لم تستيقظ العصافير بعد ! ردد هذه العبارة مراراً لنفسه وهو يُحضّر القهوة ، تجاهل غيظه بسبب استيقاظه المبكر جداً ، الثالثة فجراً… يا إلهي ماذا ستفعل بالزمن يا فواز! كيف ستمرر ساعات يومك الثقيل ، ليتك تستطيع تمريرها كما لو أنها حبات مسبحة تلهو بها ، هكذا كان يخاطب نفسه مستنسخاً من روحه صديقاً.
الثالثة فجراً ، ما الذي يوقظه في هذه الساعة!؟ وماذا سيفعل بزمنه ! ماذا يفعل في زمن تحوّل إلى مقبرة جماعية كبيرة ، يتساقط فيها مئات السوريين كل يوم ؟! كان يشعر أن الزمن يفترسه ، ويحس أنه مروّع من عقارب الساعة التي تسحله ، فيتخيل نفسه مربوطاً إلى دبابة تجره في شوارع وأزقة مدمرة … استوطنت هذه الصورة مخيلته وأمعنت في تعذيبه ، كما لو أن هناك عدوا مختبئاً في روحه.
فمنذ بداية الأزمة في وطنه الحبيب سوريا بدأ يلاحظ أن ثمة هوة سحيقة تفصله عن نفسه ، ثمة هوة تتسع يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر بين ما كانه ، وما يصيره ، إنه يتحوّل إلى إنسان غريب ، إلى كائن ، قد لا يجوز أن يسمى إنساناً ، إلى كائن أهم صفاته أنه يخشى الزمن ولا يطيق الليل ولا النهار، ولا الشروق ولا الغروب ، لأنه لم يعد من فرق بين ليل ونهار ، وبين برد وحر، اندمجت كل تلك المعاني المتضادة وانصهرت في كلمة واحدة : القتل.
تحنط على الأريكة ذاتها التي يجلس عليها كل صباح، سماها أريكة الساعة الثالثة فجراً، لأنه ومنذ عمر انفجار سوريا صار يستيقظ الثالثة فجراً ويجلس على الأريكة إياها، يرشف قهوته ويعارك زمن يفترسه ، محاولاً أن يحصن نفسه بعدم الاكتراث، وبأنه لا يزال متوازناً وقوياً في مواجهة وطن يُدمر، وشعب يُقتل ، وعقارب ساعة تسحله من الألم لدرجة آمن أن كلمة عقارب الساعة مشتقة أو هي ذاتها العقارب السامة التي تلدغ وتـُميت…
تحوّل كيانه كله ووجوده إلى كيان معلـّق بكارثة وطن ينزف منذ سنتين ولا أحد يبالي … رشف القهوة شاعراً أنه يشربها لغاية وحيدة هي أن يؤكد لنفسه أنه حي ، لكنه مع كل رشفة كان إحساسه بتعاسته ويأسه يتعاظم ، وما أن انتهى من شرب فنجانه الأول حتى أحس أن تعاسته تحوّلت إلى درع ثقيل يلبسه…
مع فنجان قهوته الثاني أخذ يقلب محطات التلفاز ، حاذر سماع نشرات الأخبار إذ لم يستعد بعد لسماع النشرة اليومية لعدد القتلى في سوريا ، ولم يستعد بعد لتستقبل عيناه صور القتلى والدماء تنزف من أجسادهم المخردقة بالشظايا والرصاص. استوقفه برنامج وثائقي عن الليالي البيضاء وتفرج مذهولاً على عظمة مدينة بطرسبورغ ، لكن الشاشة سرعان ما انقسمت إلى نصفين ، عين تتابع سحر تلك المدينة وعين تعرض له مخزون ذاكرته من صور القتل والدمار في وطنه الحبيب ، ثمة بث متواصل في روحه لا يتوقف أبداً…
كان البرنامج الوثائقي عن الليالي البيضاء ساحراً وشيقاً لدرجة أنه ابتسم ، وتذكر أن هناك حياة ، أذهله اكتشافه أنه في مكان ما هناك حياة ، هناك بشر سعداء يسافرون في رحلات سياحية ويضحكون ويشترون هدايا لأحبتهم … لكنه فجأة تجهم وانقبضت ملامحه ولم يعد يتحمل رؤية هؤلاء البشر السعداء ، والسياح الذين يتجولون مبهورين بعظمة بطرسبورغ وتعليقاتهم على الليالي البيضاء ، أحس أن السعداء ثقيلوا الظل، أحس أنه مُهان ومُحقـّر بعيشه الذليل وبأن كلمة ذل لا تكفي لوصف حياته…
مع فنجان قهوته الصباحية الثالث كان يقلب مقالات وتعليقات على الفيس بوك، وثمة سؤال يتشكل ببطء في عقله ويهمس بأذنه : إلى أين يمضي عمرك يا فواز ؟! أمكنه أن يحس بصوت ٍحقيقي ودافىء قادم من عتمة روحه أو عتمة الليل يسأله : إلى أين يمضي عمرك يا فواز ؟!
ارتفع منسوب حزنه حتى صار يرشح من جلده كالعرق ، وأخذ يقرأ: الحرية للمعتقل فلان الفلاني ، كل يوم يقرأ ويسمع عن معتقلين ، فلان اعتقل لأنه ناشط على الفيسبوك ، فلان اعتقل لأنه كتب مقالاً لم يرضَ عنه هؤلاء ، هؤلاء الذين لا يعرفهم أحد لكنهم يملكون كل الصلاحيات للاعتقال…
أحس بوجع قاس لم يعرف طبيعته ، هل هو وجع جسدي أم نفسي ، تشوشت علاقته بنفسه لدرجة ماعاد بإمكانه فهم حقيقة مشاعره ، وأين يكمن وجعه ، صار يشك أنه صار أبلهاً ، إذ صارت تلتبس آلام روحه بآلام جسده ، فذات يوم وبعد أن صعق من صور مجزرة أطفال الحولة ، وجد نفسه يسرع لابتلاع دواء مضاد للصداع ، رغم أنه لم يشك أبداً من صداع لكنه اعتقد أن هذا الدواء قد يُسكـّن آلام روحه…
اعتقال…. اعتقال ، هذا ما يوقظه الثالثة فجراً قبل أن تستيقظ العصافير، أحس براحة من يكتشف حل لغز ٍ طالما أرّقه …
هاجمته ذكريات طازجة كعاصفة وانهمرت أمامه كمطر من رصاص ، فالمطر في سوريا هو من رصاص ، مرّت وجوه سريعة في ذاكرته ، وجوه مدموغة بالذل والخوف والألم اللامحدود ، وجوه تحكي قصصا عن معتقلين ، كان ينصت لهذه القصص بعينين مبحلقتين كما لو أنهما تحدقان بالذعر النقي الصافي غير المغشوش… فلان اعتقل لأنه وضع على موبايله أغنية يا حيف لسميح شقير… فلان اعتقل لأن ابن عمه التحق بالجيش الحر … فلان اعتقل لأن سلوكه يمس بهيبة الدولة…
حاول أن يتخيل كيف تكون هيبة الدولة ، وكيف يمكن لإنسان أن يمسّها ؟! لكن خياله المعطوب لم يفرز سوى صورة فتاة عذراء تلبس ثياباً شديدة الاحتشام وشديدة الإحكام على جسدها ، ثياب أشبه بكفن ، وكل من ينظر إليها أو يمد سبابته للمسها يتهم أنه يمس هيبتها…
كان مزاجه قد بلغ حداً من الحزن لدرجة الخرس ، أخرسه الحزن ، بل صار يخشى في الأسابيع الماضية أن يفقد قدرته على الكلام ، أن ينسى اللغة ومفرداتها ، فما قيمة كلام، وسط لغة الرصاص والقتل ، وهل يستطيع أي كلام أن يواسي إنسان يشهد على تدمير البلاد والعباد بشكل مستمر ومتواصل ومنذ عامين!
أجبر نفسه أن يتكلم ، أن يقول أي شيء ، مروعاً من احتمال أن يصاب بالبكم ، أن ينسى اللغة ، أن ينسى أن اللغة هي التي تميز الإنسان ، أوَ ليس الإنسان حيوانا ناطقا… ولو فقد النطق سيُختزل إلى حيوان…
تلعثم وبرطم بكلمات لم يفهمها هو ذاته ، لكنه تمكن أخيراً من صياغة عبارة من الإجابة على سؤال : إلى أين يمضي عمرك يا فواز…
طلع الجواب من عمق سحيق معتم في روحه : حياتي منتهية الصلاحية…
افتتن بالجواب وهنأ نفسه على تلك الإجابة التي جعلت معنوياته ترتفع ، بل تقفز عالياً لأنه تأكد أنه إنسان ، وبأنه رغم تحطم معنوياته ويأسه لا يزال قادراً على التفكير والمحاكمة…
فكر وهو يسجل على ورقة بجانبه أسماء المعتقلين الجدد ، عادة غريبة لم يتوقع أنه سيدمن عليها منذ اندلاع الثورة في سوريا ، وهي أن يسجل في دفتر صغير أسماء المعتقلين ، وعددهم…
لم يكن يدرك معنى تلك العادة ، لم يكن يدرك أنه ينتظر اعتقاله هو، وأن كل وجوده وكل زمنه صار مجرد انتظار لتلك اللحظة التي سيتم اعتقاله… لدرجة ضاق ذرعاً بالانتظار ، بل صار يود لو يصرخ في الشارع وبصوت عال ٍ: لماذا هذا التأخير في اعتقالي ، ماذا تنتظرون! ماذا تنتظرون، لا ترهقونني بالانتظار، اعتقلوني وأريحوني…
أصدرت حنجرته حشرجات جافة ، دمعت عيناه وهو يفكر أن هذه الحشرجات هي صوت أحلامه المحتضرة ، وأنه واع ٍتماماً لحقيقة عيشه الذليل والمعّفر بالخوف والموت واليأس ، واع ٍتماماً أنه واقع في قبضة «الهؤلاء» الذين يتحكمون بحياته، ويملكون صلاحية اعتقاله ، كما لو أنه مربوط بخيط خفي بأيديهم …
وطنٌ يتحول إلى مُعتقل كبير، ومواطن يختزل وجوده في انتظار متوتر وملح للحظة اعتقاله…
إنه لا ينتظر شيئاً ولا يتوقع مستقبلاً ، ولا ابتسامة ، لا ينتظر سوى أن يُعتقل… بل أحس أن كل ما ينشده في وطن ينزف أبناءه هو الاعتقال.
هل أنت مجنون يا فواز ؟ سؤال تفجّر في روحه بطريقة مرحة ؟ هل يُعقل أن يكون قد جُن ّ؟! وهل يلوم نفسه إذا جن أو صار معتوهاً ؟! من يقدر أن يحافظ على قدراته العقلية ، وألا ينهار نفسياً في وطن تحول إلى مقبرة ، وبركة دماء ، ومقابر جماعية، وآلاف آلاف النازحين ؟! من يقدر أن يصادق دبابة وطائرة وبندقية صارت تنافس رغيف الخبز، وصارت عصب اللا حياة لملايين السوريين…
ما الحياة إلا عبء لا فائدة منه ، الحياة في مكان آخر خارج الحدود السورية ، هنا، هنا على الأراضي السورية تعيش اللا حياة…
مسّد وجهه براحتيه وكرر الحركة مستدفئاً بالحرارة التي يولدها اللمس ، تمنى لو أن يداً حنونة تمسح وجهه وتطبطب على كتفه ، ولو أن صوتاً بشرياً حقيقياً يقول له: بسيطة يا فواز، إن شاء الله محنة وتزول ، وما بعد الضيق إلا الفرج.
لا يزال الليل ثقيلاً ، لا تزال العتمة معششة في قلبه… عاد إلى أريكة الساعة الثالثة فجراً، استرخى عليها وأغمض عينيه. كان يحاول مخلصاً أن يلملم شتات نفسه بالتأمل الصامت ، التأمل في معاني كلمات يؤمن بها بكل ذرة من كيانه ، الحرية والكرامة ، ياه يا للفعل المُسكر لتلك الكلمات ، كيف يمكن للكلمات أن تحمله على أجنحة واسعة وتعبر به حدوداً وحواجز، وتنقله إلى عالم نقي يشع بالألوان ، واللون الأحمر فيه هو لون الأزهار فقط …
كم يرتاح حين يغمض عينيه ، يشعر أنه يغلق نفسه عن العالم الخارجي ، عالم القتل الوحشي ، والتدمير الوحشي ، يغلق نفسه ليرى قلبه ، قلبه الطافح بالحب والإيمان بالحرية والكرامة… ياه يا فواز والله يحق لك أن تفخر بقلبك…
سمع زقزقة ناعمة تلتها زقزقات أقوى ، لقد استيقظت العصافير…
شعر– دون أن يفتح عينيه – أن ثمة نورا أشرق في الخارج وقلبه ، رغم العتمة الكثيفة…
سخر من مشاعره وهو يسأل نفسه : فواز هل سيتم اعتقالك اليوم بعد نشر هذه القصة .