر 1958 صدر كتاب عن سلسلة إقرأ التي أسسها الدكتور طه حسين في الأربعينيات، عنوانه «أدباء من الجزائر»، من تأليف الدكتور ابراهيم الكيلاني، تناول فيه الأدب الجزائري بالتعريف والنقد والتحليل، وقدم قراءات في أعمال محمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين ومولود معمري، وجاءت هذه القراءات لتضيف بشكل كيفي إلي ماقدمه النقاد والكتاب الذين خاضوا في هذا الحقل، مع العلم أن حركة الترجمة لم تكن بالقوة التي كانت سائدة في النقد والتعريف والتحليل، لكن كل هؤلاء كانوا يكتبون عن الأعمال الادبية لهؤلاء الكتاب في اللغة الفرنسية، وقدم الكاتب كتابه بمقتطفات معبرة من كتاب جزائريين، وكانت هذه المقتطفات تدل على أن هؤلاء الكتاب ينطلقون من منطلق يؤكد على الهوية القومية من ناحية، وعلى البعد الإنساني من ناحية أخرى، فنجد الاقتباس الذي يخص مولود فرعون يقول : (إن المهم عندي أن نجد آثار كتاب أفريقيا الشمالية أناسا من لحم ودم يشبهون الذين أراهم حولي)، ويقول محمد ديب : (يخيل إلي أن أدبا قوميا بكل ما في هذه الكلمة من معنى واسع وسخي في طور التكوين، وهذا ينطبق بنوع خاص على الجزائر)، وفي اقتباس ثالث يقول عامر جديرة : (الأدب مرجع ثابت، وكتاب جماعي يحوي صورا وعواطف وارتكازات، وباختصار هو انعكاس لروح الأمة)، كلنت هذه الكلمات مدخلا مناسبا لقراءة الأدباء الذين تناولهم الكاتب، وبالتالي كان تركيز الكاتب على التعرف على الملامح الاساسية التي تربط بين النصوص التي تناولها، وبين الوجوه المتعددة للقضية الجزائرية، هذه القضية التي صارت الإنشغال الأعظم لكافة الشعوب المحيطة بالجزائر، ولم تصر الثورة الجزائرية قضية محلية فقط، بل صارت قضية إقليمية وعربية ودولية وإسلامية واجتماعية، إنها قضية تخص الضمير العالمي بشكل شامل، لأن الذي كان يحدث كان مهولا، في الوقت الذي كانت فرنسا الدولة المستعمرة تزعم أنها بلاد النور والحرية، وللأسف كان هناك من يناصرها، وكانت تجد من عملاء محليين بعض المؤازرات الظالمة والمجحفة، ومنعدمة الضمير، وبالتأكيد كان الأدب في تلك اللحظة أداة وسلاحا ماضيين، للتعريف بالقضية الجزائرية، وكذلك بالهوية الجزائرية الحقيقية، والتي كان الاستعمار يعمل على طمس ملامحها طوال الوقت، ومن هنا كان من ضرورات النقاد الأحرار العرب أن يعملوا بكامل قواهم لمناصرة هذه القضية التي تخص _كما أسلفنا_ الضمير الانساني عموما، ولأن هؤلاء الأدباء كانوا على وعي كبير بقضيتهم، استطاعوا أن يقدموا أدبا راقيا، ينافس الأدب الفرنسي ذاته، للدرجة التي كان بعض هؤلاء الكتاب يحصلون على جوائز في فرنسا، أمام روايات كتبها فرنسيون، مثلما حدث مع مولود فرعون في روايته «ابن الفقير»، وتفوق الكتاب الجزائريين بشكل واسع على الكتاب الفرنسيين في التعريف بأدبهم على المستوي العالمي، فحازت هذه الكتابات تقديرا عاليا من كتاب ونقاد على مستوى العالم، ودون أن نسترسل فيما قدمه هذا الكتاب الصغير، نقتبس فقرة من المقدمة تجمل النظرة العامة التي انطلق منها الكاتب، إذ يقول : (الأدب الجزائري أدب مستقل، ذو خصائص ذاتية مستمدة من البيئة التي يعيش فيها الشعب الجزائري، فهو أدب قومي وإن شارك الجزائريين فيه كتاب فرنسيون وأجانب ولدوا وعاشوا في إفريقية الشمالية، لأن أدب هؤلاء تجاوز في تصوراته وموضوعاته المحيط الإفريقي إلى آفاق تتصل بالادب الأوروبي والروح الاممية أكثر منه بالأدب العربي والروح العربية، فهو أدب مصنوع، مجلوب غريب، في حين أن الأدب الجزائري الذي يكتبه كتاب جزائريون هو أدب واقعي، فيه انعكاس لروح الامة الجزائرية في عواطفها وارتكاسها تجاه الوجود، وأمانيها وأساطيرها وتقاليدها، فالأدبان منفصلان متميزان يصدران عن عالمين منفصلين متميزين : اللاتيني والعربي).
وحتى نستكمل بعض أجزاء الصورة التي رسمها المصريون، أريد أن أقول: إن مجموعة القصص التي صدرت في القاهرة عام 1959، وهي «في المقهي» لمحمد ديب، نالت اهتماما واسعا، وانعقدت لها ندوة في إذاعة «البرنامج الثاني» الذي تحول اسمه الآن إلى «البرنامج الثقافي» وشارك في هذه الندوة لفيف من الكتاب والنقاد المرموقين، وهم يحيى حقي، والدكتور شكري عياد، والناقد عبدالمحسن طه بدر، والأديب عبدالرحمن فهمي، وقدمت الندوة الإذاعية الكبيرة سميرة الكيلاني، ولم يكتف يحيى حقي بالمشاركة في الندوة، بل أنه كتب مقالا نقديا طويلا،نشره في العدد الخامس من مجلة «المجلة» في نوفمبر 1959، وكان قد ترأس تحريرها الناقد الدكتور على الراعي، ثم أعاد نشره فيما بعد في أهم كتبه النقدية «خطوات في النقد»، وفيه يقف أمام قصص المجموعة السبع، محللا لها، وقارئا لتفاصيلها، ويقول في مستهل دراسته : (هذه المجموعة الصغيرة لها قدرة عجيبة على أن تأسرك في قبضتها من أول مصافحة وهذه الميزة هي سمة الأعمال الفنية الباقية التي يرفع جذبها قدميك عن أرضك، تنزعك من نفسك، وتلقي بك في عالم غير عالمك، تخلفه لك ثم تتلاشي صور مخصصة بأقوام وزمان ومكان، وعالم مسحور تختلط فيه الحواس، ويتعطل النطق، وتشل الإرادة، ويسرح العقل مفلوت القياد)، ويعترف يحيى حقي أنه راح يتعرف على الجزائر من خلال هذه القصص القصيرة البديعة، هذه القصص التي تشع بكل ماهو جزائري، ويثني على هذا النوع من الكتابة التي لا تعاني من أي إسهاب أو استطراد لا لزوم له، فاستطاع الكاتب بفضل لمحات مندسة تمر بك كأنها عابرة غير مقصودة، وبفضل تخصيص الأشياء بذكر أسماء أنواعها الجزائرية أن يجعلك تشم من بلاده رائحة أرضها وأشجارها ورياحها ومقاهيها وسجونها وعطر حقولها وخبث زرائبها بقمامتها وروثها وتسمع زقزقة عصافيرها ونبح كلابها، وتقابل الفلاح والعامل المشتغل والمتعطل والشحاذ والمهاجر العائد من باريس والمجاهد الثائر يموت شهيدا والعربي الذي يفخر أنه يتكلم الفرنسية خيرا من أهلها والموظف الاستعماري والمتوطن المسعور، وهكذا يسترسل يحيى حقي في سرد وشرح خصائص الكتابة عند محمد ديب في هذه المجموعة، ويتدرج في قراءته من البسيط إلي المركب، ليقدم لنا وصفا وتحليلا عميقين لكاتب من أنبل من أنجبتهم الأمة الجزائرية .
وهناك كاتب آخر لم يأخذ حقه من التعريف والنقد بشكل كاف، ولم تتركز عليه الأضواء كما تركزت على آخرين، وربما يستطيع البعض أن يقدم تفسيرا لذلك، هذا الكاتب هو عبدالله الركيبي، وقد أصدر مجموعته القصصية الأولى «نقوش ثائرة» في القاهرة، أثناء إقامته هناك من 1960 حتى 1964، وقد أهدي الكاتب مجموعته إلى «روح صديقي البشير بن رابح، الذي استشهد من أجل الجزائر الحرة»وكان الكاتب قد شارك في جبهة التحرير كمناضل ومسؤول وجندي في جيش التحرير الوطني الجزائري، واعتقلته السلطات الفرنسية بمعتقل «آفاو» احد عشر شهرا، ثم أرغم على الإقامة الجبرية ببسكرة والتي فر منها حيث التحق بجبال الأوراس، وهاجر إلي تونس، ثم جاء إلي القاهرة والتحق بكلية الآداب، وكان رئيسا لاتحاد طلاب الجزائر بالقاهرة .
وعندما أصدر مجموعته الأولى عام 1962 قدم لها الدكتور شكري محمد عياد بدراسة ممتازة، وأكد عياد كما كان يؤكد على ذلك غالبية النقاد، أن الأدب الجزائري، والثورة الجزائرية شقيقان وتوأمان، ليس لأنهما برزا معا في أفق النهضة العربية والآمال الانسانية الكريمة، بل كليهما تعبير عن روح الشعب الجزائري الباسل الصامد في معركة الكرامة الانسانية والحرية الانسانية، فالأدب الجزائري أدب ثوري بكل معاني الكلمة، ادب يعيش الثورة، ولا يتحدث عنها أو يدعو لها فحسب،ويقدم عياد رؤية ناصعة لارتباط الأدب الجزائري بالنضال الباسل، والحركة الوطنية الجزائرية، ثم يربط قصص المجموعة بهذا المفهوم الذي قدمه، واقفا أمام قصص المجموعة قصة تلو قصة، وإن كان اعتبر هذه المجموعة من البواكير التي ينتظر من كاتبها الكثير في المستقبل القريب.
ولا تنقطع حركة التعريف والترجمة والنقد، ولا تتوقف الصحف عن المتابعة الدؤوبة والنشيطة للجزائر، والثقافة الجزائرية، والكتاب الجزائريين، وكانت جريدتا «المساء» و«الجمهورية» من أكثر الجرائد حماسا وتقديرا، ومنذ عام 1956 حتي عام 1964، لم تخل صفحات هاتين الجريدتين من أخبار ومقالات عن الوضع الجزائري، وبورتريهات عن أبطال الجزائر، وعن الشهداء، وأعتقد أن ارشيف الصحافة المصرية متخم بمادة جزائرية رهيبة بالحالة الجزائرية، وكانت مانشيتات هاتين الجريدتين مخصصة لمتابعة الحالة الجزائرية، ويكفي أن أول ترجمة لكتاب «يوميات معركة الجزائر» لمولود فرعون، حدثت في القاهرة، ونشرت مسلسلة بشكل أسبوعي في جريدة المساء، وكان ذلك بعد صدورها باللغة الفرنسية مباشرة، ولم يحظ كاتب عربي بهذه الميزة سوى مولود فرعون، وحتى لم ينل هذا الحظ كتاب مصريون، إلا من طراز نجيب محفوظ ويوسف ادريس، ومن شابههم، وكتب المترجم عبدالعاطي جلال مقدمة تعريفية بالكاتب والكتاب، ملخصا في فصل أحداث مانشر في العدد السابق، وكانت مقدمة دالة وذكية وحميمية، ونشرت الطبعة الأولى في كتاب عام 1970 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أن تعرف علىها المصريون بشكل واسع، إذ كانت تنشر على صفحة كاملة مصحوبة برسوم لأحد الفنانين الكبار وموحية للأحداث التي كانت تحكي عنها اليوميات، وعدا ذلك كانت القاهرة تنشر بشكل دوري كتبا سياسية عن الثورة الجزائرية، تشرح وتحلل الأوضاع والتعقيدات التي كانت تمر بها الجزائر، وكان كتاب «ثورة الجزائر» لعلي الشلقامي، والصادر عن دار النديم عام 1957، وقدم له علال الفاسي، وفيه يشرح الكاتب البواعث الاقتصادية التي قام على أساسها استعمار الجزائر، وبعد ذلك صدرت كتب كثيرة، تتابع الأوضاع في الجزائر، كما صدر كتاب «الجزائر المنتصرة» للكاتب الطليعي محمود عبد المنعم مرتضى، وزادت وتيرة نشر الكتب الساسية عن الجزائر، وهناك كتاب لافت للنظر كتبه الناقد الأدبي والعروبي رجاء النقاش عن الزعيم بن بيلا،وصدر عن دار الآداب، ولم تصدر له طبعة ثانية، وكتب يوسف ادريس أشياء كثيرة عن الجزائر، ويوسف ادريس يعتبر أن قضية الجزائر قضية عربية يراد اختصارها في دولة، لذلك كتب يقول: (لقد تعودنا أن نبدأ حديثنا عن الجزائر بالحديث عن قادتها وعن أزماتهم، حتى تكاد الجزائر تصبح في نظرنا أعضاء المكتب السياسي أو أعضاء الحكومة المؤقتة، ولكن الجزائر ليست هذا في الواقع، إنها أكبر وأغنى وأكثر بلادنا العربية فتوة وحماسا وشبابا) وكان ادريس يكتب هذا الكلام في ظل السلطة الناصرية، التي تعتبر أن القضية الجزائرية هي قضية مصرية وعربية، وهذا ما حاول أن يكتبه ادريس في كتاباته العديدة، مقدرا التغيير الهائل الذي حدث للجزائر بعد الاستقلال، وإن استفضنا في الكتابة عن العلاقة التي حدثت بين الشعبين ومثقفيها وساستها، سيحتاج الأمر إلى مجلد ضخم، لغزارة وتنوع المادة، فقط أريد أن أشير إلى بضعة كتابات إشارة سريعة، حيث أن القاهرة كانت ترسل بعض كتابها وفنانيها وشعرائها ليروا على الطبيعة مايحدث في الجزائر، وضمن من ذهبوا كان الشاعر العربي والمصري الكبير أحمد. عبدالمعطي حجازي..
وكتب ديوانه الثاني «اوراس»، وكذلك ذهب الفنان الكبير أحمد طوغان، وصعد إلي جبال الأوراس، وحمل السلاح مع المقاتلين، وخاض معارك ضارية معهم، وفي حمايتهم، وعندما عاد كتب كتابا رائعا، وشهادة من أرق وأجمل الشهادات، تحت عنوان «أيام المجد في وهران، وسجل بريشته أبطال المعارك الذين استشدوا، والذين ظلوا مقاومين حتي النصر، وحكي في هذا الكتاب قصص البطولة التي أبدعها أناس عاديون، وأناس دخلوا المعركة بالصدفة، ولكنهم بذلوا أرواحهم نظير أن تحيا وتعيش الجزائر، ولن أتحدث عن فيلم «جميلة» الذي أنتجته الفنانة ماجدة الصباحي، وأخرجه يوسف شاهين، لأنه أشهر من أن تقدمه كلمات أو سطور قليلة، ولكنني أريد أن أشير إلى أن هذا الفيلم معلما للوطنية، ومن الكلاسيكيات التي ننهل منها كل معاني الاستبسال من أجل الوطن، وكانت المناضلة جميلة بوحريد رمزا أسطوريا بالنسبة للمصريين، فعدا هذا الفيلم، كتب عبدالرحمن الشرقاوي مسرحيته الشعرية الطويلة «مأساة جميلة» واستطاع من خلالها أن يشرح القضية الجزائرية وآمالها الكبرى، وعن جميلة أيضا كتب شعراء كثيرون، وعلى رأسهم أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وحسن فتح الباب ومحمد الجيار، ولصلاح عبدالصبور قصيدة عنوانها «جميلة علم وهران»، ولكن هذه القصيدة لم يدركها أي ديوان من دواوين صلاح عبدالصبور، وظلت مجهولة حتي الآن، وفي تلك اللحظة، أي عام 1958، وكانت جميلة تتعرض لأبشع أنواع التعذيب، صدر بيان في القاهرة تحت شعار «لا بد أن تعيش جميلة»، يدين الاستعمار الفرنسي إدانة مطلقة، وقد وقع على هذا البيان معظم الكتاب والمثقفين والفنانين المصريين الكبار مثل احسان عبدالقدوس واحمد رشدي صالح وكامل زهيري والفريد فرج وفاتن حمامة وعمر الشريف وعلى الراعي وعبدالرحمن الخميسي وكامل الشناوي، وغيرهم، وكانت الصحف المصرية تكتب بتواتر أعلى في هذه المرحلة، أكثر بكثير من أي مرحلة أخري، ولم تتوقف مساندة القضية الجزائرية من قبل المثقفين والكتاب المصريين في أي لحظة من نضالها، باعتبارها قضية مصيرية، تتحدد من خلالها آنذاك مصائر حركة الشعوب المقاومة للاستعمار في كل مكان، وحتي بعد الاستقلال كانت المتابعات من اتجاهات كثيرة، وكانت مجلة الهلال تنشر دراسات ومقالات بغزارة، وكان الكاتب الراحل كامل زهيري، أحد الذين ساهموا بشكل كبير في إثراء الكتابة عن الجزائر، وكانت دراسات للمناضل والمفكر فرانز فانون تترجم وتنشر في المجلة، وكان كذلك الكاتب أحمد بهاء الدين يساهم بشكل ملحوظ في الكتابة عن قضية الجزائر، وظلت المجلة تنشر مساهمات عديدة تخص ملف الجزائر، وفي العدد الصادر في يناير 1967نشرت المجلة حوارا شاملا مع الأديب مولود معمري، وكان مولود يزور القاهرة ليحضر اجتماعات اللجنة التحضيرية لمؤتمر الكتاب الأفريقي الآسيوي، وقد أجرت الكاتبة الصحفية هذا الحوار معه، وفي العدد ذاته نشرت المجلة عرضا وافيا لمسرحية «أبو دخان» للاديب الكبير كاتب ياسين، قدمته الكاتبة صوفي عبدالله،وكذلك نشرت في العام نفسه ثلاث مسرحيات لكاتب ياسين في مجلد واحد، صدر عن المؤسسة الرسمية وهي «دار الكاتب العربي للطباعة والنشر» والمسرحيات هي (الاسلاف يضاعفون ضراوتهم، ومسحوق الذكاء، والجثة المطوقة ) وقام بترجمة النصوص هيدي بانوب والدكتور حمادة ابراهيم، الذي كتب مقدمة شاملة عن الكاتب ونصوصه، وموقعه في خارطة المسرح الجزائري والعربي والعالمي، وربط هذه النصوص بشكل أساسي بقدرتها التعبيرية والفنية عن الواقع الجزائري، رغم اللغة الفرنسية التي كتبت بها هذه النصوص، واصلا بين خيط اللغة من ناحية، وخيط المناخ الذي انطلقت منه، وتأثرت به هذه النصوص الطليعية، وبعد فالمجال يضيق فعلا عن الإلمام برصد كافة اشكال التفاعل المتعددة بين الشعبين المصري والجزائري، عبر وسائط متعددة، منها السلطة المصرية بقيادة جمال عبدالناصر في ذلك الوقت، تحت مظلات كذلك متعددة، وعلى رأسها مظلة العروبة، أي كانت التحفظات على الشكل العام الذي كان مطروحا في ذلك الوقت، والذي أبدع ثمارا مشتركا نفتقدها في هذا الزمان الذي نعيش فيه، وكذلك كانت مظلة الأفرقة، وهذا وذاك كانا يتلمسان طريقهما نحو مقاومة كافة أشكال الاستعمار التي كانت ومازالت متفشية حتي الآن، ولم تستطع شعوبنا اقتلاعها بشكل حاسم ونهائي،
شعبان يوسف
كاتب وصحفي من مصر