مثل شيء من جنون الطيف الشمسي تسلل الي من فرجة الباب صوت، سانحة، وهو يضج باللكنة المغناج في مفردتين أو ثلاث ذات موسيقى تطرق بشي ء من اللين، الوقر، في السمع. وتطرد، على نحو سريع، الوحشة، بضحكات مسموعة أراها فاقع أسير تلويناتها وأسير ألحانها برغم ألفتي لهذا الواقع المثير وتناميه كلما التقينا.. ولا عجب بعد هذا الضجيج ان تغمرني سانحة، بموسيقى عطرها النفاذ، وتقودني، في ذهول الى الحلق الذهبي في الأذنين الصغيرتين، والشعر معقوصا الى الوراء. وقد أغرر في الألق الأخضر الضارب في الطرف المجروح بشفق غامض من الفيروز حينئذ، يصعب علي التوقف عند كنز واحد من كنوزها، بيد أن سعادتي تأتي أحيانا من ابتسامة دفعت بها عيناها الى عيني. وهكذا هي دائما.. أما ظهورها اليوم دون موعد أو إتصال هاتفي فأمر ينطوي على سر أو هكذا خيل الي ذلك، انها قبل أن تجلس بازاء النافذة، نصف المفتوحة المقابلة للحديقة أبدت التحية وقالت: هذا لك ثم وضعته أمام نظري، وعيناها ترنوان الى تقاطيع وجهي. ما هذا؟ لفرط البهجة تعرقت جبهتي، وارتعشت يداي.. صندوق من الفلين مغطى بإحكام وملفوف بشرائط ملونة. قلت مستأذنا: هل افتح:؟ قالت: افتح. ياسمسم.. تمثال لي أنا؟ شيء لا تصدقه العين الا بعد حين. وقفزت نحوها لا أدري.. طبعت على جبينها قبلة، وعدت الى مكاني، أنحي عني الأضابير وأوراق الكار بون وانظر الى عيني الصغيرتين. وأهدابهما، الى أنفي الكبير، وخصلة الشعر المنحرفة قليلا نحو اليمين، وأقول: هذا أنا في عين سانحة، في عين خيالها، رجل أر بعيني بسيط، هاديء النظرة ينتظر شيئا ما يأتي..
سألتني أين تضع التمثال: قلت اختاري انت الزاوية أو المكان الملائم.! تحركت بخفة، رفعت يديها أعلى رأسي فاستقر التمثال النصفي في درج مفتوح وصار جزءا من المكتب المضاء بغلالة نور هاديء. هل تعتقدين أني سأتركه هنا،:؟
قالت لي أن تأخذه معك الى البيت: سانحة تعتقد أن ل بيتا ولا تدري أني مازلت أسكن مع خالتي في بيت تهتز جدرانه كلما مر دوي لشاحنة عابرة في الطريق، وتنث شروحه طوال اليوم غبارا، وتعشش في كل زاوية من غرفتيا، نصف الفائرتين بيوت العنا كب. ثمة حنفية واحدة تخرخر.. وفي الجوار من الحوض الصغير، المخضر الحواشي استقر كوز ماء مايني يبلل فوطه أرضية الحوش مما يجعل الرطوبة تنتشر بسرعة فتنال من الخيطان والفرش وأغطية النوم. ووسط بقايا سجاد ممزع، وصفيح متآكل توجد كتب، وجذاذات ورق، ومجلات قديمة ودفاتر بلا أغلفة، وأقلام رصاص مكسرة. وخلال هذه الفوضى تلمح بعض أواني الطعام وبقايا الدقيق والأرز البائت تتناثر فيما بين الأشياء. ولا تدري،سانحة أني أعود في الليالي الباردة، ثملا أو نصف ثمل. أخوض في مياه الأمطار، وألعق الضباب، وأدخل متعبا وخالتي نائمة تعاني آلاما في مفاصلها. وشخير زوجها يملأ الفراغ ولا مكان لشي ء اسمه الكتابة أو السفر الى مدن الحلم في الجمجمة. ويظهر الخيط الأول من النور في اليوم التالي، وخلال الساعات الأولى أحلق ذقني، وأرتدي ملابسي وأشرب على معدة فارغة كأس ماء بارد قاصدا قبل الذهاب الى مكتبي ركنا من مطعم يقدم فطورا رخيصا وخالتي تلمح وجهي الشاحب ولا تعرف ماذا يدور في ذهن ابن أختها الذي بلغ سن العقل ولم يقترن بفتاة.
كنا نتمشى معا. متقابلين أحيانا، وجها لوجه. تحف بنا ظلال الاشجار، فوق ضفاف الأعظمية نستمع الى دجلة وهو يثرثر. ونحدق في الاعالي فتلمح أسرابا من النوارس تمرح في الزرقة العميقة. وكان برد تشرين يهب رخيا ممتزجا بعطر البرتقال، وروائح من الرازقي تسطع في الهواء. قالت سانحة إنها سعيدة هذه الأيام وان مصدر سعادتها يعود الى تركها اللبريوم والحبوب المنومة، الأخرى والى تعلمها أخيرا فن الطرق على النحاس وان هذا لن يغريها بالتخلي عن فن النحت. واقترحت علي الذهاب الى سوق الصفافير. أبديت موافقتي. دخلنا السوق. وأكلنا اليبتزا، وتذوقنا شراب العرقسوس يقدمه رجل في كوفيه بغدادية تجولنا عبر الممرات، وبائعي الأقمشة، ثم عدنا للسوق غير أ ن سانحة، وهي في غمرة بحثها ومرحها لم تعثر على خبات الخرز والحجر وقطع النحاس المطلوبة لعمل لوحات نحاسية مطعمة بحروف عربية أو أحجار لها شبه بقطع من المحار أو الماس ولم تر سوى عينات من العقيق الاحمر مشكوك في صحتها.. ومن شارع النهر مررنا بخان مرجان وتوقفنا عند لافتة تعلن عن موعد جديد لحفلة "مقامات " بغدادية. ضحكت سائحة، وقالت بشي ء من التعالي "مقامات " كفى.. كفى.. ثم التفت الي بعينيها العميقتين وبدت متوترة فأنهمر الكحل وبدا حائلا وقالت سوف تحضر معي حفلة الفرقة الوطنية للعزف السيمفوني حيث تعزف موسيقى لموتزارت وباخ وشايكوفسكي.. سوف تأتي أيها التمثال الساعة الثامنة مساء وسأكون في انتظارك عند مدخل القاعة.
لم تمر ليلة التفكير في، سانحة، بسلام فا لأرق لازمني حتى النزع الأخير من الليل والصداع ارهقني، وعبارة ايها التمثال أصابتني في السميم ودارت في رامي مثل لازمة كريهة وجعلت مني شخصا هزيلا وأدت بي الى الارتباك والحيرة. فقدت الشهية الى الطعام وشككت بضربات القلب وقضيت ساعات ما بعد الظهيرة: أبحث عن طبيب. قلت لخالتي اني سوف أموت فلا تحزني. فسمت بالرحمن، واشعلت البخور وقرأت آيات، بينات، وأنا بين التعرق الشديد والدوار، وجست بأصابع مرتجفة جبيني وقالت لي: نم حبيبي.. استغرقني نوم عميق ثم بعد ساعتين استيقظت وفتحت عيني على وسعها رأيت أني أعود رويدا، رويدا الى الحياة شربت مزيدا من الماء، وقليلا من القهوة هدأت روحي، وعاد تنفسي الى انتظامه.
قلت وأنا أدخل مكتبي هل علي أن أرى، كلما دخلت، هذا الشبيه ؟ ما معنى هذا؟ هل أعيد التمثال الى سانحة: ما تفعل به ؟ تضعه في متحف ؟ لا يمكن. لكن من الممكن أن أضعه خلف ستارة من النسيان كأني لم أره من قبل. وهذا ما كان فقد انزوى هذا المخلوق بسرعة خلف حزمة من الملفات. وبرغم هذا ظل التمثال يثيرني بأسئلته ويحيلني الى، سانحة التي قالت ذات يوم إنها تريد أن تصنع شيئا وأن هذا الشي ء يتعلق بي شخصيا فلم أفهم حينها ما الذي سوف تصنعه وكيف يتعلق الأمر بي. ولم تشر الى منحوتة بعينها أو تمثال من الجبس أو شي ء من هذا القبيل.. وقالت بعد اللحظة التي أعقبت قبلتي على جبينها إنما تأتي بالتمثال لمناسبة انقضاء تسعين يوما على أول فنجان قهوة قدمته لها، لذا، سارعت الى ضم يدي الى يديها مؤكدة فيما تقوم به من ضغط حبها، لي، طالبة مني لا أنسى ذلك اليوم الأثير.. والحق أني نسيت كل تلك الطقوس وما نسيت لحظة ما تفعل بي عيناها.. هي تعرف أن لها عينين قادرتين على اسقاطي في لحظة ما وهذا سر ضعفي. وبما اني هاديء بطبعي وخجول بعض الشي ء فلابد أن أكون مهزوما على طول الخط بازاء أوامرها وطلباتها ونزقها أحيانا مما جعل قامتي أقصر مما هي في الحقيقة، الأمر الذي غيرني وفجر في كياني كله ثورات من الغضب تنتهي.
يوم نحس آخر تضيفه سانحة، الى دفتر يومياتها. فلقد ظلت تنتظرني في قليل من الصبر وهي ترتدي الجينز، وتلبس نظارة، وتضع يديها في قفازين من فراء الثعالب، ويلوح خصرها الناحل مزنرا بحزام ذهبي ملمع بنقاط مضيئة من الفسفور.. البواب فتح لها المكتب ورحب بها،وتركها، أما هي فلم تشذ استجوابه عني. متى يأتي؟ ولم تأخر؟ والظاهر انها كانت على عجلة من أمرها وربما اتصلت بي قبل ذلك عبر الهاتف وأحسب انها ضاقت ذرعا وغادرت المكتب تاركة لي قصاصة ورق دست بها تحت زجاج المكتب: هاني، أيها التمثال. استدار نحو الوراء. أرفع ملفاتك المزعجة وانظر. وفي ضوء أوامرها نظرت فإذا بي أرى شبيهي الجبسي مقرفصا في الزاوية. لكن بعين واحدة، وأنف مبتور وفم أدرأ، وجبهة ذات شرخ عميق تماما مثل بقايا التماثيل في المتاحف الاثرية.
موسى كريدي(قاص من العراق توفي مؤخرا)