تتصدر الرواية في المشهد العربي اهتمامات الكتَّاب والباحثين لما لها من حضور يتفق مع تغيرات المجتمع العربي وما يمر به من تحولات كبرى على المستوى السياسي والثقافي واليومي، وتغدو الرواية أكثر الأشكال الإبداعية مقدرةً على ذلك الرصد والمتابعة والتمثيل لما لها من إمكانات واسعة في استيعاب العناصر السردية والرؤى الفكرية ومرونة التعامل مع اللغة بكافة مستوياتها الدلالية والمعجمية والشعرية، ومن هنا فإن الحديث عن زخمٍ حادث ومتحقق يرصده هذا الجنس الأدبي في ركن من أركان الوطن العربي، وهو اليمن، وما يعتمل ذلك الزخم من إشكالات وأسئلة جوهرية وعميقة هو ما تسعى إلى تقديمه هذه القراءة الموجزة والسريعة، ولكنَّها تسعى إلى التكثيف والإلماح أكثر من حرصها على التفصيل والإطناب لما قد يقتضيه المقام ويدل عليه هذا العرض..
استقرت الرؤية الفنية للرواية اليمنية وتثبتت كجنس أدبي قائم فترة السبعينيات والثمانينيات.
وذلك لأن الحديث عن الخطاب الروائي اليمني كجنس أدبي جديد يمتد من حيث الزمان إلى 73 عاماً، هو عمر الرواية اليمنية حتى يوم الناس هذا، حيث يُعد عام 1939م هو عام ميلاد الرواية اليمنية، وهو العام الذي صدرت فيه رواية «سعيد»(1) للمثقف اليمني الرائد «محمد علي لقمان»، وهي أول رواية يمنية تصدر في عدن عن المطبعة العربية. ثم يتتابع وينمو رصيد الرواية اليمنية ليبلغ من حيث عدد المدونة الرواية قرابة الـ 150 رواية تقريباً، هي مجمل ما كتب في هذا النوع الأدبي المهم، وللتدليل على ذلك الزخم الواسع سنقف عند رصد للمراحل التي مرَّت بها الرواية عبر تاريخها في اجتهاد تحقيبها الزمني وكذلك الوقوف على أبرز مضامينها في تصنيف موضوعاتي عام لا يعتمد أي معيار سوى الموضوع في ذاته.
أولاً: محطات مسيرة الخطاب الروائي اليمني:
عند النظر في مسيرة الرواية اليمنية يمكن الوقوف عند (4) محطات هي:
الريادة:
وهي محطة البدايات بما تحمله من محاولات وقصور من ناحية، وما تسجله من ريادةٍ وحضور من ناحيـة أخرى، وتتمثل هذه الريادة في رواية «سعيد» 1939م، لمحمد علي لقمان، وهي رواية تعالج في موضوعها الحياة البرجوازية في تلك المرحلة لطبقة التجار الذين يمثلهم والد سعيد، ويصور حياتهم ومعارفهم، وسعيد يبدو في الرواية كبطل قومي منفتح على قضايا مجتمعه الخاصة وقضايا العالم الإسلامي بوجه عام، ومما يؤخذ على هذه الرواية الرائدة طرحها الكثير من الشعارات بخطابية صارخة في لغتها وبنائها الفني شأن أي بداية لم يستقر بناؤها وتجربتها على وجه الدقة والوضوح.
ثم تأتي رواية « يوميات مبرشت «(2)، 1948م لعبد الله محمد الطيب أرسلان، وقد طبعت في عدن في مطبعة صحيفة «فتاة الجزيرة»(3) ورواية «يوميات مبرشت» لوحة صادقة للحياة التي عاشـتها عدن في فترة الأربعينيات، وهي فترة الحرب العالمية الثانية، وما سبقتها من حالة متدهورة للاقتصاد العالمي بشكل عام، ولعدن تحت السيطرة البريطانية بشكل خاص، هذه الرواية تصور في موضوعها حياة عامل من الطبقة المتوسطة تأخذه موجة السعي في تيار أثرياء الحرب ليتحول إلى «مبرشت» والبرشته مصطلح يعني التهريب(4). وتُعرض الرواية على شكل مذكرات يومية (تبدأ من 1 يناير وتنتهي بـ أول يوليو من السنة الثانية)، والمدة الزمنية بين أول رواية وثاني رواية تبلغ تسع سنوات، ثم ننتظر أحد عشر عاماً أخرى حتى تأتي رواية «حصان العربة»(5) 1959م لعلي محمد عبده، وهي مُدد زمنية متفاوتة – كما تلاحظ – تُـقدِّمُ هذا الفن على فتور وتباعد، وتعالج من حيث المضمون قضايا إصلاحية، واجتماعية عالية النبرة من حيث المباشرة والسطحية.
التأسيس:
تبدأ هذه المحطة زمنياً مع بداية 1960م، وتمتد حتى أوائل السبعينيات، وهي محطة مهمة جداً على المستوى الوطني، لما احتوته من أحداث مرَّ بها الشعب اليمني أبرزها قيام الثورة المجيدة في الشمال 1962م، والاستقلال عن المستعمر في الجنوب 1967م، وتثبيت قواعد ولبنات الجمهورية، وهذه المحطة على مستوى الخطاب الروائي كان فيها محاولة التأسيس لهذا الفن الأدبي المهم، وإن كانت ثمرة ذلك لم تؤتَ بشكل واضح إلا في السبعينيات. لكن تظل محاولة محمد محمود الزبيري (أبو الأحرار، شـاعر الثورة الكبير، توفي 1965م) في روايته «مأساة واق الواق»(6) 1960م ذات أثر واضح في إيجاد فن روائي، وإن كان لا يزال متأثراً – إلى حد كـبير – بالموروث العربي الديني، وبخاصة قصة الإسراء والمعراج، ورسالة الغفران للمعري، ومحملاً بالقضية الوطنية ورموزها ومشكلاتها، ويبرز فيها المضمون السياسي بنبرة صارخة يغلب أحيـاناً كثيرة على الفن والبناء الروائي لكنها تظل محاولة للتأسيس. تتبعها رواية «مذكرات عامل»(7) 1966م لعلي محمد عبده بما تحمله هذه الرواية من مضمون الطبقة العاملة وهـمومها، واستغلال الأغنياء لجهود الكادحين، ويأتي المضمون الاجتماعي أكثر وضوحاً في روايتي: « القات يقـتلنا «(8) 1969م، و»ضحية الجشع «(9) 1970م لرمزية عباس الإرياني، ورواية «مصارعة الموت»(10)1970م لعبد الرحيم السبلاني، وتبدو فيها صورة المجتمع وقضايا المرأة المستلبة، والزواج غير المتكافئ، والثأر وغيرها من المضامين أغلب من حيث اهتمام الكتَّاب، ولكنها تمثل مرحلة مهمة في طريق التأسيس لهذا الفن الروائي، والذي تبدو خطوة محمد عبد الولي وتجربته الروائية هي الأكثر قدرة وتمكّناً في هذه المرحلة لما يمتلكه هذا القاص من أدوات خاصة وموهبة حقيقية جعلته يعالج موضوعاً اجتماعيا في غاية الخطورة في حياة اليمني هو موضوع الهجرة والمولَّدين – الذين يكونون من أب يمني وأم حبشية تحديداً – في روايته « يموتون غرباء «(11)،1971م، ويقدم روايته في شكل فني محكم ورصين، يمثل بالفعل الشكل والمستوى الأكثر نضـجا وتأسيساً للخطاب الروائي في هذه المرحلة.
التجنيس:
امتدت خلال الفترة(1970م-1980م) حيث استقرت فيها الرؤية الفنية – نوعا ما – وثبتت كجنس أدبي قائم بذاته في وعي كتّاب المرحلة وممارستهم، وتمكن القاصّين من هذا الفن الروائي من خلال تكرار التجربة، والقراءات، والمعارف العامة، والمتابعة، والانفتاح على الرواية العربية والعالمية، وظهرت أسماء أخلصت لهذا الفن وطورته نذكر من ذلك مثلا: محمد عبدالولي، عبد الكريم المرتضى، محمد حنيبر، حسين مسيبلي، عبد الوهاب الضوراني، حسين سالم باصديق، محمود صغيري، عبد الله سالم باوزير، زيد مطيع دماج (وروايته الرهينة نموذج ناضج للرواية اليمنية، وقد قدمت ضمن أفضل مائة رواية عربية، ونشرت في مشروع «كتاب في جريدة» الذي أشرفت عليه اليونسكو)، محمد مثنى، سلوى الصرحي، عبد المجيد قاضي، يحيى على الإرياني، سعيد عولقي وغيرهم، استمر بعضهم وتوقف البعض الآخر مما خسر بسببه المشهد الروائي أقلاماً كانت قد بدأت في الطريق الصحيح فنياً.
التجديد:
وهي محطة التسعينيات وما بعدها حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وإن كان التجديد- في هذه المحطة – محسوباً ومحدوداً في بعض محاولات القاصين الشباب، ولم يتحول إلى ظاهرة غالبة – حتى نكون أكثر دقة في هذا التصنيف، وذلك فيما تبرزه بعض كتابات نبيلة الزبير في روايتها «إنه جسدي»(12) 2000م، ووجـدي الأهدل في «قوارب جبلية «(13)، و«الومضات الأخيرة في سبأ»(14) 2002م، و«فيلسوف الكرنتينة»2007م، و«بلاد بلا سماء»،2008م، وحبيب عبد الرب سروري في رواياته: «الملكة المغدورة»(15)1999م، و«دملان»(16)2002م، و«طائر الخراب» 2005م، وهند هيثم في « ملوك لسماء الأحلام والأماني «(17) و«حرب الخشب»(18) 2003م، وعبد الناصر مجلي في «رجال الثلج»(19) 2000م، وسامي الشاطبي في «كائنات خربة»(20)، و«للأمل مواسم أخرى»(21) 2003م، وكذلك أعمال أحمد زين في «تصحيح وضع»2004م، و«قهوة أمريكية»، ونادية الكوكباني، في «حبٌّ ليس إلا»، و«عقيلات»، وبسام شمس الدين، في «الدائرة المقدسة» و«هفوة»، وعلي المقري، في «طعم أسود.. رائحة سوداء»، و«اليهودي الحالي»، ومحمد الغربي عمران في «صحف أحمر»، و«ظلمة يائيل»، وغيرها.
وجاءت محاولات التجديد هذه على مستوى اللغة، والانشغالات بالشكل والمضمون في محاولة الخروج عن التراتبية الموروثة من بداية ووسط ونهاية، ومن عقدة وحل… الخ من تلك التقنيات، وتأتي محاولاتهم في التجريب على السرد والرؤيا والتشكيل اللغوي لهذا الجنس الأدبي العميق. ومع ذلك فثمة كتابات كثيرة في هذه المحطة متعلقة بالمحطة السابقة «محطة التجنيس» إن لم نقل بردها إلى محطات تقليدية موغلة، من خلال عدم تطوير البعض لكتاباتهم وآلياتهم، وجنوح البعض الأخر إلى الكتابة الملاصقة للواقع ملاصقة مرآوية بعيدة عن الفن، أو اللجوء إلى الكتابة السيرذاتية لدى كتاب يمتد حضورهم – عيشاً وكتابةً – إلى أجيال سابقة لكن قصصهم لم تخرج إلا في هذه المرحلة.
ثانياً: المضامين العامة للخطاب الروائي:
المضامين الإصلاحية:
ذات أداء مباشر ونبرة خطابية عالية كما في رواية»سعيد» للقمان، ورواية «مصارعة الموت» للسبلاني، ورواية «ضحية الجشع» لرمزية عباس الإرياني – كما سبقت الإشارة.
المضمون السياسي
تزامن بعضـه مع حركة التحرر الوطني من الإمامة في الشمال، كما في رواية مأساة واق الواق 1960م للزبيري، أو تلك الروايات التي كتبت فيما بعد لكنها تعالج نفس المضمون السياسي كما في رواية «صنعاء مدينة مفتوحة»(22) 1978م لمحمد عبد الولي، و« قرية البـتول «(23) 1979م لمحمـد حنيـبر، و«الرهينة»(24) 1984م لزيد مطيع دماج، ورواية «زهرة البن»(25) 1998م لعلي محمد زيد، ورواية «صنعاء الوجه الآخر»(26) لإبراهيم إسحاق، وكذلك ما كان منها يعالج قضية الاستقلال من الاستعمار البريطاني وسطوة السلاطين في جنوب اليمن، كما في رواية «مرتفعات ردفان»(27) 1976م لحسين صالح مسيبلي، ورواية «طريق الغيوم»(28) 1977م لحسين سالم باصديق وغيرها، وتظهر المرحلة الفاصلة في حياة اليمنيين أثناء حصار السبعين يوماً على صنعاء في عدد من الروايات، ولكنها تأخذ طابعاً مركزاً وجوهرياً في رواية «نهايات قمحية»(29) 2003م لمحمد عبد الوكيل جازم، ويأتي الترميز والفن في عناقهما حول الموضوع السياسي في أعمال الروائي وجدي الأهدل، كما راوية «قوارب جبلية»(30) 2002م الرواية التي مُنعت وجعلته مطارداً خارج الوطن لفترة، ورواية «حمار بين الأغاني»(31) 2004م، ورواية «فيلسوف الكرنتينة»(32)، 2007م، ورواية «بلاد بلا سماء»(33) 2008م، وجميعها تتعامل بذكاء شديد، وبتقنيات عالية مع الموضوع السياسي بما يصل به إلى الرمز ولكن ليس على حساب الفنية التي تبدو عاليةً في كتاباته.
المضمون الاجتماعي
عالجت فترات مختلفة من الزمن في اليمن الحديث وقضايا أبنائه وهمومهم، وقد ظهرت هذه الروايات حين استقرت القضية الوطنية وثبتت قواعد الدولة الحديثة، وبدأ الإنسان اليمني يبني حياته على طريق الاستقرار والسلام، ومن ذلك مثلاً عدد من الروايات التي تهتم بشرائح معينة من المجتمع وتلتفت إلى قضاياهم المصيرية كرواية «مجمع الشحاذين»(34) 1976م لعبد الوهاب الضوراني، وقضية الطبقة المثقفة، والبحث عن فرص العمل كـرواية «سفيـنة نوح»(35)1981م لعبد الله باوزير، وهموم مجتمع القرية كرواية «الإبحار على متن حسناء»(36) 1984م لحسين باصديق، وقضية الهجرة وغربة اليمني على اختلاف الزمن كروايات: «يموتون غرباء» لمحمد عبد الولي،-(وتعالج الغربة في الحبشة، وقضية المولدين في فترة ما قبل الثورة، وتمثل عند جيل الشباب هذه القضية ملمحاً ملحاً يتناولها سامي الشاطبي برؤية نفسية تركز على الداخل للشخصية والمحيط الاجتماعي في روايته «مذكرات مولَّد طيب» 2006م،(37) ورواية «نحو الشمس شرقاً»(38) 1998م ليحيى علي الإرياني (وتعالج الغربة السياسية مع قضايا حديثة لما بعد الوحدة)، ورواية «رجال الثلج» 2000م لعبد الناصر مجلي (وتعالج غربة اليمني الحديثة في أمريكا من وجهة نظر عملية، وتجربة كاتبها الفعلية).
وأما رواية «شارع الشاحنات»(39) 1985م لمحمد سعيد سيف فهي تصور ضغوط المدينة على المثقف وجفافها في وجهه، ورواية «ركام وزهر»(40) 1988م ليحيى علي الإرياني تبين صراع القيم بين المدينة والريف، كما يتجلى فيها صعود نماذج من الطبقة الوسطى وتبلورها، وفي «هموم الجد قوسم»(41) 1988م لأحمد مثنى صراع القديم والجديد وبيان الثوابت الجميلة لدى المجتمع التهامي تحديداً، وفي «الصمصام»(42) 1993م لصالح باعامر تتضح خصوصية مجتمع الصيادين وهمومهم وأفكارهم، وفي روايات: «أحلام.. نبيلة»(43) 1997م، و«أركنها الفقيه»(44) 1998م، و«طيف ولاية»(45) 1998م لعزيزة عبد الله معالجات لمشاكل المرأة وعذاباتها وهي تبدو كضحية للحاجة والمجتمع القاسي في الأولى، وللجهل والتغرير بها من الرجل في الثانية، وتأتي رواية «جمعة»(46) لياسين سعيد نعمان، التي تتكون من فصلين اثنين تحكي قصة امرأة اسمها هو عنوان الرواية في واقع اجتماعي يسوده التخلف والنظرة الدونية للمرأة.
المضمون التاريخي
للرواية ذات المضمون التاريخي حضور أيضاً في ثلاث روايات هي: «ليلة ظهور أسعد الكامل»(47) 1992م لأحمد قائد بركات، (حوارية بين الراوي وأحد ملوك حِمير القدماء بوحي من المكان حين يزور الكاتب مأرب، ويقف أمام سدها الشهير، وفيها ربط بين الماضي والحاضر)، ورواية «رؤيا شمر يرعش»(48) 1997م لأنور محمد خالد (وهي الرواية التاريخية التي تعالج تلك الفترة السحـيقة من تاريخ اليمن)، ومثلها رواية «طريق البخور»( 49) لمنير طلال، (وهي تتحدث عن الحملة الرومانية على اليمن)، ورواية «دار السلطنة»(50) 1998م لرمزية عباس الإرياني، (وهي تقدم تاريخ السيدة بنت أحمد الصليحي ملكة اليمن في التاريخ الوسيط وإن كانت تخاطب الناشئة)، وتأتي روايات متعلقة بتاريخ اليمن في حقباته القريبة، وحياة الناس فيه في روايات عبد الله عباس الإرياني الذي يشتغل على تيمة إبراز التاريخ في الفن والفن في التاريخ كما في رواية «الصعود إلى نافع»(51) 2007م المعبرة عن مرحلة حكم الإمام ونضال الأحرار، ورواية «الغرم»(52) 2008م، ورواية «مائة عام من الفوضى»(53) 2009م، ورواية «سم الأتراك(54)» 2012م، والتي يقصد بالسم فيها (الجنبية) الخنجر اليماني الذي كان سلاح اليمنيين في مواجهة هذه الدولة الكبرى وفي قض مضاجعها عبر تواجدها القلق في اليمن والذي تناولته الرواية عبر شخصيات الولاة وتناوبهم في إدارة اليمن والحملات التي وصلت إليها وهي وثيقة تاريخية مهمة تحتوي على قدر من الرصد التاريخي والأحداث المعتمدة على أرضية تاريخية واقعية.
المضمون العاطفي
جاءت الروايات ذات المضمون العاطفي عرضاً في اهتمام الروائي اليمني، وقد نلمح الكثير من تلك المضامين العاطفية تدور في بناء عدد من الروايات، لكن نادراً ما نجد روايةً تحمل ذلك المضمون عن قصد أو تُكرّسُ من أجله بحيث يقوم بناؤها وفكرتها وغايتها وقفاً على المضمون العاطفي، ولعل ذلك يرجع إلى تصور لدى الكتاب –وذلك بلا شك تصور خاطئ– مفاده أن الحبَّ هو آخر ما يمكن أن يقف لديه الإنسان في سلم الضروريات.
ثالثاً: عقود الخصوبة:
بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990م توافر للأدب مناخٌ إبداعي له خصوصية متميزة من حيث الحرية، والانتشار، وإمكانية النشر بشكل أوسع، وتنامي المؤسسات الثقافية المهتمة بالحراك الثقافي والإبداعي، هذا بالإضافة إلى المناخ السياسي والاجتماعي الحافل بالأحداث والمتغيرات المختلفة والذي تحتاج إليه الرواية – عادةً – لرصد أبعاده ورؤاه، فهي من حيث طبيعتها فنٌّ يرصد أزمات المجتمع وتغيراته، ويصور حركة الفرد وعالمه الداخلي والخارجي في إطار ذلك المجتمع المتحرك، وبنظرة ببليوجرافية(55)سريعة للإنتاج الروائي خلال هذه الفترة يتأكد للناظر ما نذهب إليه بأن الرواية تعيش في التسعينيات وما تلاها حتى اليوم أخصب عصورها من حيث الكم والكيف معاً، ونختلف مع ما يذهب إليه بعض الدارسين(56) بأن الرواية في هذه الفترة نائمة بالقياس إلى جنس أدبي آخر – له خصوصيته نشراً وإبداعا من حيث السهولة والقدرة على النشر السريع والتعبير عن روح الفرد أكثر من روح المجتمع – ونعني به القصة القصيرة، والدليل على ما نذهب إليه يتضح في أن أكثر من نصف الإنتاج الروائي اليمني خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة قد بلغ أكثر من (115) رواية، وهذا العدد يسجل كفّة راجحة لما تمّ إنتاجه خلال نصف قرن أو يزيد. وفيها إلى جوار استمرار المضامين السابقة من اجتماعية وعاطفية وغيرها –كما أسلفنا- يبرز مضمون مهم يتعلق بالتعايش بين الأديان والثقافات، وإعادة النظر في قراءة التاريخ واستنطاق قضاياه الأكثر غرائبية كما في رواية: «اليهودي الحالي»(57) 2009م- الحائزة على جائزة البوكر العربية- لعلي المقري، ورواية «هفوة»(58)2011م لبسام شمس الدين، والتي كانت أكثر تركيزاً على موضوع العلاقة بين مسلمي اليمن ويهودها، وأدق إشباعاً لتفاصيله الصغيرة في ربط بين المخيال والتاريخ القريب، وروايتي: «مصحف أحمر» 2009م(59)، و»ظلمة يائيل»(60) 2012م – الحائزة على جائزة الطيب صالح العالمية- لمحمد الغربي عمران، وفي هذه الروايات تعدد في تناول موضوع اليهود في اليمن كأقلية دينية، وقضايا التعامل معهم، ونظرة المجتمع إليهم، وفيها يتحاور المخيال التاريخي والروائي أكثر من الواقع، ولعلّ هذا الملمح في نظر كتاب الرواية الأحدث في اليمن يتعلق بما شاع في عصر العولمة من مفاهيم حوار الحضارات، وقضايا التعايش والتقارب بين الديانات –الأقليات منها تحديداً- ومحاولة الخروج بهذه القضية إلى أفق العالمية وبخاصة فيما يتعلق بشريحة كانت تعيش في اليمن وما زالت، ولها احترامها في ممارسة حياتها وطقوسها بشكل محدد، ولعلّ أهم ملمح عالجته تلك الروايات هو المتمثل بقضية الزواج من يهودية والعكس، وكيف رفضته العادات، القبلية والدينية، وكذلك في المقابل العادات الدينية عند اليهود اليمنيين، التي تحرمه وتجعله في حكم الزنا، كما تناولته روايات: «اليهودي الحالي»، و«هفوة»، و«ظلمة يائيل» والأخيرة تتميز إضافة إلى ذلك بأنها تعالج فترة مهمة من تاريخ مجتمع جنوب شبه الجزيرة العربية، منتصف القرن الخامس الهجري، حيث استدعى كاتبها التاريخ، مركزا على الصراع الديني بين المذاهب، ليدور صراع عنيف للسيطرة على المجتمع بين ثلاثة مذاهب إسلامية هي: المذهب الإسماعيلي، ومركزه حراز، وكان امتدادا للدولة الفاطمية في القاهرة، والمذهب السني الامتداد لمذهب العباسيين في بغداد، والمذهب الثالث هو المذهب الزيدي المنتشر في أكثر مناطق اليمن.
رابعاً: إشكاليات الرواية اليمنية:
وهنا نقف عند خلاصةٍ حول إشكاليات الرواية اليمنية التي ينبثق بعضها عما فصلناه في تحقيبها الزمني ومضموناتها، ويأتي الآخر من سؤال الحداثة الذي يسعى إليه جيلها الأحدث في اليمن والأقدر على تمثيلها بوعي وحرص شديدين لأنها بالنسبة إليهم عمل مقصود ومدروس لم تعد قائمة على الهواية أو الفكرة العابرة أو حتى الرغبة في تحقيق كتابة سيرية بطريقة روائية ولكنها غدت أكثر عمقاً واشتغالا على اللغة والممنوع والمدهش بلا قيدٍ سوى قيد الموهبة وبلا حدود سوى حدود الأفق المفتوح، حيث غدت شغلا شاغلا لكتَّابها واشتغالاً حقيقياً بتفرغ واسع لتحقيق المنافسة الحقيقية للنماذج العالمية والعربية بتقنياتها للوصول بها إلى فضاءات أعلى من حيث الحضور والتمثّل والمعالجات الروائية السردية والفنية واللغوية ناتجة عن الكثير من المثاقفة ووعي المشاركات الخارجية والقراءات الواسعة في المدونة الروائية بتراثها القديم والقريب، ومن هنا قد تتمثل إشكالاتها هنا في أبرز ملامحها الآنية التي تتمثل في إشكالية سؤال الحداثة ورؤية العالم وفق زمن الحضارات المتصارعة والثقافات المتسارعة، وإشكالية التداخل بين السيرة الذاتية والعمل الموضوعي الفني الخالص والمقترب إلى حدٍ ما من الفنية المطلقة أو المجردة، وثنائية الجدل بين طرائق العرض في أشكالها التقليدية وطرائق استخدامات التقنيات الحداثية بضمائرها السردية ومزجها، وتكسيرات الزمن وخطيته، وعناصر الشخصية بين سيطرتها المطلقة وبطولتها وتجاهلها التام وتحويلها لمجرد ضمير فقط.
اخيراً
تلك هي أبرز محددات زخم الرواية اليمنية اليوم وإشكالياتها كما يظهرُهُ واقعها الآني عند أجيالها المتعاقبة وعند جيلها الأحدث الذي يسعى بها إلى مصاف التحقُّقِ المنتج، والمنافسة الواسعة لتمثيل حضور يمني فاعل في مشهد الرواية العربية الحديثة.