ليس من قبيل الإكتشاف القول بأن التناص المسيحي يشكل المرجعية التناصية الأولى في تجربة الشاعر نزيه أبو عفش بسبب طبيعة الرؤية الشعرية السوداء الحزينة، والشعور الطافح بالمرارة والألم والوحشة الذي تنطوي عليه تجربة الشاعر إزاء ما يعاينه في عالمنا الراهن من قتل واستباحة وجوع وهزيمة لروح الإنسان الوحيد والأعزل، ووجوده وأحلامه في عالم تحكمه القوة والعلاقات المادية والإستهلاكية والإندفاع الغريزي الحموم للسيطرة والنفعية، ما يجعل الإنسان ضعيفا وأعزلا ومحطما أمام قدره الذي تصنعه تلك القوى التي تقود عالم اليوم مدفوعة بالبحث عن مصالحها. وفي تفاعله مع المرجعية المسيحية يستخدم الشاعر بصورة أساسية آليتي التقنع، لاسيما مع شخصية السيد المسيح التي يستعير قناعها وصوتها، وآلية الاستدعاء والتحويل حيث يأخذ هذا التناص شكلين من التعبير الأول يحاول من خلاله أن يعبر عن قسوة وفظاعة التجربة التي يعيشها الشاعر بوصفه شاهدا وشهيدا إزاء ما يحدث من مآس وفظاعات وموت وخراب في الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر عموما، والإنسان العربي خصوصا، والثاني للكشف عن عمق تلك المأساة وتجلياتها الروحية والوجودية التي تجعل من الإنسان ضحية لشرطه الوجودي والسياسي والاجتماعي. وإذا كانت تجربة السيد المسيح كما تدونها كتب الإنجيل تكشف عن عمق الألم والمعاناة وروح التضحية والفداء التي جسدها صلب المسيح، في حين كانت المحبة والدعوة إلى السلام والتسامح هي جوهر الرسالة التي أكدت عليه تعاليمه وأقواله، فإن استدعاء الشاعر لشخصية المسيح واستعارة قناعها وصوتها وكذلك التفاعل مع روحية الدعوة المسيحية تكشف عن المحاور الأساسية التي ظلت تدور حولها تجربة الشاعر، وتعمل على تمثل ما تجسده من حس مأساوي بالوجود في تجربة الإنسان، وضرورة استعادة جانبها الروحي المفقود ودعوتها للسلام والمحبة لكي تستعيد الحياة توازنها الذي اختل، وتعيد للإنسان وللحياة معناهما وقيمتهما ودفئهما.
ويأتي التناص مع المرجعيتين الشعرية والإسلامية تاليا، حيث نلاحظ تباين ظهور المرجعيات التناصية بين ديوان وآخر، في حين يبقى التناص المسيحي يمثل المرجعية النصية الأولى في جميع تلك الأعمال، وإن كانت الرؤية الشعرية ذات الطابع المأساوي والحزين تبقي التفاعل مع هاتين المرجعيتين الشعرية والإسلامية في إطار النصوص التي تنطوي على معنى من تلك المعاني بصورة مكثفة وبالغة الدلالة حيث يحاول الشاعر من خلال التفاعل مع تلك النصوص الشعرية والدينية أن يوظف كثافة حضور معاني النص الأول وقداسة النص الديني في الوجدان الجمعي للتأثير في المتلقي الذي يستدعي معهما فضاءهما الوجداني والقدسي، إضافة إلى منح الخطاب الشعري وظيفة تعبيرية وتصويرية، الأمر الذي يكشف عن الأهداف التي تتوخى استراتيجية التناص عند الشاعر تحقيقها لاسيما على مستوى الوظيفة الجمالية التي تتجاوز الوظيفة الدلالية، والتأثير الخاص لتلك النصوص المستدعاة إلى تفاعلها مع بنية النص الشعري الكلية، وتحقيق اندغامها في تلك البنية وشحنها للنص الجديد بدلالات ومعان جديدة تحقق حضورها وتأثيرها في المتلقي. ويظهر التحويل في النص المسيحي أو الديني عموما، وكذلك في النص الشعري من خلال منح تلك النصوص دلالات جديدة يحقق التناص معها هدفين اثنين، الأول يتجلى في تحقيق التفاعل والانسجام داخل بنية النص الشعري (الوظيفة الجمالية) والثاني منح النصوص القديمة معنى جديدا ومعاصرا يعبر عن تجربة الإنسان المعاصر وهواجسه ومعاناته، وعن الإضافة والتعديل الذي يطرأ على البنية الدلالية للنص المرجعي الذي تتفاعل معه القصيدة من خلال الرؤية الجديدة التي تمتلكها، وتمتلك من خلالها شرعية حضورها وقدرتها على تحقيق مفهوم الإنتاجية لأن التناص( يحدث ليس على أساس المحاكاة الإرادية أو التدرج المعلوم، ولكن وفق طريقة تمنح النص وضع الإنتاجية وليس إعادة الإنتاج)(1). وفي دراستنا لآليتي التناص عند الشاعر سوف نختار أربعة دوواين من أعماله التي صدرت في مراحل زمنية مختلفة لتكون مجالا للدراسة، وهذه الأعمال هي ( حوارية الموت والنخيل- دمشق 1972 وأيها الزمان الضيِّق..أيتها الأرض الواسعة- دمشق 1978 وهكذا أتيت.. هكذا أمضي- بيروت 1989 وما يشبه كلاما أخيرا- دمشق 1997).
آلية القناع
تسعى آلية التقنع في التناص الشعري عند أبو عفش إلى محاولة امتصاص جوهر شخصية المسيح والدلالات الكبيرة والأساسية التي تنطوي عليها تجربته ورسالته. وتقوم هذه الآلية من التقنع على أن( يخفي شخصية ويظهر أخرى هي الذات العميقة التي تكتسبها الشخصية المتنكرة، إنه يغيِّب وجها واسما ويظهر وجها واسما جديدين)(2). إن أهمية استخدام هذه الآلية تتمثل في كونها( تتأسس على الطبيعة الجدلية لمبدأ التقنع كمبدأ تكويني وكفاعلية إنتاجية، على تجربة رؤيا داخلية ينفتح فيها الشاعر على حركة تفاعل تستمر باستمرار القصيدة مع أنا مغاير أو أكثر)(3)، حيث تتشكل الطبيعة الثنائية للقناع من خلال الصراع بين أنا الذات وأنا الموضوع، فيقوم جدل العلاقة بين الشخصيتين على قاعدة الخفاء والتجلي، وتكون( المسافة الفاصلة ما بين سطح النص وقرار قاعه وما بين وجه القناع وقرار أعماقه ليست في الحقيقة إلا محصلة طبيعية لمدى تفاعل العناصر النصية المتداخلة في بناء النص، والأقطاب المتفاعلة في تكوين القناع)(4). وغالبا ما نجد القناع يستغرق قصيدة الشاعر التي تتألف من مجموعة من الحركات التي تتناول جوانب من علاقة أنا الذات بأنا شخصية القناع، على قاعدة الصراع الدرامي بين هاتين الشخصيتين، حيث يهيمن صوت الشخصية على سطح الخطاب بينما يحتل صوت الشاعر قاعه، كما في هذه القصيدة:
أنا المسيح الصغير اليانع/ ربيب الأبواب الموصدة/ والأوحال الساطعة/ أوقظ النشيد في قلب صاحبه/ وأرجع إلى أمهاتها الجراء الضالة.(5)
وكما نلاحظ في هذا النص فإن القناع يخفي الشخصية القديمة والمعروفة للسيد المسيح ويظهر شخصية أخرى تحل محلها تمثل ( الذات العميقة) للشخصية المتقنعة( شخصية الشاعر) والتي يتم اكتسابها من قبل تلك الشخصية( أنا المسيح الصغير اليانع) التي لا تطابق شخصية الشاعر ولا أناه المغاير، في الوقت الذي لا تفقد اتصالها بهما، فالمسيح الصغير( شخصية القناع) هنا ينفي الشخصية القديمة للمسيح ويظهر ذاتا عميقة أخرى لها، تمثل في الواقع محصلة لتفاعل جميع العناصر النصية التي تتداخل وتشكل بنية النص، وجماع وحدته، فالقناع ( يغيِّب وجها واسما ويظهر وجها واسما جديدين)(6). وفي قصيدة أخرى يستعير الشاعر قناع المسيح وصوته الذي يجسد طبيعة الرسالة التي قدَّمها في التسامح والسلام، لكن شخصية المسيح التي يستعيرها في هذا النص مستمدة من النص القرآني ممثلا بسورة مريم، إذ تغيِّبها شخصية القناع لتظهر بدلا عنها شخصية أخرى هي محصلة للعلاقة الجدلية بين أنا الذات وأنا الموضوع، حيث يبدو التركيز التشخيصي على أنا القناع التي تنطوي بنيتها على التوتر الناجم عن جدل العلاقة الدرامية بين ذات شخصية الراوي، وموضوع القناع اللذين ينقسم إليهما صوت الشاعر في قصيدة القناع وفق ما تتطلبه طبيعة الرؤية الشعرية في القصيدة:
والسلام عليَّ/ السلام عليَّ / أوزع جسمي على قاتليه/ وأنسج أكفانه من غبار.(7)
والآية القرآنية التي يقوم بعملية تحويل لصيغتها الخطابية التي تتبدل من صيغة المتكلم الغائب إلى صيغة المتكلم الحاضر بصورة تتناسب مع آلية التقنع في هذه القصيدة( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا)(8).
ويتكرر ظهور القناع بنفس الدرجة من الكثافة التي يمتلكها القناع بسبب تعدد التجارب التي تشكل خلفية هذا القناع والرؤية التي توجهه، وما تنطوي عليه العلاقة من جدل التماهي بين شخصية الشاعر وشخصية القناع إذ يظل هذا الجدل هو الحاكم لتلك العلاقة التي يجب أن يتركزفيها التشخيص على القناع، في حين لايمكن أن نطابق بين درجة غياب الشاعر عن هذا القناع وعن القصيدة وغياب الأنا المغاير ذلك أن صوت الشاعر يظل حاضرا في البنية العميقة للقناع، كما يظهر ذلك في القناع التالي الذي يستعير فيه صوت السيد المسيح وقناعه، عندما كان يقدم موعظته إلى الناس( اسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، أقرعوا يفتح لكم..). ففي هذا القناع يكون صوت القناع هو الظاهر وهذا الصوت لا يطابق أناه المغاير أو أنا الشاعر، أو أنا شخصية القناع( المسيح)، بل يكون محصلة لجدل العلاقة فيما بينهما، والذي يظل يعمل باستمرار دون أن يكون مفصولا عن نسيج النص الشعري العام:
اسأليني رغيفا فأعطيك رمحا…/ فأشحذ من كل ضلع سنانا(9)
إن أهمية استخدام آلية القناع في القصيدة تتجلى في الدور الذي تقوم به على صعيد قيام علاقات جدلية متعددة فيها عندما يكون التقنع مستغرقا القصيدة بكاملها ما يؤدي إلى ظهور( حركات تتألف منها القصيدة وتعرض لجانب أو جوانب من العلاقة مع هذه الشخصية أو الشخصية نفسها وما تحمله من صفات الطول والقصر والاعتماد على الصراع الدرامي بين أنا الذات( صوت الشاعر) وأنا الموضوع( الشخصية الدينية أو التراثية أو التاريخية»(10). ولما كانت دراسة أشكال التقنع في قصيدة نزيه ابو عفش تظهر أن استخدام القناع يكون في الغالب في جزء من القصيدة أو في بعض أجزائها، فإن هذا الاستخدام لا يعرض إلا لجانب من جوانب الشخصية التي نلاحظ في القناع التالي الذي ترتدي فيه أنا الذات( الشاعر) قناع شخصية السيد المسيح عندما دخل الهيكل وقام بطرد الباعة والصيارفة منه، ثم راح يخطب محذرا ومتوعدا (ما جئت لأقول كلاما بل لألقي سيفا..) أنها تظهر جانبا غير مألوف من الشخصية التي يخفيها القناع والتي عرفت بالدعوة للتسامح والمحبة والسلام، ويظهر في جزء من القصيدة شخصية أخرى بدلا عنها، حيث يلح صوت شخصية القناع التي يطغى عليها في هذا الخطاب عنصر التشخيص رغم وجود مؤشر يدل على هويته سوى لغة خطابه الذي يعمل صوت شخصية القناع على تكراره للتأكيد على تلك الرؤية التي تقدمها للعالم. ولذلك نلاحظ أن مستوى غياب الشاعر عن القناع أو القصيدة، لا يطابق مستوى غياب أنا الشخصية المرجعية للقناع. إن القناع هو رمز يتخذه الشاعر المعاصر للتعبير عن رؤيته إلى العالم وقضايا الإنسان والحياة والواقع الذي يعيش فيه:
فأنا مذ جئت أبشِّر هذي الأرض بحدِّ السيف/ أحلف:
سأظل أبشِّر هذي الأرض بحدِّ السيف(11)/ استدعاء الشخصيات الدينية والتراثية
تتعدد صيغ استدعاء أسماء العلم في القصيدة فقد يكون هذا الإستدعاء بالإسم الصريح أو يكون باللقب أو الصفة. وقد ربط الدكتور أحمد مجاهد( الكثافة التكرارية) بين آليات استدعاء أسماء العلم في القصيدة وبين الاشتغال على الكثافة التكرارية لاستدعاء هذه الأسماء، والتي قسَّمها إلى ثلاثة محاور سمى المحور الأول منها التكرار المتباعد في القصيدة حيث تكون الشخصية المستدعاة فيه محورا للقصيدة، وغالبا ما يكون هذا الإسم المستدعى مذكورا في العنوان، ثم التكرار الجزئي المكثف الذي تكون فيه الشخصية المستدعاة ظاهرة في جزء من القصيدة فقط، وأخيرا هناك الكثافة العالية (12). ويأتي ظهور آليات استدعاء شخصية السيد المسيح والشخصيات التراثية الأخرى موازيا لظهور آلية التقنع في قصيدة أبو عفش من حيث الأهمية والتوظيف، إذ تتباين آليات هذا الإستدعاء الذي يبرز فيه التركيز واضحا على التكرار الجزئي الذي يكون الإسم المستدعى في جزء من أجزاء القصيدة، ويأتي بعده ولكن في قصائد محدودة التكرار المتباعد داخل القصيدة الذي يشكل فيه الإسم المستدعى بؤرة القصيدة ومحورها الذي تدور حوله، بسبب استغراقه القصيدة ككل. وقد يكون هذا الإستدعاء بالإسم الصريح تارة، وتارة أخرى يكون استدعاؤه مع مجموعة من الأسماء ذات العلاقة المتصلة به وبالرؤية التي يريد الشاعر من خلال هذا الإستدعاء المكثف أن يعبر عنها في محاولة للتأكيد على البعد الدلالي الذي يتوخى تعميق الشعور به عند المتلقي وبما يمنح النص الشعري إيقاعا دراميا ينتج عن التوتر الذي يتولد من العلاقة بين الدلالة القديمة للشخصيات والدلالة الجديدة التي يمنحها لها. وتلك الشخصيات المستدعاة هي مريم العذراء التي ولد منها من غير دنس ويوسف النجار خطيب مريم الذي كان ممن آمنوا برسالته، والمجوس الذين ساروا وراء النجم الذي بشر بولادته من أرض العراق إلى بيت لحم حيث كانت ولادته. هنا نلاحظ أن الشاعر يستدعي تلك الشخصيات بأشكال مختلفة تكون في حالة المسيح بالإسم الأول وكذلك الأمر بالنسبة ليوسف النجار في الوقت الذي يستدعي شخصية مريم العذراء بالصفة التي تمثلها( أم المسيح)، وكذلك الأمر بالنسبة للمجوس الذين يستدعيهم باللقب. وفي هذه القصيدة يكون صوت الشاعر هو الظاهر، بينما يأخذ الخطاب بعدا يكون فيه خطاب الشاعر موجها إلى القارئ المفترض، ويتحدث عن الشخصيات المستدعاة (المسيح – أم المسيح – يوسف خطيب مريم – المجوس) التي تنتمي إلى تاريخ واحد وموضوع واحد. يأخذ الخطاب صيغة التمني في الممكن والمستحيل من قبل الراوي الذي يتمنى ألاِّ يكون قد تحقق ما سبق وتحقق فعليا في الماضي بسبب ذلك الميراث الثقيل الذي خلفته رسالة المسيح في الفداء والعذاب، كما تجلت في قصة صلبه وعبرت من خلاله عن المعاني الرمزية للألم والمعاناة القاسية التي طبعت المصير الإنساني بطابعه المأساوي الحزين، فالخطاب هنا يستدعي كل تلك الأسماء في حين يكون صوت الراوي موجها إلى القارئ، ويكون النص الذي يأخذ صيغة التمني مُعَبرا عنها بكثافة شعورية ظاهرة عند الراوي/ الشاعر تجلت في الإستخدام المكثف لتكرار الإستهلال( ليت) الحامل في دلالاته لمعنى التوجع والأسى، والذي يريد من خلاله تعميق شعور المتلقي بالحالة الشعورية التي يريده أن يتفاعل معها. تمثل شخصية المسيح في هذا الإستدعاء الشخصية المحورية التي تحتل بؤرة النص، بينما يجري استدعاء باقي الشخصيات على أساس كونها تشكل محورا مساعدا، بينما تقوم العلاقة بين شخصية المسيح والشخصيات الأخرى على التآلف والتوافق، لكونها جميعا تنتمي إلى مرحلة تاريخية واحدة وحدث واحد مترابط في أبعاده ودلالاته الرمزية والوجودية. يقول الشاعر:
ليت أن المسيح/ لم يقل لأبيه: « أبي…»/ ليت أم المسيح/ لم تقل أنا عذراء ما مسَّني بشر/ ليت يوسف لم يمتثل أو يصدِّق/ وليت المجوس/ كذّبوا نجمهم، وأضاعوا الطريق إلى مذود الحسرات (13)
وفي قصيدة أخرى يكتفي أبو عفش باستدعاء شخصية السيدالمسيح لتكون بؤرة للنص مستخدما صيغة الاستدعاء باسم العلم الذي عرفت به( المسيح) ومقيما نوعا من علاقة المشاكلة والمشابهة بين أنا الراوي/ الشاعر، وأنا شخصية المسيح، فيأتي الخطاب المقدم بضمير المفرد المتكلم/الشاعر حديثا عن تلك الشخصية، وموجها إلى القارئ المفترض. وتتجلى الرؤية الوجودية في هذا الإستدعاء من خلال تلك الثنائية التي تعكس رؤية الشاعر للطبيعة الجدلية للكائن الإنساني، وما يولده ذلك من بعد دراميّ في حياته ووجوده، يحاول أن يستحضر معناه ودلالاته من خلال استدعاء شخصية المسيح في موقفين متناقضين، الموقف الأول الدال على القوة والثبات ويظهر في معجزة السير على ماء بحيرة طبريا التي قام بها أمام أعين تلاميذه، والثاني يدل على الضعف ويتمثل في الكلمات التي صرخ بها من الألم والعذاب القاسي وهو على خشبة الصليب( إلهي.. إلهي.. لماذا « شبقتني» تركتني). إن الشاعر يحاول أن يقيم نوعا من التماهي بين الشخصيتين من خلال استخدام أداة التشبيه بهدف إعطاء ضمير المتكلم في القصيدة دلالة عميقة وحضورا دراميا قويا يشحن النص بالتوتر الناجم عن العلاقة بين دلالتي القوة والإعجاز التي مثلتها شخصية المسيح في حياتها، وبين دلالة الضعف والمأساة التي عبَّرت عنها تجربة الصلب القاسية بوصفها امتحانا صعبا للإرادة والتسليم بالقدر وما يحمله ذلك من معنى يخص تجربة الوجود عند الإنسان:
كمسيح صغير يافع/ مددت شريعتي/ ونزلت بجسدي إلى الماء/ ثم صرخت: إلهي إلهي…لماذا تركتني(14)
ويستخدم آلية الاستدعاء بالصفة دون أن يذكر الإسم في قصيدة أخرى، نتعرف فيها إلى تلك الشخصية المستدعاة من خلال العلامات التي يبثها الراوي في سياق الخطاب، وهي علامات تتحدث عن وقائع وأحداث ترتبط بشخصية بعينها، كما هو الحال في واقعة الصلب التي حدثت مع المسيح يوم الجمعة التي عرفت عند المسيحيين بالجمعة الحزينة أو الجمعة العظيمة. وفي هذا الإستدعاء يكون الشاعر/ الراوي هو الذي يتكلم بينما يكون النص حديثا عن شخصية السيد المسيح التي تحتل بؤرة النص وتشكل محوره:
أبتي فماذا يعترين؟/ أم حلَّ بي دم صاحبي/ في يوم جمعته الحزين(15).
ويأتي التناص مع المرجعية التوراتية في قصائد قليلة يستخدم فيه الشاعر آلية الإستدعاء والتحويل ويمكن القول بأن غياب تعدد آليات التناص مع هذه المرجعية مرتبط بمحدودية التفاعل النصي معها نظرا لطبيعة الرؤية الشعرية وهواجس القصيدة والفضاء الذي تتشكل فيه، والذي تتقاطع في داخله مع أصوات عديدة، تتصل بمحتوى تلك الرؤية وحركتها التي تتشكل القصيدة على أساسها. لقد شكلت قصة الخلق التوراتية إحدى المرجعيات الهامة في الشعر العربي المعاصر التي حاول الكثير من الشعراء العرب المعاصرين أن يتناصوا معها، ويعيدوا تشكيلها وبناءها وفقا لطبيعة الرؤية الشعرية التي توجه حركة القصيدة نظرا لما تنطوي عليه تلك القصة من رؤية شعرية لقصة بدء الخلق وتشكل العالم. وهناك أيضا نشيد الأناشيد التوراتي الذي يمتلك جمالياته التعبيرية والتصويرية الخاصة وطبيعة غنائية متدفقة وعذبة. ويظهر التحويل في هذا التناص من خلال إعادة بناء النص التوراتي على شكل أكثر تجسيدا لعنصر المفارقة الذي بات يعبر عنه وجود الإنسان ومأساته، في عالم يزداد عنفا وقتلا واستباحة لذلك الوجود مما أفقده معاني الجمال والحب، وحوّل الكائن الإنساني إلى ضحية وقاتل في آن معا. في قصيدة أخرى يعمد الشاعر إلى استبدال أيام الخلق الستة التي خلق فيها الله العالم والكائنات والأشياء بالتفصيل الخاص بخلق أعضاء الإنسان التي أنيطت بها وظائف تحمل دلالاتها المعبرة عن رؤية الشاعر الثنائية إلى الإنسان، والقائمة كما أسلفنا على عنصر المفارقة الدال على شرط الإنسان المأساوي والغريب ومآلاته التي انتهى إليها في واقعنا الراهن. نحن هنا إذن أمام مستويين من الخلق وزمنين يتخذ فيها هذا الخلق طابعا مختلفا، يشي فيه بالتحول الذي طرأ على وضع الإنسان، كما يتبدى ذلك في الحركة الثانية من القصيدة( نهاية الخلق) مقابل غايات الخلق التي تبدت في بدء الخلق، ما يكشف عن الوضع المأساوي لهذا الوجود بفعل ما آل إليه وضع الإنسان في هذا العصرالمفزع بدمويته ورعبه:
في البدء صنع الله الإنسان:/ العنق…للالتفاتة/ الفم…للقبلة/ القلب…. للخفقان/ الأظافر… للدغدة/ في الخاتمة صنع الله الإنسان:/ العنق للسكين/ القلب للرصاصة/ الذراعان للبلطة(16)
كذلك يستدعي الشاعر في قصيدة أخرى حكاية صعود النبي موسى إلى جبل الطور حيث كلَّمه الله وأنزل عليه المشكاة التي تضمنت حجر الوصايا العشر المشهورة، ثم يقوم بعملية تفكيك لبنية تلك الحكاية الدينية وإعادة بنائها على نحو مختلف، تحقق من خلاله عملية إندماجها في بنية النص الجديد الكلية تحقيقا لوظيفة آلية التناص الجمالية، إضافة إلى الوظيفتين الدلالية والتعبيرية اللتين تتصلان برؤية الشاعر وحركتها في هذه القصيدة، التي يأتي الخطاب فيها بصوت الراوي/ الشاعر، في حين يكون النص حديثا عن شخصية المقاول حسيب التي استبدل بها الشاعر شخصية النبي موسى تجسيدا لعنصر المفارقة من صورة الواقع الغارق في ترديه وفساده:
ثم جاء « حسيب» المقاول/ فانهمر الوطن الصعب من حوله/ وتدلت إلى رأسه سلة الربِّ!!/ قال له الرب: خذْ/ ثم قال له الرب: كلْ/ ثم…قال له الرب: تنسى.(17)
والمرجعية النصية التراثية التي تتعالق معها نصوص الشاعر مستخدمة آلية القناع هي مرجعية الشعر العربي القديم ممثلة بالشاعر إمرؤالقيس في معلقته المشهورة التي يفتتحها بدعوة صديقيه إلى الوقوف على الأطلال وبكاء ذكرى الحبيب والديار الدارسة التي هجرها الأهل وخلت من صورة الحبيب. تتألف القصيدة من عدد من المقاطع يستعير الشاعر في البداية قناع وصوت الشاعر الجاهلي إمرئ القيس، إلا أنه في مقطع آخر يستعير قناع وصوت شاعر آخر هو الشاعر مالك بن الريب الذي رثى نفسه قبل موته في قصيدة تعدُّ من القصائد النادرة التي رثى فيها شاعر نفسه قبل الموت، ولذلك نجد تداخلا بين صوتي القناعين أو الشخصيتين التراثيتين اللتين تمثلان أنا الموضوع، وبين صوت الراوي الذي يمثل هو الآخر أنا الذات في هذه القصيدة. وتكمن أهمية الرمزين التراثيين أو القناعين في قدمهما وفي حضورهما في الوعي الجمعي، إلى جانب ما تسعى القصيدة إليه بهدف امتصاص الكثافة التي تحوز عليها تلك التجارب، إذ يسهم ذلك بصورة أكبر في تجسيد وظيفة القناع في التعبير عن الذات ورؤيتها الشعرية، وفي خلق علاقات جدلية أو دراما ذاتية داخل بنية القصيدة تنجم عن الصراع بين أنا الموضوع الذي تمثله الشخصية التراثية وأنا الذات التي يمثلها الراوي/ الشاعر. وفي هذه القصيدة التي يستخدم فيها آلية القناع نجد أن تلك العلاقة الجدلية التي تقوم عليها آلية التقنع كمبدأ تكويني وكفاعلية إنتاجية( تتأسس على تجربة رؤيا داخلية ينفتح فيها الشاعر على حركة تفاعل تستمر باستمرار القصيدة مع أنا مغاير أو أكثر)(18). تتألف قصيدة القناع التي تتباين فيها درجات التخفي والتجلي تبعا لمستوى غياب الشاعر عن القناع، ومستوى غياب الأنا المغاير عن مجموع حركات القصيدة، ففي الحركة الأولى التي يستعير الشاعر فيها الشاعر قناع الشاعر الجاهلي إمرئ القيس يسيطر صوت القناع على ظاهر الخطاب، بينما يسيطر صوت الشاعر على عمقه، دون أن يحافظ الأنا المغاير على هويته القديمة التي يغيِّبها القناع في هويته الجديدة المعبرة عن الوعي الخاص للشاعر بلحظة الراهن، كما يتجلى ذلك في الحركة الأولى من القصيدة، والتي ينوس فيها صوت القناع بين الشعور القاسي باليأس والفجيعة جراء الخراب الذي أصاب الواقع المتداعي والغريب، وبين الوعي بضرورة محاربة هذا اليأس من خلال العمل على إشعال شمعة الأمل والتفاؤل بإمكانية تغيير هذا الواقع والنهوض به من حالة الخراب والعجز التي أصابته، وهنا تظهر آلية استدعاء المقولة القديمة المعروفة (أن تشعل شمعة واحدة خير من أن تلعن الظلمة ألف مرة):
قفا نبك، أو فقفا نبك / أو فقفا نبُكِ هذا الخراب الجلل/ قفا نبك من حرقة اليأس… أوفقفا/ لنشعل شمعتنا وسط هذا الظلام(19)
ويستخدم تكرار الاستهلال الذي يأتي في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة بسبب سيطرة حالة الشعور بالحزن والرؤية السوداء، مستخدما آلية التقنع التي يظهر فيها جدل العلاقة بين قناعي الشخصيتين من جهة، والشاعر من جهة أخرى، والكثافة الرمزية التي تسمح بالتقنع، باعتبار أن صوت الشاعر في هذا المقطع لا يطابق صوتيهما، دون أن يكون هناك بروز لهاتين الشخصيتين على حساب شخصية الشاعر وأناه المغاير. إن هذا التقنع المركب يمثل ظاهرة ملحوظة في هذه القصيدة وقد ساهمت طبيعة الرؤية الشعرية الحزينة التي تحكم هاتين القصيدتين في تحقيق هذا التراكب في الأقنعة، وفي قيام ديالكتيك العلاقة بين تلك الأناوات التي يقوم القناع بنفيها لتأكيد الذوات العميقة لها بما يلغي أي ظهور أحادي لأحد تلك الشخصيات، بسبب تركيز التشخيص على القناع الأكثر قدما:
قفا نبك يأسا جميلا…/ قفا وأعدّا الرثاء على مهل وارفعا قليلا عن الأرض/ حتى تواصل دورتها دونما تعب/…../ ولا تتركاني
ولا تخذلاني/ ولا تسلماني إلى إخوتي(20).
إن أهمية استخدام القناع تكمن في قدرة الشاعر على تحقيق الكثافة الناجمة عن قدرة الشاعر على تحقيق العلاقة الجدلية في التماهي بين أنا الذات التي يمثلها صوت الشاعر، وأنا الموضوع المتمثلة في صوت الشخصية الدينية أو التراثية التي تجري محاولة التماهي معها في النص الشعري من قبل الشاعر. وقد بدا واضحا في آليات التقنع السابقة أن هناك تفاوتا في تحقيق تلك الكثافة التي تمتلكه تلك الأقنعة، وإن كانت آلية التقنع، وما تحوزه من جدل وتوتر على مستوى العلاقة بين الأصوات، تتوخى تحقيق مثل هذه الكثافة من خلال وعي الشاعر الذي يظل حاضرا بزمن التجربة الخاص، وكثافة الحالة الشعورية المسيطرة التي تستدعي الشخصيات المناسبة لتحقيق جدل العلاقة بين أنا الذات وأنا الموضوع في قصيدته الشعرية، كما هو الحال في شخصية السيد المسيح أو شخصية الشاعر مالك بن الريب اللتين تحملان أبعادا رمزية ووجودية يعمل الشاعر من خلال تناص التآلف على الجمع بين صفاتها التاريخية القديمة وصفات الواقع المعاش الذي يبغي التعبير عن تجربته من منظوره الشعري الفكري والجمالي.
الهوامش
(1) آفاق التناصية: المفهوم والمنظور- مجموعة من المؤلفين- ترجمة محمد خير البقاعي…..المرجع السبق- ص 42.
(2) في قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر: تحليل الظاهرة-د. عبد الرحمن بسيسو- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1999-ص 8.
(3) في قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر- د. عبد الرحمن بسيسو- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت1999. ص56
(4) في قصيدة القناع في الشعر الغربي المعاصر- د. عبد الرحمن بسيسو…..المرجع السابق- ص 57.
(5) أيها الزمان الضيق.. أيتها الأرض الواسعة- نزيه أبو عفش- إتحاد الكتاب العرب- دمشق1978- ص 76.
(6) قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر- د. عبد الرحمن بسيسو….المرجع السابق- ص 8.
(7) هكذاأتيت هكذا أمضي- نزيه أبو عفش- دار الكلمة- بيروت 1989- ص7.
(8) قرآن كريم- سورة مريم- الآية 15 مكية
(9) حوارية الموت والنخيل- نزيه أبو عفش….المرجع السابق- ص 21.
(10) أشكال التناص الشعري: دراسة في توظيف الشخصيات التراثية- د. احمد مجاهد- الهيئة المصرية للكتاب- القاهرة 1998- ص 298.
(11) حوارية الموت والنخيل- نزيه أبو عفش….المرجع السابق- ص 30.
(12) اشكال التناص الشعري: دراسة في توظيف الشخصيات التراثية- د. أحمد مجاهد…..المرجع السابق- ص 61.
(13) ما يشبه كلاما أخيرا- نزيه أبو عفش- دار المدى- دمشق 1997- ص 53.
(14) أيها الزمان الضيق..أيتها الأرض الواسعة- نزيه أبو عفش…المرجع السابق- ص 82.
(15) هكذا أتيت..هكذا أمضي- نزيه أبو عفش….مرجع سابق- ص 8.
(16) أيها الزمان الضيق.. أيتها الأرض الواسعة- نزيه أبو عفش…..مرجع سابق- ص71- 72.
(17) أيها الزمان الضيق.. أيتها الأرض الواسعة- نزيه أبو عفش….مرجع سابقز ص 48..
(18) في قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر- د. عبد الرحمن بسيسو…..المرجع السابق- ص 56.
(19) ما يسبه كلاما أخيرا- نزيه أبو عفش….المرجع السابق- ص 59. (20) ما يشبه كلاما أخيرا- نزيه أبو عفش…..المرجع السابق- ص 59/60.
مفيــد نجــــم ناقد من سورية