مع دخول العالم زمن العولمة، ومع الثورة التي أحدثتها وسائل الاتصال الحديثة، وسيطرة التكنولوجيا والاستهلاك، تغيّرت علاقة الثقافة بالمال. أصبح المال هو السيّد الرئيس الذي لا يتحكّم فقط بالاقتصاد والاجتماع والبيئة والمناخ والثروات الطبيعيّة، بل أيضاً بالمسار الثقافي وإنجازاته. وهذا شيء جديد في تاريخ الإنسانية. ولئن كانت سلطة المال حاضرة دائماً، فإنها لم تحضر يوماً بالطريقة التي تحضر بها اليوم. ذلك أنّ رأس المال لا يعنيه إلاّ الربح والمردودية المادية مهما كانت النتائج. وليست مصادفة أن يكون الكوكب الأزرق في حال من الترنّح والهذيان كما هو في هذه اللحظة من التاريخ، وأن يكون أبناء هذا الكوكب مندفعين في خيارات تزداد معها الهوة اتساعاً بين التقدم العلمي والتكنولوجي من جهة، والنزعة الإنسانية من جهة ثانية.
ثمة مجالات إبداعية كانت أساسية في الثقافة الإنسانية طوال مئات السنين، وفي مقدمتها الفكر والفلسفة والشعر والمسرح، أصبحت اليوم هامشيّة ومهمّشة إلى أقصى حدّ لأنها غير قابلة للتسليع ولا يمكن إخضاعها لمعادلة العرض والطلب.
بهذا المعنى، تخضع الثقافة لتغيّرات جذريّة في معناها وفي أهدافها وتوجّهاتها، ولم يعد ممكناً تطبيق المعايير الثقافية التي كانت سائدة منذ الفلاسفة الإغريق، أي منذ خمسمائة سنة قبل الميلاد. ظهرَ هذا التغيّر فعلياً مطلع القرن العشرين، وتحديداً في الثلاثينات منه، حين نشأ في الغرب ما يسمّى بـِ «ثقافة الجماهير» La culture de masse، أي الثقافة التي تريد أن تطال أكبر نسبة ممكنة من الناس بصفتهم قوّة استهلاكيّة. إنها الثقافة-الصناعة التي يُرَوَّج لها كأيّ سِلعة كان.
الباحث الأمريكي جيرمي رافكن الذي يدرس في مؤلفاته الأسباب الاقتصادية والعلمية التي تتحكم بتطور العالم، يرى أنّ مرحلة رأسمالية جديدة بدأت منذ ذلك الحين، وهي تعتمد على تحويل الوقت والثقافة والتجربة إلى صناعة. تعمل على تخصيص المجال الثقافي وتسلّع كل شيء بما في ذلك العلاقات الإنسانية نفسها.
يتغيّر العالم إذاً ومعه يتغيّر معنى الثقافة. تتغيّر مفاهيم الجمال. فما هي معالم هذا التغيّر؟ وكيف ينعكس هذا الواقع الجديد على بعض مجالات الإبداع والمعرفة؟ في الآداب والفنون، في الفكر والفلسفة، وفي الجامعات؟
مقاربَة الأدب
ينحسر الشعر في الغرب إلى الحدّ الأدنى. يخرج من الاجتماع ومن الحيّز الثقافي العام. بعض المجتمعات، كالمجتمع الفرنسي مثلاً، ينظر إلى الشعر نظرته إلى اللغة اللاتينية البائدة. المهرجانات الشعرية التي تقام هنا وهناك، تكتسي أحياناً الطابع الخيري ولا تعني أنّ الشعر بخير. ويبدو الشعراء على المنابر وكأنهم يشيّعون الشعر فيما هم يقرأونه. هذا في بلاد بودلير ورامبو ومالارميه، أما في العالم العربي، فنكتفي بطرح السؤال التالي: هل تعني كثرة الحديث عن الشعر حضوراً فعلياً وقوياً له؟ بصيغة أخرى، هل الحديث عن الشعر مرادف لحضوره؟
لم تكن القصيدة غريبة كما هي الآن. غريبة ليس فقط عن الآخر، وإنما أيضاً عن نفسها. وإن خرجت من مخبئها فلا أحد يعرفها ولا تعرف أحداً. ليس فقط القصيدة بل الأدب الجادّ. بل الإبداع الجادّ بأكمله. ولأنه خارج دورة الاقتصاد، فهذا يعني أنه خارج الشاشة الصغيرة وخارج الحياة الاجتماعية. إنّ تراجع القيمة الاجتماعية للأدب ينعكس بصورة سلبية أيضاً على المواهب الإبداعية وعلى نوعية الكتابة نفسها.
التحدي الذي يواجهه الشعر كذلك لا يتوقف فقط على صعوبة تسليعه وتسويقه، وإنما أيضاً على دخوله في منافسة مع التقدّم العلمي والإنجازات التقنية الحديثة التي تجسّد بعض الرؤى وتعطي الحدس شكلاً، فتسبق بذلك في أحيان كثيرة، روايات الخيال العلمي، بل وتفتح أمام الحلم آفاقاً جديدة لم تكن موجودة من قبل!
ينكفئ الشعر مثل الينابيع التي تغور في نفسها، وتتصدّر الرواية المجال الأدبي في العالم. تصبح الرواية هي الأدب. الملاحق الثقافية الأسبوعية للصحف والدوريات الغربية لا تُعنى إلاّ بالرواية وقلّما التفتت إلى نوع أدبي آخر. يصدر في باريس وحدها، خريف كلّ عام، حوالي سبعمائة رواية، ومصير هذا القطيع من الروايات ليس واحداً. الروايات التي تدخل حلبة التسويق هي التي تحصل على الجوائز وفي مقدمتها جائزة «غونكور» الأدبية. الكتاب الذي يحظى بهذه الجائزة تتراوح مبيعاته بين 380 ألفاً و400 ألف نسخة. وهذه الأرقام تشكل فائدة كبرى ليس فقط للكاتب وإنما أيضاً لدور النشر وللمكتبات. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ فرنسا تمنح سنوياً حوالي ألف خمسمائة جائزة، ولكل جائزة قيمتها المحددة.
الروايات التي تتناول مواضيع اجتماعية أو قضايا مثيرة هي التي تكسب السبق. الروائي الفرنسي مارك ليفي هو نجم المبيعات. له عشرة كتب نقلت إلى إحدى وأربعين لغة، وبيع منها أكثر من عشرين مليون نسخة. روايته الأخيرة وعنوانها «سارق الظلال» بيع منها أربعمائة وخمسين ألف نسخة. وإذا كان ليفي قد تمكّن من أن يحقق كلّ هذه المبيعات فلأنه يقدم أدباً مسلّياً لا تتطلّب قراءته جهداً. وهذا ما يفسر نجاح بعض الروايات على المستوى العالمي. لكن هذه العالمية لا تعني شيئاً في زمن العولمة، ونقل عمل روائي إلى عدد كبير من اللغات لا يعكس بالضرورة مدى قيمته وأهميته. «الهمبرغر» الأمريكي عالمي ويسيء إلى الصحّة. «الكوكاكولا» عالمية. بعض المسلسلات التلفزيونية السطحية والبائسة تكتسح القارات.
هذا الواقع يكشف الوجه الآخر للكتابة في الوقت الراهن. إنّ ما يحدد، في الغالب، نجاح الكتاب وشهرته هو قيمته الشرائية لا الجمالية والفنية، وذلك بعد أن أصبح الإعلان عن النتاج الأدبي والترويج له أكثر أهمية من النتاج نفسه، وبعدما أصبحت الروايات في الغرب تشكّل صناعة قائمة بذاتها. صناعة تستخدم قنوات محددة وجيوشاً من المتواطئين، من وسائل الإعلام والنقاد وسوق النشر إلى المهرجانات والجوائز.
هذا كلّه لا يعني أن ليس ثمة روايات تستحقّ التقدير والجوائز، لكنها روايات النُّدرة والاستثناء.
ظلال البورصة الفنية
إنّ أكثر ما يعبّر عن العلاقة بين الإبداع والمال الآن هو التعاطي مع الفنون التشكيلية. بالأرقام أيضاً يتمّ التداول مع هذه الفنون. الفنان الهولندي فان غوغ الذي توفي مريضاً وفقيراً معدماً، تباع لوحاته بملايين الدولارات. أصبحت القيمة التجارية للعمل الفنّي أكثر أهمية من قيمته الإبداعية. وإذا كان بعض رجال الأعمال يقبلون على شراء الأعمال الفنية فلأنّ الاستثمار في هذا المجال معفى من الضرائب، ولأنّ البورصة الفنية بخير.
في الأعوام الأخيرة، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتراجع البورصات العالمية، عاش سوق الفن انتعاشاً كبيراً. ألم تسجل «كريستيز» في نيويورك رقماً قياسياًَ جديداً مع لوحة زيتية لبيكاسو أنجزها عام 1932 وعنوانها «عري، أوراق خضراء وجذع». بيعت بـ 106 ملايين دولار. وقبلها منحوتة «الرجل الذي يسير» لألبرتو جياكوميتي بلغ سعرها 104 ملايين دولار، وقبلها بيعت لوحة لغوستاف كليمت بمبلغ 135 مليون دولار.
هناك تساؤلات كثيرة حول من يحدد الأسعار والمعايير المتّبعة، من يرفع القيمة المادية لهذه اللوحة أو تلك، بل ويجعل سعر العمل الفني الواحد ثروة يتقاتل عليها الورثة؟ لقد كشفت بعض الدراسات كيف يتمّ التعامل مع الفنّ اليوم وتسويقه، وذكرت أسماء المتاجرين به من أصحاب المجموعات الفنية الكبيرة، وهم يتمركزون في الغالب في بعض العواصم الغربية ومنها نيويورك، باريس ولندن. يتلاعبون في بورصة الفن بالتواطؤ مع غاليريهات وأمناء متاحف ونقّاد فنّ ومجلات فنية وتجار وأصحاب مصارف. هؤلاء يتعاملون مع الأعمال الفنية القديمة والجديدة مثلما يتعامل عالم المال مع النفط والماس والذهب، وإلاّ ما الذي يفسّر إقامة معارض في كبريات المتاحف وصالات العرض العالمية لفنانين من أمثال دجيف كونز وتاكاشي موراكامي في قصر فرساي، إندي وارول وكريستيان بولتانسكي في «القصر الكبير» في باريس، روبير روشنبرغ وإتيان مارتان في «مركز جورج بومبيدو الثقافي» في باريس أيضاً؟
سأكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثة من هؤلاء الفنانين الذين تربّعوا على عرش الفن المعاصر، وهم بين الأكثر شهرة والأكثر ثراء: الأميركيان إندي وارول ودجيف كونز، والإنكليزي داميان هيرست.
وفي مجال التجهيزات الفنية، أذكر على سبيل المثال: الفنان الفرنسي كريستيان بولتانسكي والفنانة الفلسطينية المولودة في بيروت منى حاتوم. عرض بولتانسكي في «القصر الكبير» في العاصمة الفرنسية أكواماً من الثياب. أما منى حاتوم فعرضت في لندن وعواصم غربية أخرى صوراً طبية بالأشعة للأمعاء.
أبطال «الأولمب» الجدد يأتي في مقدمتهم إندي وارول، زعيم حركة «البوب آرت» Pop Art الفنية. هذه الحركة ولدت في بريطانيا منتصف الخمسينات من القرن الماضي قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتشتهر هناك (وارول، جاسبر جونز…).
يعتبر رواد «البوب آرت» أنهم يمثّلون ردّ فعل على مجتمع الاستهلاك والعنف الذي يمثّله، لكنهم، هم أيضاً، يقدّمون الفنّ بصفته مجرّد سلعة للاستهلاك، موقّتة وعابرة ولا تتوخّى الديمومة.
في الواقع، تقدّم هذه الحركة فنّاً هو أقرب ما يكون إلى التزيين والديكور، وقد بلغ أقصى حدوده مع إندي وارول الذي رسم الممثلة مارلين مونرو، كما رسم وجه ماو تسي تونغ ولوّن شفاهه بأحمر الشفاه (كان يحوّل الصور الفوتوغرافية إلى لوحات ملوّنة). رسم أيضاً بعض رموز المجتمع الأمريكي كالهمبرجر والكوكاكولا. إنّه امتداد للفنان الفرنسي مرسيل دوشان الذي وضع شاربين للموناليزا. وكان أوّل من لعب وتلاعب بالموناليزا، رائعة ليوناردو دافنشي المحفوظة في متحف «اللوفر». المتلاعب الثاني يدعى سلفادور دالي. الفنّ، هنا، فنّ إلهاء وتسلية، والهدف منه بلوغ الجمهور العريض والبيع. فنّ «الغادجيت» و«الفاست»، على غرار «الفاست فود».
يقول إندي وارول «إنّ رِبحَ المال هو فنّ». والفنّ يدخل في باب الإعلان. وهذا ليس غريباً طالما أنّ الفنان بدأ حياته العملية في مجال الإعلانات. هدف الفنّ هنا تجاري بحت. ألم يعبّر وارول عن ذلك بالقول إنّ «الفن يقود إلى التجارة والمال». وارول الذي رسم الدولار وأراد أن يكون فنه رد فعل على مجتمع الاستهلاك كان، من خلال أعماله الفنية، التجسيد الفعلي لهذا المجتمع.
الفنان الثاني الذي يعمل ضمن هذا السياق هو دجيف كونز الذي بدأ حياته الفنية بتصميم منحوتات صغيرة تمثل خنازير وردية اللون من مادّة البورسلين (الخزف الصيني). وما عرضه منذ سنوات في قصر فرساي في فرنسا يمثّل دمى منفوخة لكن من مواد صلبة لا تصدأ. وهي تجسيد للبشاعة التي أصبحت شائعة ولها روّادها والمعجبون بها.
أما الفنان الثالث فهو داميان هيرست الذي يتحرّك ويرسم هو أيضاً تحت برج المال، وهو القائل: «على الفنّ أن لا يخاف من المال». من أعماله جمجمة مرصّعة بالألماس، تتألف من 6600 حبّة ألماس. بلغ سعر هذه المنحوتة/ الجمجمة مائة مليون دولار، وهو السعر الأغلى لعمل فنّي معاصر.
تواطؤ المتاحف
أشرنا إلى الدور الذي تقوم به اليوم بعض المتاحف العالمية. المتاحف التي تجمع روائع التراث العالمي انضمت هي الأخرى، ومنذ سنوات، إلى مهمة جديدة تتمثّل في إطلاق الفن المعاصر والترويج له بحجة أنها تنفتح على المستقبل. من متحف «الميتروبوليتان» في نيويورك إلى المتحف البريطاني فمتحف «اللوفر» في باريس و«قصر فرساي» و«القصر الكبير»، تتكاثر المعارض والمساحات المخصصة للفنّ المعاصر. المتاحف، بما هي أماكن للذاكرة، تخرج عن وظيفتها المعهودة وتعرض في بعض الأحيان أعمال هؤلاء الفنانين المعاصرين إلى جانب أعمال فنانين كبار من أمثال دافنشي ورامبرانت وغويا. هذا الخلط بين الأسماء والأشياء يؤلّف اليوم جزءاً من حفلة تهريج عالمية ضخمة، ليس فقط في مجال الإبداع الفني وإنما أيضاً في جميع المجالات. كأن تُعزَف سيمفونيات لموزارت وبيتهوفن إلى جانب «تقاتيق» لموسيقيين «حديثين»، أو كأن يطالعنا في برنامج تلفزيوني واحد المفكر الفرنسي ميشال سير إلى جانب الروائي فريديريك بيغبيدير، أو الروائية توني موريسون إلى جانب الناقدة الفنية والكاتبة الإباحية كاترين مييه برفقة عارضة أزياء…
يأتي هذا التحرك الذي يفقد الفن المعنى الذي كان له طوال مئات السنين، في سياق سيرورة واضحة ومحددة. منذ النصف الأول من القرن العشرين وعى الفنانون المحدثون من أمثال مرسيل دوشان أنّ حداثتهم وصلت إلى طريق مسدود. عام 1912، أعلن دوشان موت الفن، وعام 1917 حمل «مبولته»، وقد منحها اسم «ينبوع»، وعرضها بوصفها عملاً فنياً. منذ ذلك الحين، فُتح الباب أمام الفنانين الأكثر تطرفاً. أصبحت الأشياء الجاهزة «أعمالاً فنية» لمجرد أن يقرر الفنان عرضها أمام الجمهور. صار بالإمكان أيضاً تحويل كلّ شيء إلى قطعة فنية، ودخلت في صناعة العمل الفني عوادم السيّارات والمخلّفات التي تخرج من الإنسان كالشعر والوبر والبول والمنيّ… ألم يتعامل الفنان أرمان مع القُمامة والمهملات ومخلفات السيارات والدبابات بصفتها مكونات العمل الفني وعناصره الأولى؟ لكن، إذا كان أرمان يضع القمامة داخل بنية فنية وتصوّر فني معيّن، ويسعى إلى توليف يكسبه طابعاً خاصاً يتناسب وأسلوبه، فإنّ فنانين آخرين يعرضون القمامة تماماً كما تكون في حالتها الأصليّة.
ضمن هذا الجيش المنظَّم المأخوذ ببريق المال إلى أقصى حد، المتلاعب بالفنّ والقيم الفنية، هناك فئة من النقاد المتواطئين الذين يعتبرون أنّ أي انتقاد يوجّه ضدّ هذا النوع الجديد من الفنون لا بدّ وأن يكون صاحبه محافظاً، رجعياً ومتخلّفاً عن العصر. وقلّة هي التي تجرؤ اليوم على مواجهة هذا الإعصار الذي يجرف في طريقه كلّ شيء. أكثر من ذلك، هناك في بعض العواصم الغربية من أصبح يمدح البشاعة ويتغنّى بها، يمجّدها ويعتبرها قيمة نادرة قائمة بذاتها.
إنّ الفنّ الذي يدغدغ العين ويستميل العواطف ويدعو إلى التحريض والإثارة هو تجسيد لانحطاط المشروع الحداثي مثلما كان الفنان الفرنسي فرنسوا بوشيه في القرن الثامن عشر تجسيداً لتردّي القيم الكلاسيكية، ومثلما رأينا ما آلت إليه النهضة الإيطالية وأين استقرت بعض الأشكال والأساليب الفنية التي عرفت باسم «مانييريسم» (التكلّف في الفنّ)، ومثلما تحولت الرومانسية والكلاسيكية الجديدة في القرن التاسع عشر، في إنجلترا وفي فرنسا على السواء، إلى فنّ أكاديمي صرف.
في وداع الفكر والفلسفة!
ثورة الحداثة التي شهدها الغرب في القرن التاسع عشر، وتمّ التمهيد لها منذ القرن السادس عشر، طالت جميع الحقول المعرفية والميادين العلمية. في موازاة التقدم العلمي، كان هناك تقدم على المستوى التقني والتكنولوجي، وكذلك الفكري والفلسفي، الأدبي والفني. لم يكن شعراء الحداثة، في فرنسا مثلاً، من أمثال بودلير ورامبو، يتحركون في فضاء مقفل. كان ثمة إنجازات تتحقق في كافة المجالات وتتكامل في ما بينها. هذا الوهج ظلّ مستمراً بقوة حتى منتصف القرن العشرين، وبعده بقليل. منذ الخمسينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي، كان مفكرون وعلماء اجتماع وفلاسفة من طراز ميرلو بونتي، جان بول سارتر، سيمون دوبوفوار، ميشال فوكو، رولان بارت، جاك ديريدا، بيار بورديو، رونيه جيرار، بول ريكور، جورج بالاندييه وغيرهم الكثير، كانوا يوجّهون مسار الفلسفة والفكر في فرنسا، لكننا اليوم لم نعد نرى على الشاشة الصغيرة إلاّ ثلاثة وجوه ممن أطلق عليهم تسمية «الفلاسفة الجدد»، وهم على التوالي: برنار هنري ليفي، أندريه غلوكسمان وألن فنكلكروت. ومن المعروف أنّ سطوع نجم هؤلاء له علاقة بتوجّهات من يستولي سياسياً وثقافياّ على المشهد الإعلامي الفرنسي. ويكفي هنا أن نذكر أنّ برنار هنري ليفي يرتكز في كتاب تناول فيه الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) على أطروحات فيلسوف آخر يدعى جان باتيست بوتول تبيّن أن لا وجود له على الإطلاق… إنه انقلاب المعايير، أو كما يقول الكاتب النمساوي كارل كراوس: «حين تنخفض شمس الثقافة إلى هذا الحدّ عند الأفق، تصبح للأقزام ظلال كبيرة».
هذا التراجع على المستوى الفكري والفلسفي أيضاً، يواكبه تراجع على مستوى المعارف والعلوم الإنسانية والآداب والفنون في المدارس والجامعات في العالم أجمع، وبالأخص في الغرب حيث كان لتلك العلوم الموقع الذي عُرف به طوال عقود من الزمن.
في العقدين الأخيرين، تراجعت نسبة الطلاّب المسجّلين في مجالات الفنون والآداب والعلوم الإنسانية في الجامعات الأمريكية بنسبة خمسين في المائة. منذ سنتين، تمّ إغلاق قسم الفلسفة في جامعة «ميدلسكس» في بريطانيا. وفي فرنسا أيضاً تراجعت دراسة الفلسفة، بالإضافة إلى الآداب والتاريخ. ولقد سجّل تراجع الإقبال على القسم الأدبي، خلال العشرين سنة الماضية، نسبة 28 بالمائة. وهذا يعني تهميش الجماليات والمعارف الإنسانية وكلّ ما لا يمتّ بصلة إلى عالم المال. إنها المرة الأولى التي يجتاح فيها رأسُ المال الثقافةَ بهذه الطريقة الشاملة، ويحكم قبضته عليها ويخضعها لشروطه ومعاييره. لا ينعكس هذا الواقع فقط على نوعية القراء والمتلقّين، وعلى المستوى الثقافي العام، بل أيضاً على العلاقات بين البشر، وعلى الحياة نفسها بكلّ مرافقها ومقوماتها، لأنّ الاقتصاد وحده غير كافٍ لتحقيق النموّ، ولأنّ التقدم التقني والتكنولوجي لا يستقيم فعلاً بدون تقدم على المستوى المعرفي والإنساني.
ضمن هذا الأفق، يصبح بالإمكان القول إنّ الأزمة التي نسمّيها اليوم أزمة إقتصادية تكتسح العالم وتذكّرنا بما حصل في الولايات المتحدة عام 1929، ليست في الواقع إلاّ أزمة أخلاقية وثقافية. لذلك لم يكن الهدف من هذا العرض السريع لواقع الثقافة والإبداع هو الانخراط في سياسة اليأس والخوف (وهناك سياسة يأس ممنهجة تطالعنا في كل مكان)، بل بخلاف ذلك، كان الهدف هو محاولة الإضاءة والكشف للتمكّن من المواجهة.
المشهد الأسود الذي يستأثر بالعالم اليوم ليس قدَراً، ولا يمكن أن يكون من الثوابت التي لا تتزحزح. وهو لا يختصر الحاضر والمستقبل على الإطلاق. ولئن كانت الأصوات المفبركة الطافية على السطح هي الأكثر نجومية والأكثر سطوعاً، فإنها ليست الأكثر تعبيراً عن حاجات الإنسان العميقة وتطلعاته. إنّ ما يعبّر عن حقيقة المعرفة والإبداع اليوم يتمّ صوغه بعيداً عن شبكات الإنتاج المبرمَجة السائدة، وبعيداً عن وسائل ووسائط الإعلام الموجَّه. أما تلك الحفنة من المثقفين والمبدعين المبعَدين فهي تعرف أنّ الإبداع، بما هو الوجه المشرق للإنسان وللبشرية، إنما يوجد في مكان آخر، في المقلب الآخر لهذا الواقع. المقلب الذي ينتصر للمستقبل، يتواطأ معه وينحاز إليه.
تقول العبارة الشهيرة لدوستويفسكي إنّ «الجمال سينقذ العالم». وإذا كانت هذه العبارة تبدو اليوم حلماً طوباوياً وأمنية مثالية، فإننا سنظلّ نتمنّاها، وسنظلّ نتوق إليها ونحلم بها. وفي الطريق الطويل إلى تحقيقها، نكون قد التفتنا إلى الجهة التي يأتي منها الضوء فنعطي معنى لحياتنا.
عيسى مخلوف
باحث وأكاديمي من لبنان يقيم في فرنسا