أمل أبو حنيش
كاتبة فلسطينية
من أبرز الروايات الفلسطينية والعربية التي صورت مأساة اللجوء والمنفى وفكرة العودة، رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» عام 69، ورواية اللبناني إلياس خوري «باب الشمس» عام 98، والتي استحضرت نص كنفاني الغائب من خلال التناص معه. هذا النص لم يذكره خوري صراحة في روايته ولم يشر إليه. وإن كان في متن روايته ما يشير إلى إعجاب الراوي ومن خلفه الروائي بكنفاني وأدبه1. رغم ذلك فالقارئ، وبناءً على خلفيته الثقافية التي تتشكل من نصوص عديدة، كما هي ثقافة الكاتب، يقوم باستحضار، هذا النوع من التناص اعتمادًا على فهمه لكلا النصين، وبحثه عن الأفكار المشتركة التي عبر عنها كنفاني وخوري في روايتيهما.
يدفع نص خوري قارئه لدراسة التناص بينه ونص كنفاني من خلال تناص الأفكار المحيل على الواقعي، بين الواقعي والتاريخي، وبين الواقعي المعيش والرمزي، ليتحول هذا التوليف تحويلًا سـيموطيقيًا، يُحدث انزياحًا في دلالات الأشياء، وعلاقة الزمن الماضي أو الحاضر بالحدث. خاصة وأن العالم القصصي لكلا الروائيين ينتمي إلى فترات زمنية متباعدة، حملت في طياتها رياح التغيير والتبديل في المواقف والرؤى الأيديولوجية والسياسية. ومن أهم جوانب تناص الأفكار بين الروايتين، فكرة العودة وعلاقتها بالهزيمة، والتعلق بالمكان، والاعتراف بالعجز والمسؤولية عن ضياع الوطن، وفلسفة الوطن، ونسيان الأبناء، والتشابه والاختلاف بين أبطال حكايات العودة، وصورة اليهود، ونهاية حكايات العودة، واللجوء والمعاناة داخل الوطن.
أولًا: العودة وعلاقتها بالهزيمة
تحيلنا فكرة العودة التي ألحت كثيرًا على الخطاب الروائي في «باب الشمس» إلى رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» والتي شكلت فيها فكرة العودة جوهر خطابها الروائي.
يعود سعيد إلى بيته في حيفا التي غادرها قبل عشرين عامًا، بعد هزيمة 67، وبعد انتصار المحتل، وفتحه الحدود بين أجزاء فلسـطين، وحين يصل إليه يجد فيه أسرة يهودية مهاجرة من بولندا. يحاول سعيد، استعادة علاقته بالمكان المفقود –البيت والمدينة– لكن المكان يتنكر له، فقد عجز عن حمايته والدفاع عنه عام 48. وفي ظل هذا الضعف والعجز الفلسطيني والعربي، كان سعيد. س على قناعة باستحالة العودة وامتلاك المكان، فعودته كانت مجرد زيارة للمكان، وإلى جانب حكاية عودة سعيد. س يُسند كنفاني معماره الروائي بحكاية أخرى جانبية، حكاية عودة فارس اللبدة إلى بيته في يافا، وعودة اللبدة تأتي أيضًا في سياق الهزيمة، فقد هُجر عن يافا عام 48، ليعيش لاجئًا في الضفة الغربية، وفي مدينة رام الله بالتحديد، وعودته إلى يافا لم تتم إلا بعد احتلال ما تبقى من فلسـطين.
هذه الحكايات أحالتنا إليها، حكايات العودة الكثيرة في «باب الشمس»، فقد ركز خطابها الروائي على الكثير من محاولات العودة الفردية إلـى البيت والوطن، واللافت أن تلك الحكايات، التي أتت عليها الرواية، لم تكن تتم إلا في أجواء الهزيمة والانكسار، تمامًا كما هي حكايات العودة في «عائد إلى حيفا». بفارق أن حكايات العودة عند كنفاني، تمت فقط بعد هزيمة حزيران 67، في حين تأتي حكايات العودة في «باب الشمس» في ظل سياق ممتد من الهزيمة والعجز، من هزيمة حزيران 67، إلى انكســـار الثورة وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت واحتلال إسرائيل لها، إلى الهزائم القومية.
ويبقى التناص الكبير بين «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا» في هذا الجانب من خلال حكاية عودة أم حسن إلى بيتها في قرية الكويكات في الجليل، وحكاية عودة نعمان الناطور إلى بيته في عكا.
يعود نعمان الناطور بجواز سفر دنماركي، ليزور بيته في عكا، وهناك يجد فيه عائلة عربية تسكنه بعد أن هدم المحتل بيتها، وبعد أن استأجرته من دائرة أملاك الغائبين، تمامًا مثلما عاد فارس اللبدة في رواية كنفاني إلى بيته في يافا ليجد فيه عائلة عربية.
أما أُم حسن فقد عادت من مخيم شاتيلا إلى بيتها في الجليل، الذي طالما حَلُمت باستعادته، وهي محاصرة بالهزيمة والعجز داخليًا وخارجيًا، بعد أن قدمت أولادها شهداء الواحد تلو الآخر، بانتظار العودة المشـرفة للوطن والبيت.
لذا كانت عودتها مجرد زيارة عابرة، لا أمل بتكرارها، وبأن تطأ قدماها مرة أخرى بيتها، وأن تلامس بيديها أشياءها الأثيرة على قلبها، وعلى الرغم من ذلك قبلت بهذه الزيارة لتطفئ النيران التي تشتعل داخل نفسها، ولتكحل عينيها قبل موتها برؤية الوطن والبيت لمجرد الرؤية فقط، تمامًا مثل سعيد. س في «عائد إلى حيفا» الذي زار مدينته لمجرد الزيارة دون أمل بالعودة، يقول: «نتفرج عليها على الأقل، وقد نمر قرب بيتنا هناك»2. وكما وجد سعيد.س امرأة يهودية بولندية تحتل بيته وتســكن فيه، وجدت أم حسن في بيتها امرأة يهودية لبنانية تحتله وتسكن فيه أيضًا.
وهنا وإن كان خوري في تناصه مع كنفاني من خلال حكايات العودة قد طرح الفكرة ذاتها التي عبر عنها كنفاني في روايته، فإن هذا لا يسم رواية خوري بالتكرار رغم أن «كل نص هو في الحقيقة إعادة كتابة لنصوص أخرى مغايرة له. إنها كتابة ثانية لا تلغي الكتابات الأولى التي تظل ماثلة في أعماقها»3.
ثانيًا: نهاية حكايات العودة في «باب الشمس» و»عائد إلى حيفا»
تُشـعرنا رواية خوري باستقلاليتها، غير أن هذه الاستقلالية «هي التي تمنح القارئ وهم حقيقته، وهي توفر إمكانية الدخول في علاقة مع عالمه النابض بالحياة؛ لتحاور معنى الحياة فيه وهي التي تؤسـس في الآن نفسه، لمتعة قراءته، وتسهم في صياغة قيمه الجمالية والدلالية، وهي بذلك تدخل العمل الأدبي، من جديد في علاقته المركبة المنسوجة بين الكتابة والقراءة والحياة»4. ومن خلال بحث القارئ الذي يمارس فاعلية الإحالة لبناء العالم المرجعي، مسـتعينًا بثقافته، ومنطلقًا من الزمن الذي ينتمي إليه أو الذي يعيــش فيه، نُطل من خلاله على هذا الجانب التناصي بين الروايتين.
إن محاولات العودة الفردية من المخيم إلى البيت والوطن في كلتا الروايتين، تتساقط وتنتهي بالفشل، فالعودة لا بدَّ وأن تكون عملًا جماعيًا لا فرديًا، يستند إلى القوة المادية والمعنوية، والمتمثلة بحق الفلسطيني في العودة إلى بيته ووطنه. فما بين العودة المزيفة والعودة الحقيقية هوة سحيقة، كان على الفلسطيني أن يتخطاها قبل أن يحاول العودة.
في «عائد إلى حيفا» اقترب الخطاب الروائي فيها من تخطي هذه الهوة، بطرحه الطريق الأمثل للعودة الحقيقية، وبرسـمه لملامح المستقبل، المتمثل بضرورة اللجوء إلى النضال والمقاومة، وقد جاء هذا الخطاب على لسان بطل الرواية سعيد. س الذي وصل إلى قناعة باستحالة استعادة البيت والوطن دون حمل السلاح.
يخاطب سعيد. س اليهودية (ميريام) و(دوف) قائلًا: «تستطيعان البقاء مؤقتًا في بيتنا، فذلك شـيء تحتاج تسويته إلى حرب»5، وكذلك يأتي هذا الخطاب على لسان فارس اللبدة الذي يرى بأن استعادة البيت «ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح»6. لكن في «باب الشمس» وبعد أن انحرف الفلسطيني عن أهداف الطريق الصعب الذي طرحه كنفاني في روايته لاسـتعادة الوطن والبيت، وبعد سـلسـلة الهزائم المتكررة التي مني بها الفلسطيني، والتي ألقت بظلالها على الخطاب الروائي عند خوري، هذا الخطاب الذي رصد الواقع الفلسطيني، ونفى إمكانية التغيير بعد أن أضحت المسـافة بين العودتين أكبر بكثير مما كانت عليه في الســابق.
ثالثًا: التلاقي والاختلاف بين أبطال خوري وكنفاني في حكايات العودة
يلحظ القارئ لرواية «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا» أن هناك مساحات من التلاقي والاختلاف بين أبطال حكايات العودة التي طرحتها الروايتان. على الرغم من أن هؤلاء الأبطال ينتمون إلى تربة واحدة. هي تربة الواقع الفلسطيني بقساوته ومرارته، والذي نهل منه كل من كنفاني وخوري في روايتيهما، فجميع أبطالهما كانوا من المخيم، عاشوا قسوة المنفى وبؤسه، وتشربوا الذل والمرارة.
ففي الوقت الذي نجد فيه أبطال كنفاني يحاولون تجاوز الماضي والانفلات من قيود العجز والهزيمة، والبحث عن مخرج لحل قضيتهم، نجد في المقابل أبطال خوري محاصرين بالهزيمة، وبغياب الرؤية لامتلاك المستقبل، حتى وإن حاولوا تغطية ذلك بغطاء فلسفة الكلام.
وخوري في «باب الشمس» ككنفاني في «عائد إلى حيفا»، لم يمجد الفلسطيني، ولم يلبسه ملابس الآلهة والنقاء، ولم يضعه في بوتقة المضطهدين والمظلومين فحسب، بل مزج بين هذا وذاك، ورسم صورة الفلسطيني الإنسان المسؤول عن أخطائه ومساوئه، الفلسطيني الذي يشعر بالهزيمة والعجز، الفلسطيني المناضل، والفلسطيني الذي سحقته الأيام.
فبطل كنفاني تخلقه ظروفه وتصنعه معاركه مع الواقع، يتجاوز الماضي وهزائمه، ويخلع رداء العجز والهوان، ويبحث عن الطريق المشرف لتحرير الوطن، فقد اعتبر بطل كنفاني تركه لبيته ووطنه مسألة مؤقتة، وتسوية هذا المؤقت تحتاج إلى حرب. في حين لم يعد باستطاعة أبطال خوري احتمال هذا المؤقت الذي لا نهاية له، فقد عاشوه منذ انطلاقة الثورة، وقدموا التضحيات الكثيرة على أمل العودة إلى بيوتهم ووطنهم، لكنهم تعبوا من الهزائم والتضحيات التي ذهبت أدراج الرياح، فقد سئموا من ربط حياتهم بهذا المؤقت الذي آن له أن يصبح دائمًا7.
ويأتي هذا الاختلاف بين أبطال «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا»، نظرًا لتباين رؤية كل من خوري وكنفاني، حيال المستقبل الفلسطيني. فهناك بون شاسع في الزمن والأحداث والوقائع الفلسطينية، التي حملت في طياتها رياح التغيير والتبديل على المستوى الأيديولوجي والسياسي. في حين يأتي التلاقي بين أبطالهما، لكونهما متحا من تربة واحدة، هي تربة الواقع الفلسطيني.
وكما انحاز كنفاني بفعل رؤيته الأيديولوجية والسياسية إلى جماهيره، لتصبح معاناة شعبه معاناته الخاصة، وتمثل في صوته صوت الفلسطينيين المسحوقين الذين دفعوا غاليًا ثمن الهزائم. فإن خوري أيضًا تمثل هذه الرؤية في روايته. فقد تمثل معاناة الفلسطينيين الذين كتب عنهم في داخله، إذ يقول: «أنا شظايا لكل هؤلاء الذين حين ذهبت إليهم وجدتهم في داخلي»8.
رابعًا: التعلق بالمكان
يقف قارئ «باب الشمس» عند الكثير من المركبات السردية التي تحمل أفكارًا كان كنفاني قد استعملها من قبل في روايته «عائد إلى حيفا». تلك الأفكار مستمدة من وعي ينبعث من خصوصية التجربة الفلسطينية وإشكاليتها القائمة على الأرض والإنسان، فكلا الروائيين اتكأ على الواقع الفلسطيني، ونسج منه خيوط روايته.
يصور كل من خوري وكنفاني في روايتيهما زيارة المهجرين الفلسطينيين لبيوتهم ومدنهم وقراهم التي أجبروا على الرحيل عنها عام 48، وحلموا بالعودة إليها. وحين زاروها وقفوا يتأملون أبوابها ومداخلها وحدائقها وطرقاتها، وطرقوا في ذهول وحزن أبواب بيوتهم، وطلبوا من ساكنيها أن يستضيفوهم في بيوتهم، ليستعيدوا فيها أطياف الماضي.
ويأتي التناص بين رواية خوري ورواية كنفاني من خلال توصيف علاقة الفلسطيني العائد بالمكان، بعد التحول في حركة التاريخ الذي صنعته الهزائم، بدل أن يصنعه الانتصار، وفي وصف ردود أفعال الفلسطيني وتأملاته للمكان.
يُظهر كل من خوري وكنفاني من خلال الوصف قدرة كبيرة على اختراق وتصوير العالم الداخلي للفلسطيني، فكلاهما خبر حياة الفلسطيني المشرد في مخيمات اللجوء، ولامس معاناته وبؤسه. وإن كان كنفاني واحدًا من هؤلاء اللاجئين الذين عاشوا في المخيم وعانوا مرارة الحياة وقسـوتها، فإن خوري وإن لم يعش في المخيم كلاجئ، فإنه كان قريبًا منهم لدرجة التماهي معهم.
وتبدو، روح المكان هي السـمة الغالبة علـى حكايـات العودة فـي «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا»، فالمكان محفور في ذاكرة هؤلاء العائدين في ساعات يقظتهم وأحلامهم. وفي تأويلنا للتناص هنا، لا نعتمد على ما يقوله خوري أو كنفاني من كلمات، بل ما تقوله ظلال الكلمات، فلغتهما تنتج لغة فوق لغة، تعين على نحو واضح تميز وفردانية كل منهما وصوته الخاص، فالكلمات ذات ظلال وإيحاءات رمزية، نعبر من خلالها إلى دهاليز العالم النفسي لأبطالهما.
خامسًا: فلسفة الوطن
يبقى للمكان بمعناه الأشمل (الوطن)، فلسفته الخاصة ومكانته الأثيرة لدى خوري وكنفاني، فالتناص بينهما هنا يأتي ضمن التناص غير المباشر، فالألفاظ لا تبوح به، وإنما تكون شـفافة مخبوءة فـي بنية النص، وخلف قناع لا يمرر إلا النزر اليسير من الإضاءة التي تعكــس نص كنفاني الغائب، والذي يتبينه القارئ من خلال الولوج إلى مكامن اللغة التي يصعب فك رموزها وإشارتها، إلا من خلال القراءة المحتملة.
ففي «باب الشمس» يختزل جيل النكبة، الجيل القديم، الوطن بأشيائه الصغيرة. فأم حسن وهي أحد أفراده، تختزل الوطن بحبات البرتقال التي جلبتها من فلسطين، وتمنع الدكتور خليل من قطف حبة برتقال من الغصن الذي جلبته له من قريته الفلسطينية، قائلة له «هذه ليست للأكل، هذه فلسطين»9. فتحيلنا هذه الصورة إلى نص كنفاني الغائب «عائد إلى حيفا»، وإلى جيل النكبة، الجيل القديم في روايته، وإلى رؤيته للوطن، فالوطن بالنسبة لسعيد.س الذي يمثل هذا الجيل كان مكانًا يعشش في خلايا الذاكرة، بكل أشيائه الصغيرة وتفاصيله، الطاولة، ريشـة الطاووس، الشرفة …10.
سادسًا: الاعتراف بالعجز
والمسؤولية عن ضياع الوطن
بين «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا» مسافة زمنية مسكونة بالشوك، وبما يضيء أيضًا، غير أن ذلك لم يختلس من نص خوري الأدبي القدرة على تذويب نص كنفاني، وتبديد كثافة خطابه وانغلاقه على ذاته، كي يمتصه ويمحو حدوده. فقد أضفى خوري على ذاك الخطاب سمات فردية، جعلته يحمل رؤيته وفكره لا رؤية كنفاني وفكره.
وبالرغم من أن لكل منهما نكهته الخاصة وسماته الفردية التي تميزه من الآخر، فإن الخطاب الروائي في «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا»، يصوغ وعيًا يسمو عن التزييف، ليضعنا أمام مرارة الحقيقة. فهزيمة العرب والفلسطينيين عام 48، وضياع فلسـطين لم يكن قدرًا، بل نتيجة عجزهم عن التنبه للخطر الصهيوني، والأخذ بالأسباب للانتصار عليه.
في «باب الشمس» يضعنا خوري أمام هذه الحقيقة المرة كما وضعنا كنفاني أمامها من قبل في رواياته. ويأتي ذلك عند خوري على لسان الراوي، الذي يروي حكايات الحرب التي رواها له آخرون، فيبقى خارج ما يروي.
ويلاحظ القارئ في كلتا الروايتين أن الخطاب الروائي فيهما، قد وازن بين قدرة النص الإشارية، وقدرته على استنطاق بيانات الواقع. فقد تشرد الفلسطيني عن أرضه ووطنه وعاش في مخيمات الذل والمنفى بســبب عجزه عن حماية وطنه. هذا الواقع عبر عنه الخطاب الروائي في «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا» عبر كلمات صريحة، ففي سياق آخر من الاعتراف بهذا العجز يقول الراوي في «باب الشمس»، «عاجزون عن الحرب، وعاجزون عن الكذب، وعاجزون عن الحقيقة»11. فتحيلنا تلك الكلمات إلى نص كنفاني وإلى كلماته الصريحة والواضحة المعبرة عن العجز الفلسـطيني والتي جاءت عبر المواجهة بين سعيد.س، وابنه خلدون (دوف) الذي خاطبه قائلًا «عشرون سنة ماذا فعلت خلالها».
سابعًا: المعاناة داخل الوطن
ركزت الكثير من الروايات الفلسطينية والعربية على معاناة الفلسطينيين الذين صمدوا في وجه محاولات الاقتلاع والنفي القسري، وتحملوا صنوف القهر والظلم على يد المحتل12. وفي هذا الجانب تتناص رواية خوري مع نص كنفاني الغائب فيها، الذي تستحضره من خلال طرح فكرة معاناة الفلسطيني داخل وطنه، والتي جاءت من ضمن الأفكار الكثيرة التي طرحتها رواية خوري. فقد احتلت تلك الفكرة جانبًا مهمًا من جوانب خطابها السردي، من خلال تقديمها لعدد من النماذج الفلسطينية الحية التي منحها الراوي فرصة لتسرد بنفسها عن معاناتها ومعاناة غيرها من الفلسطينيين في أثناء سرده وتقديمه لها.
ثامنًا: نسيان الأبناء
تتفاوت درجات التناص بين «باب الشمس» ورواية كنفاني «عائد إلى حيفا» من تناص بلفظة صريحة تحيلنا إلى نص كنفاني الغائب، إلى لفظة غير صريحة تلقي بظلال غير لفظية على ذاك النص الغائب. إضافة إلى أن الكثير من الأفكار التي أتت عليها رواية خوري كان كنفاني قد استعملها في روايته «عائد إلى حيفا»، كما أشرنا سابقا. تلك الأفكار مستقاة من الهموم السياسية والاجتماعية التي مر بها الشعب الفلسطيني. فالكاتب وفي تعامله مع النص الغائب، قد يعمد إلى تحويره، وتبديل بعض أجزائه أو مناقضته ليحمل نصه رؤيته الخاصة. فلكل نص منطق داخلي يحكمه، ولكل نص نكهته الخاصة مهما تشابهت الأفكار وطرق التعبير عنها.
تستحضر رواية خوري «باب الشمس» عبر عدد من الحكايات التي أتت على أهوال الحرب ونسيان بعض الفلسطينيين لأطفالهم. تستحضر النص الغائب «عائد إلى حيفا» وقضية نسيان عائلة فلسطينية لطفلها في حيفا عام 48. فقد أتى خوري على هذه الثيمة (الفكرة) في أجزاء متفرقة من روايته13، على لسان الفلسطينيين من جيل النكبة الذين عاشوا الحدث وخبروه، لا من خلال الراوي خليل، الذي ولد في مخيمات اللجوء. فهؤلاء كانوا أقدر من الراوي ومن غيره على سرد تلك الأحداث، ويعزو هؤلاء الفلسطينيون نسيانهم لأطفالهم عام 48 إلى أهوال الحرب وبشاعتها، وخوف الناس من اليهود ومن جرائمهم ومجازرهم التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين رجالا ونساءً وأطفالًا.
لكن التناص الأهم بين الروايتين يأتي من خلال حكاية أُم حسن عن زوجة قاسم أحمد سعيد، التي حملت بين ذراعيها مخدة بدل طفلها الرضيع بعد سقوط قريتها الكويكات في يد اليهود. سميرة زوجة قاسم أحمد سعيد، لم تكتشف مصيبتها إلا في حقول الزيتون في يركا، هناك جلست سميرة تبكي طفلها الضائع، في حين خاطرت أُم حسن بنفسها، وعادت إلى الكويكات واستعادت الطفل الذي جبن والده عن استعادته. تذكرنا هذه الحكاية بحكاية سعيد.س وزوجته صفية في رواية «عائد إلى حيفا»، ونسيانهما لطفلهما في حيفا، حيث غادر الأب وزوجته حيفا في نيسان عام 48، وفي ظروف بالغة التعقيد إثر احتلالها تاركين وراءهما طفلهما خلدون الذي لم يتجاوز شهره الخامس.
تاسعا: صورة اليهود
ينبغي على القارئ في قراءة نص ما، أن يفتحه لما اندرج فيه، ولما أقصاه مؤلفه عنه أيضًا، فكل عمل ثقافي هو رؤية للحظة ما، وعلينا أن نقحم هذه الرؤيا تجاوريًا مع الرؤى التنقيحية المتنوعة التي استثارتها فيما بعد. كما أن على القارئ أن يربط بنيان القصة المسـرودة بالأفكار والتصورات والتجارب التي منها تستمد الدعم14 .
ففي «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا»، عبر كل من خوري وكنفاني عن رؤيته الثقافية والفكرية، في جانب مهم من روايتيهما، تمثل في تقديمهما لشخصية اليهودي، فقد أشارت رضوى عاشور إلى أن «كنفاني في «عائد إلى حيفا»، كان جهده رياديًا، محاولته الجادة لتقديم إنسان يهودي إسرائيلي كشخصية روائية. وهو ما لا أعتقد أنه تم على يد أي أديب عربي قبله»15. إلا أن دراسة النتاج الروائي الفلسطيني تثبت خطأ هذا الحكم القاطع، فقد سبق ناصر الدين النشاشيبي كنفاني إلى ذلك في روايته «حبات البرتقال» الصادرة سنة 16،1966 .
وإن كنا نبحث في هذه الزاوية عن صورة اليهودي في «باب الشمس» و«عائد إلى حيفا» من خلال التناص بينهما، فإننا نجد صورة اليهودي ككل تبدو لافتة في رواية خوري ليس في جانبها التناصي مع رواية كنفاني فحسب، إنما في جوانب أخرى، فقد أتت الرواية على شخصيات يهودية عديدة تنتمي إلى غير مكان. حضروا في الرواية بأسمائهم وملامحهم وصفاتهم المحددة، لذا تنوعت صورهم في الرواية.
ويأتي التناص بين روايتي خوري وكنفاني من خلال صورة اليهودي المهاجر الذي جاء إلى فلسطين واحتل بيتًا ليس له، وأرضًا ليست من حقه. بل هي لذاك الفلسطيني الذي أُجبر على تركها قسرًا. وتحيلنا صورة المرأة اليهودية اللبنانية في رواية خوري، التي هاجرت من بيروت من وادي أبو جميل -حي اليهود- إلى فلسطين، وأقامت في بيت أُم حسن في الكويكات إحدى قرى الجليل الفلسطيني، واستولت على أرضها. تحيلنا إلى صورة المرأة اليهودية في رواية كنفاني، التي هاجرت من بولندا إلى فلسطين وإلى مدينة حيفا بالذات، وأقامت في بيت الفلسطيني سعيد.س واستولت عليه بعد أن هُجر عنه.
وإن كان خوري يلتقي مع كنفاني في توظيفه لصورة المرأة اليهودية المهاجرة، إلا أنه يخضعها لقصديته ولرؤيته الخاصة، وإن ظلت بصمات كنفاني تطل بين الفينة والأخرى من خلف كلمات خوري.
يختار خوري في روايته يهودية لبنانية هُجرت عن بيتها ووطنها لبنان، وجاءت إلى فلسـطين. يتعاطف معها ويجعلها تسـرد عن معاناتها بنفسها، ليعرض من خلالها قضية تهجير اليهود العرب من بيوتهم وبلدانهم، ومعاناتهم داخل إسرائيل على يد اليهود الغربيين والحركة الصهيونية. وفي موقع آخر من «باب الشمس»، يناقش الراوي ومن خلفه الروائي، جرائم النازية ضد اليهود، على نحو حافل بالرسائل الوعظية والأيديولوجية، والتي تذهب إلى ما يشبه المساواة بين اليهود ضحايا النازية والفلسطينيين ضحايا الصهيونية17. كما هو الأمر عند كنفاني. لكن مع فارق يُميز خوري في «باب الشمس» بين يهودي وآخر، ويمكن اقتباس الفقرة التالية لملاحظة ذلك «لكن قل لي ماذا فعلت الحركة الوطنية المتمركزة في المدن، ماذا غير الاضطرابات والتظاهر ضد الهجرة اليهودية.
اليهودي ضحية للحركة الصهيونية
يكتب خوري في روايته عن اليهود العرب باعتبارهم عربًا، مقابل اليهود الغربيين، ويُعد هؤلاء من وجهة نظر الكاتب أو من وجهة نظر الشخصيات القصصية الفلسطينية، في المقابل يكتب كنفاني في روايته عن اليهودي الغربي الذي وقع ضحية للحركة الصهيونية التي استغلت معاناته على يد النازيين. ويطالعنا نموذج اليهودي العربي المضطهد في «باب الشمس»، من خلال اليهودية اللبنانية (إيللا دويك) وسردها عن الظلم والاضطهاد اللذين يتعرض لهما اليهود الشرقيون داخل إسرائيل، بعد أن خدعتهم الحركة الصهيونية وهجرتهم عن بلدانهم.
يستخدم الراوي هنا أسلوب السرد المباشر إذ يمنح اليهودية فرصة لتسرد عن نفسها بنفسها، لتحكي همومها ومتاعبها، تقول إيللا دويك «كنت وحدي تلميذة وحيدة من لبنان. لم أكن أجرؤ على الكلام مع أحد. في «المعبروت» درست العبرية لكني في الصف وسط التلاميذ، أصبحت خرساء»، وتمضي اليهودية اللبنانية في سردها عن معاناتها، وتحيلنا صورة اليهودي العربي في رواية خوري وخداع الحركــة الصهيونية له إلى رواية كنفاني وإلى صورة اليهودي الأوروبي الذي وقع ضحية للحركة الصهيونية التي استغلت معاناته على يد النازيين، وجعلته يصدق زيف وخداع ادعاءاتها التي تقول إن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض.
وأخـيـرًا، يمكـن أن نقول إن خـوري ذوب رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» التي عدها البعض «لا تعدو كونها قصة طويلة»18 في روايته، فبدت وكأنها جزء من روايته، فقد توسـع في الأفكار التي طرحتها رواية كنفاني، وأضفى عليها سمات فردية جعلها تحمل رؤيته وفكره الخاص، فـ»الكاتب لا يخترع جديدًا، فكل كاتب يعيد كتابة الكُتاب الذين أحبهم، لكن القراء لا يلاحظون ذلك. ربما لأنه يضيف ذكرياته الشخصية وأسلوبه المرتبط بزمنه»19.
وهكذا كانت «باب الشمس» امتدادًا وتتويجًا لـ «عائد إلى حيفا»، التي لا تتناص معها وحسب، بل تتفوق عليها بشموليتها وامتدادها في الزمان والمكان الفلسطيني.
الهوامش
(*) أجزاء من دراسة أطول.
ينظر: خوري، باب الشمس، ص395، ص411
كنفاني، عائد إلى حيفا، ص26
العلاق، علي جعفر: الشعر والتلقي، ص131
العيد، يمنى: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص45
كنفاني، عائد إلى حيفا، ص76
السابق، ص51
ينظر: خوري، باب الشمس، ص129
دراج، فيصل وأخرون: أفق التحولات في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999، ص154
خوري، باب الشمس، ص29
ينظر: كنفاني، عائد إلى حيفا، ص70
خوري، باب الشمس، ص187
من أهم الروايات التي أتت على معاناة الفلسطيني داخل الوطن المحتل: رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل «، ورواية سميح القاسم «الصورة الأخيرة في الألبوم «
من الحكايات التي عرضت فكرة نسيان الفلسطينيين لأبنائهم. ينظر: خوري، باب الشمس، ص27، ص494
ينظر: سعيد، إدوارد: الثقافة والإمبريالية، ت: كمال أديب، دار الآداب، بيروت، ط3، 2004، ص135
عاشور، رضوى: الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني، دار الأسوار، عكا، 1977، ص145
ينظر: أبو مطر، أحمد: الرواية في الأدب الفلسطيني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص218
ينظر: حديدي، صبحي: باب الشمس الحكاية التاريخية والرواية الفلسطينية الكبرى، الكرمل، ع58، 1999، ص30
يوسف، يوسف سامي: غسان كنفاني رعشة المأساة، دار الأسوار، عكا، ط2، 1988، ص6
كامبل، روبرت. ب: أعلام الأدب العربي المعاصر سير وسير ذاتية، الشركة المتحدة للتوزيع، بيروت، 1996، ص580