«لكن التاريخ، ولحسن الحظ، احتفظ لنا بذكرى أولئك الذين كافحوا ضد التاريخ».
– Nietsche (Friedrich), considérations inactuelles, p339 ,montaigne,sans date.
مثّل «ابن رشد» قمّة الحضور الكوني للعرب، في حين شكّل «ابن خلدون» آخر عهد لهم بالمشاركة في الفكر الكوني. وتعني المشاركة في الفكر الكوني نمطا من تنظيم الحقيقة على نحو يسترعي أمما ويستدعيها للأخذ به وتبنّيه. هكذا نذكر أن أوروبا في لحظات حرجة من تاريخها حاربت الكنيسة باسم «ابن رشد» (الرشدية اللاتينية). وبهذا المعنى كان فيلسوف قرطبة بمثابة «تراث» مضاد للتراث،شأنه في ذلك شأن «الجاحظ» و«أبي حيان» و«الحلاج»…وهي أسماء تكثّف «الضديّة» على نحو خاص. لكن بعدما كان العرب حجة يأخذ بها غيرهم انتهوا اليوم إلى أن يصبحوا خطرا على قيمة الغيرية،ففي حين انغمس «ابن رشد» في فك ألغاز إحراجات عصره تشهد «داعش» اليوم على منعطف رهيب في مسار حضارة فقدت القدرة على توجيه نفسها.
إن أمارة القصور التي باتت عليها مساهمة العرب تنكشف جلية عند فحص أسرار استفراد الغرب بالريادة الروحية للبشرية وتقدّمه الحاسم في المنافسة المحمومة بين صيغ الكونية. الغرب إخراج غير مسبوق لمعنى الكونية. تفاصيل هذا المعنى يمكن ردّها إلى ركنين أساسيين:المعنى والزمان،وليس هذا غير معنى التّناهي. لذلك ليس صدفة أننا أكدنا في خاتمة واحد من أعمالنا الأخيرة،أكدنا الحقيقة التالية:»حين نتمكن من استضافة التناهي بوصفه عنصرا أساسا للفكر، آنذاك سنتمكن من استقبال الغرب حقا وفعلا بمعزل عن سراب استنساخه، سنستضيفه بطريقة ما ستصبح هي طريقتنا الخاصة ومساهمتنا المتميزة في التاريخ»(1).
إن مضادة التراث في العصر الحديث للفكر تنجلي بقوة ضمن أطروحات «كانط»،حيث مقاربة التناهي ونقله إلى اللغة تتم من خلال إدراج الحقيقة ضمن بعد الزمان. دون هذه النقلة يستعصي تصور إمكانية فلسفة «هيجل» أو «هايدجر» أي يستعصي استشكال أفق الإنسانية الراهنة. هؤلاء الفلاسفة «ضدّيون» من غير قطيعة،فلم يكن قصد «كانط» أن يقطع مع التراث الديني بل أن يضع «الدين في حدود مجرد العقل»، كان ضد التصورات اللاهوتية للدين لكنه مع التملّك الفلسفي- العقلي للدين. كما لم يكن قصد «فكر الكينونة» مع «هايدجر» أن يتنكّر للتراث الميتافيزيقي، بل أن يستجلي شروط إمكانه ومظاهر اكتماله، وليس ذلك غير تملّكه وتكثيف شروط مجاوزته. بهذا المعنى لايتخطى مفهوم «الضدّية» مفهوم التملّك، فالضدّية ليست قطيعة حدّية مع التراث بل مناهضة للدّعاة-حرّاس التراث،تخليص للتراث من قبضة التراثيين. لذلك افتتحنا كتابنا «علامات فلسفية» بقولنا: «أسماء الفلاسفة علامات لاتؤشر الى مضمون تقرّر سلفا، بل هي علامات تحيل على شعاب مفتوحة أبدا»(2). إن التملّك الفلسفي للتراث هو فتح لامتناه للمعنى على الزمان.
يمكن الجزم أن استشكال العلاقة بين المعنى والزمان هو المكسب الرفيع للحداثة إن لم يكن جوهرها. وتنزيل هذا المكسب على حالتنا «نحن» يقودنا إلى منطقة الخطر التي افترعناها بوصفنا «نحن». إن هوية «نحن» هي اليوم الخطر الذي يخصّنا، لذلك لاغرو القول إن أسئلة هذا المجموع البشري الممتد من المحيط إلى الخليج وارتضى لنفسه على امتداد قرون صفة «العرب»، ترتد إلى سؤال الهوية والزمان:ما حظّ الزمان من مفهومنا لهويتنا الجماعية؟ الجواب: لاتحتفظ سيرتنا الذاتية على تعدد وتناقض أنماط سردها،لاتحتفظ بأي ذكرى إيجابية عن علاقة وعينا بالزمان وذلك منذ إدراكنا الشعري للعالم (المهلهل، امرئ القيس، طرفة بن العبد…) إلى وعينا التاريخي به (حسين مروة، عبدالله العروي، محمد أركون…). ففي كل مرّة يرتهن الزمان بالخلاص حيث يرفع الخلاص الزمان، فالزمان هو مجرّد مطيّة إلى الخلاص.
إن فصل الهوية عن الزمان هو المدخل لرفع الهوية إلى مقام المقدّس، لذلك فقد سجّلنا «نحن العرب» دخولنا إلى الألفية الثالثة بوصفنا الخطر المحدق بالبشرية في القرن 21 . غير أنه وكما سبق أن قال «هايدجر»: «حيث مكمن الخطر مكمن الحلّ».
لن نقدم على تبيّن ذلك حقا،إلا إذا حوّلنا كل قضايانا إلى أسئلة فلسفية. لكن العنصر الفلسفي اليوم أصبح يصاغ منذ «كانط» صياغة «غربية» حيث «الغرب» ليس إلا اسما من الأسماء التي تعاقبت على الكونية. إن «الغرب» ليس الدّنس الذي يهدّد قداسة هويتنا، بل هو فرصتنا للمشاركة في أيّة كونية قادمة. وهذه الفرصة لن تصبح متاحة فعلا إلا إذا جرّبنا كتابة أسئلة الفكر الكوني بطريقتنا الخاصة، أي إلا إذا قمنا بتجريبها استنادا إلى أجسادنا الخاصة.
ولأن الأمر كذلك فقد عزمنا أن ننتقل في هذا المقال عبر الفروض التالية:
أ)- نقطة الإنطلاق الأساسية للتفكير في «نحن» الممكنة لابد أن تكون هي فلسفة «كانط» الأخلاقية.
ب)- مداومة تجريب أسئلة «هايدجر» وفتح انسداد أفق سؤال «الوجود- مع» في فكر الكينونة.
ج)- أسئلة الفلسفة المعاصرة وأفق الفكر العربي.
أ)- «كانط» واستشكال الوجود الجماعي:
لماذا نقطة البداية هي «كانط» للتفكير في لغز «مع»؟ إنه مع «كانط» وليس مع «ديكارت» أو «لايبنتز» ولا حتى «سبينوزا» تمّ فعلا استشكال الحياة الجماعية. مع «كانط» فقط تم استشكال العلاقة البينية إذ لم يعد ينظر إليها باعتبارها معطى بديهيا يلزم أن يستمر على ماهو عليه لأنه يجب أن يكون كذلك، مثلما لم يعد من الممكن تصورالجماعة وتنظيمها من خلال إفادات الوحي. الأجدر بنا القول إنه مع «كانط» أصبحت الجماعة تعبر عن نفسها من حيث إنها علاقة في استقلال عن أوامر ونواهي الوحي،هذا بقدرما لم يعد كافيا النظر إليها بوصفها كائنا طبيعيا ينتظم ذاتيا ويحيا بقوانينه الداخلية. الجماعة مع «كانط» تحوّلت إلى إشكالية الجماعة أي باعتبارها مسألة تستحق التفكير مجددا بعد أن تمّ «انتشالها» من تحت أنقاض البداهات اللاهوتية والسياسية التي غمرتها وغطت منها ما يستحق التفكير.
إن العلاقة الاجتماعية عند «كانط» لاتكشف عن نفسها إلا باعتبارها علاقة أخلاقية،ومردّ ذلك هو الطبيعة العاقلة للإنسان،فالعقل وليس الوحي هو مصدر اشتقاق الأوامر والنواهي الأخلاقية أي ما يسميه «كانط» بالأوامر القطعية وهي منتوجات تلقائية للعقل. ينتج العقل أوامر قطعية مضمونها الحقيقي أنها قوانين أخلاقية،تقوم هذه الملكة إذن بوظيفة التشريع. استقل الإنسان بذاته كمؤسسة تشريعية، استفرد بمملكة الأخلاق أي بشأن تدبير العلاقة الاجتماعية في أرقى مستوى لها.
تكثّف ملكة العقل مفهومان أساسيان يبدوان متناقضان والحال أنهما متضافران متكاملان:مفهوم الحرية والإلزام. فالعقل ملكة تشريع حرة،إنه علة من دون علة. هنا العقل البشري لاينحل في العقل الإلهي أو أي متعال آخر،إنه فعالية مستقلة إذ دون ذلك ينهار أساس التشريع. فالتشريع تحت طائلة الإجبار عبارة متناقضة في عرف «كانط». إن التشريع الأخلاقي لايستوي إلا على قاعدة الحرية،هذا من جهة، حيث من جهة أخرى يصبح الإنسان بما هو عقل ملزم بما قام بتشريعه،فالعقل حرية تنتج طبيعيا مانصبح ملزمين به،ووحده الإنسان يختص بكونه يضع القوانين التي عليه أن يخضع لها،لذلك فهو وحده يختص بصفة الشخص.
بتأسيس الأخلاق على العقل دون أي متعال آخر وباختصاص الإنسان بصفة الشخص دون غيره تكون التصورات اللاهوتية والفلسفية اليونانية قد أفل نجمها. لكن هذا الإخراج العقلاني لايعني كل شيء، فليس هناك وصفة ناجزة حيث العقل هو المفتاح السحري. إن العقل يجد نفسه باستمرار تحت تناهي العلاقة الإجتماعية التي ليست أبدا من نوع العلاقة الضرورية بين كائنات طبيعية ولا من مستوى علاقات كاملة وتامة بين كائنات مطلقة. لذلك اعتبر «كانط» أن العلاقة الاجتماعية يلزم أن تكون باستمرار قيد الفحص،فليس من ماهيتها اتخاذ هوية نهائية وقطعية. مردّ ذلك أن اشتقاقات العقل من أوامر أخلاقية هي باستمرار تحت تربّص بعد الأنانية المتجذر في الشفرة الغريزية للفرد والتي تتضمن كل الدوافع الطبيعية من نزوات وأهواء وغرائز تدور مدار الفرد لا مدار الشخص. لذلك،فالإرادة بوصفها ملكة الاختيار فهي مدار صراع بين ما يسميه «كانط» بالأوامر القطعية والأوامر الشرطية، فالأولى مأخوذة ببعد الكونية أما الثانية فمدارها النزعة الفردية. في الأولى يتم تجريب الهوية بوصفها تجربة مخترقة ببعد الغير حيث الأوامر القطعية تكشف الصيغة العميقة لحضور الغير: «إفعل على نحو تعامل فيه الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك،دائما كغاية وليس أبدا كأداة». لكن في حالة الأوامر الشرطية فالعلاقة مشروطة بالمردودية حيث يتم اختزال الغير إلى مجرد أداة إما أنها ثمينة أو بخسة هزيلة. فمن الأوامر القطعية إلى الشرطية نمضي من تنزيه الغير إلى تبضيعه،من اعتباره غاية في ذاته إلى اعتباره أداة للاستثمار والاستنزاف.
إن المدار الذي تدوره الإرادة محفوف بالمخاطر.فإذا ما انتهت إلى محاداة الأمر القطعي صارت إرادة خيرة،والعكس من ذلك إذا ما استدرجها الأمر الشرطي إلى الاستغراق في الأنانية وبالتالي نسيان الغير. ولأن الإرادة هي باستمرار محط خطر فإن الوجود الجماعي باستمرار في حالة تتراوح بين الخير والشر. لكن هذا الوجود ليس أبدا «مماهوكائن» بل «مما يجب أن يكون»،فهو على الدوام قيد الإنجاز بوصفه مجرد مشروع حيث بذلك لن يتخذ أبدا هوية نهائية بل لايجب اعتقاد ذلك،فلم يطمع «كانط» في إمكان التطابق التام بين الإرادة والقانون الأخلاقي،وهذا ما يؤكد على اكتشافه للغز الرابطة «مع» التي تعتمل في صلب «الوجود- مع الأغيار». إن العلاقة «مع» هي دائما ملقى بها إلى الخارج،علاقة متعدية حيث لاتؤشر على عملية إضافة رياضية،عملية تجميع في صورة قطيع تمّحي فيه كل مسافة ممكنة بين عناصره. الأحرى أن «مع» باعتبارها مؤسسا للعلاقة الإجتماعية يتكثف فيها التعدي الذي يتوسط الذات تجاه الآخر. ولعل هذا التعدي المخترق لكل وجود «مع» هو ما عبر عنه «نانسي» قائلا : «إن «نحن» تقوم بفعل التوحيد-الانفصال الذي بدوره لا يرتد لا إلى الوحدة ولا إلى الانفصال كما لو تعلق الأمر بجواهر… إن «المع» تظل فيما بيننا ونحن نظل فيما بيننا:لاشيء إلا نحن لكن لاشيء بيننا غير التباعد»(3).هذا التباعد هو ما يحرص عليه القانون الأخلاقي إذ ليست عمومية القانون ذات أصول إيمانية تجهد لأجل توحيد الجماعة في مجموع ملتف حول عقيدة جماعية،بل إنه يقر باستقلالية الذوات العملية (الأشخاص) باعتبار ذلك شرطا للعلاقة الاجتماعية. فجعل الحرية في صلب التشريع الأخلاقي هو مايؤكد تعارض أطروحة «كانط» مع أية نزعة جماعية ذات أبعاد إيديولوجية كليانية.
ليس في وسع «العلاقة- مع» أن ترزح تحت إملاءات خارجية،الأحرى أنه حيث تنعدم الحرية تنعدم العلاقة الأخلاقية. لكن الحرية هي التزام بتشريعات العقل بوصفها محكومة ببعد الغيرية،ولايجب فهم أن مايلزمنا به العقل من أوامر يعكس مظاهر الإحسان والتصدق والشفقة على الغير. الأحرى أن تحكيم أوامر العقل ضمن الإرادة هو شرط اكتساب الأنا هويتها الإنسانية، أي صفة الشخص التي تميز الإنسان دون غيره من الكائنات إذ قبل ذلك فالإنسان هو جزء من الطبيعة. تحدث الهوية إذن في خضم العلاقة،إنها مفعول للعلاقة وليس العكس كما تعتقد الجماعات المأخوذة بتصورات الهوية اللاهوتية والإيديولوجية المغلقة.
إن الشخص هو كذلك لأنه متعدّي الهوية،فهذا ما يجعله بمعزل عن الدائرة المغلقة للغريزة التي هي أساس النزعة الفردانية وبالتالي أساس الحالة الحيوانية التي ليست فقط صفة للحياة الحيوانية الرازخة تحت نير الغريزة،بل إن الحياة الحيوانية قد تطال العلاقة الاجتماعية إذا ما ظلت مسألة الوجود الجماعي قيد النسيان.
يخاطب فينا «كانط» الشخص وليس الفرد،يخاطب العقل وليس الهوى. إنه يطمح إلى أن ينتصر فينا نداء الغير،فذلك ما سيظل مشروعا مشرعا على مستقبل مطلق. إن «ما يجب أن يكون» هو تخطي «ماهو كائن» تخطي الشر بوصفه السلوك على نحو غير مبال بحقوق الغير.
المنعطف «الكانطي»: الأخلاق والدين.
إذا كان شأن تدبير العلاقة البينية هو أمر أصبح مقصورا على الأخلاق بما هي تشريعات للعقل،فماذا تبقى للدين؟ منذ أن ظهرت الفلسفة وهي في صراع مع الدين تتصاعد حدته وتخبو حينا،وذلك لأن الفلسفة ظهرت وهي تتقصى الموضوعات التي أسلف الدين الاستئثار بالنظر فيها ومن ذلك تشريع الأخلاق. فهناك تصور ديني للأخلاق أي هناك معقول أخلاقي ديني مصدره الوحي، سلطة المتعالي المطلق: الله.
يكمن منعطف «كانط» في الأمر التالي: إذا كان المعقول الأخلاقي ظل تحت إمرة المعقول الديني، فلقد بلغ العقل رشده مع عصر الأنوار بحيث يصير الدين إلى حيث يريد العقل وليس العكس. إن الإمكانية الوحيدة للتأويل الصحيح للدين هي وضعه في حدود مقتضيات العقل الأخلاقي، فليس هناك حاجة تأسيسية للأخلاق بالدين لكن في شأن ذلك هناك حاجة للدين بالأخلاق. حاجة الدين إلى العقل تتم على مستووين:أ)- فالدين في حاجة إلى العقل كي يتبيّن المصدر الحقيقي لأركانه. فإذا كان العقل لايستطيع الخوض في مسألة الوحي، فمن المؤكد أنه يستطيع أن يكشف عن المصدر الفعلي لأسس الدين. إن الأفكار التالية: الله، خلود النفس، الدارالأخرى. هذه الأفكار التي يعتبرها الدين أركانا له هي منتوجات عفوية للعقل، فالعقل ملكة تحمل في ذاتها ميلا ميتافيزيقيا وهو ميل طبيعي فيها. إن فكرة الله مثلا، تأتي العقل في سياق بحثه خارج معطيات الحساسية عن مطلق العلة أي العلة التي لاعلة لها، وسيظل العقل يجنح إلى بحث الأصل المطلق متى ظل متنوع التجربة مجرد نسيج لعلل جزئية: هناك فكرة الله إذن،لأن هناك الكائن العاقل. – يحتاج الدين إلى العقل لتنقيحه مما علق به من شوائب الدين التاريخي الذي امتزج بسلط أرضية، فتحول إلى أداة للإخضاع وبضاعة للمتاجرة، كما إلى تمارين خارجية من دون روح ليحيل على إيمان حرفي معطل سالب للعقل. في هذه الحالة تكون الغاية من مراجعة الدين على أساس العقل هي بلوغ دين خلقي كوني يكون شرطا لإمكان تخطي الاستبداد الديني، فالدين من دون أخلاق عقلية ينتهي إلى الطغيان الديني.
لايمكن للدين أن يخرج من الأفق البشري لأنه متجذر في العقل الإنساني، لكن لكي لايستحيل الدين إلى عائق للعلاقة البينية فمن الواجب تأويل أركانه على خلفية الغايات الأخلاقية. فأركان الدين التي هي أفكار للعقل لها وظيفة تنظيمية لا تكوينية للقوانين الأخلاقية، غير أنها تظل قائمة بوصفها حاجة عقلية للإرتقاء بالفعل إلى مستوى يلامس الخير الأسمى. إن فكرة الخير الأسمى في العالم تقتضي منّا افتراض كائن أسمى يوحد بين العنصرين الكونين للخير الأسمى: الفضيلة والسعادة.
تنبع حاجة البشر إلى فكرة الله من حاجتهم إلى تقديس شيء ما، إلى احترام أعظم لملكوت الاله. فهذا الاحترام وهذا التقديس هو الحد الذي تصطدم به أنانيتنا لتنفتح على احترام الغير. لكن الأمر أنذاك لن يتم على النحو الذي يكون فيه الله هو الناهي والآمر بما يلزمنا تجاه الغير بل العكس،فما هو واجب علينا تجاه الغير مما يمليه علينا العقل الأخلاقي هو الذي يؤهلنا لنكون تحت رحمة الله وعونه، عونه المحفز للحياة الإنسانية والفاتح لها على أمل بلوغ المطلق: الخير الأسمى، الذي لايمكن بأي حال أن يتحقق في عالمنا بفعل المدار الملتبس للإرادة،مدار يكتنفه الشر بقدر الخير. فوحده التسليم بوجود عالم الله يعطي معنى للأمل في مستقبل يتخطى العلاقات الأداتية بين الإنسان والإنسان.
إن أركان الدين التي في الأصل أفكار للعقل تشكل الغايات القصوى الملهمة للإرادة الإنسانية على أمل أن تتحقق كإرادة خيّرة في مستواها المطلق: الخير الأسمى. إن الأمل في بلوغ هذه الغايات (اكتساب رضى الله وعونه خلود النفس في حالة من التطابق بين الفضيلة والسعادة- وجود دار أخرى تستكمل فيها الإرادة ما استعصى عليها في الدار الدنيا، أي بلوغها مطلق طابعها الخيّر) هو ما يفتح الفعل على إمكانية ارتقائه إلى كماله الخاص.
في أثناء حديثه عن الغايات يستحضر «كانط» عبارة «كما لو أن» التي لاتؤكد شيئا غير أنها تفتح الفعل على الأمل: «كما لو أن» التخطي التام «لما هو كائن» والتحقق التام «لما يجب أن يكون» هو أمر ممكن. «كما لو أن» بلوغ «الخير الأسمى» في «مملكة الغايات» هو أمر ممكن. ذلك هو موضوع كتاب «كانط»: «ميتافيزيقا العادات الأخلاقية»، وهو عمل من جزءين يتناول في جزء منهما مفهوم الفضيلة والسعادة والعلاقة بينهما. إن موضوع الفلسفة الأخلاقية – خلاف ما ذهبت إليه المدارس اليونانية القديمة، الرواقية والأبيقورية- لن يكون هو السعادة. فالسعادة تدور مدارالذات. إنها لاتبدأ من الوسط،من العلاقة البينية بل تتمركز إلى جهة الذات. لذلك نجد «كانط» يرهن السعادة باللذات الحسية ذات المنزع الأناني. والحال إن الفضيلة هي السعي الدائم إلى مطابقة الفعل لمقتضيات الواجب كما يختطه القانون الأخلاقي،مطابقة واجب الأنا تجاه الغير. في نظر «كانط» لن نصبح جديرين بالسعادة إلا وقد استجبنا لنداء الفضيلة،ووحده الله ضامن للعلاقة بين السعادة والفضيلة إذ يمكّننا من السعادة لمسلكنا الأخلاقي الفاضل.
فتوحات «كانط» التي يجب أن تسترعي الباحث العربي في حواره مع الميتافيزيقا العربية هي:
1 – إن «كانط» لايطعن في الأديان بل يوجهها الوجهة الأخلاقية بعدما أصبح تأويلها التاريخي والحرفي باعثا على الاختزال والإقصاء ومعطلا للعلاقة «مع» بفعل خلق كيانات مغلقة محتربة ينحدر فيها الإنسان إلى مستوى الأداة.
2 – إن حاجة الناس إلى الدين ستظل قائمة قيامهم،وذلك لحاجتهم إلى المقدس الذي لن يغيب عن أفقهم التاريخي بوصفه ملهما للأفعال ومشرّعا للحياة البشرية على «أمل» بلوغ المطلق.
3 – يندرج الدين ضمن أفق الأخلاق وترتد الأخلاق إلى العقل،فدين المستقبل لايجب أن يكون إلا دينا أخلاقيا عقليا،يقول عنه «كانط» إنه بذلك فقط يصبح دينا إنسانيا كونيا،دين الطبيعة البشرية.
الأخلاق والسياسة:
مما يتداوله الباحثون (حنّا أرانت مثلا) في شأن العلاقة السياسية عند «كانط»،أن الرجل لايمتلك نظرية سياسية، وتأمله في السياسة كان مساهمة ضعيفة في الأواخر من أيامه ضمن كتيبه «مشروع السلم الدائم». وسواء أكان هذا الرأي صائبا أم لا فتأملات «كانط» السياسية تهمنا من جهتين: أ)- جهة أنه أول فيلسوف في العصر الحديث للفلسفة السياسية، وعلى نحو أكثر وضوحا وعمقا من «سبينوزا» و«روسو»، طمح إلى استعادة العلاقة السياسية إلى ما يعتبره مرجعها الطبيعي المناسب أي العلاقة الأخلاقية، وهذا بعد تراث من الفكر السياسي الحديث الذي أجهد لإبراز الخلفيات والغايات اللاأخلاقية للسياسة. لعل هذا الاستدراك الأخلاقي الكانطي ليس تصحيحا لخطأ بل هو تنبيه إلى شروط إمكان العلاقة السياسية الممكنة في المستقبل. فالأخلاق في عملها التأسيسي ليست مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة حتى تصبح السياسة ممكنة بما هي علاقة. إن كل علاقة لكي تصمد بوصفها فسحة للـ «بين إثنين» لابد وأن تتأسس بدءا على الأخلاق: أخلاق الغيرية. هناك إذن، تضافر عند «كانط» بين اعتبار المبدأ الأخلاقي وحماية العلاقة بما هي فسحة من مخاطر المطابقة والإقصاء، وليس هناك شيء مستغلق على الفكر السياسي العربي أكثر من هذا.
ب)- تكمن الجهة الثانية لأهمية تأملات «كانط» السياسية في إبراز إمكانية أخرى لتأسيس السياسة على الأخلاق، أي الإمكانية المدنية المتمثلة في تأسيس السياسة على أخلاق عقلية. فنحن لدينا ما يكفي ضمن التراث السياسي العربي من تأسيس للسياسة على الأخلاق الدينية (الطرطوشي، الغزالي، إبن خلدون…). تأسيس السياسة على الأخلاق العقلية يعني تركيز أركان مشروعية العلاقة السياسية في العالم الدنيوي بمعزل عن العالم الأخروي، أي اكتشاف المجال السياسي كمجال إنساني بحث. إن إكساب المجال السياسي طابعه الإنساني المدني وتفكيك التمركز الذاتي السياسي هما المدخلان الأساسيان لكل فكر وممارسة سياسية مستقبلية.
يختلف التشريع الأخلاقي عن التشريع السياسي، فالأول يستدرج الفرد إلى الخارج إلى العلاقة «مع» والثاني يستدرج العلاقة إلى التعاقد. التشريع الأول منطلقه داخلي،العقل بوصفه ملكة حرة. والتشريع الثاني منطلقة من الوسط،المجال الوسيط بما هو مجال السياسة الذي قالت بشأنه «أرانت»: «تولد السياسة من رحم المجال الوسيط إذ تتشكل بوصفها علاقة(4).لكن التشريع الثاني مفعول للأول، فمن دون الأخلاق العقلية تتعذر السياسة كمجال وسيط.
تكمن أهمية «كانط» في الفلسفة السياسية الحديثة في كونه يمثل ملتقى طرق الأطروحات السياسية الأخلاقية التي يمكن أن نجمع ضمنها الأعلام التالية : «سبينوزا»، «روسو»، «لوك»… لكن حضور أطروحات «روسو» ضمن عمل «كانط» هو حضور ملحوظ ومتميز، فالتدقيقات المفهومية التي وقف عندها «روسو» تجد صداها بدرجات متفاوتة القوة في المتن الفلسفي لـ«كانط». لقد وافق «كانط» على تمييزات «روسو» بين الجموع والمجتمع، بين المصلح الجماعية والمصلحة العامة. فالجموع يعبر عن المصلحة الجماعية لكن المجتمع يعبر عن المصلحة العامة، والفارق هو أنه في الحالة الأولى تتعارض مصلحة الفرد مع بقية الإرادات في حين تجد لها في الحالة الثانية مكانا ضمنها، وهذا الإنسجام بين الإرادة الفردية وبقية الإرادات هو ما يسميه «روسو» بالإرادة العامة.
لعل استحداث إرادة الفرد في صلب المجتمع لاتصبح ممكنه إلا داخل مجتمع مفتوح وذلك هو مرمى تعليق «آلان رونو» على الفتح المميز لـ«روسو»: «كان روسو على معرفة جيدة برياضيات عصره وخاصة حساب اللامتناهيات الذي وضعه لايبنتز، فهذا الحساب هو الذي سيفيده باعتباره نمودجا من أجل التفكير في الإرادة العامة: يمكن بذلك اعتبار كل إرادة خاصة من حيث إنها مختلفة عن كل إرادة وتعبر عن وجهة نظر فردية تماما باعتبارها كمية لا متناهية في الصغر». ثم يتابع: «والحال إن الإرادة العامة ليست شيئا آخرغير جماع لمختلف هذه اللامتناهيات في الصغر… هذا في حين أن إرادة الكل هي إرادة جماع بسيط للكل»(5).
المستفاد إذن مما تقدم هو أن عمومية المصلحة العامة مطبوعة بفردية الفرد إذ يعثر فيها كل فرد على فرديته دون أن يكون في وسعه اختزال هذه العمومية في فرديته المغلقة. إن ضبط العلاقة بين العمومي والخصوصي هو ما يؤسس مفهوم السيادة عند «روسو»، فضمن هذا المفهوم يتم فرز الحدود الفاصلة بين الفردي والعمومي بين سلطة الدولة وسلطة المواطن إذ أحدهما يجد تعبيره في الآخر.إن السيادة هي سيادة الإرادة العامة لامن حيث هي إرادة الأغلبية بل بصفتها تتسع لتستجيب في كل مرة للصيغة الخاصة بفرادة كل فرد. وهنا يتبدى جليا حضور القيمة الأساسية لحساب اللامتناهيات التي تنتهي إلى تأكيد استحالة حساب العلاقة البينية، ذلك أن مصدر تناهيها هو طبيعتها اللامتناهية أي غير القابلة للحصر ولا للصياغة الرياضية.
السيادة إذن، هي علاقة الفرد بمصلحته عبر المصلحة العامة إذ يوجد الأفراد على نفس المسافة من القدرة على ممارسة السلطة التي تضمن مصالحم الخاصة وقد تم توجيهها عبر التعاقد أي تحويلها إلى مصلحة عامة. وبهذا،فما يرسمه مفهوم السيادة ليس أبدا السلطة بوصفها علاقة عمودية من سيّد إلى عبد،ذلك لأنه «حالما يوجد سيد لاوجود بعد لشعب يتصف بالسيادة ومن ثم يندثر الجسم السياسي»(6).
سيتسلم «كانط» كل هذا الإرث «الروسوي» ومنه ينطلق ليؤكد أن مفهوم السيادة يتضمن مفهوم المصلحة العامة على خلفية التعاقد بين إرادات حرة. لذلك اعتبر «كانط» أن السيادة لاتقبل التجزئة، وهذا في مقابل تراث فلسفي يمثله «هوبس» أساسا،تراث يقيم التعاقد على القوة حيث نتيجة ذلك هي تفويت إرادات الأفراد إلى قوة عليا. وبالرغم من أن نظام الحكم الأمثل الذي يقترحه «كانط» هو نظام حكم تمثيلي وليس مباشرا وهو ما سيسميه بنظام الحكم الجمهوري، بالرغم من ذلك فإنه يؤكد على ضرورة أن يكون هذا التمثيل تمثيلا كاملا لإرادة الشعب، خاصة وأن اختياره لذلك كان لأسباب عملية إذ الصيغة التمثيلية للحكم تسعف في تسريع الإصلاح.
يستفاد من التراث الروسوي-الكانطي (كان ارتباط وإعجاب «كانط» بـ «روسو» لامثيل له على الإطلاق) أن سؤال العلاقة السياسية يرتد إلى سؤال الهوية،هوية الجماعة. وأن هذه الهوية لايجب أن تخرج عن كونها علاقة، علاقة يجب أن تظل باستمرار قيد الفحص والتمحيص. فالإبقاء على العلاقة هو إبقاء على شرط المسافة البينية الواصلة-الفاصلة بين مكونات الجماعة،علاقة- مسافة لاتصل إلا على قاعدة الانفصال، إنها تصل بين انفصالات، نوعيات، فرديات منفتحة.
ب)- مداومة تجريب أسئلة «هايدجر»:
إذا كان ظهور الفلسفة هو إيذان بدخول البشرية إلى ثقافة السؤال فإن تثوير السؤال منذ بدوّه الأول مع اليونان لم يحدث إلا مع «هايدجر». لم يكتف «هايدجر»،كما شأن كل الفلاسفة،بالسؤال بل تخطى ذلك إلى السؤال عن صيغة السؤال. لقد انشغل لا بماهية الكائن كما ساد ذلك من خلال السؤال: ماهو؟ أو ماهي؟ بل همّه كان هو:ما شروط حدوث الكائن؟ يتحدد الأمر بتحديد شروط الإمكان،لابتقرير ماهية جوانية قبلية ثابتة.
تنتهي صيغة السؤال هاته إلى تأكيد الكينونة بوصفها شرطا لإمكان الكائن. في ضوء ذلك تتحول تلقائيا جملة الأسئلة الممكنة. إن تثوير السؤال مع «هايدجر» طبع القرن العشرين بميسم يؤكد جليا أنه لولا «هايدجر» لكان هذا القرن قرنا باهتا من الناحية الفلسفية، واعتقادي أن تأثير ذلك سيمتد ليغطي القرون القادمة المنظورة. إن كتابات من مستوى كتاب «الكينونة والزمان» يمتد تأثيرها إلى عشرات القرون مثلما هو الشأن مع كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو. ومثلما استنفد أجدادنا تحرير أسئلة كتاب «الميتافيزيقا»، علينا اليوم أن ننهل من أسئلة «هايدجر» التي من دونها ستصبح علاقتنا مع تراثنا(سؤالنا الحرج بامتيار) علاقة مرضية ومعطوبة.
إذا كان لابد من الإقرار مع الجميع بأن «نيتشه» نقل الفلسفة إلى عصر آخر من عصورها، فإن «هايدجر» يكون هو من صاغ على نحو أوضح أسئلة هذا العصر، أسئلة الزمان، الحقيقة، الفن، «الوجود-مع»، الهوية، العلة…
يكمن المنطلق المنهجي لـ«هايدجر» في تقصي شأن الوجود الجماعي كما شأن كل الأسئلة في مراجعة التراث، تقويض الميتافيزيقا الذي يعني فتحها على اختلافها المنسي، اختلاف الكائن والكينونة الذي لن يتأتى إلا بالسؤال عن الكائن في أفق الكينونة وليس في أفق الكائن كما درجت على ذلك الميتافيزيقا.
تسأل الميتافيزيقا عن الكائن لتأسيسه على أساس متين ثابت وقار، تختزله إلى كائن آخر: الله أو الإنسان أو الفكرة أو مبدأ ما… تقويض الميتافيزيقا لايعني الطعن في أطروحاتها وصيغ أسئلتها. فما يسعى فكر الكينونة إلى تحريره يكمن ضمن أقوال الميتافيزيقا، لذلك يقتضي الأمر التعامل مع الميتافيزيقا وفقا لإستراتيجية (كما سيبين ذلك أكثر «دريدا» فيما بعد) أي تدبير التقويض بحيث لايتخذ صورة مواجهة، تالميتافيزيقا تتقوى بمواجهتها.لأن كل مواجهة لها لايعدو أن تكون بناء لميتافيزيقا بديلة (عتب «هايدجر» كثيرا على «نيتشه» و«سارتر» ادعاء الضدية والعداء للميتافيزيقا).
إن صيغة التقويض التي تستحق صفة استراتيجية هي التي تسعى إلى تملكّ الميتافيزيقا. فلا يتعلق الأمر بالتنكر للميتافيزيقا بل بتملكها أي فحص إمكاناتها وحدودها. فكل تقويض بما هو مجاوزة يقتضي التملك. إن مجاوزة الميتافيزيقا إذن، تتم عبر تملكها وليس تفنيدها وتكذيب مضامينها، وعلينا في الفكر العربي أن نستحدث هذا الأثر «الهايدجيري» بقوة.
إن مساءلة «هايدجر» للميتافيزيقا لاتتخذ صيغة مواجهة بل صيغة ملاعبة: الانطلاق من الميتافيزيقا «ضد» الميتافيزيقا وذلك ضمن عملية مجاوزة دؤوبة ودائمة لازمان ولا مكان لها. لكن هذه المجاوزة- الملاعبة تتم على خلفية: أ)- مفهوم نوعي للزمان. ب)- رهن الحقيقة بالزمان.
المنعطف الهايدجيري: الإنسان، الميتافيزيقا والزمان
لايشير العنوان أعلاه إلى ما درجت الأدبيات الهايدجيرية على تسميته بـ«المنعطف» في فكر «هايدجر» والمتمثل في انتقال «هايدجر» من السؤال عن الكينونة بوساطة الدازاين إلى السؤال عنها من دون وساطة أي بدالة الحقيقة، حقيقة الكينونة. الحال إن المقصود هنا بالمنعطف هو ذلك الحدث الذي يربط بقوة «كانط» بـ«هايدجر»: الحقيقة في أفق الزمان. بهذا المعنى يندرج منعطف «هايدجر» ضمن منعطف «كانط». غير أن ما يميز المنعطف الأول هو تبنيه لمفهوم نوعي للزمان، المفهوم المتخالف للزمان الذي كان «كانط» يحاديه دون ولوجه.
لقد كان قصدي من استحضار مفهوم الزمان عند «هايدجر» (الذي يجب أن يفعّله الفكر الفلسفي العربي بقوة في مراجعته للميتافيزيقا العربية) هو الكشف عن تأسيس هذا المفهوم لمفهوم «هايدجر» لمراجعة وتقويض التراث .
ينأى فكر الكينونة بنفسه عن التصور الميتافيزيقي للزمان المنبني على الوحدة المتماهية لـ«الآن»، الماضي- الآن الذي مضى وانتهى، الحاضر- الآن الماثل هنا والمستقبل – الآن الذي لم يحضر بعد. فضمن هذا التسلسل الخطي للزمان يكون الزمان هو تتابع «آنيات»، تتابع يشكل الأبعاد الثلاثة للزمان: الماضي، الحاضر والمستقبل. ووحده الحاضر هو الزمان الحقيقي والحي.
ضمن هذا التصور الميتافيزيقي للزمان الذي يجد صياغته المنطقية والصريحة عند «أرسطو» تفلت قوة الماضي وأهميته من منظور الميتافيزيقا. إن الماضي- التراث هو ما مضى بمعنى ما فات ومات،ولعل ذلك ما سعى مفهوم الزمان عند هايدجر استدراكه. فمن صلب الزمان المشروط أي الزمان التتابعي يستخلص «هايدجر» الزمان الشارط،الزمان الأنطولوجي المتخارج حيث الزمان ليس بأبعاد ثلاثة بل بأربعة أبعاد إذ الأهمية القصوى هي للبعد الرابع. تتمثل وظيفة البعد الرابع للزمان في التقريب-الفاصل بين أبعاده الثلاثة حيث الماضي «ماكان» وليس مما مضى وانتهى في شيء،بل إن الماضي هو ما يفتأ يحل في صلب الحاضر مشتتا الوحدة المفترضة للحاضر. لذلك فالحاضر ما لايحضر أبدا،إنه لايوجد تحت وطأة الماضي فقط بل أيضا تحت ضغط المستقبل الذي ماهو هنا أصلا، إنه ليس «مما ليس بعد» في شيء. وما يترتب على هذه الوحدة التصادمية التي تضع كل بعد خارج ذاته، هو ما يشكل الوحدة الأساس والحقيقية للزمان أي «اللحظة» وليس «الآن».
تكمن القيمة الفلسفية للمفهوم المتخارج للزمان في تأكيد العودة القدرية للماضي- التراث- الميتافيزيقا. في خضم هذه العودة لايكون عموم الكائن معنيا باستثناء الإنسان، إنه معني بما يناديه من صلب الاختزال الميتافيزيقي: تحرير اختلاف الكينونة عن الكائن، نداء الاختلاف. فهم الإختلاف وتطويع اللغة في أفق استضافته تلك هي المهمة الأساس للإنسان بوصفه «دازاين». فـ«الدازاين» ليس لا أنا ولا أنت بل هو الوضعية الأنطولوجية الملقى بنا نحوها بحيث نوجد خارج ذواتنا على نحو منفتح تجاه الكينونة. إن «دا» ضمن «دازاين» تحيل على الإنسان بوصفه فضاء انفتاح الكينونة، إذ دون ذلك تظل الكينونة منسية. الحقيقة أن ذلك هو واقع الحال حيث مايفتأ الدازاين يحيد عن قلق الإنهمام بالكينونة، إنه يحيد عن القلق.
الإنسان إذن، في هويته الأصلية هو وجود «دزاين» على نحو أنه «دا» التي ليست تحديدا لمكان معين بل للصيغة المنفتحة للإنسان، وضعية التخارج التي ما تفتأ تلقي به إلى خارج ذاته، خارج الجوانية الحميمية لترهنه بالعالم. لذلك قال «هايدجر» إن البنية الأنطولوجية الأساس التي يوجد عليها الدازاين هو أنه «وجود – في- علاقة بالعالم» (أضيف لفظ «علاقة» حتى أؤكد على حدث الوجود في الخارج المميز للدازاين، كما لكي لا أترك التركيز منصبا على «في» التي تفيد احتلال مكان في العالم مثلما وجود التفاح في السلّة).
يوجد الدازاين في العالم إذ ما يفتأ يرتبط به في كل مرة على نحو مغاير،إنه وجود حدثي متناه. تكشف هذه الحدثية عن مدى انغماس الإنسان في العالم بمعزل عن الثنائية الميتافيزيقية: ذات (الإنسان)/ موضوع (العالم). يعكس هذا الإنغمار في العالم مفعوله في الإنسان من خلال أحواله الوجدانية والمعرفية، فارتهانه بالعالم لايتم فقط على صعيد إرادة المعرفة بل صعيد انفعالاته الوجدانية: المشاعر، الإنفعالات، التقلبات المزاجية…
إن وجود الإنسان في علاقة بالعالم يعني وجوده باستمرار خارج ذاته وفعل الخروج هذا يتم بدالّة إما الآخرين أو الأشياء أو الموت. لذلك يميز «هايدجر» كأحوال أساسية «للوجود – في- علاقة بالعالم» ثلاثة أحوال يسميها بنيات وجودية أصيلة «للدازاين»: «الوجود- مع» و«الوجود-في-علاقة بالأشياء» ثم «الوجود- في- علاقة بالموت». وبقدر ما تفيد هذه العلاقات بتخارج الوجود الإنساني بقدر ما تفيد أيضا باستحالة تحديده من خلال أية جوانية روحية أو معرفية كما دأبت على ذلك النزعات اللاهوتية والعقلانية. إن الإنسان لاشيء قبل هذا الخروج بل هو هذا الخروج بالذات:»دازاين»،إنه انفتاح على المنفتح دون رعاية متعالية.
تعيد البنيات الوجودية الأصيلة إعمال أسئلة الشيء ثم الموت والآخرين. هذه الأسئلة التي على كل فكر أن يجرب طرحها إذا ما أراد أن يفكر تفكيرا جذريا، أي أن ينخرط في النقاش الكوني للفكر البشري في أفق أن يصبح قدرا له مثلما هو شأن الفكر الألماني.
يتأسس «الوجود- في-علاقة بالأشياء» على «الوجود- في- علاقة بالعالم» وهذا يؤكد على الوحدة البنيوية بين الإنسان والشيء والعالم. فالشيء ليس مجرد موضوع يوجد على نحو خارجي بالنسبة للإنسان،إن افتراض عزلة الإنسان هو فرض ميتافزيقي. يجد الإنسان نفسه في غمرة الأشياء إنه منهمّ بها بوصفها أدوات-علامات تكمن أداتيتها في طابعها الاشاري، كونها تشير فهي تحيل على… فكل أداة إشارة بما هي علامة وبالتالي فهي إحالة. هاهو إذن العالم يتشكل أمامنا كما لوأننا نلجه لأول مرة،تلك هي حكمة الفينومينولوجيا ويبقى على الهيرمينوطيقا أن تتقصى ظاهرة العالم بصفته وضعية تأويلية، أي جملة عناصر تختزن في مجملها دلالة قابلة للتأويل، هذه المدلولية أي قابلية العالم للدلالة هو ما يمكننا إيّاه مفهوم العالم كبنية إحالية دالة حيث المدلولية هي شرط كل فهم واستعمال للأدوات. غير أنه فيما بعد تمكن «هايدجر» من الإستيعاض عن العالم- الدلالة بالعالم-الرباعي المتعالق في حدوثه، فالعالم لايختزن دلالة ما بل ما يفتأ يحدث في غمرة تعالق أبعاده الأربعة: السماء، الأرض، الآلهة والفانون. إن هذه الرموز الشعرية لاتعبّر وهي فرادى بل تستمد معناها من إقدامها وإقبالها على بعضها البعض في لعبة تناظر مرآوي، فلا أحد ضمن رباعي العالم يمثل بوصفه أساسا. إن الأساس ضمن الرباعي هو اللاأساس، لا أساس حيوية مفهوم العالم في توثبه وانبجاسه في عملية تعالق متجددة على نحو لامتناه إذ في كل مرة يقدّر لفكرة الله معنى يكفلها لها سياق التعالق. فالمعنى ليس دلالة هي هنا أصلا كما ضمن مفهوم العالم-البنية الإحالية الدالة، بل المعنى يتوثب متجددا تجدد التعالق. فليس هناك معنى نهائيا للعالم لأن ليس هناك تعالقا نهائيا لرباعي العالم. إن العالم إذن، ما يفتأ يحدث حدوث الرباعي وبذلك فهو كناية على الكينونة، العالم هوالكائن الذي في صلبه يعتمل تجلي الكينونة وتخفيها.
يستفاد مما تقدم أنه ليس هناك خارج العالم، فكل شيء يظهر ويتجلى في غمرة العالم بوصفه بؤرة للتناهي وشبكة تخوم إليها ترتد كل المتعاليات. إن تناهي العالم يعني تناهي العلاقة بالأشياء، فالإنهمام بها ما يفتأ يصطدم بالزمان. يوجد الإنهمام إذن، على نحو متواشج مع الزمان إذ يصبح الزمان مندرجا في حسبان الانهمام. باستمرار تنفلت الأشياء من قبضتي وتعطاني على نحو مغاير، إنها لاتتضمن معاني سرمدية هي أسرار الخالق في خلقه.
إن تناهي العالم بهذا المعنى لا يدل على أنه مجرد عرض دال على جوهر متعال، بل لايوجد خلف التناهي غير التناهي. فالإنسان انوجاد ضمن بعد التناهي الذي لايترتب إلا على نفسه ولا يخضع إلا لقانونه الخاص بوصفه قانون الإنبثاق والحدوث. وعلى الفكر الفلسفي العربي أن يعمل سؤال العالم تهييئا للخروج من مفهوم العالم المخلوق الحامل للحكمة الأبدية لخالقه، العالم-الدال المطابق لمدلوله مطابقة طبيعية، والإنخراط ضمن الأفق الذي يرسمه قول «هايدجر» هنا: «إن مسألة العالم هي إذن مسألة التناهي وهذا يشكل فرضا لامحيد عنه»(7).
يتضمن «الوجود- في- علاقة بالعالم» «الوجود- مع – الأغيار»، وإذا كان الوجود الأول مقلق بذاته حيث «إن ما يثير القلق ويوتره هو الوجود في علاقة بالعالم باعتباره كذلك»(8). إذا كان الأمر على هذا النحو فإن «الوجود- مع» لايقل عنه قلقا وإقلاقا، ونحن هنا يهمنا سؤال «الوجود- مع» عند «هايدجر»، صيغة طرحه ومآلاته وذلك لإهتمامنا بمسألة الوجود الجماعي.
إن الإنسان بانوجاده في العالم يجد نفسه في العالم في غمرة «العلاقة- مع»، إنها علاقة لايختلقها بل هو «مع» من حيث إنه كائن الإنهمام إذ لامجال للامبالات(لا أقول الإهتمام كما لو أن الأمر ناجم عن قصد وهوى). ينهمّ الإنسان حيث هو «مع-الآخر» و في خضم ذلك يفهم إمكاناته القدرية التي ما تفتأ تنفلت منه وتتغيّر. يترتب على ذلك أن ماهيته غير معطاة قبل ذلك بل تنشأ ضمن هذه الـ«مع»، هذه العلاقة التي يجد نفسه عرضة لها. يجد الإنسان نفسه عرضة للأغيار بوصفهم «هُم- on- mann» أي عرضة للـ«مَن» المحايدة والمجهولة،لكنها في نفس الوقت الفاعلة حقا والمؤثرة فعلا في حياته اليومية. وبذلك فهي تشكل الحدّ الذي يمتنع فيه الإنسان بوصفه هو ذاته أي «دازاين» مستجيبا لنداء الكينونة.
في شأن تقصيه «للعلاقة- مع» ينتهي «هايدجر» إلا إقامة سيميولوجيا للحياة اليومية تكشف عن الطابع السّاقط للعلاقة الجماعية. فسيادة «الهُم» تحضر كديكتاتورية غير مرئية لكنها مقررة ينغمر فيها الدازاين مستاء حينا ومرحبا آخر. أحيانا نادرة جدا يبدي فيها مقاومة تجاه «الهُم» من خلال محاولة تخطي سلطة عموميتها التي تخنق إمكاناته في الوجود مسطحة كل الإمكانات على خلفية نمودج واحد،فإضعاف إمكاناته في الوجود هو ما يسعى إلى ردّه دون نتيجة. لكن الأغلب الأعم يستسلم الدازاين لفاعلية «الهُم» مخليا مسؤوليته إذ الفاعل هو هذا المجال العمومي غير المرئي،هذه العمومية التي تخطط وتقرر مكانه بل تتكلم وتفعل مكانه حيث يعيش «الدازاين» من خلال صيغة «كما قيل» أو «يُقال إن».
يجنح الإنسان في وجوده إلى الأسهل أي إلى ما يخفي ذاتيته ويجعل حضوره حضورا بالوكالة. ولأنه في الأغلب الأعم يوجد على نحو ذلك،فوجوده اليومي يظهر في مختلف تجلياته على نحو ساقط. لقد حدّد «هايدجر» مظاهر هذا السقوط في :أ) انشغال الدازاين باجترار الموضوعات المكرورة التي تتضمن تخريجات ذهنية جاهزة تزيح عنه عناء التفكير ومشاق السؤال. ب)-انغماس الدازاين في الفضول،حب الإستطلاع في ذاته، التعطش المتزايد للجديد ناسيا بذلك مايستحق التفكير. إن الفضول بهذا المعنى مظهر من مظاهر الوجود اليومي غير الأصيل، الوجود المزيف. ج)-حيث يسود السجال والفضول يسعى الالتباس إلى تغديتهما موهما إياهما أنهما حاسمان مقرّران،فكل شيء يبدو مفهوما من تلقاء ذاته. كل شيء يبدو مفهوما،لكن دون تملك حقيقي لأي شيء. بذلك يقوّي الإلتباس من سلطة «الهم» مضفيا الشرعية عليها.
إن هذه الأحوال الوجودية الأصيلة التي هي علامات على الوجود الساقط والمزيف،تنتزع العلاقة من صلب الجماعة وتفقد الـ»مع» لغزها إذ تختزلها إلى مجرد إضافة رياضية يبلغ عبر عملية ضم-نسخ إلى تشكيل جماعة-قطيع. الحال،إن لغز الجماعة لايتعلق بتلك الـ»مع» النمطية الناسخة بل بـ «مع» الماسخة التي لاتعدو أن تكون صيرورة تشكّلها هي نفسها، صيرورة تحلّلها. فالجماعة لاتوجد فعلا قبل هذا التحلل- الانفساح . لعل ذلك ما تعبر عنه بقوة العبارة الألمانية mitsein»» حيث تضع الـ«مع» قبل «الوجود». فالـ»مع» بوصفها تكثيفا للتناهي-التحلل هي أساس الوجود الجماعي وليس العكس، إذ العكس يعني الديكتاتورية المتجددة للقطيع دون تحلل، ديكتاتورية ترسخ صلابة القطيع إلى حدود تلاشي الحياة الخاصة ونهاية السرّ.
الجماعة بوصفها «مع» هي حدث أي إنها دائما ما سيحل وليس ماهوهنا أصلا،فما يجعل الجماعة مفترضة أصلا هو رهنها بدلالة-غاية تحدد الجماعة باعتبارها مضمونا مسبقا هو قيد الإنجاز أي مشروعا محسوبا على نمط الجماعة- الطبقة عند ماركس مثلا. لم يدرك «ماركس» الذي تعد فلسفة الوجود الجماعي في صيغتها المعاصرة حوارا مع أطروحاته ? أن الـ «مع» تشكل المجال المحايد المباعد-المجمّع،أي الجامع على خلفية المباعدة.
تصهر الجماعة الطبقة المسافة البينية لتستحيل الجماعة إلى ديكتاتورية عمّالية تأتي على الإمكانات الوجودية الأصيلة للإنسان. ويمكن هنا اعتبار التصور الماركسي للجماعة بمثابة نمودج للتصور الساقط للعلاقة التي قال بشأنها «هايدجر»:»الوسطية هي الخاصية الأصيلة «للهم»»(9). لكن «هايدجر» لم يكن يحاور النمادج النظرية فقط،بل أكثر من ذلك،لقد كان يفك شفرات الوجود اليومي للدازاين حيث انتهى إلى أن الدازاين في غمرة العلاقة اليومية الرازخة تحت قبضة «الهم» هو باستمرار «ليس ذاته» أي يوجد على نحو زائف. وبذلك فمجال العلاقات اليومية هو مجال الوعي الزائف غير القابل للتصويب والتصحيح.
ينتهي «هايدجر» إذن في شأن «الوجود- مع» كبنية وجودية أصيلة للدازاين إلى اعتبار «الهم» قدرا للأنا،قدره الذي لارادّ له حيث النتيجة هي السقوط القدري الأبدي للعلاقة الجماعية. فلا ولن يخرج الوجود الإنساني عن صيغة وجود كلياني إذ كل تحلل ممكن للجماعة يوجد مسبوقا بكليانية «الهم» التي هي هنا أصلا وأبدا. من هنا تكون الخلاصة الأساسية من أطروحة «هايدجر» هي تعارض علاقات الوجود اليومي مع ممكن العلاقة الأصيلة، أي امتناع التحقق المباشر للدازاين دون وساطة «الهم» ومن ثم استحالة الوعي كوعي بالتفرد والتميّز،ففي أثناء الوعي يكون الدازاين هو المنادي والمنادى عليه.
إذا كانت إمكانية الوعي بهذا المعنى تنتفي في «الوجود-مع» بوصفه وجودا ساقطا،فإن هناك مستوى آخر من وجود «الدازاين» يستفرد بتحقيق الأنا كوعي. وهذا المستوى هو ما يسميه «هايدجر» بـ»الوجود- في-علاقة بالموت» بوصفه بنية وجودية أصيلة «للدازاين».
يستدرك «الوجود- في- علاقة بالموت» ما يفلت من زمام «الوجود-مع» يتعلق الأمر بتحقيق إنية الأنا في صيغتها الأصيلة. غير أن العلاقة بين الوعي والموت ليست علاقة طبيعية تلقائية مباشرة، الأحرى أن القلق من الموت لايجرّب إلا فيما ندر. فالقلق بوصفه الوعي الذي يطرأ على «الدازاين» من فهمه لوجوده كوجود منقذف باستمرار نحو الموت،تعترضه مستبقة إياه تأويلات «الهم» للموت. إن هذه الذات التي هي لا أحد لاتتنكّر ليقينية الموت،غير أنها تفقد حدث الموت علاقته المباشرة بالدازاين من خلال: أ)- عادة ما يتحدث الدازاين في وجوده اليومي عن الموت من خلال عبارة «الكل فان on meurt». تجعل هذه العبارة حدث الموت باهتا، حدثا جماعيا تتخفى من خلاله إنية الأنا خلف مجهولية «الهم»، يجرب «الدازاين» موته نظريا من خلال تجربة جماعية مفترضة للموت. والحقيقة أن لا أحد يمكنه تفويت تجربة موته الخاص للآخرين،فكل واحد يموت حتما موته الخاص. ب)- تستأثر «الهم» بالحديث عن الموت،تتحدث مكان الدازاين بشأن موته. والحقيقة الثانية التي تلقّنها إياه تكمن في أن حدث الموت هو دائما ماليس بعد،فالموت باستمرار يهمّ الآخرين. إن الآخر هو من سيموت الآن أما «أنا» فليس بعد. بهذا تقيم «الهم» علاقة خارجية بين الحياة والموت إذ تجعل الموت دائما هناك بمعزل عن الحياة. والحال إن خصوصية الموت هو إمكانها في كل لحظة،إنها في علاقة تضافر مع الحياة.
إن الوساطة التي تقوم بها «الهم» في شأن علاقة الدازاين بالموت تحجب عن الدازاين حقيقة الموت بما هو موته الخاص،والدازاين من جهته يجنح إلى هذه الوساطة ويرتضيها إذ تعفيه عناء القلق،قلق الموت. لذلك ما يفتأ الإنسان يقيم علاقة ساقطة مع حدث الموت من خلال هروبه أمام إمكانيته القصوى،إمكانية استحالته الخاصة به.
تبدأ لحظة الوعي عندما يتحقق الدازاين هو نفسه دون وكيل أوبديل. ولاتلج الأنا هذه اللحظة إلا في غمرة تجربة القلق من الموت،فالقلق ينمّ عن فهم الدازاين لوجوده المتناهي الذي لم يختره بل وجد نفسه مقذوفا به نحوه. لذلك ليس نداء الوعي نداء واجبات عقلية قصد التطبيق،بل نداء من أجل التزام الدازاين بتناهيه الذي يكشف عنه في فرادته وتميّزه،وليس هذا غير تحرير إمكانية وجوده على نحو أصيل. إن فهم الوجود بوصفه متناهيا هو ما يصل الدازاين بالحرية،فالوجود المتناهي بوصفه وجودا مقذوفا به هو وجود خارج أفق العلة بكل أصنافها،إنه وجود حر.
الوجود الأصيل للدازاين هو وجود حرّ حيث يكون الدازاين هو نفسه ولايبلغ ذلك إلا بإقدامه على تناهيه في تجليه الأقصى(الموت)،فذلك مايعزل الدازاين ويكسبه فرديته وتميّزه. لذلك لايكون الوعي غير التزام الإنسان بإمكانية وجوده الخاصة به التي تكشف له عن سلطة «الهم» وضياع تفرّده في خضمها.
يكشف «الوجود- في-علاقة بالموت» على إمكانية حرة أصيلة في الوجود،تحرر العلاقة بين الإنسان والموت ويكشف عن إنيّة الأنا منتشلة إياها من غمرة «الهم». يكشف عن الأنا متصالحة مع تناهيها مقبلة على موتها بحزم وعزم مصحوبة بقلق ليس من الخوف الوسواسي في شيء، بل ذلك القلق الذي يقول عنه «هايدجر» إنه في ترافق دائم مع الهدوء والسكينة. إنه قلق في هدوء،قلق هادئ. قلق ناجم عن العلاقة بالتناهي،بالموت،وهادئ لأن الموت قدر الأنا الذي لامحيد عنه.
ينتهي فكر الكينونة إلى أن أصالة الأنا ممكنة خارج «العلاقة- مع»،فالوجود- في علاقة بالموت» هو ما يؤسس هوية الأنا وليس «الوجود- مع». لاضير القول إن الـ»مع» في سياق تحديد هوية «الدازاين» تحتل درجة ثانوية بفعل خصوصية الموت.
ضاعف فكر الكينونة نسيان مسألة العلاقة الجماعية،فباستذكاره الناسي لها أصبح سؤال الوجود الجماعي خارج أفق الفكر المستقبلي. ولعل هذا الإنزياح هو ما سعى جيل «ما بعد هايدجر» تصويبه من خلال وضع لغز «مع» على قائمة مهمات التفكير الفلسفي. أقول هذا وأنا أستحضر أعلاما مثل: «ليفيناس»،»جون لوك نانسي»، «فوكو» و«هابرماس»…
لقد تشكلت ملامح «مابعد هايدجر» بفعل العودة إلى «كانط»،فبالعودة إليه تنجلي نواقص فكر الكينونة والعكس بالعكس. إنه في اللحظة التي لم يستطع فيها «كانط» استخلاص مفهوم مغاير للزمان التعاقبي المحسوب من صلب العلاقة الإجتماعية،من صلب «العلاقة-مع» كتعاصر بين الأنا والغير،لم يستطع «هايدجر» أن يقوم بالعكس أي أن يمضي بتطبيقاته لمفهوم الزمان إلى حيث مفهوم «الوجود مع» حتى ينبجس تصور آخر للعلاقة الإجتماعية بمعزل عن التراتبية المفاضلة بين الأنا و «الهم». فهناك دائما إمكانية لتحرير العلاقة من قبضة الثنائية المختزلة وذلك بالإستناد إلى مفهوم مغاير للزمان. لعل ذلك ما تبيّنه بجلاء جيل «مابعد هايدجر» كما يوضح هنا قول «ليفيناس»: «إن الآن هي كون أن الأنا سيّد،سيّد الممكن/سيّد الإدراك الممكن»(10).ثم يضيف: «يعني الزمان في تزامنيته العلاقة التي لاتخاطر بغيرية الغير»(11).
إن الإبقاء على تصور تقليدي للزمان حيث الآن هي الوحدة الأساس،يفضي إلى تصور تراتبي اختزالي للعلاقة الإجتماعية. وخلاف ذلك، ينتهي التصور التزامني للزمان إلى علاقة يعاصر فيها الغير الأنا ولايكون مجرد مفعول ضمن علاقة إضافة.
إن التجريب الأولي لأسئلة «هايدجر» التي لابد وأن نعمل تجريبها باستمرار ينتهي بنا إلى أن فكر الكينونة في شأن سؤال الوجود الجماعي يشكل العائق والحل في الوقت نفسه. لكن الحل لايصبح جليا إلا بعد قراءة «هايدجر» في ضوء «كانط». تستجلي هذه القراءة ضعف فكر الكينونة بشأن لغز «مع» كما تستجلي قراءة «كانط» في ضوء «هايدجر» ضعف الفلسفة النقدية بشأن مفهوم الزمان. وبقدر ما أن العلاقة بين مفهوم الزمان ومفهوم «الوجود- مع» تظل ملحّة،كذلك يبقى شأن استذكار فكر «هايدجر» و «كانط» يبقى أمرا ملحا. فكل تفكير مستقبلي في حقيقة العلاقة الإجتماعية لابد وأن يكون حوارا مع «هايدجر» على خلفية أطروحات الفلسفة النقدية .
تضمر الفلسفة النقدية أكثر مما تعلن ولاتعلن جملة عمّا تضمره إلا في لقائها صدامها بفكر الكينونة. الحال إن فكر الكينونة يعلن أكثر مما يضمر ولاينجلي ادعاءه إلا بلقائه ? صدامه مع الفلسفة النقدية. وبإدراك هذه العلاقة التي لانختارها عن هوى بل ما تفتأ تعترضنا،بإدراكنا لها ننخرط حقا في التفكير الكوني بشأن قضايا الفكر البشري،خاصة سؤال «العيش معا».
ج)- أفق الفكر العربي:
1 – العرب وعوائق التفكير:
يمكن القول إن العرب يندرجون تحت نوع «الدرازاين»،فهم أناس يوجدون في العالم بما يعنيه ذلك أنهم مفتوحون على تناهيهم بحيث تتقاذفهم أقدارهم الخاصة. إنهم باستمرار يوجدون في «الخارج» أي أنهم باستمرار «ماليس هم» . وفي حين أنهم يوجدون على نحو متناه فهم يفكرون ويسلكون بصفتهم يندرجون تحت نوع الكائن المطلق،فالسلوك كما التفكير ينحلان معا في المطلق. ولا يصدق هذا على عبيدهم دون أسيادهم ولا على محكوميهم دون حكامهم ولا على جاهليهم دون مثقفيهم،بل يشمل الكل ويحيط بالجميع في صورة قدر كلّما ارتأى أحدهم تخطيه تخطاه القدر وعاد المطلق العربي إلى مطلقه.
تضمر صفة «العرب» التي تختص بها هذه الجماعة البشرية الناطقة باللغة العربية وذات التاريخ والأفق الحضاري المشترك،تضمر مفهوما مطلقا للهوية،هوية دون «خارج» وهي بذلك هوية فوق الزمان. في تحديدهم لهويتهم يفصل العرب بين الهوية والزمان،فتنحل الذات في هوية لازمنية. إن «العرب» صفة لهوية جامعة مانعة لآخرها،توجد في الزمان وتتنكر له إذ في كل لحظة تستعيد تماهيها ناسية التوسط الذي يعتمل في صلب الهوية بما هي زمنية.
يكشف التموضع الشاذ للعرب في التاريخ أي إرادة التموضع اللاتاريخي في التاريخ من خلال إقحام المطلق في التاريخ،يكشف عن واحد من مفاعيل تصوهم الميتافيزيقي للهوية. مفعول آخر لايمكن تخطيه يتمثل في شذوذ «العلاقة- مع» الأغيار كما يعكسها اليوم استعادة العرب لطقوس القتل الراسخة منذ أكثر خمسة عشر قرنا.
إن الهوية الميتافيزيقية هوية متمركزة على ذاتها إلى حدود انتفائها هي ذاتها،وإن أية أنطولوجيا «للآن» العربي تقود حتما إلى هذه الحقيقة . تنتفي الهوية المتمركزة على ذاتها لأنها اختزال للعلاقة،والحال إن كل هوية هي مفعول لعلاقة.
الهوية مغايرة وكل تنكّر للمغايرة هو تنكر للهوية،وهذه الحقيقة هي واحدة من منسيات الفكر العربي منذ علم الكلام إلى فكر «العروي». فمع الأول تنحل الهوية في المطلق اللاهوتي ومع الثاني تنحل في المطلق التاريخاني.
عندما نقول إن العرب يفكرون في هويتهم على نحو ميتافيزيقي فلأن الفكر العربي عبر كل حركاته الكبرى لم يخرج عن:1)- تمركز لاهوتي مظاهره هي: تفنيد الكتب السماوية الأخرى ورميها بالتحريف التبخيس من قيمة الأديان الأخرى باعتبار الإسلام هو آخر كلمة حق صدرت عن الحق – المفاضلة بين الأنبياء والرسل حيث رسول الإسلام أفضل بعثة ربانية إلى البشر ? كل ما بلغته البشرية من علوم ومعارف على اختلاف الأزمنة له أصله في الكتاب المقدس للعرب…ب)- التمركز اللغوي: اللغة العربية أفضل اللغات بصفتها لغة الكتاب المقدس للعرب لغة العرب لغة البيان والتعبير وهي بذلك أفضل من غيرها في كشف الحقيقة تكثّف اللغة العربية هوية المجموع البشري العربي.
إن هذين التمركزين يميزان الميتافيزيقا العربية وفهمها للهوية. لكن الميتافيزيقا العربية فكّرت على هذا النحو لأن تفكيرها في الكائن أوّل ما حدث حدث في أفق الميتافيزيقا الغربية،وبعبارة أخرى إن مولد الميتافيزيقا العربية كان في سياق النزعة الأفلاطونية كمحدد أساس للميتافيزيقا الغربية. فمظاهر التمركز أعلاه وما تفرزه من مفاعيل شاذة يجد أساسه في اللقاء الطبيعي بين الميتافيزيقا العربية والنزعة الأفلاطونية، أي في الإخراج العربي للنزعة الأفلاطونية و قد صارت قدرا كونيا.
إن اللقاء مع الفكر الغربي المعاصر يصبح ملحا انطلاقا من ضرورة مجاوزة الميتافيزيقا وميسمها الأساس، النزعة الأفلاطونية. لقد اختار الإسلام اللغة العربية ليذاع ويشاع، هذا بقدر ما شاعت الأفلاطونية عبر الديانات الإبراهيمية. فهذا اللقاء بين التمركز اللغوي والتمركز اللاهوتي ثم اللوغوسي هو لقاء طبيعي يلتقي في نهج الإقصاء والإختزال، لذلك لم يكن هناك أي تناقض، إلا ظاهريا،بين حركات الفكر الأساسية عند العرب سواء كانت قومية عروبية أولاهوتية. إن الأعلام التالية: «منيف الرزاز»، «قسطنطين زريق»، «ميشال عفلق»، «نديم البيطار»، «ساطع الحصري»… كلها لاتختلف عن الأعلام التالية:»محمد عبده»، «الأفغاني»، «رشيد رضا»، «حسن البنا»، «أبو الأعلى المودودي»، «السيد قطب»… إنها لاتختلف عنها إذ ظلت تفكر ضمن ثنائية «نحن وهم»،نحن المسلمون أو العرب وهم المسيحيون أو الإفرنجة أو الأوروبيون. لقد ظلت تفكر على خلفية «نحن» مفترضة تماهيها، «نحن» المعطى الميتافيزيقي الكائن فوق الزمان والتاريخ. إذن «نحن» غير المفكر فيها التي لاتثير السؤال بفعل انعطائها البديهي الشفاف،فـ «نحن» واحد والواحد مساو لذاته،إنه «هوهو»: نحن «الهووية».
لم تنتج الكينونة العربية في عصورها الراهنة إلا فيما ندر- فلاسفة بعد،بل اقتصرت على تفريخ الدعاة. فلاوجود إلا للدعاة العلمانيين أو اللاهوتيين،والدعاة لايسألون. والحال،إن هوية «نحن» تنبجس فعلا في خضم السؤال،أي عندما تصبح العلاقة بين «نحن» و ذاتها علاقة غرابة واندهاش. أنذاك تكون الغرابة إشارة إلى إدراك «نحن» للتوسط الذي يخترقها أي الغير الذي يشرط وجودها.
الحقيقة أن الفكر العربي ما يفتأ يقف على حدود العلاقة بين «نحن» والتناهي أي على مشارف «نحن» المتناهية،لكن سرعان ما يعود أدراجه إلى نحن الميتافيزيقية وذلك تحت وطأة وكلاء النزعة الأفلاطونية في الفكر العربي،أي الأرتودوكسيات الفقهية على اختلاف مشاربها اللاهوتية أو العلمانية أو القومية أو الماركسية. هذه الأرتودوكسيات التي ما فتأت تقعّد مسالك المعنى. لكن بقدر ما هناك من تراث لتقعيد المعنى وهو تراث يتعقّبنا ويعترضنا باستمرار هناك أيضا تراث مضاد لتراث التقعيد،يتعلق الأمر بتراث مضاد للتراث. لذلك تظل هناك دائما إمكانية لملاعبة الميتافيزيقا وفتح «مسارب هروب» بشأن سؤال «نحن».
إن الأنطو- تيولوجيا العربية* التي هي استئناف معدّل للأنطولوجيا الأفلاطونية تكثف بقوة تراث الإقصاء والإختزال،ففهمها للكائن يقود لا محالة إلى نزعة كليانية راسخة في صميم العلاقة مع الكائن: الله(رد الكل إلى الواحد)،الأخلاق(اختزال العلاقة في قاعدة قبلية صارمة)،الشيء(اختزال الأشياء إلى علاقة ذهنية)،الفكر(توحيد الفكر في مبدأ)…
إذا كانت الأنطو-تيولوجيا العربية تنهج في أفق نسيان الإختلاف فهذا يعني أن مختلف مظاهر الإختزال والإقصاء التي تحيط بكينونة الإنسان العربي تؤكد شيئا واحدا: إن الأنطولوجيا العربية بوصفها صيغة للتفكير في الكائن فهي فعل، إنها ليست مجرد تصورات نظرية بل هي «تفعل من حيث إنها تفكر». وإذا ما استحضرنا،في ضوء ذلك،ما آل إليه هذا الكائن: «نحن العربي»، فإن تمثلات الكائن كما تسلمناها من تراث الأنطولوجيا العربية كان ثمنها باهضا جدا.
2 – الفلسفة وأسئلة العرب.
سيكون على الفكر المستقبلي العربي كي يفكر جذريا في هوية «نحن» أن يجهد من أجل خلخلة مفاهيم الأنطو-تيولوجيا العربية،دون ذلك لن يبلغ أبدا مستوى المشاركة الكونية في أسئلة الفكر البشري. وإذا كان العرب قد سبق لهم أن جرّبوا هذه المشاركة من خلال «ابن رشد» وأخيرا من خلال «ابن خلدون» فإن «ابن خلدون» انتهى فكره إلى أن يكون آخر ما أمكن للميتافيزيقا العربية تجريبه. لقد استنفدت هذه الميتافيزيقا قواها مع «ابن خلدون» عندما ارتأى أطروحة العودة الدورية إلى الأصل ? السنة،لقد كانت فلسفته بمثابة التأسيس العقلي- الشرعي للعودة إلى الأصل- السنة. مع فلسفة «ابن خلدون» لم يعد هناك أفقا للمعنى إلا ضمن العودة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مفهوم نحته «هايدجر» للدلالة على المنعطف الذي عرفته الأنطولوجيا بعدما أصبحت مرتهنة للتيولوجيا،أي بعدما أصبح السؤال عن الكائن بمثابة سؤال عن المخلوق في علاقته بخالقه-الواحد.بذلك،فبعدما كان موضوع الأنطولوجيا هو الكائن بما هو كائن،صار موضوعها- وقد أُلحقت بالتيولوجيا- هو الكائن بما مخلوق. ولم يعرف العرب تخريجا لكينونة الكائن إلا على خلفية التيولوجيا. لذلك فما أنتجوه في صدد ذلك،يصدق عليه وصف الأنطوتيولوجيا إذ لم يعرفوا غير ذلك.
وعلى خلاف الميتافيزيقا الغربية،لم تجرب الميتافيزيقا العربية حضورها على خلفيات أخرى غير الخلفية اللاهوتية،إنها لم تبلغ ذاتيا الخلفية العلمية والتقنية في صيغتها الحديثة. الأحرى إن الميتافيزيقا العربية بما هي لاهوتية في أساسها تنفعل إيجابا وسلبا بالنزعة العلمية والتقنية الواردة عليها من الغرب وقد صارت قدرا كونيا.
إن الميتافيزيقا العربية اليوم تطبق سيطرها أكثر على الكائن بقدرما هي مأزومة، فأزمتها اليوم مضاعفة بفعل التطور العلمي-التقني الهائل. إن التقنية من حيث المبدأ لاتناقض الميتافيزيقا. لكن التقنية باختزالها للمكان والزمان في نقطة،جعلت الميتافيزيقا العربية في حالة صدام غير مسبوق مع أنماط فكرية مخالفة لها جذريا في تمثلها للكائن. وليس صدفة أن هذا الكائن:الـ»نحن العربي» يزداد توترا بازدياد التقنية تطورا وانتشارا كونيا.
لقد سبق أن لاحظ «دولوز» أن الشبكة العنكبوتية وقد ظهرت للتوّ ستكون مقبرة للهويات التقليدية. صار قول «دولوز» فعلا وولجت حقّا الهويات التقليدية عصر تيهها الذي لايعلم أحد مصاره ولا مآله. لعل هوية وجودنا الجماعي العربي أبلغ مثال على ذلك. لم تعد الأنا تستحمل غيرها لأنه لم يعد أحد يصدق أن الميتافيزيقا العربية لازالت قادرة بعد على أن تشكل مرجعا وإطارا لوجود جماعي ممكن.
عندما نقول إن الميتافيزيقا العربية استنفدت قواها كإطار للعلاقة البينية،فهذا يعني أن التمركز اللغوي والتمركز اللاهوتي أصبحا عائقا أمام «الوجود-مع» بعدما ظلا يعتبران لحمته الأساس. لم يعد أحد اليوم يصدّق أن الإسلام والعروبة يمثلان جملة القيم ذات المصداقية في المجال العمومي،وعلينا في شأن هذا الأمر أن نراقب السلوك لا أن نعتمد آراء الأشخاص ومقاصدهم. إن الصعود القوي اليوم للعصبية الدينية والقومية ليس دليل عودة إلى الدين السمح بل تعبير عن أزمة الدين والإيديولوجيا القومية كرافعة للعلاقة البينية.
ليس المطلوب هو تفنيد الدين ولا تحقير اللغة العربية كرؤية ومضمون،فليس هناك في التاريخ بداية من لاشيء. في التاريخ نبدأ دائما من الوسط وهذا ما يستعصي فهمه على الميتافيزيقا العربية التي تفترض الأصل الخالص. لطالما فرض على العرب تجريب امتحان الهوية كمغايرة،لكن لطالما فشلوا في ذلك. واليوم على الفكر العربي الذي يجعل من ملاعبة الميتافيزيقا مهمته الأساس أن يبدأ من تراثين يختصان ويتميزان بالمشاغبة و روح الإنشقاق،التراث الغربي المضاد للميتافيزيقا الغربية والتراث العربي المضاد للميتافيزيقا العربية .
إن التراث المضاد للتراث هو نقطة البداية،والباعث على امتلاكه ليس أجوبته بل أسئلته. فصيغة السؤال «الكانطي» مثلا تنمّ عن انقطاع أساس في مفهوم الهوية ضمن الفكر الغربي. لقد سأل «كانط» بشأن شروط إمكان الشيء إذ جعل الزمان الشرط الأساس،رهن الهوية بالزمان وحرر الزمان من المطلق فكان بذلك «مابعد هيجيلي» هو نمودج للإحتداء والإستلهام. وفي غمرة نزعة لاهوتية طافحة فكّر «التوحيدي» في الإنسان انطلاقا من الإنسان،بل فكر في الله ضمن بعد الإنسان وليس العكس،فكان أن خلق انزياحا في صميم الميتافيزيقا العربية لم يكن ليقبل على الإطلاق. ظل «التوحيدي» منسيا مثلما «الجاحظ» وغيره. لكن ليس المقصود من هذا هو أن نحذو حذو «التوحيدي» أو «كانط»،بل أن نتمكن من تملّك وتجريب إمكاناتهما إلى حدود إدراك حدودها،حينذاك تحدث المجاوزة تلقائيا ونصير باستمرار آخرين.
تمثل فلسفة «كانط» التجربة الكبرى للفكر الغربي وهو يختبر هوية «نحن» على نحو مغاير،قام باختبارها من خلال موضوعات أساسية: علاقة الدين بالعقل- علاقة العقل بالأخلاق- علاقة السياسة بالعقل… وفي ضوء ذلك تمت المراجعة الجذرية للمفاهيم التالي:الله،العالم،النفس،الخيروالشر،الموت… إن خلخلة هذه المفاهيم هو المعبر الضروري لأية مراجعة جذرية لهوية «نحن» أي لهوية «العلاقة- مع».
في التحولات الكبرى حيث يحدث التاريخ وينبثق الشعب فجأة فتصير الدولة على مشارف تخومها كما يحدث اليوم على مدى الإمتداد العربي،يكون الأمر متعلقا أساسا بالمفهوم،يصبح المفهوم تحت النداء. فمناسبات الإنتقال الأساسية هي إشعار بنهاية صلاحية المفاهيم المعتمدة إلى حينها،يصير المفهوم إلى عجزه عن استضافة حدوث الواقع. ولأن الفلسفة هي ورشة لإبداع المفاهيم كما ذهب «دولوز» فهي لها شأن ضمن كل تحوّل ممكن.
لقد دأبت الفلسفة العربية على تلقي الفكر الكوني في أفق إيديولوجي خالص:بناء الدولة القومية الحديثة. لكن استقدام الفكر الفلسفي على قاعدة الإيديولوجيات السياسية بخّس من قيمة الفلسفة بصفتها سؤالا،لذلك ظلت الأسئلة الأساسية معلقة وصارت الأطروحات الفلسفية إلى محض معتقدات.
يختلف منطق الفلسفة عن منطق الإيديولوجيات والسياسة والدين والعلم،وقد سبق أن لاحظ «ألتوسير» أن الفلسفة تقلق في حين أن العلم يطمئن. ينطبق هذا على الإيديولوجيا أيضا. وإذا كان الإطمئنان الذي يقود إليه العلم هو الحقائق الوضعية والمنطقية التي يعتبرها يقينية قطعية، فإن الإطمئنان الذي يقود إليه قلق الفلسفة هو السؤال في أفق التحرر من اليقينيات والقطعيات.
إن اليقينيات والقطعيات التي على الفلسفة العربية أن تعمل السؤال بشأنها لايجب أن تقل عن المفاهيم-الأركان التي ظلت توجه رؤيتنا للعالم وللآخرين،إنها المفاهيم التالية: الذات- الله -المقدس-النفس- عالم هنا- عالم هناك- الموت- الزمان- الغير- الجسد… ووحده الإعمال الجذري للسؤال بشأن هذه المفاهيم يسمح بانفتاح أفق مغاير للعلاقة البينية،أفق الإختلاف بمعزل عن الإقصاء والإختزال.
– المراجع:
1)- مزيان(محمد)،مسألة الذات في الفلسفة الحديثة، ص664، منشورات ضفاف- بيروت ،2015 .
2)- مزيان (محمد)، علامات فلسفية، ص7،منشورات فضاء آدم، مراكش ،2015.
-3)-Nancy(J.luc),Etre singulier plurièl,p84,Galilée,1996.
.-4)-Arendt(Hannat),Qu?est ce que la politique,p42, seuil,1995
)-Ferry(Luc),Renaut(Alain),philosophie politique,t3,p77,puf,1985.5-
6)- روسو(جون جاك)،في العقد الإجتماعي، ص34، ت.عمار الجلاصي وعلي الأجنف، دار المعرفة ، 2004 .
7)-Heidegger (Martin) ,concepts fondamenteaux de la métapysique,p404,Gallimard,1992.
-8) Heidegger ( Martin) , L?Etre et le temps, p228, Gallimard,1964.
)Heidegger ( Martin),L?Etre et le temps, p159, Gallimard,1964.9-
10) Lévinas(Emmanuel), le temps et l?autre, p59,puf,1983.-
11) ibid,p9.-
محمد مزيان