حاوره : حسن الوزاني *
ينتمي الفنان التشكيلي الفرنسي ميشيل دي كازو إلى عيار المبدعين الذين يعيشون التجربة الإبداعية كأفق للتفكير. تكشف عن ذلك من جهة تجربتُه المختلفة القائمة على إبعاد اللوحة عن الحائط من خلال توظيف وجهيها، ومن جهة أخرى كتاباتُه العميقة التي تسعى إلى بلورة رؤيا إبداعية تتجاوز الأجوبة الجاهزة لتبحث باستمرار عن إثارة مستمرة للأسئلة.
ولد ميشيل دي كازو سنة 1956 بمدينة تولوز الفرنسية. تعلم التشكيل بشكل عصامي إلى حدود العشرين من عمره. انتقل إلى باريس سنة 1980، حيث تابع تكوينه الفني وممارسته التشكيلية، ثم استأنف دراسته العليا بجامعة باريس. بالإضافة إلى حضوره الدائم على مستوى معارضه الفردية والجماعية، يعتبر ميشيل دي كازو، أحد أهم منظري الفن التشكيلي بفرنسا، حيث جمعت نصوصه في ثلاثة كتب تعتبر مرجعا أساسا لتيار فني جديد يتأسس على توظيف وجهي اللوحة الواحدة.
ll خضتَ مجال التشكيل من خلال تجربة عصامية. كيف جئت إلى الفن ؟
– كنت مشدودا منذ مرحلة المراهقة إلى الحياة الطبيعية والعفوية البعيدة عن التعاقدات الاجتماعية. لم أفعل ذلك بهدف استفزازي، ولكن فقط لأن الحياة النمطية لم تكن تثيرني أبدا. ولم يفارقني هذا الإحساس أبدا خلال المراحل اللاحقة. غير أنني تعلمت فيما بعد أن أطبع تصرفاتي بما نصطلح عليه بـ»الواقعية». وقد مكنني وضعي الاجتماعي كفنان من التعبير عن وجودي الشخصي ومن أن أعيش في الآن ذاته في إطار نظام اجتماعي معين. وبصيغة أخرى، لقد اخترتُ طريق الفن بغية منح معنى لحياتي. وفضلت أن يكون ذلك بشكل عصامي، وذلك مخافة أن أصاب بعدوى كل الأشكال الأكاديمية. بينما تأجل انفتاحي عليها إلى حين تمكني من خلق إبداع شخصي بامتياز. لقد حماني ذلك من نتائج اندفاع مفترَض ارتبط برغبة عميقة في الرسم. وبالرغم من ذلك، كنت أحتفظ، خلال السبعينيات، بمسافة اختلاف إزاء بقية أصدقائي من التشكيليين.
ll تتوزع أعمالك الفنية ما بين السوريالية التجريدية والتعبيرية وغيرها. كيف استطعت تدبير هذا الانتقال ؟
– الحقيقة أنني إذا كنتُ قد ولجت مجال الرسم من خلال أعمالي السوريالية، فإن لوحاتي الأولى كانت تجريدية بالأساس. بينما أميل الآن إلى الرسم التعبيري. وبذلك فأنا لا أسجن نفسي داخل شكل معين. وإذا كانت تحديد طبيعة أعمالي هو مهمة غيري، من النقاد أو الجمهور، فإنني أستطيع أن أقول أن أسلوبي، بشكل عام، ليس واقعيا، وأن الصور التي تظهر في لوحاتي هي تجلي لرؤى ذهنية أشبه تماما بأحلام اليقظة، حيث إن مواضيعي المفضلة ترتكز على ما هو ميتافيزيقي ومركزي. وأستند في ذلك على ثقافة مرجعية تمتح أسسها من أعمال جان فان إيك وساندرو بوتشيلي وليوناردو دافنشي وفرانسيسكو دي غويا ودولاكروا وويليام تيرنير وفان غوغ وسالفادور دالي وماكس إرنست وغيرهم.
ll تتابع منذ سنوات أبحاثك في على مستوى تيارك الفني المرتكز على توظيف وجهي اللوحة الواحدة في إطار ما اصطلحت عليه بـ «الأعمال ذات الوجهين». كيف تحدد الملامح الكبرى لهذا المفهوم ؟
– اعتقد أنه يجب تمثل المصطلح الذي أشرت إليه حسب مفهومين. أحدهما اصطلاحي وآخر مرتبط بتوظيفه في إطار التيار الفني الذي أسعى إلى بلورة معالمه. فالمعنى الأول يحيل على المصطلح الذي اقترحته سنة في بداية تسعينيات القرن الماضي، للتعبير عن العملية التشكيلية التي كنت أمارسها، والتي كانت تقوم عل رسم وجهي اللوحة الواحدة. وقد كتبت العديد من النصوص التي تحاول رسم قواعد هذا المفهوم. أما المعنى الثاني للمصطلح فيرتبط بالحركة التي تأسست خلال مارس من سنة 2002 والتي تضم مجموعة من الفنانين الذين يتقاسمون أفكار وأسئلة التيار القائم على الاشتغال على وجهي اللوحة.
ll يميل إذن هذا المفهوم إلى تجاوز التمثل التقليدي للوحة. هل يعتبر ذلك امتدادا لاهتمامك بالنحت ؟
– بالتأكيد. يسعى المفهوم الذي أقترحه إلى تجاوز تمثل الرسم كنافذة مثبتة على حائط ما، كما هو الأمر بالنسبة للتصور المكرس منذ مرحلة النهضة. وبالنسبة لي شخصيا، أعتبر المنحوتات التي أنجزها الآن مستقلة بذاتها ولا تحيل بأي شكل من الأشكال على الرسومات الأخرى. وهو الأمر نفسه بالنسبة إلى لوحاتي ذات الوجهين، التي تحتفظ باستقلالها عن العمل المنحوت بالرغم من كون مشاهدتها تفرض جانيا من أدوات تلقي العمل المنحوت. ويرجع ذلك أساسا إلى الطابع المسطح لوجهي اللوحتين.
ll هل يفترض إذن، توزعُ اللوحة على وجهين قراءة متعددة لها ؟
– بل أكثر من ذلك. ثمة ثلاثة وجوه أو عناصر داخل اللوحة الواحدة. الأول يرتبط بما يراه المشاهد. ويهم الثاني الوجه الذي لا يستطيع المشاهد رؤيته. بينما يتجلى العنصر الثالث في الثغرات التي تشكلها فراغاتُ اللوحة، وذلك بشكل مشترك بين وجهيها. وتفترض قراءةُ اللوحة إذن تجاوز التصور الأحادي للوحة نحو بلورة تمثل يستوعب تعدد مكوناتها.
ll أنت فنان تشكيلي ومنظر. هل يحتاج التشكيلي دائما للتنظير لتجربته ؟
-أعتقد أن الفنان التشكيلي ليس مجبرا نهائيا على التنظير لتجربته الإبداعية. حيث تشكل الصورة والمادة وسيلته الأساسية للتعبير وللتواصل. وبالنسبة لي شخصيا، أستطيع أن أؤكد أن اهتمامي بالتنظير لعملي لم يتم بشكل مفتعل ولا نتيجة قرار طارئ، بل كان ذلك عفويا وعاديا. حيث انبثقت هذه الرغبة في التنظير بعد سنوات تعلمي الأولى لتقنيات التشكيل وبعد قراءتي للعديد من أدبيات تاريخ الفنون. وأستحضر هنا مقولة للكاتب والإثنوغرافي الفرنسي ميشيل ليرس، تنسجم بشكل كبير مع وضعي الشخصي: «هناك فنانون تشكيليون يمارسون عملهم الإبداعي بدون تفكير وهذا وضع أغلبهم. وهناك آخرون يفكرون قبل الشروع في عملهم. وهذا وضعٌ وسطٌ. وهناك أخيرا بعض الفنانين الذين يرسمون لكي يفكروا. والفن بالنسبة لهؤلاء هو طريقتهم في البحث وفي الحياة بالقرب من محيطهم، وفي بلوغ وعي أعمق بالآخرين وبالأشياء».
ll أين تنتهي إذن حدود ميشيل دي كازو المنظر داخل عمله الإبداعي ؟
– لقد دخلت مجال التشكيل من خلال تجربة عصامية بامتياز. قادني إلى ذلك عشقٌ عميق للألوان وللأشكال ولتجليات المادة. أما الوعي النظري فقد انبثق لاحقا. ولم يرتبط ذلك، كما قلت سابقا، بقرار ما بقدر ما كان نتيجة تراكم للأسئلة التي كانت تثيرها داخلي باستمرار رهانات التجربة. لقد بدأتُ في إبعاد اللوحة عن الحائط ولم أكن أدري حينها بأنني سأنتقل فيما بعد إلى تمثل ذلك في إطار تجربة ستكون موضوعا لتأمل نظري أكثر عمقا. وبالطبع، لم يرتبط ذلك بصدفة ما، بل بمسار طبيعي لتجربة تبحث عن نفسها باستمرار.
ll يعود تاريخ معرضك الأول إلى سنة 1983. هل تشعر بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة عن هذا التاريخ بكونك استطعتَ بلوغ ما كنت تسعى إلى تحقيقه ؟
– الحقيقة أنني عشتُ تجربتي في التشكيل باعتبارها عملية بحث مستمر. وكانت كل مرحلة جزءا من مسار أكبر، يبدو لي الآن أشبه بسفر طويل امتد من مرحلة الفوضوية إلى المرحلة الروحية لتصل في النهاية إلى مرحلة تجربة «اللوحة ذات الوجهين»، التي أعتبرها تتويجا لكل مراحل هذا السفر، وفي نفس الوقت بداية لمرحلة جديدة تبحث عن أفق إبداعي مختلف. لقد اتسمت ممارستي الإبداعية بطابعها المتحرر. وإذا كنت أعتبر نفسي محظوظا بتحقق ذلك فإنني في نفس الوقت لا أشعر بنوع من القناعة المطلقة. حيث احتفظتْ تجربتي الإبداعية بعلاماتها المضيئة كما بمناطق ضعفها. إنها تجربة اقتضت كثيرا من الجهد والإخلاص لصفاء الإبداع. وأشكر الله الذي منحني هاتين الصفتين الحاسمتين. وأستحضر هنا مقولة ماكس إرنست الشهيرة : «إن السنوات العصيبة بالنسبة للرسام هي السبعون سنة الأولى». وإذا كنتُ غير مقتنع بتجربتي فإن ذلك لا يعني أنني غير راض عنها. إنها كما هي. لم يكن أن تكون غير التجربة نفسها. ولدي قناعة شخصية بأن كل ما يجب أن يتحقق سيتحقق يوما ما، وبأن ما لا يجب أن يتحقق فهو لن يتحقق بالتأكيد. كما أشعر بأن اعتدالي قد جنبني كثيرا من العقبات. ويحيلني هذا الوضع على تمثل السينمائي الروسي أندري تاركوفسكي لدور الفنان، حيث كتب أن «الفن المعاصر قد أخطأ طريقه حين استعاض عن بحثه المفترض عن معنى الحياة بتكريسه للفردانية المطلقة، بينما من المفترض أن يظل الفنان خادما أبديا لأنه مدين للموهبة التي منحتها له معجزة ما..».
ll لديك صداقات عربية عديدة. هل استطعت الاقتراب من بعض علامات الفن العربي ؟
– الحقيقة أنني أجد نفسي مشدودا لفن الخط العربي، وخصوصا لبهاء خطوطه المنحرفة. كما تثيرني كثيرا خصوصيات النحت والفن المعماري العربيين المحتفظين بطابعهما المتميز القائم على توظيف الفراغ بشكل يحتفظ بأكثر من دلالة. وخارج مجال الرسم والنحت، تثيرني باستمرار الموسيقى العربية وخصوصا امتداداتها داخل التجارب الموسيقية الأخرى كالفلامينكو الذي يحتفظ ببصمات عميقة لتأثير الموسيقى الموريسكية. يبقى أن لدي رغبة عميقة وصادقة في نسج صداقات وعلاقات تواصل مع الفنانين التشكيليين العرب، وأعتبر ذلك شرطا أساسا لفتح حوار متوازن يهم رهانات الإبداع وأسئلته الإنسانية المشتركة.
ll تمتد تجربتك على أكثر من أربعين سنة. أي العلامات يمكنك أن تستحضرها الآن؟
– أستحضر ضرورة الصراخ والليل والعلاقة والمحو. وعبر ذلك الصدق الذي يقتضيه الصراخ ومواجهة الذات والتعبير عن المناطق الداخلية الدفينة. أستحضر أيضا لحظات الإلهام المقاوم لكل تجليات رتابة الحياة اليومية والفنية أحيانا.