مقدمـة:
يثير التغير الاجتماعي مجموعة من التساؤلات الإبستيمولوجية التي تستدعي القيام بوقفة تأملية بهدف إبراز حدوده من جهة، وتبيان ملامحه من جهة ثانية. ويعتبر سؤال المفهوم من الإشكالات المركزية التي تدفع بالمهتم أو الباحث السوسيولوجي إلى تمييزه عن مجموعة من المفاهيم الأخرى المتداخلة معه.
فعادة ما يتراوح استعمال مفهوم التغير الاجتماعي بين الاستعمالات التالية: التطور، التقدم، التحول، التغيير، النمو… وعلى الرغم من هذا التداخل الناجم .التداول الشائع، فإن هناك نقطا فاصلة بين التغير الاجتماعي والمفاهيم السابق ذكرها. لذلك، حري بنا، كخطوة منهجية، قبل الحديث عن التغير الاجتماعي، تحديد هذه المفاهيم دون تعميق النقاش حولها.
يعد مفهوم التطور من المفاهيم الأكثر إلصاقا بالتغير الاجتماعي، غير أنه يتميز بكونه يحصل على المدى الطويل ويفترض مرور المجتمعات الإنسانية بنفس المراحل. إنه حسب المنظور السوسيولوجي انتقال الإنسانية من حالة الهمجية إلى الحضارة(1)؛ بينما يخضع التحول إلى تغير مفاجئ وقد يكون بطيئا؛ أما التغيير فهو تلك العملية التي تحدث نتيجة ثورات وهزات اجتماعية تتغير معها كل بنيات المجتمع؛ وربط السوسيولوجيون مفهوم التقدم بازدهار الرأسمالية وظهور البورجوازية(2)؛ أما النمو فهو، حسب النظريات السوسيولوجية والاقتصادية، العمل على تحقيق أهداف عامة تتمثل في تقدم الإنسانية والمجتمع، وتحقيق المجتمع العصري الصناعي(3).
إن التطرق لهذه المفاهيم بهذا الاختزال لابد وأن يصاحبه حذر إبستيمولوجي واحتياط منهجي أثناء استعمالها نظرا للحمولة الإيديولوجية التي تتميز بها خاصة مفهوما التقدم والنمو.
يترتب عن هذا الخلط الحاصل في استعمال هذه المفاهيم وتوظيفها، نتيجة التداخل القائم بينها، نوع من العتامة التي تفرض علينا إزالتها كمدخل منهجي بغية تمييز التغير الاجتماعي عنها والتي تلحق بها خطأ.
لذلك، نجد أنفسنا أمام التساؤلات المنهجية التالية والتي تفرض نفسها علينا. ما المقصود بالتغير الاجتماعي؟ كيف قاربه الفكر الاجتماعي؟ وكيف استعمله السوسيولوجيون؟ وكيف وظف في الفكر الأنتروبولوجي؟ وما مدى الاختلاف القائم بين النظريات السوسيولوجية التي تداولته؟ وبماذا تتميز المقاربة الفردانية في تناولها لمفهوم التغير الاجتماعي عن باقي المقاربات النظرية الأخرى؟
تحديد مفهوم التغير الاجتماعي:
يقوم الباحث السوسيولوجي المهتم بالتغير الاجتماعي بسؤال منهجي وإبستيمولوجي حول «ما الذي يتغير اجتماعيا؟» هذا السؤال يعد مدخلا لسلسلة أخرى من الأسئلة التي تدفع به(الباحث السوسيولوجي) إلى تحديد المجالات التي يحدث في ظلها التغير الاجتماعي، والعناصر التي يمسها.
إلى جانب تحديد إشكالية مجالات التغير الاجتماعي، لا يجب أن نغفل قضايا أخرى تتقاطع مع سابقاتها كالتساؤل حول المسار الذي يقطعه التغير الاجتماعي، وهل هو تغير مستمر أم متقطع؟ وهل يتعرض للمقاومة؟ وما هو إيقاعه؟
إن هذه التساؤلات الجوهرية ما هي إلا مداخل ضرورية تساعدنا على تحديد مفهوم التغير الاجتماعي، دون أن يعني ذلك تعميق التحليل حولها. لذلك، فالإجابة عنها تقتضي استحضار التعريف الذي قدمه Guy rocher، حيث قال ان: «التغير الاجتماعي هو ذلك التحول القابل للملاحظة الذي يمس كل تشكيل اجتماعي لجماعة ما سواء كان استثنائيا أو مؤقتا، ويعمل على تغيير مسار تاريخ هذه الجماعة»(4). وهكذا، فالتغير الاجتماعي يعبر، حسب روشيه، عن تلك التغيرات البسيطة التي يمكن ملاحظتها والتأكد منها بالتحقق والدراسة observable et vérifiable في الزمان والمكان.
إن الحديث عن التغير الاجتماعي يعني الانطلاق من مجتمع معطى بالنسبة لحالة اجتماعية سابقة عليه قصد تحديد سياقات هذا التغير ومجالاته، وبالتالي، فقد لا يعدو أن يكون هذا المعطى هو المجتمع التقليدي عندما يكون مرتبطا بمعالجة ما هو تنموي، إذ يصبح هذا المجتمع مرجعية لقياس درجة ومستوى التغير الاجتماعي كما يقول لازاريف(5).
تدفعنا محاولة تحديد مفهوم التغير الاجتماعي إلى التساؤل عن أشكال وتجليات حضوره سواء في الفلسفة الاجتماعية أو في مختلف المقاربات السوسيولوجية والأنتروبولوجية التي ساهمت كل منها على استكشافه والتأسيس له بالشكل الذي ينسجم مع الطروحات والنظريات المؤسسة لذلك.
التغير الاجتماعي: من الإرث الفلسفي إلى التوظيف الاجتماعي:
المقاربة الرصينة للتغير الاجتماعي تبدأ في الوهلة الأولى من التأصيل الفلسفي للظاهرة، حيث يكشف تصفحنا للفكر الفلسفي عن زخم كبير من المساهمات الفلسفية التي أثارت إشكالية التغير. فمنذ الفكر الفلسفي اليوناني لم تحد الآراء الفلسفية عن ملامسة هذه الإشكالية ولو أنها متفاوتة في الطرح والتصور، إذ نجد الفكر الهيراقليطسي لم يبتعد عن إثارة التغير التي كانت قضية فلسفية مركزية في إسهاماته الفلسفية حاول من خلالها دحض آراء خصومه التي كانت تركز على الثبات. فدافع هيراقليطس عن تغير الكائنات والموجودات، وسار أرسطو في نفس الاتجاه الذي رسمه هيراقليطس، حيث ساهمت كتاباته وإنتاجاته الفلسفية في رسم معالم فكر يؤمن بأهمية التغير ودافع عنها بالتركيز على مبدأ الصيرورة في حياة الكائنات والموجودات، أو بالأحرى صيرورة الوجود ككل(6).
أسس المنطق الأرسطي لفكر فلسفي حديث سيجعل، هو الآخر، من فكرة التغير موضوع الاهتمام الفلسفي الذي سيترتب عنه ظهور طروحات فلسفية تدعم فكرتي الثبات والاستقرار من جهة، وفكرتي التحول والتغير من جهة ثانية.
لن يقف مفهوم التغير عند حدود التوظيف الفلسفي بل سيزداد تبلورا واتساعا. إذ ستظهر مقاربات اجتماعية تتأطر ضمن الفكر الاجتماعي والاقتصادي تجعل منه محور اهتماماتها حتى ولو كانت تتميز بنوع من الكليانية( أوغست كونت، سان سيمون، آدم سميث…) وهكذا، سيظهر إلى الوجود فكر اجتماعي مؤسس على القواعد العلمية يهتم بالتغير الاجتماعيليس كتحولات تشهدها المجتمعات فقط، وإنما كفكر يبرز تاريخية المجتمعات الإنسانية ، وهو ما سيجعل أحد السوسيولوجيين البارزين والمختصين في التغير الاجتماعي يؤكد بأن«السوسيولوجيا فقدت علماء اجتماع كرسوا جهودهم لدراسة التغير الاجتماعي، وتتوفر على آخرين يهتمون بدراسة تاريخية المجتمعات، والسبب في ذلك يكمن في افتقارهم إلى أدوات لتفسير وتأويل التغير الاجتماعي(7)».
التغير الاجتماعي في الفكر الاجتماعي: من المقاربة السوسيولوجية إلى المقاربة الأنتروبولوجية:
دون التذكير بأن فكرة التغير الاجتماعي نالت حيزا مهما في كتابات الفلسفة الاجتماعية سواء مع أوغست كونت أو مع روسو وغيرهم، إلا أن ذلك لا يعني بأن السوسيولوجيا، بعد أن أخذت صبغتها العلمية ستجعل من التغير الاجتماعي موضوعها الأساسي، بقدر ما ستظهر دراسات تميل نحو فهم مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي أخذت المجتمعات الغربية تشهدها في سياق الكشف عن حيثيات صيرورة هذه المجتمعات(8). إن ما وجب التأكيد عليه هو أن هذه المقاربات سارت في اتجاه التأسيس لعلم اجتماع يهتم بالتغير الاجتماعي سواء في بعده التطوري(التطور الاجتماعي) الذي يمتد لفترات طويلة، أو في بعده التغيري(التغير الاجتماعي كتبديلات قابلة للملاحظة والدراسة)(روشيه، مندراس…)
في الوقت الذي شرعت فيه السوسيولوجيا تجعل من التغير الاجتماعي أهم الموضوعات التي تشتغل عليها، أخذت تظهر إلى الوجود أنماط أخرى من الدراسات تهتم بدينامية المجتمعات المتخلفة أو السائرة في طريق النمو اتخذت منحى أنتروبولوجيا. إذ همت كثير من الأبحاث إلى الاشتغال على المجتمعات الحديثة العهد بالاستقلال، والتي ينظر إليها بأنها مجتمعات تقليدية(traditionnelle) حسب المنظور السوسيولوجي لها. انصبت الاهتمامات الأنتروبولوجية، إذن، على دراسة كيفية التعايش القائم بين التقليد والتجديد في هذه المجتمعات ودراسة إشكالية التثاقف(9) حتى ولو أن قدرة الأنتروبولوجيا في حصر هذه التغيرات «معقدة وغير كافية ما لم تستعن بأدوات السوسيولوجيا والسيكولوجيا في دراستها لدينامية هذه المجتمعات(10)».
التوظيف الأنتروبولوجي للتغير الاجتماعي:
تعمل الأنتروبولوجيا، حسب جورج بلاندييه، نتيجة تنوع وتعدد الملاحظات التي تقوم بها، ومن خلال التحليل المقارن الذي تنهجه لمختلف المعطيات، على بلورة نظرية خاصة بالمجتمعات المسماة بالتقليدية. في هذا السياق، فإن منظور الباحث الأنتروبولوجي للتغيرات الاجتماعية يرتكز على ضرورة استحضار ديناميتين مهمتين في التغير الاجتماعي إحداهما داخلية والأخرى خارجية. إنه يربط التغير الاجتماعي بالدينامية الخاصة بالتغيرات الناجمة عن المصادر الخارجية من جهة، وبالدينامية المرتبطة بالتغيرات الناتجة عما هو داخلي من جهة ثانية. استلهم بلانديي ذلك من الباحث بلبار الذي تحدث هو الآخر عن دينامية البنيات والأنساق وهي الدينامية التي تحدث على المستوى الداخلي لكل بنية أو نسق، وتشمل كلالعناصر المكونة لها، ثم دينامية التحول حيث تصبح البنية موضوع الدراسة والاشتغال وما يطرأ عليها من تحولات وتغيرات(11). هاتان الديناميتان اللتان تشكلان المصدر الحقيقي للتغير الاجتماعي حسب بلانديي تضعنا أمام سؤال الاستمرارية والتكرار، أو بالأحرى، أمام جدلية التقليد والحداثة. فإذا كانت تختلف المقاربات السوسيولوجية، بدءا من طرح أوغست كونت، تقرن التجديد والتقدم بالمجتمعات المتقدمة(التاريخية/historiques)، أو العقلانية حسب تعبير ماكس ويبر(rationnelles)، فإن التكرار والرتابة تتميز بها المجتمعات التقليدية وغير التاريخية(a-historiques)، أو كما هو الأمر عند كارل ماركس الذي يعتبر التقليد بمثابة العائق الأكبر أمام عقول الأشخاص(la tradition hante le cerveau des hommes)(12)، فإن المقاربات الأنتروبولوجية تعتبر الأنساق التقليدية بأنها تشهد حالة من الدينامية والحركية(13). إنها تلغي تلك المقولة المستوحاة من التصور السوسيولوجي والمتمثل في ثبات المجتمعات وجمودها. هكذا، نلاحظ أن الأنتروبولوجيا تشرع في وضع تاريخ للمجتمعات السائرة في طريق النمو، وهو التاريخ الذي بترته السوسيولوجيا عندما ألصقته بالمجتمعات المتقدمة.
تكمن مهمة الأنتروبولوجيا – وهي تضع مقاربتها للتغير الاجتماعي – في كونها تربطه بالمجتمعات غير الأوربية منطلقة، حسب رِؤية بلانديي، من التمييز الذي تضعه بين دينامية التغيرات الداخلية ودينامية التغيرات الخارجية في هذه المجتمعات، ومن التمييز بين ضرورات هذا التغير وشروطه.
وقد حدد بلانديي في إطار حديثه عن دينامية التغيرات الاجتماعية الداخلية ثلاثة مؤثرات لها ارتباط بالتغيرات السوسيو-ثقافية. تتعلق الأولى بالتعديلات الناجمة عن العلاقات القائمة بين المجتمع والإطار الطبيعي الضامن لها، أما الثانية فتتصل بهشاشة التوازنات الاجتماعية، بينما الأخيرة فمصدرها التحديث والابتكار(14).
وفي حديثه عن دينامية التغيرات الخارجية يورد بلانديي مجموعة من الخصائص التي يجب على المهتم بالتغيرات الاجتماعية أن يأخذها بعين الاعتبار، ومن جملتها:
[ التفاوت الحاصل بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة على المستوى التقني والاقتصادي، وما لذلك من آثار سلبية على التغيرات الاجتماعية والمتجلية في ترسيخ اللاتوازنات الاجتماعية.
[ ينتج عن الخاصية السابقة ظاهرة التبعية، التي تفرض على المجتمعات المتقدمة مراقبة التغيرات الاجتماعية التي تشهدها البلدان المتأخرة مما يلزم هذه الأخيرة بضرورة توجيهها.
[ اختلاف سيرورات التغير الاجتماعي في البلدان السائرة في طريق النمو وتفاوتها زمنيا من مجتمع إلى آخر.
[ إيقاع هذه التغيرات وكثافتها(15).
لم تقف الأنتروبولوجيا عند هذه الحدود، حسب جورج بلانديي، بقدر ما عملت على وضع اليد على العوائق والعراقيل الثقافية منها على وجه الخصوص، التي تحول دون التقدم التقني والاقتصادي في المجتمعات السائرة في طريق النمو. إنها العوائق التي تصنفها المقاربة الأنتروبولوجية ضمن ظاهرة المحافظة (le conservatisme)(16).
التوظيف السوسيولوجي للتغير الاجتماعي:
يمكن توظيف النظريات السوسيولوجية التي قاربت مفهوم التغير الاجتماعي على نظريات كليانية(holistiques) على غرار ماركس وما قدمه من أطروحات حول التغيير الاجتماعي، حيث اعتبر الأساس المادي للمجتمع المرتكز الرئيسي لكل عملية تغيير؛ أو إميل دوركايم حيث تصوره عن الكثافة الاجتماعية والاتصال بمجتمعات أخرى عوامل بارزة في التطور والتغير الاجتماعي. يركز دوركايم في كتابه «التقسيم الاجتماعي للعمل» على العلاقة القائمة بين الفرد والمجموع الاجتماعي واضعا السؤال التالي: كيف يقيم جمع من الأفراد مجتمعا؟ وللإجابة على هذا السؤال، ميز دوركايم بين نمطين من التضامن: تضامن آلي، وتضامن عضوي. إنه أراد أن يكشف عن القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية وإيجاد أجوبة لمجموع المشكلات الاجتماعية للوصول بالمجتمع إلى التضامن العضوي؛ وإلى جانب ماركس ودوركايم، نجد كذلك الاتجاه الوظيفي الذي يبدو التغير الاجتماعي لديه مرتبطا بوظائف النسق الاجتماعي؛ فيما يفسر ماكس التغير الاجتماعي بالعودة إلى ما يطرأ من تغيرات على مستوى النسق القيمي، وهكذا يكون العامل الديني، مثلا، سببا من أسباب التغير الاجتماعي. إذا كانت النظريات الكليانية تفسر التغير الاجتماعي من خلال مقولات كبرى، فهناك نظريات اتخذت من الفرد موضوعا لها لدراسة التغير الاجتماعي، ونذكر في هذا السياق سوسيولوجيا ريمون بودون ونموذجه التفسيري المتمثل في المنهج الفرداني والذي أسسه من خلال استلهامه لآراء مجموعة من السوسيولوجيين ومن جملتهم ماكس وفيلفريدو باريتو وغيرهم…
المقاربات الكليانية للتغير الاجتماعي:
الوظيفية والمستويات الثلاثة في التغير الاجتماعي:
تميل الوظيفية ككل النظريات التطورية إلى اعتبار المجتمع نسقا اجتماعيا يتجه إلى الحفاظ على توازنه الداخلي. ولن يحصل ذلك حسب هذه النظرية إلا بعد الأخذ بعين الاعتبار الخصائص التالية:
– كل نسق اجتماعي هو عبارة عن مجموعة من العناصر المتداخلة فيما بينها مشكلة بنية.
– كل نسق اجتماعي هو بمثابة بنية قارة.
– كل عنصر من عناصر النسق يِؤدي وظيفة ما ويساهم في الحفاظ على التوازن داخل النسق.
– وظيفة النسق تنبني على التوافق الحاصل بين الأعضاء حول القيم الأساسية.
إذا كانت الوظيفية تجعل من توازن النسق الاجتماعي القضية المركزية التي تدافع عنها في أطروحاتها مع مختلف روادها، فإن التساؤل عن موقع التغير الاجتماعي ضمن هذا الطرح يصبح مشروعا، خاصة وأن التوازن الاجتماعي قد يبدو في أول وهلة مناقضا للتغير الاجتماعي إذا اعتبرنا هذا الأخير بمثابة نقلة يشهدها المجتمع من حالة إلى أخرى في ظرف زمني غير محدد قد يكون قصيرا أو متوسطا أو طويلا. «إن التوازن هو حالة يطرأ عليها تعديل بسيط تختلف به عن حالة أخرى منشودة وتكون مفروضة على النسق»(17). ولن يتحقق ذلك إلا عبر وظيفة الاندماج الاجتماعي الذي يهدف النسق الاجتماعي، أو بالأحرى، الجماعة المجتمعية(la communauté sociétale) إلى تحقيقه.
وتقارب الوظيفية، في شخص رائدها تالكوت بارسونز، التغير الاجتماعي على مستويين:
– المستوى القصير، حيث التغير الاجتماعي يحدث بفعل التحولات التي تساهم فيها العوامل الخارجية، وبشكل أساسي التقدم التكنولوجي؛ أو بفعل العوامل الداخلية المتمثلة في التوترات الاجتماعية الجزئية أو الكلية.
– المدى البعيد حيث حددت الوظيفية، مع بارسونز، ثلاث حقب كبرى مر منها المجتمع الإنساني: الحقبة البدائية والحقبة الوسيطية والحقبة المعاصرة التي تتميز مجتمعاتها بسيادة القوانين والمؤسسات(18).
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو تحديد الفاعل الرئيسي لهذا التغير الاجتماعي، إذ من الصعوبة بمكان كما يقول، ميشيل فورسي، اعتبار الأجزاء المكونة للنسق الاجتماعي بأنها نفسها هي الفاعل الرئيسي في تحولاتها. على هذا الأساس يرى بارسونز أن القيم المستدخلة بواسطة التنشئة تشكل حاجزا مهما أمام كل تغير اجتماعي، وتصبح بالتالي وظيفة الثبات الناتجة عن استدخال هذه القيم هي القادرة على تفسير المقاومة التي تشهدها عملية التغير الاجتماعي في كثير من المجتمعات.
وهكذا تميز الوظيفية، مع بارسونز، في التغير الاجتماعي بين ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: يمس البعد الداخلي للنسق الاجتماعي دون إحداث تغيير جذري عليه، ويتميز بالثبات والاستقرار، وهو ما يعني أن التغير الاجتماعي يحدث في صورة تحول اجتماعي داخلي لعناصر النسق للإبقاء على التوازن، ويحدث كل ذلك، كما تقر الوظيفية، بفضل وظيفتي النسق الاجتماعي المتمثلتين في التكيف والإدماج. أي تكييف كل عناصر النسق الاجتماعي مع الجديد وإدماج كل ما هو جديد في بنيات النسق.
المستوى الثاني: إذا كانت وظيفة الثبات تؤدي دورها على مستوى النسق الاجتماعي، وإذا كان التغير الاجتماعي الحاصل فيه قد يحدث بشكل غير واضح، فهذا يعني أن تطور النسق الاجتماعي يحدث بشكل بطيء، وهو ما يؤشر على وجود تغير اجتماعي ضمني ومضمر.
المستوى الثالث: وهو المستوى الذي تعمل فيه القوى الاجتماعية على إحداث تغير اجتماعي قوي ينتج وضع قطيعة مع التوازن الاجتماعي، يترتب عنه تأسيس نظام اجتماعي جديد. بعبارة أخرى، القطع مع التوازن وإحداث تغير على مستوى البنية يعني ظهور تحولات في القيم.
هذه المستويات الثلاثة في التغير الاجتماعي لها دلالة مجازية كما يقول ميشيل فورسي(19). ذلك أن نمطية هذه المستويات تنبني على مبدأ أن الاتجاه الطبيعي لكل نسق يتمثل في الحفاظ على التوازن. فإذا كان هناك لا توازن نتيجة توترات وصراعات اجتماعية، فإن ذلك يدفع بالنسق الاجتماعي إلى فرض وممارسة وظيفة الثبات.
قياس التغير الاجتماعي:
غير أن قياس التغير الاجتماعي لا يتم من خلال علاقات التمفصل بين العوامل الداخلية فقط(التوترات الداخلية أو أشكال التكيف والاندماج الاجتماعي كما تقر بذلك الوظيفية)، وإنما يحدث كذلك، بفعل وقوة العوامل الخارجية المؤثرة والمتحكمة في سيرورة التحول الاجتماعي. وهذا ما أثبته ماكس ويبر عندما أكد بأن «الإصلاح البروتستانتي، بخلقه نمطا أدبيا ينسجم مع تطور الاستثمارات والتوفير، قد لعب دورا حاسما في تطور الرأسمالية»(20)، وهي الفكرة التي نجدها، كذلك، في أطروحة التحديث حيث إن المحاولات النظرية في سوسيولوجيا التنمية تعتبر العوامل الخارجية تساهم كثيرا في القطع مع البنيات التقليدية والدفع بعوامل أخرى جديدة تساعد على تسريع التحول الاجتماعي بنيويا.
لا يقف العامل الثقافي، هو الآخر، بعيدا ومنعزلا عن مسرح التغير الاجتماعي، بل تعد إسهامات التأثيرات الثقافية على البنية الاجتماعية بليغة جدا. وترجع أصول التدخل الثقافي إلى ما يصطلح عليه بالنظريات العاملية التي تنظر إلى التغير الاجتماعي على أنه نتيجة لعامل واحد هو عامل الثقافة، من حيث إنها أفكار وقيم ومعتقدات وسلوكات كما هو متعارف عليه في الدراسات الأنتروبولوجية على الرغم من كونها ليست محل إجماع من حيث الدلالة بين القواميس المختلفة.
إن تدخل العامل الثقافي في إحداث التغيرات الاجتماعية «يبدو على مستوى تفاعل العناصر الثقافية مع بعضها البعض حتى ولو كانت الطريقة التي يتم بها تختلف من النظرية الانتشارية إلى النظرية الارتباطية في الثقافة»(21).
تساهم، إذن، النظريات العاملية في تفسير التغير الاجتماعي بفعل التدخل الثقافي، ولا ينبغي اعتبارها بمثابة النموذج السوسيولوجي الأمثل لدراسة التغير الاجتماعي خاصة وأن الإرهاصات السوسيولوجية الأولى التي اهتمت بهذه الظاهرة برزت مع كونت وماركس وغيرهما من السوسيولوجيين الأوائل الذين تحدثوا عن التطور والتحول الاجتماعيين في إطارهما العام والشامل بتحديد المراحل الكبرى التي يمران عبرها.
ينصح هنري مندراس(H. Mendras) في كتابه «التغير الاجتماعي: الاتجاهات والبراديغمات»22 الدارسين للتغير الاجتماعي، والسوسيولوجيين على وجه التحديد، بعدم السقوط في النزعة التطرفية عندما يتم ربط التغير الاجتماعي بأحد الاتجاهين السابق ذكرهما «نظريات التوازن ونظريات اللاتوازن». لذلك، نجده يدعو المهتمين بهذه الظاهرة إلى التريث في إصدار الأحكام وإعطاء تعليلات للتغير الاجتماعي.
إذا كانت نظريات التوازن تفسر التغير الاجتماعي بالانطلاق من دينامية الميكانزمات الداخلية للأنساق الاجتماعية وبنياتها بفضل التفاعل الحاصل بين عناصرها، فإننا نجد بالمقابل، نظريات اللاتوازن، أو بالأحرى، نظريات الصراع تقدم تفسيرا للتغير الاجتماعي على أنه نتيجة للتناقضات المؤدية له، كما شددت على ذلك النظرية الماركسية الكلاسيكية منها والحديثة.
بمقتضى هذه النظريات يصبح الصراع عملية اجتماعية يأخذ تجليات مختلفة في الحياة الاجتماعية. وهكذا، فبمقاومة التغيير «يؤدي الصراع إلى إعاقة النسق من الاستمرارية في الروتين المميت ويفسح المجال للاختراع والإبداع»(23). عن التصادم، مثلا، بين القيم الاجتماعية التقليدية والحديثة، يؤدي في نهاية التحليل إلى مجموعة من التغيرات التي تمنع من تحجر النظام الاجتماعي، مما يهيئ الأرضية ويؤثث للجديد بفضل الاختراعات. في سياق هذا التصور، وجدت النظرية الماركسية في الصراع الأساس الحقيقي والعلمي لتفسير التغير الاجتماعي، وأن التاريخ هو تاريخ الصراعات، وبالتالي فهو تاريخ التغيرات الاجتماعية. إن الصراع، أخيرا، في ظل هذا الطرح الماركسي، هو محرك التاريخ ما دام يستند على التناقضات الاجتماعية.
ودون الاسترسال في الحديث عن النظريات الماكرو-سوسيولوجية المفسرة للتغير الاجتماعي، يمكن القول بأن «علم الاجتماع الحديث يميل، مع ذلك، إلى رفض الفكرة التي تقول بوجود سبب مهيمن للتغيير الاجتماعي، وتميل في الوقت نفسه إلى الاعتراف بتعددية أنماط التغيير»(24).
لا يمكن مقاربة التغير الاجتماعي، إذن، ببراديغم سوسيولوجي واحد، وهو ما يعني اعترافا وإقرارا بأزمة البراديغمات السوسيولوجية خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوعها. فإذا كانت النظريات الماكرو-سوسيولوجية الداعية إلى اكتشاف قوانين واتجاهات التطور الاجتماعي تجعل من الكلية الاجتماعية الموضوع المركزي في دراساتها وانشغالاتها، فإن السوسيولوجيا الفردانية ستجعل من الفرد الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع، وبالتالي، تفسير التغير الاجتماعي من خلال أفعال وسلوكات الفرد كما يقول ريمون بودون: «علم الاجتماع لا يمكن أن يقوم إلا على أعمال فرد أو عدد من الأفراد المتفرقين. لهذا السبب يجب أن يتبنى حصرا المناهج الفردانية»(25).
الفردانية والتغير الاجتماعي:
قبل الشروع في الحديث عن السوسيولوجيا الفردانية وتفسيرها للتغير الاجتماعي لا بد من القيام بوقفة تأملية حول هذا النموذج لإزالة العتامة التي قد تعيق القارئ وهو يتساءل عن موقعه ضمن النسيج السوسيولوجي العالمي.
يعود الفضل في إرساء دعائم هذا البراديغم السوسيولوجي لعالم الاجتماع الفرنسي ريمون بودون عندما وظف المنهج الفرداني في تفسير وفهم الظواهر السوسيولوجية. يصرح بودون في كتابه(المفاعيل المنحرفة والنظام الاجتماعي) بأن «عددا هائلا من الباحثين يعتبرون الصراع حول المصالح هو السبب الرئيسي في التغير الاجتماعي، فإذا كان ماركس اعتبر الصراعات الأكثر دلالة هي تلك المرتبطة بملكية وسائل الإنتاج، فإنه في الوقت الراهن، يمكن اعتبار التغير الاجتماعي ناتجا عن الصراعات المتعلقة بتوزيع السلطان(pouvoir)، غير أن ذلك لا يسري على المجتمعات الصناعية المعاصرة حيث الصراع الاجتماعي ينتج عن التفاوت القائم بين ما هو عام وما هو خاص، وليس عن توزيع السلطان»(26).
لم يكن لـ»ريمون بودون» أن يضع ثوابت وأسس النزعة الفردانية في السوسيولوجيا لولا تفطنه بأن جذورها تمتد إلى علماء الاجتماع المعروفين بالمقاربة الكليانية(holistique)، وهي المقاربة التي كانت دائما تعالج التغير الاجتماعي والسياقات الاجتماعية كظواهر مفارقة (transcendante) لسلوكات الفرد ومؤثرة على أفعاله ومحددة لأهدافه ومقاصده، من قبيل الماركسية والوظيفية على سبيل المثال لا الحصر، على الرغم من أنهما حضرتا بقوة في سوسيولوجيا ريمون بودون كتراث سوسيولوجي نلمس فيه هذا المد الفرداني.
لقد أثبتت عودة بودون إلى هذا التراث السوسيولوجي تجذر المقاربة الفردانية في أعمال كثير من الباحثين الاجتماعيين كـ»ماكس فيبر» مثلا في تصنيفه للأفعال الإنسانية(الفعل البدائي، الفعل الوجداني، الفعل العقلاني) و«دي توكفيل» في حديثه عن العام والخاص، أو بعبارة أخرى الجماعة والفرد.
أهمية الجهاز المفاهيمي في النزعة الفردانية:
فهم الفردانية عملية تحتاج إلى تحديد الجهاز المفاهيمي الذي ترتكز عليه. في هذا السياق، نجد أنفسنا أمام الفرد كإشكال مركزي في التراث السوسيولوجي البودوني(نسبة إلى ريمون بودون).
فخصوصية التحليل السوسيولوجي تكمن حسب بودون في أنه «يرنو إلى دراسة حالات فردية من خلال براديغم استخراج المفرد(le singulier) من خلال نمط أو شبه نمط ممثل لبنية نظام التفاعل الذي تنمو في إطاره الحالات التي ستفسر»(27).
إن الفرد في سوسيولوجيا ريمون بودون من الأسباب الأساسية في حدوث الظواهر الاجتماعية. لذلك، نجده يسير في اتجاه دحض النظريات الماكرو-سوسيولوجية التي تجعل الفرد نتيجة للظواهر الاجتماعية. فهو يولي الأهمية القصوى للفرد وكل ما يقوم به من سلوكيات على أنها المؤثرة في الظواهر الاجتماعية، ومن ثمة في التغير الاجتماعي. يقول في هذا الإطار: «شرح ظاهرة اجتماعية يعني الأخذ يعين الاعتبار دائما على أنها نتيجة للأعمال الفردية»(28).
من النزعة الفردانية إلى المنهجية الفردانية:
تفطن بودون إلى أن تحليل الظاهرة الاجتماعية لا يجب أن تسري عليه نفس التحاليل وتفسيرات باقي الظواهر الأخرى، الاقتصادية منها والسياسية…وأرجع ذلك إلى ما تتميز به من خصوصيات تجعلها تختلف عن الظواهر السالفة الذكر والتي تتطلب دراسة وتفسيرا ماكرو-سوسيولوجيا.
إن خصوصية التحليل السوسيولوجي يقوم في المقام الأول على «دراسة حالات فردية في نظام من التفاعل حيث تنمو داخله الحالات التي ستفسر»(29). وعلى الرغم من القوة التي قد يمارسها هذا النظام على الفرد، فإن هذا الأخير، هو الآخر، له من القوة ما يجعله قادرا على ممارسة تأثير تام على هذه الكلية ونسق التفاعلات مما يتطلب مقاربة منهجية تعطي الأولوية للفرد على الكل أو المجموع في تفسير هذا النسق.
إن المنهجية الفردانية، حسب ريمون بودون، تستوجب وجود الظاهرة ب، أو مسار الظاهرة ب، عندما نحلل بشكل صريح العلاقة بينها(الظاهرة ب) والظاهرة ت، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها نتيجة لمنطق سلوك الأفراد المنضوين تحت هذه الظاهرة أو هذه الظاهرات»(30). ومن هنا على علم الاجتماع، كما يقول بودون، أن ينظر إلى الفرد في ظل نسق من التفاعلات، على أنه بمثابة ذرات، دراستها وفهمها تتطلب قاعدة منهجية على تحليل سلوكاتها وتصرفاتها بالقطع مع المسلمات الكلاسيكية المغالية في تفسير أنساق التفاعل والتغير الاجتماعي والتي تعمل على تذويب الفرد فيها.
سار بودون في الاتجاه الذي رسمه باريتو عندما انشغل بدراسة الأفعال الفردية حيث ميز بين الأفعال المنطقية والأفعال غير المنطقية، فشكل الفعل الفردي، بذلك، الدعامة المنهجية في المنهج الفرداني البودوني، إذ بواسطته سيصبح الفرد ذلك الفاعل الرئيسي في حدوث التغير الاجتماعي في سياق نسق التفاعلات الاجتماعية.
إن أفعال وسلوكيات هذا الفاعل قادرة على إحداث أثر بالغ على مسار التغير الاجتماعي، أو بعبارة أوضح، إن التغير الاجتماعي لا يمكن قياسه حسب المنهجية الفردانية، إلا عبر الأفعال والسلوكيات الفردية وليس البنيات الاجتماعية كمقولة من المقولات الكلية التي هم كل من ماركس ودوركايم وبعض نظرائهم في جعلها السبيل الأنجع لدراسة وفهم التغير الاجتماعي.
هذه المسافة الإبستيمولوجية التي يظهرها بودون، في تحليله للتغير الاجتماعي، بين المقولات الكلية(holistique) ومقولة الفرد أتاحت له إمكانية الحديث عن ظواهر أخرى قابلة لاستثمارها في التفسير والفهم العميقين للتغير الاجتماعي، وهي إضافات مفاهيمية للرصيد السوسيولوجي البودوني تزيد إغناء للمنهجية الفردانية.
ظاهرة البروز وظاهرة المفاعيل المنحرفة:
يستدعي الحديث عن المنهجية الفردانية التطرق إلى أهم المفاهيم التي وظفها ريمون بودون لفهم سلوكيات وأفعال الأفراد وأثر ذلك على التغير الاجتماعي. ومن بين هذه المفاهيم المفاعيل المنحرفة(les effets pervers).
يعرف بودون المفعول المنحرف على الشكل التالي: «…نستطيع القول إن هناك مفعولا منحرفا عندما يخلق شخصان(أو أكثر) خلال سعيهم وراء هدف معين، واقعا لا يبتغونه وقد يكون غير مرغوب فيه من وجهة نظر كل واحد منهما، أو من وجهة نظر أحدهما»(31).
ولتعميق الفهم حول المفاعيل المنحرفة وأثرها على التغير الاجتماعي، يورد بودون مجموعة من الأمثلة الكفيلة بإزالة الضبابية التي تعيق استيعابها.
تعتبر المفاعيل المنحرفة من الظواهر غير المتوقعة التي تحدث بشكل صدفوي نتيجة تعقد العلاقات الاجتماعية، فهي إذن نتاج مضاعف لهذه العلاقات التي لا تقف عند حدود التعقيد بل تتجاوز ذلك إلى التعارض مع مصالح الفاعلين الاجتماعيين. وتنتج هذه المفاعيل عن الأفعال والسلوكيات الفردية غير المرادة حيث حصولها لم يكن نتيجة المساهمة القصدية للفاعلين الاجتماعيين بقدر ما تحدث تلقائيا.
لقد سار بودون في تصوره للمنهجية الفردانية إلى ظاهرة البروز(phénomène d’émergence) والمقصود بها تلك الآثار التي لم يسع إلى حدوثها الفاعلون الاجتماعيون والناتجة، كذلك، عن عملية الإدماج التي تتعرض لها سلوكياتهم وأفعالهم.
ولتوضيح هذه الظاهرة، ظاهرة البروز، ستدلي بودون بمثال الإشاعة في الحقل المالي ومدى الآثار التي تخلفها، حيث كلما «انتشرت إشاعة حول إفلاس ممكن لأحد المصارف، يتهافت المودعون، كل بدوره، لسحب ودائعهم من هذا المصرف، وتكون نتيجة إدماج هذه السلوكيات الفردية وضع المصرف المعني فعلا في حالة إفلاس»(32). وحتى يكون لإدماج وتجميع(effets d’agrégation) الأفعال الفردية أثر ماكرو-سوسيولوجيا في نشوء الظواهر الاجتماعية وتشكلها فإن ذلك يستوجب الاهتمام ليس بهذه الظواهر الكلية وإنما بهذه الأفعال قصد تحليلها وفهمها.
ويمكن التعبير عن ظاهرة البروز، بروز المفاعيل المنحرفة بالمعادلة التالية كما صاغها بودون نفسه:( M = M(m). (33)
M(m) = حاصل تجميع/إدماج الأفعال الفردية M = أثر التجميع،
m = الفعل الفردي.
وحتى تتضح معالم المفاعيل المنحرفة في تفسير التغير الاجتماعي استند بودون إلى أزمة المنظومة التربوية في 60 من القرن الماضي وما شهدته فرنسا من اضطرابات ومشاكل شكلت تربة خصبة للدراسات السوسيولوجية؛ ويكفي أن نستحضر هنا إسهامات بيير بورديو ورفاقه في هذا السياق.
لقد بين بودون أن أزمة التربية في الستينات من القرن الماضي كانت نتيجة المفاعيل المنحرفة والتي كانت بدورها نتيجة صراع المصالح.
إن قطاع التربية والتعليم حسب بودون هو قطاع يشبه السياسة، إنه مسرح لظهور الأزمات والصراعات الاجتماعية الناتجة عن المفاعيل المنحرفة التي تبرزها علاقات الترابط بين الفاعلين الاجتماعيين القائمة على سلوكياتهم وأفعالهم وليس نتيجة لعلاقات السيطرة. وهكذا، فاللامساواة في الحظوظ التعليمية في نظر ريمون بودون تنتج عن علاقات الترابط بين الفاعلين الاجتماعيين التي لا تخضع دائما للنظام بل بفعل التوتر والصراع الناتج عن تباين مصالحهم في منظومة التربية والتكوين.
وحتى يثبت بودون أهمية المفاعيل المنحرفة/غير المتوفعة في تفسير تجليات التغير الاجتماعي، يورد مجموعة من الأمثلة من صميم التربية والتعليم. وعلى سبيل الحصر يمكن ذكر المناقشات التي دارت حول «لا تكافؤ الفرص في التعليم». وهكذا، يعتبر بودون «أن حظوظ وصول ابن العامل إلى الجامعة والتي تقل بكثير عن حظوظ ابن الطبقات العليا، لا تثير خلافا بل تشكل نقطة الانطلاق نفسها. المسألة إذن هي مسألة تفسير الظاهرة»(34). إن المنهجية الفردانية كما وضعها بودون، ستدعو إلى ضرورة التساؤل عن اختيارات الأفراد/الفاعلين المعنيين والتي ستعتبرها بأنها سلوكيات وقرارت قابلة للدراسة والتحليل، وهذا يفيد بأن المنهجية الفردانية ستحصر اهتمامها في البحث عن أسباب اختيارات هؤلاء الأبناء انطلاقا من وضع فرضيات مرتبطة بالحركية الاجتماعية والمواقع الاجتماعية لآبائهم وبمدى تسريع تقليص الفوارق أمام التعليم. وهكذا، تصبح أفعال وسلوكيات هؤلاء الأفراد محط دراسة منهجية الهدف منها معرفة مدى الأثر الذي تتركه على البنية الاجتماعية. إن التساؤل عن الأفعال الفردية سيشكل جوهر المنهجية الفردانية على اعتبار أن الظاهرة الاجتماعية تنبني، في نظر بودون، على هذه السلوكيات والأفعال. وبالتالي، ففهم سلوكات الأفراد يعني قطعا فهم خفايا الظاهرة والآليات المتحكمة فيها.
المنهجية الفردانية وتفسيرها للتغير الاجتماعي:
يعتبر تفسير ظاهرة اجتماعية ما حسب المنهجية الفردانية(التغير الاجتماعي على سبيل المثال) فرديا إذا كانت العلاقة بين الظاهرة(م) والظاهرة(م1) نتيجة لمنطق سلوك الأفراد المتسببين في هذه الظاهرة(35). ولتوضيح ذلك يقدم بودون المثال التالي:
غالبا ما تحدث الصراعات الاجتماعية نتيجة تباين المصالح الفردية، حيث تؤدي المفاعيل المنحرفة بأعضاء/فاعلين في جماعة ما إلى تقبل وضعية تناقض تطلعاتهم المصلحية، يترتب عنها ظهور آثار سلبية على الجماعة ككل تكون سببا في حدوث أزمة علاقات بين مجموع أعضاء الجماعة، وهو ما يعني بروز ظواهر اجتماعية ينجم عنها حدوث تغيرات اجتماعية.
ومن جهة أخرى، قد تكون سببا في توطيد هذه العلاقات ولكن بدلالة المفرد على حساب الجماعة، ويترتب عنه بروز ظواهر اجتماعية تكون سلوكيات هؤلاء الفاعلين طرفا أساسيا فيها ولها أثرها على التغير الاجتماعي حيث يساهم هذا الفرد أو ذاك(الفاعل) في ترسيخ سلوكيات وأفعال جديدة بالنسبة لأعضاء الجماعة(36).
خاتمـــة:
بات التغير الاجتماعي من الموضوعات التي همت الدارسين السوسيولوجيين من مختلف مشاربهم الفكرية ولم تستقر دراساتهم على رأي واحد. فإذا كان التحديد المفاهيمي من بين الإشكالات التي تفاوتت حولها الآراء، فإن المقاربة المنهجية للتغير الاجتماعي، هي الأخرى، لم تخرج عن محيط هذا التفاوت والاختلاف خاصة بين النزعتين الهولستية والفردانية.
إن تتبع المسار السوسيولوجي ومحاولة فهمه للتغير الاجتماعي، واختلاف هذا الفهم من مدرسة سوسيولوجية إلى أخرى، من المدرسة الحتمية(مندراس) مرورا بالوظيفية(بارسونز) إلى الفردانية(بودون) يدفعنا إلى استحضار التداخل المفاهيمي الحاصل بين التغير الاجتماعي وجملة من المفاهيم الأخرى القريبة منه كالتطور والتحول الاجتماعيين على سبيل المثال.
غير أن التغير الاجتماعي يبدو أكثر دقة وتحديدا من هذه المفاهيم. لذلك، واستنادا إلى رأي ريمون بودون، لا ينبغي أن ندرسه استنادا إلى قوانين تاريخية كبرى، وإنما من خلال المفاعيل العرضية التي تحدث تحولات في البنيات الاجتماعية. ويجرنا ذلك، إلى القول، بأن المقاربات المنهجية لهذا الموضوع لم تكن بذات المنحى، إذ نلاحظ تباينا ملحوظا بين التصورات الهولستية(الماركسية، الوضعية، الوظيفية…) والمنهجية الفردانية في تناول التغير الاجتماعي بالدراسة والتفسير والفهم.
لقد فدمت المنهجية الفردانية جوابا عن كيفية مقاربة التغير الاجتماعي بالتركيز على ظاهرتي البروز والمفاعيل المنحرفة التي استطاعت أن تضيف عناصر أساسية إلى الأبحاث حول التغير الاجتماعي. وهكذا، اعتبرت المنهجية الفردانية السياقات المعقدة للتغير الاجتماعي من أهم المباحث في علم الاجتماع، وهو ما جعلها تدعو إلى ضرورة تركيز جهود الدارسين السوسيولوجيين على أفعال وسلوكيات الفاعلين بدءا من بساطتها وصولا إلى تعقدها، وليس التركيز على المقولات الهولستية العامة. فالتغير الاجتماعي، حسب بودون «لا يكون معقولا(intelligible) حتى على مستوى الماكرو-سوسيولوجي، إلا إذا غاص التحليل في العملاء أو الفاعلين الاجتماعيين الأكثر بساطة الذين يشكلون أنساق الترابط التي يعنى بها عالم الاجتماع»(37).
إذا كانت النظريات الكليانية تنظر إلى التغير الاجتماعي على أنه نتيجة تضارب المصالح الاجتماعية وصراعها، فإن المنهجية الفردانية تتجاوز ذلك إلى اعتباره ناتجا عن المفاعيل العرضية الناشئة عن البنيات الاجتماعية المتداخلة والمترابطة فيما بينها. وبهذه الإضافة النظرية والمنهجية أضحت الفردانية مرجعا لكثير من الأبحاث والدراسات السوسيولوجية التي أثبتت جدواها بالنظر إلى نتائجها التي تقدمها على مستوى مسرح السوسيولوجيا مقارنة بالمقاربات الكليانية.
المصـــادر:
1. أنصار، بيار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: 1، 1992.
2. بودون، ريمون وفرانسوا بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ت: سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986.
3. جنات، زهير،»الفردانية في سوسيولوجيا ريمون بودون: العمق النظري والمرتكزات المنهجية«، انظر: www.uluminsania.net
4. حليم، عبد الجليل، (التنمية والتبعية)، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، عدد 8، 1986.
5. حليم، عبد الجليل، التحديث القروي ورأسملة الزراعة المغربية«، سلسلة ندوات ومناظرات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، رقم 10، 1988.
6. تايلور، إدوارد، الثقافة البدائية، الأبحاث في اتجاه تطوير الأساطير والفلسفة والدين والعرف، 1874.
7. دقس(ال)، محمد، التغير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، الأردن، 1987.
8. كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936.
9. سلام، محمد شكري،»سوسيولوجيا التحديث والتغير في المجتمع القروي«، مجلة عالم الفكر، عدد: 3، المجلد 30، يناير– يبراير، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002.
10. لكلرك، جيرار، الأنتروبولوجيا والاستعمار، ت: د.جورج كتورة، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط. 1، 1982.
11. Balandier, Georges, sens et puissance, quadrige, puf, 3° ed, 1986.
12. Boudon,R. effets pervers et ordre social, p.u.f, 1977.
13. Forsé, Michel, «les théories du changement social», sciences humaines, n° 25, mars, 1992.
14. Giacobbi, M. et j.p. Roux, initiation à la sociologie, les grands thèmes, la méthode, les grands sociologues, hâtier, 1992.
15. lazarev, Grigori, «changement social et développement dans les campagnes marocaines», B.E.S.M, n°: 103, 1968.
16. Mendras, H. le changement social: tendances et paradigmes, ed Armand colin, paris, 1985.
17. Rocher, Guy, le changement social, Tome 3, coll. point, n° 15, Paris, 1970.
الهوامــــش:
1 . عبد الجليل حليم، التنمية والتبعية، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، عدد 8، 1986، ص: 52.
2 . عبد الجليل حليم، المرجع السابق ذكره، ص: 52.
3 . عبد الجلل حليم، المرجع السابق ذّكره، ص: 53.
4. Guy, Rocher, le changement social, Tome 3, coll. point, n° 15, Paris, 1970.
5. Grigori, lazarev, changement social et développement dans les campagnes marocaines, B.E.S.M, n° : 103, 1968, p: 20.
6 . يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الفصل الأول، ص: 19، ثم الباب الثالث، ص: 141، 1936.
7 . محمد شكري سلام، سوسيولوجيا التحديث والتغير في المجتمع القروي، مجلة عالم الفكر، عدد: 3، المجلد 30، يناير – يبراير، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص: 65، 2002.
8 . محمد شكري سلام، المرجع السابق ذكره، ص: 65.
9 . جيرار لكلرك، الأنتروبولوجيا والاستعمار، ت: د. جورج كتورة، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط. 1، ص: 73 إلى ص: 85.
10. Georges, Balandier, sens et puissance, quadrige, puf, 3° ed, 1986, p: 136.
11. Georges, Balandier, ibidem, p: 27.
12. Georges, Balandier, ibidem, p: 105.
13. Georges, Balandier, ibidem, p: 106.
14. Georges, Balandier, ibidem, p: 143-144.
15. Georges, Balandier, ibidem, p: 144.
16. Georges, Balandier, ibidem, p: 145.
17. Michel, Forsé, les théories du changement social, sciences humaines, n° 25, mars, 1992, p : 28.
18. M. Giacobbi, et j.p. Roux, initiation à la sociologie, les grands thèmes, la méthode, les grands sociologues, hâtier, p: 269, 1992.
19. M. Forsé, op. cité, p: 28.
20 . أورده عبد الجليل حليم في: التحديث القروي ورأسملة الزراعة المغربية، سلسلة ندوات ومناظرات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، رقم 10، 1988.
21 . انظر في هذا الصدد، إدوارد تايلور، الثقافة البدائية، الأبحاث في اتجاه تطوير الأساطير والفلسفة والدين والعرف، 1874.
انظر كذلك، محمد الدقس، التغير الاجتماعي بين النظرية والتطبيق، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط 1، عمان، الأردن، 1987.
22. H. Mendras, le changement social: tendances et paradigmes, ed Armand colin, paris, 1985.
23. M. Forsé, op.cité, p: 28.
24 .ريمون بودون وفرانسوا بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ت: سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986، ص: 186.
25 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، ت: نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي، ط: 1، 1992، ص: 76.
26. R. Boudon, effets pervers et ordre social, p.u.f, 1977, p: 20.
27. www.uluminsania.net
28 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 71.
29 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 79.
30 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 79.
31 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 83.
32 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 82.
33 . زهير جنات، الفردانية في سوسيولوجيا ريمون بودونن العمق النظري والمرتكزات المنهجية، انظر: www.uluminsania.net
34 . بيار أنصار، العلوم الاجتماعية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص: 85.
35 . ريمون بودون وبوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ت: سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط 1، ص: 418.
36. R. Boudon, effets pervers et changement social, ibid. p: 38-39.
37 . بيار أنصار، المرجع السابق ذكره، ص: 84.