منذ تسعينات القرن الماضي، شهدت الأنواع الأدبية المتعددة والمتباينة التي تندرج تحت ما اصطُلِح على تسميته «الأدب الذاتي» (Littérature personnelle/intime) تجديدا لافتا، من جهة على مستوى نموذج السرد وتقنياته، ومن جهة أخرى على مستوى تعدد الوسائط التي تتداخل لإنتاج خطاب، يغزل عبره الكاتب سردية تَشَكُّل ذاته. تزامن هذا التجديد في الأدب الذاتي مع بزوغ أدب فوتوغرافي ذاتي، وانطلاقة للسينما الوثائقية الذاتية – وهو ما لم يحل دون استمرار الأشكال التقليدية للسير الذاتية. فعلى الرغم من أن ثمة تقاليد تحكم صيغة النصوص والأفلام الذاتية، إلا أن هذا الحقل يبدو من قبيل المفارقة «مفتوحا» أمام كل أشكال «ممارسات الذات»1، التي تمنح الكاتب والمخرج حرية ابتكار أو تجريب تمثلات عديدة لجماليات تشكيل الذات. وهو ما يجعل مغامرة الإنتاج الذاتي تبدو مثيرة للكاتب، والمخرج، والمصور الفوتوغرافي. فضلا عن ذلك، فإن تفجر الذات المعاصرة، بعد أن فقدت وحدتها، يتجلى في عدم استمرارية المسار الزمني للسرد، في تفتت الأفكار، في تشظي السرد، وغيرها من السمات التي تدلل على تعدد وتباين الذات.
ترتكز هذه الورقة على مفهوم «التواسط» أو «عبر الوسائطية» (intermédialité) في تناول «حكي الذات» في الأدب والسينما بمفهومها الواسع العابر للأنواع الأدبية المتعارف عليها (السيرة الذاتية، المذكرات، اليوميات، ذكريات الطفولة، ألخ.)، تلك الأنواع التي تأثرت بها السينما الوثائقية الذاتية منذ بداياتها في نهايات سبعينات القرن الماضي. يتيح مفهوم «التواسط» دراسة أنماط العلاقات بين وسائط أدوات التعبير التي يستخدمها الكاتب/المخرج لبناء حكاية سيرته الذاتية. وأفضل استخدام «حكي الذات» للإشارة إلى فعل الحكي الذي يمارسه كل من الكاتب والمخرج داخل منتجيهما الذاتيين: الطباعي (كتابة وفوتوغرافيا) والسمعي البصري (سينما وتلفزيون).
يعمل الوسيط السينمائي على تحويل شخصية ما (متخيلة/حقيقية) إلى صورة متحركة، تُعرض على شاشة كبيرة، وهو ما يكسب تلك الصورة على المدى الطويل بُعدا أسطوريا. يسائل هذا التحول الذي تتعرض له الصورة السينمائية فكرة عرضها على أنظار المشاهد، وتمددها على سطح العرض، وأيضا على حركيّتها. في قاموس الصورة، تحيل كلمة « projection » إلى عمليتين متمايزتين. الأولى تقنية وترتبط بالصورة السينمائية: « […] إضاءة خلفية لصورة أو لسلسلة من الصور وعرضها على شاشة، بعد تكبير أبعادها بواسطة مجوعة من العدسات. المبدأ المتبع واحدٌ، بدءا من المصباح السحري ووصولا إلى آلة عرض السينما، وهو الذي يضيف آلية التمرير التتابعي للصور الثابتة. 2 » أثناء «تمرير» الصور فوق سطح الشاشة، تحتل تلك الصور تدريجيا مكان وزمان العرض لدرجة تجعل المشاهد يقع في أسرها. أما العملية الثانية فهي نفسية تُعتبر البيئة المحيطة بالذات كـ «سطح» تُسقط الأخيرة عليه مشاعرها وانفعالاتها : « […] آلية تنسب خلالها الذات إلى محيطها ما يخصها من: مميزات أو عيوب، مشاعر، دوافع. فنحن نلون العالم الخارجي ونفسره وفقا لتصوراتنا الواعية وغير الواعية، لاحتياجاتنا، لأمزجتنا. إن الإدراك نفسه يحمل بصمات إسقاطات. » ومن ثمَّ، فإن مفهوم العرض/الإسقاط يوحي بـ «قدرة الصور المعروضة على فتنة» من يشاهدها ومن ينتجها، الاثنان على حدٍ سواء. من هنا تنبع احتمالية انجذاب المخرج لتحويل ذاته -وليس الآخر كما هو معتاد- إلى صورة سينمائية.
أحاول في طرحي الرد على تساؤل: كيف تحدث حالة التواسط في حكي الذات في الأدب والسينما؟ من أجل ذلك، استعرض الأطر المعرفية التي أستخدمها، متوقفة تحديدا أمام مفهومين أساسيين ترتكز عليهما هذه الورقة: التواسط والتوسّط.
أولا: التواسط
منذ منتصف التسعينات، تطور مفهوم التواسط كمنهج للدراسات البينية، يعني بأنماط العلاقات المختلفة بين الميديا سواء على المستوى الداخلي للمنتجات الثقافية، أو على مستوى آلية عمل كل ميديا على حدة، يتجاوز هذا المنهج تحليل مضمون «النص» -أستخدم لفظ «نص» بمعناه الواسع: فقد يكون الحديث عن نص مكتوب، عن صورة، عن فيلم. فضلا عن ذلك، يهتم هذا المفهوم بـ « مادية المنتجات الثقافية محل الدراسة »3 وهو ما يفسر تعدد وتباين التصورات التي طرحها الباحثون لتحليله.
قبل أن أتناول تلك التصورات، ينبغي أن أحدد ما أعنيه باستخدام لفظين «ميديا» (média) و»وسيط» (médium). يشدد يورجن موللر (Jürgen E. MÜLLER) على أن الميديا تتميز بكونها تحتوى على «الجانبين المادي والاتصالي اللذين للآلة الإعلامية»، في حين أن الـ «فن» «يتصف بوظيفتـ هه الجمالية»4. أما الوسيط فهو، وفقا لإيريك ميشولان (Éric MÉCHOULAN)، ما يجعل ممكنا حدوث «عمليات تبادل داخل جماعة من الناس»، من ناحية كـ «وسط تتم بداخله عمليات التبادل ،تلكت»، ومن ناحية أخرى كـ «كيان مادي (حجر، جلد غنم، ورق، شاشة سالبة القطب، كلها حوامل لوسائط)»5. لذا، إذا كنت أستخدم لفظ «وسيط» للإحالة إلى «الطباعي»، فأنا أدرك أن «الخطي» الذي يعتبر أقدم الوسائط، لم يعد من الممكن تصوره كمنتج تكنولوچي، مثل الصورة الفوتوغرافية، صورة الڤيديو، الصورة السينمائية، إلخ.
أنتقل إلى مفهوم التواسط الذي يميل بعض الباحثين إلى مقاربته من «التناص». يرى ميشولان، على سبيل المثال، في التواسط نسخة مختلفة من مفهوم التناص، أو تطور له، بمعنى أن كليهما يجعلان النص ينفتح على نصوص أخرى سابقة له، وفي هذا الاطار، « يُفهم أن ما يعنيه «نص» أي انتاج جمالي يُشكل «نسيجا» من كلمات، من أصوات، من ألوان خام أو من صور ».6 ولكن هذا التصور لا يأخذ في الاعتبار تعقيد مفهوم التواسط إذ يعني فقط بالعلاقات بين المنتجات الثقافية المتباينة على المستوى «النصي»، وليس على مستوى وسيلة ووسيط انتاج الخطاب. لذلك فإن يورجن موللر، مذكرا بالعلاقات بين التناص والتواسط، يحدد أن « الأول يفيد تقريبا حصريا في وصف نصوص مكتوبة. إذن، فمفهوم التواسط ضروري ومكمل له إذ يعنى بآليات انتاج المعنى المرتبطة بالتفاعلات التي تحدث بين وسائل الميديا. »7
تستفيض سيلڤيسترا مارينييللو (Silvestra MARINIELLO) في هذا الاتجاه، وحيث أنها ترى في أي دراسة تستهدف صياغة تعريف لمفهوم التواسط اختزالا وتجميدا له، فهي تفضل مساءلة الديناميكية التي ترتكز عليه تجربة التواسط. تتتبع مارينييللو المسار الذي سلكه دولوز (Gilles DELEUZE)وفيليكس جواتاري (Félix GUATTARI) في كتاباتهما حول «المفهوم»، والتي تشير إليها في مواضع عدة. يعتقد الكاتبان أن المفهوم يُعَرَّف بـ»مكوناته» التي «يُجمِلها» مُكونا كُلا، « إلا أن هذا الكل مُتشظ »ٍ8. وفقا للمنطق ذاته، تقوم مارينييللو بتفسير مكونات مفهوم التواسط قبل أن تتوقف عند المشكلات أو الأسئلة التي يطرحها:
«بين»، على سبيل المثال، كما نجدها متضمنة في ما يشتمل عليه مفهومم «تناص» تشير إلى إحالة ممارسة توسطية ما إلى ممارسةٍ أخرى، كما هو حال المكانية-الزمانية العالقة «ما بين» ؛ «وسيط»، هو الوَسَط الذي يجري بداخله حدثٌ ما ؛ «توسط»، الذي يحيل إلى طريقة يمكن بها حدوث لقاء بين ذات ما والعالم، بين ذاتين أثناء حركة تشَكلهما، في كل مرة، من خلال علاقة كل منهما بالآخر ؛ جهاز، الذي يكشف الطريقة التي تقوم التقنية عبره بعقد اللقاء ؛ صيرورة، التي تظهر الدينامية الملازمة لأية عملية توسط.9
ثمة حالتان من التواسط، قام متخصصان في هذا المجال بطرح وتحليل ظروف حدوثهما. تحدث الحالة الأولى وهي الأكثر شيوعا، كما توضحها مارينيللو، حين تتواجد الذات في فضاء احتمالي بين وسيطين. إن التواسط حالة أو لحظة من التماس بين عدة وسائط، تماس يتجه نحو فكرة التقاطع، لا نحو فكرة الانصهار. نحن إذن بصدد حالة تفاعل بين «أوساط» متمايزة ومتجاورة. ولما كان جسد الذات «عالقا» بين عدة وسائط، فإن هذه الذات تتشكل وتنشئ علاقتها بالعالم وبالذوات الأخرى أثناء التحول الذي تخضع له أثناء عملية التوسّط. علاوة على ذلك، يبدو عبور الذات من وسيط لآخر في حد ذاته كاشفا لاحتياجها إلى التعرض لمنطق آخر يختلف عن ذلك الذي ينتمي إليه مشروعها الأصلي: على سبيل المثال، عدم الاكتفاء بالخطي، والاتجاه الى الفوتوغرافي، والمراوحة بينهما. يرتكز هذا المنطق على التباين، عدم التجانس، الانقطاع، استحالة المواءمة، كلها تمظهرات تعكس تفجر الذات الحديثة، وتنبه إلى « ضرورة تغيير نمط التفكير.»10 تحدث الحالة الأولى من التواسط التي تحللها مارينييللو على سبيل المثال حين يتجاور الخطي والفوتوغرافي داخل الطباعي ؛ أو حين يتضمن الفيلمي إحالات إلى الراديو، الڤيديو أو التلفزيون.
أما الحالة الثانية من التواسط، فيمكن أن تحدث على مستوى وسيط واحد، أو للدقة داخل وسيط واحد. هذا ما يطرحه وليد الخشاب الذي يعتبر داخل الوسيط الواحد كـ «فضاء احتمالي»، يمكن للذات أن تتواجد به وتتشكل فيه عبر خلقها لنقاط ارتكاز تنتسب إلى الوسيط نفسه. تعمل هذه النقاط أو «الأقطاب» كمرجعيات لنفس الوسيط الذي يحتويها والتي تنتمي إليه. يشكل «الفضاء الاحتمالي» الذي يتكون بين الوسيط وبين نقاط ارتكازه حالة التواسط:
يتضمن المنتج الثقافي لحظات تواسطية إذا تشكلت الذات في فضاء احتمالي بين وسيطين، أو بين «بين» موجود «بداخل» وسيط واحد. حين يحيل وسيط ما إلى ماديته، فهو يخلق بذلك فضاء بينا بداخله. يمكن بصورة استرشادية تخيل هذه الانعكاسية على النحو التالي: الحال 1 هو الوسيط مُحيلا إلى ذاته، أي إلى حال 2 من أحواله. بين هذين الحالين، أو هذين الـ «قطبين» لنفس الوسيط، يوجد المكان الافتراضي للتواسط. هنا، لا يبرز التواسط بين وسيطين، وإنما في «جوف» الوسيط الواحد.11
وتحدث هذه الحالة مثلا حين تتشكل ذات الكاتب بين خطاب يتكون من نص مكتوب ومطبوع على وجه ورقة في كتابه، وصورة مطبوعة على ظهر الورقة ذاتها ؛ أو حين تتواجد ذات صانع الفيلم بين سطح شاشة عرض السينما الأمامي وبين سطحها الخلفية. وسواء نتجت حالة التواسط عن تواجد الذات في فضاء يتماس فيه وسيطان، أو بين نقاط ارتكاز داخل وسيط واحد، فالذات تنتج خطابا عبر عملية تشتمل على تجسيد ما هو بالتعريف غير مادي، وذلك عبر هيئة طرائق مختلفة منها الشفهي، المكتوب، الصورة، الموسيقى، إلخ.، وهو ما يعرف بمفهوم «التوّسط».
ثانيا: التوسّط
معتمدا على التصور الذي قدمه دولوز لمفهوم التوّسط « كإنتاج اجتماعي مستمر »، يفسر وليد الخشاب آلية عمل ذلك الوسيط مستعيرا مفردات الكيمياء:
من المعروف أن ثمة تبادل للإلكترونات يحدث بين الأجساد، ولكنه من غير الممكن التعرف بالعين المجردة على الجزيئات التي تدخل في هذا التبادل قبل غيرها من الجزيئات الأخرى، ولا اللحظة الدقيقة التي يتحول فيها كل جزيء. في كل لحظة من الحياة اليومية، تتم عملية توسط، ولا يحد منها مكان ما أكثر من مكان آخر. لا ينطوي التوسط على علاقة ثنائية بين الإنسان والعالم، ولا بين جزءين متمايزين ومعرفين، ولكنه ينطوي على تفاعل ديناميكي بين الجزيئات التي تملأ الكون. وبالتالي، فالتوسّط لا يمكن فصله عن المادية: هو لا يحدث بين الطبيعي وما وراء الطبيعي ؛ إنما يندرج داخل سيرورة من التحول المستمر. 12
لذا يبدو مفهوم التوسط ذا معنى مزدوج. فمن جهة، يحيل إلى عمل وسائل الإعلام التي تؤثرا طوال الوقت على الفرد بالخطاب السياسي والاجتماعي الذي تنتجه. ومن جهة أخرى، يعتبر هذا المفهوم كعملية تتم على كل جوانب الحياة في مجتمع ما، على مستويات الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، الديني، إلخ.
بناء على ذلك، يمكن اعتبار كل نص ذاتي كـ «توّسّط» لحياة صاحبه: أي إعادة إنتاج لتلك الحياة. إذ يحدث في أثناء الكتابة أو عمل فيلم عن الذات تفاعلٌ بين مؤلف المنتج الذاتي، بجانبيه الجسدي وغير المادي، وبين مادية الوسيط الذي يقوم هو بتنفيذ مشروعه داخله. لعل أهم ما يميز منهج التواسط في دراسة عرض الذات في كتابات أدبية وأفلام ذاتية هو أنه لا يسعى إلى إثبات فوقية وسيط ما على وسيط آخر، وإنما يحاول هذا المنهج تفسير كيف يؤثر وجود اختلافات بين الوسائط على عملية إنتاج المعنى. وهنا بجب توضيح أنني لا أقصد بـ «إنتاج المعنى» وجود معنى محدد سلفا من قبل ذات واحدة ومركزية، وقادرة على التحكم فيه. في الواقع، تقوم الذات المعاصرة المتفجرة، المتشظية، بعدد من الممارسات تنتج عبرها علامات تحمل قطعا معانٍ. إلا أن هذا المعنى ليس وحيدا ولا نهائيا، إذ أن مؤلف المنتج الذاتي، باعتباره كيانا ماديا، لا ينتج علامات شفافة تحمل معناً محدداً. لذا، فإن إنتاج المعنى لا يتم وفقا لمسار خطي تنطلق في بدايته «ذات منتجة» تحمل نفوذ المؤلف، وتصل في منتهاه إلى «فك شفرة» الرسالة التي توجهها إلى المتلقي. إن التواسط يسلك بالأحرى مسارات مائلة متعرجة، متقطعة، غير متوقعة، وفي تعرضها «للحركة والتفاعل مع المادة» تقود المتلقي إلى مجموعة متنوعة من التفسيرات.
لعل «التفاعل مع المادة» الذي يشكل جوهر مفهوم التواسط هو ما يجعل النصوص الأدبية الذاتية -أو غير الذاتية- التي تتضمن خطابا يستخدم فيه الكاتب وسيط الكتابة لتناول العلاقات بين الأدب والفوتوغرافيا، على سبيل المثال، أعمالا أدبية تتعرض لتيمة العلاقات بين الأدب والفنون، وليست بأعمال تضم حالات تواسط، إذ أن وسيط الكتابة في تلك الحالات لا يستوعب وسيط الفوتوغرافيا، كما أن الأخير لا يساهم في بناء المنتج الثقافي ولا في تشكيل الذات الكاتبة.
في إطار حكي الذات الحديث، تعرض الأخيرة صورا لها تتداخل فيها مكونات غير متجانسة، بل ومتناقضة. إذ يتقدم السرد داخل شبكة من العلاقات الجدلية بين عالمين: العالم الفيلمي والعالم المرجعي، بين زمنين: حاضر الكتابة وماضي المكتوب (بعيدا كان أم قريبا)، بين وجهتي نظر: المتأمِل والمتأمَل، إلخ. بعبارةٍ أخرى، تتموقع الذات نظريا في فضاء «ما بين»: من ناحية، بين مادية جسد كاتب/مخرج العمل الذاتي الحاضر أثناء كتابته/تصويره لمنتج عن ذاته، فضلا عن مادية الوسيط (الوسائط) المستخدم(ة)، ومن ناحية أخرى، بين افتراضية الذاكرة التي تكون صورا ذهنية عن ومن الماضي. ولعل التماس القائم بين هاتين الحالتين هو ما يضع مفهوم التواسط في قلب مسألة عرض/إسقاط الذات (projection de soi).
وكون مفهوم «التواسط» أو «عبر الوسائطية» الحديث يعتبر مادية الوسيط جزءا من سمات المنتج الثقافي الذاتي، فذلك لا يميزه فحسب عن غيره من المفاهيم13، وإنما يجعله تحديدا يتناسب مع تحليل أشكالٍ من السير الذاتية بوصف الأخيرة مجالاً يستدعي صوراً غير مادية من الذاكرة، ويجسدها في الحاضر. تقوم الذات الحديثة بإنتاج وترتيب عرض شظايا من تجربتها، الماضية أو الجارية، على هيئة تكوينات هجينة عبر وسائطية، يتقاطع ويتداخل فيها الطباعي، الفوتوغرافي والسينمائي. في أثناء تلك العملية، تتكون ذات الكاتب/المخرج لا ككيان متوحد وإنما كذاتٍ متشظية، عالقة في فضاءٍ احتمالي بين ماضي الذكرى وحاضر الحكاية، بين ذاتٍ مرت بتجربة وذاتٍ تستحضر تلك التجربة، بين لا مادية الذاكرة ومادية الوسيط وجسدية الذات.
الهوامش
1FOUCAULT, Michel, « Usage des plaisirs et techniques de soi », Le Débat, nº 27, novembre 1983, p. 46-72, nº 338 in Dits et écrits IV 1980-1988, Gallimard, 1994, pp. 545
2 Dictionnaire de l’image, ouvrage dirigé par DUHEL Françoise, coordination scientifique par VANOYE François, Vuibert, 2008, deuxième édition, p. 296.
3 BESSON Rémy, « Prolégomènes pour une définition de l›intermédialité à l›époque contemporaine », 2014, p. 3, https://hal-univ-tlse2.archives-ouvertes.fr/hal-01012325v2
4 MÜLLER Jürgen E., « L’intermédialité, une nouvelle approche interdisciplinaire : perspectives théoriques et pratiques à l’exemple de la vision de la télévision », Cinémas : revue d›études cinématographiques / Cinémas: Journal of Film Studies, vol. 10, n° 2-3, 2000, p. 133.
5 MÉCHOULAN Éric, « Intermédialité : Le temps des illusions perdues », in Intermédialités : histoire et théorie des arts, des lettres et des techniques / Intermediality: History and Theory of the Arts, Literature and Technologies, nº 1, 2003, p. 19.
6 MÉCHOULAN, Éric, «Intermédialité : Le temps des illusions perdues », art. cit., p. 9.
7 MÜLLER, Jürgen E., « L’intermédialité, une nouvelle approche interdisciplinaire : perspectives théoriques et pratiques à l’exemple de la vision de la télévision », art. cit., p. 106.
8 DELEUZE, Gilles, GUATTARI, Félix, Qu’est-ce que la philosophie ?, Paris, Éditions de Minuit, 1991, pp. 21-22, cité par S. Mariniello, art. cit., p. 48.
9 MARINIELLO, Silvestra, « Commencements », in Intermédialités : histoire et théorie des arts, des lettres et des techniques / Intermediality: History and Theory of the Arts, Literature and Technologies, n° 1, 2003, p. 48.
10 – المرجع السابق، ص. .52
11 EL KHACHAB, Walid, Cinéma et mysticisme. Autour du Cinéma Zen, papier présenté à l’Atelier du CRI (Centre de recherche sur l’intermédialité) Le Cinéma Zen, Université de Montréal, Juin 2007.
12 EL KHACHAB, Walid, Le mélodrame en Égypte. Déterritorialisation, intermédialité, thèse de doctorat, Université de Montréal, 2003, pp. 280-281.
13 – يستخدم بعض الباحثين مصطلح « automédialité » للإشارة إلى المنتجات الثقافية التواسطية ذات الطابع الذاتي، حيث تتشكل الذات داخل المكتوب، والصورة، والميديا الحديثة، ولكني أعتقد أن البادئة « auto » في أول لفظة « automédialité »، والتي تعني «ذاتي» غير قادرة على التدليل على تموضع الذات «بين بين»، مثلما تشير عنها البادئة « inter » في أول لفظة ،« intermédialité » والتي تعبر عن تعقيد حالة التواسط.
Revue d’études culturelles, Automédialité contemporaine, 2008.
داليا السجيني *