انجز الباحث السوري برهان بخاري مجموعة من الموسوعات الجديدة المختلفة في التراث العربي الاسلامي بواسطة الحاسب الآلي ، ضمن خطة عمل شاملة تستخدم العلوم المساعدة كعلم النسب ، وعلم التاريخ ، لاعادة قراءة التراث وتصنيف الحديث النبوي الشريف ، والانساب الحربية ، وقد توصل الى نتائج وحقائق جديدة تحمل اجابات واضحة على كثير من الاسئلة المعلقة ، ضمن منهج واضح ورؤية شاملة .
وفي مجال آخر حقق انجازات هامة في مجال المعجم التاريخي للغة العربية ، الذي يرصد تاريخ ولادة كل مفردة وتطور أو انحسار استخدامها، كما حقق انجازا هاما في مجال الترجمة الآلية . وكشف عن اخطاء فاضحة في حوالي ثلاثين ترجمة للقرآن الكريم الى اللغات الاجنبية المختلفة على فترات طويلة من الزمن .
وفي هذا اللقاء جرى الحديث عن موضوع محدد حول تجربته في الكشف عن الانساب العربية القديمة ، وعن علاقة النسب التي تربط عدنان بقحطان تحديدا :
رغما عن الدور الكبير الذي لعبه ومازال يلعبه النسب في التاريخ العربي، ورغما عن حجم الكتب التي وضعت حوله ، بقيت نقطة جوهرية بالفة الأهمية غائمة لم تطرح للنقاش ، تتلخص بسؤال بسيط هو : هل ثمة علاقة قربى تربط عدنان بقحطان ؟ وهاهي هذه العلاقة إن وجدت؟
تشكل محاولة الإجابة عن هذا السؤال المحور الأساسي لهذه الدراسة التي تهدف إلى تسليط الأضواء على علاقة مهملة ، سبب إهمالها العديد من الكوارث .
من المعروف أن العصبية القبلية حافظت على كونها جمرا دائما تحت الرماد، ولعل ماقاله "زفر بن الحارث الكلابي" "بعد موقعة مرج راهط " يعطي صورة دقيقة عن طبيعة هذا الجمر حيث قال :
فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا***ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى***وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا***ونترك قتلى راهط هي ماهية
كانت موقعة "مرج راهط" التي قيلت بعدها هذه الأبيات أهم مظهر من مظاهر العصبية القبلية بين " العدنانيين " و "القحطانيين " والتي اشتهرت بالاسم المشئوم "القيسية واليمانية "، هذا الاسم الذي تحول إلى شعار اندلعت تحت راياته اهديا من الحروب القبلية، من بينها الفتنة التي أحرقت عددا من قرى دمشق عام 176هـ ونقتبس من " الكامل " لابن الأثير فقرة صغيرة كشاهد : "ثم إن أهل اليمانية استجمعت واستنجدت كلبا وغيرهم فأعدوهم وبلغ الخبر أبا الهيذام، فارسل إلى المضرية ، فأتته الأمداد وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فانهزمت اليمانية" 129/ 6.
وكما هي العادة دائما فقد برز «أبو الهيذام المري» في هذه الموقعة بديلا "لزفر بن حارث الكلابي" الذي برز في موقعة "مرج راهط " وعاد الشعر يلعب دوره ، يقول «أبو الهيذام» يرثي أخاه :
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا***فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولسنا كمن ينعى أخاه بغيره***يعصرها من ماء مقلته عصرا
وإنا أناس ماتفيض دموعنا***على هالك منا وإن قصم الظهرا
ولكنني أشفي الفؤاد بغارة***ألهب في قطري كتائبها جمرا
واستمرت العصبية القبلية حتى عهد قريب كمعركة " عين دارة " في لبنان التي جرت عام 1711م والتي أباد فيها "حيدر الشهابي المخزومي العدناني "حزب اليمنيين القحطانيين ".
كانت العصبية القبلية تأخذ اشكالا من المواجهات المأساوية وكان الشعراء احيانا لا يقومون بدور الحكيم الناصح كما فعل زهير بن ابي سلمى ، وانما يصبون الزيت على النار المتوقدة ، فكيف نفسر ذلك ؟
لقد تجذرت العصبية القبلية بين العدنانيين والقحطانيين بشكل لا يشبهه أي تعصب قبلي داخل القبائل العدنانية كحروب "بكر وتغلب" و "الأمويين والعباسيين " ، الأمر نفسه ينطبق على القبائل القحطانية ، وكان هذا التجذر السبب في استمرار العصبية بين العدنانيين والقحطانيين هذه الفترة الطويلة .
برزت ملامح التجذير في الوصف التفصيلي الذي قدمه «مروان بن الحكم» للقبائل اليمنية التي وقفت الى جانبه في موقعة " مرج راهط »، والتي قصد منها تكريس هذا الصراع حيث قال :
لما رأيت الأمر أمرأ نهبا***سيرت غسان لهم وكلبا
والسكسكيين رجالا غلبا***وطيئا تاباه إلا ضربا
والقين تمشي في الحديد نكبا***ومن نتوخ مشمخرا صعبا
لا يأخذون الملك إلا غصبا**وإن دنت قيس فقل لا قربا
ثم جاءت قصيدة "جواس بن تعطل الكلبي " ردا على " زفر بن الحارث الكلابي" لتثبت هذا المفهوم حيث قال :
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط***على زفر داء من الداء باقيا
تبكي على قتلى سليم وعامر***وذبيان معذورا وتبكي البوا كيا
وأعتقد أن الحادثة التي رواها ابن الأثير في كتابه الكامل تكشف لنا بدقة كبيرة العملية التي كان يتم فيها حبك الخيوط بإحكام لتأجيج نار العصبية القبلية بين العدنانيين والقحطانيين ، لخدمة الأهداف السياسية الخاصة حيث يقول : "ذكر بناء الرصافة للمهدي وكان سبب بنائها أن بعض الجند شغبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب ، فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيدالله بن عباس ، وهو شيخهم ، وله الحرمة والتقدم عندهم ، فقال له المنصور : أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا ؟ وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا ، فما ترى؟
قال : يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه صلحت لك خلافتك وهابك جندك . قال له : أفتمضي في خلافتي شيئا لا أعلمه ؟ فقال له : إن كنت عندك متهما فلا تشاورني، وإن كنت مأمونا عليها فاعني أفعل برأيي، قال له المنصور : فأمضه .
فانصرف قثم إلى منزله ، فدعا غلاما له فقال له : إذا كان غدا فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين ، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستحلفني بحق رسول (ص) ، وبحق العباس ، وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت سألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك القول فلا تخف وعاود المسألة ، فإني سأضربك فعاود وقل
لي : أي الحيين أشرف ، اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر.
ففعل الغلام ما أمره ، وفعل قثم به ما قاله ، ثم قال : مضر أشرف لأن منها رسول الله ، (ص) . وفيها كتاب الله وفيها بيت الله ومنها خليفة الله .
فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئا من شرفهم ، وقال بعض قوادهم : ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة اليمن ، ثم قال لغلام له : قم إلى بفلة الشيخ فاكبحها، ففعل حتى كاد يقيعها ، فامتعضت مضر وقالوا: أيفعل هذا بشيخنا ! فأمر بعضهم بغلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان .
ودخل قثم على المنصور فافترق الجند، فصارت مضر فرقة ، وربيعة فرقة . والخرسانية فرقة ، فقال قثم للمنصور : قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية ، وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك ، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى، فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرصافة ، وتولى صالح صاحب المصلى ذلك " صفحة 602/ 5
من اي زاوية يمكن ان نعيد قراءة التاريخ بفهم ووعي جديدين ، وماذا يمكن ان نكتشف ؟
إن إعادة قراءة التاريخ بتأن تكشف لنا العديد من الأمور المخبوءة ، يقول :
"القلقشندي" في مقدمة كتابه «نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب» :
«ومنها اعتبار النسب في (الإمامة) التي هي الزعامة العظمي، وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية الاجماع على كون (الإمام) قرشيا .. قال أصحابنا الشافعية : فإن لم يوجد قرشي اعتبر الامام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة ، فإن تعذر اعتبر كونه من بني اسماعيل عليه السلام فإن تعذر اعتبر كونه من إسحاق (ع)، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة اسماعيل (ع)، بل قد نصوا أن النها شمي أولى بالإمامة من غيره من قريش . فلولا المعرفة بعلم النسب لفاتت معرفة هذه القبائل وتعذر حكم الإمامة العظمي التي بها عموم صلاح الأمة ، وحماية البيضة ، وكف الفتنة ، وغير ذلك من ا لمصالح . صفحة 14.
واضح أن فحوى هذه المقولة يتلخص في هدف واحد هو استبعاد القحطانيين ، والأنصار بخاصة ، نهائيا من الامامة ، ولقد بلغ التعصب في هذا النص حد العبث والاسفاف ، إذ كيف يتم العثور على رجل من نسل إسماعيل أو اسحاق أو جرهم ، ولم يتواجد واحد من نسلهم في حياة الرسول (ص) ؟! وكيف تعطي «جرهم» شرف مصاهرة إسماعيل ولا يعطى الأنصار شرف خئولتهم للرسول (ص)؟!
لقد شكل «بنو النجار» وحدهم ، وهم فخذ من الخزرج حوالي نصف الذين شهدوا بدرا من المسلمين وأبلوا بلاء مشهودا بسبب خئولتهم للرسول (ص) ، لكن الذي حدث أنهم استبعدوا تدريجيا بدءا من «سقيفة بني ساعدة » مرورا بإهمال «المدينة المنورة » بعد انتقال عاصمة الخلافة إلى دمشق ، انتهاء بمجزرة «الحرة» الرهيبة عام 63 هـ ، التي استباح فيها "مسرف المري" المدينة المنورة ثلاثة أيام ، وأباد معظم رجالها وهتك اعراض نسائها، حيث قدر عدد
الذين قتلوا من أصلاب الصحابة فقط بحوالي 800 رجل .
وفي الوقت الذي حرم فيه الأنصار من الخلافة لكونهم عربا قحطانيين حكم الأتراك الذين لا يمتون للعوب بصلة قرابة أر بحة قرون كخلافا، للمسلمين دون أن تظهر فتوى شبيهة بما أورده "الماوردي" أو "القلقشندي" لكن ماجري هو أن تحولت بعض الأسر العريقة كعائلة «الحمزاوي» مثلا من المذهب الشافعي إلى المذهب الحنفي لتكون على دين ملوكها.
لقد حفر مفهوم تحدر العرب من جدين مختلفين "عدنان وقحطان " أخاديد عميقة في اللاشعور العربي، وأثناء المناقشات التي لا تعد ولا تحصى التي جرت بينى وبين شخصيات تنتمي إلى مختلف أنواع العشائر كان الجدال يحسم في آخر المطاف بإحدى الجملتين :
ا- نعرف أننا عدنانيون .
2-نعرف أننا قحطانيون .
هاهي المصادر التي اعتمدت عليها في بحثك عن نسب عدنان وقحطان .
وكيف توصلت الى النتيجة التي تقول ان عدنان هو الحفيد العاشر لقحطان ؟
أوجز ما يقال عن نسب عدنان هو ما أورده "ابن الأثير" في كتابه «الكامل » حيث قال : ولعدنان أخوان يدعى أحدهما نبتا والآخر عامرا، فنسب النبي ، (ص) لا يختلف الناسبون فيه إلى معد بن عدنان ، على ما ذكرت ، ويختلفون فيما بعد ذلك اختلافا عظيما لا يحصل منه على غرض ، فتارة يجعل بعضهم بين عدنان وبين اسماعيل ، عليه السلام ، أربعة آباء ويجعل آخر بينهما أربعين أبا ويختلفون أيضا في الأسماء أشد من اختلافهم في العدد، فحيث رأيت الأمر كذلك لم اعرج على ذكر شيء منه ، ومنهم من يروي عن النبي ، (ص)، نسبه حديثا يصله بإسماعيل ، ولا يصح في ذلك الحديث " . 33/2 الكامل لابن الأثير.
وواقع الأمر أن الاختلاف في نسب عدنان أكبر بكثير مما ذكره "ابن الأثير" فقد أفرد "الطبري" وحده في تاريخه ست صفحات لأكثر من عشر روايات زاد عدد الأسماء في بعضها عن الأربعين اسما بكثير وعليه فإن العبارة التي قالها "ابن الأثير! : " و يختلفون فيما بعد ذلك اختلافا عظيما لا يحصل منه على غرض " تلخص اللا جدوى من محاولة ربط نسب عدنان بإسماعيل .
ويدعم هذه المقولة ها ورد في صدر كتاب "جمهرة النسب " لابن الكلبي : "أخبرنا محمد بن حبيب عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان رسول (ص) إذا انتهى في النسب إلى معد بن عدنان أمسك ثم قال : كذب النسابون ، قال الله جل ثناؤه وقرونا بين ذلك كثيرا أقال ابن عباس : ولو شاء رسول الله (ص) أن يعلمه لعلمه ".
وهذا يعني أن "ابن الكلبي" الذي هو أشهر فسابة على الإطلاق تمسك بما ورد في الحديث، ورفض أن يخوض في غمار نسب عدنان ، كما يتضح أيضا أن المحاولات لوصل عدنان بإسماعيل جرت في النصف الثاني من القرن الثاني ويطرق واهية ، فقد أورد "ابن سعد" في طبقاته ما يلي "قال هشام : واخبرني مخبر عن أبي ولم أسمعه منه أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع .. الخ " 56/ 1 ابن سعد.
والإسناد نفسه اعتمده «الطبري» حيث قال " حدثني الحارث عن محمد بن سعد عن هشام قال أخبرني مخبر ولم أسمعه منه أنه كان ينسب معد .. الخ " 272/ 2 طبري.
فـ "هشام بن محمد بن السائب الكلبي" لم يسمع النسب من أبيه بل أخبره به مخبر ولم يكشف عن اسمه ، والسؤال هو : كيف لم يسمع «هشام بن محمد» من أبيه نسب «عدنان » على ماله من أهمية وهو الذي احتكر النقل عن أبيه وسمعه شخص مجهول ؟
نخرج من هذا كله أن جميع المحاولات لوصل عدنان بإسماعيل مضطربة وواهية ، ولا تقوم على أي سند متماسك ، فمن هو «عدنان» إذن ؟
كل ما يمكن الاعتماد عليه في نسب عدنان هو اسم أبيه وجده فقط فقد أورد "ابن الكلبي" ما يلي: "ولد أدد بن زيد : عدنان ونبت ، ونبت هو الأشعر أبو الأشعريين ، وعمرا" والواقع أن معظم الروايات التي اوردت نسبا لعدنان تتقاطع عند هذا الجزء من النسب فقط أي : عدنان
بن أدد بن زيد.
وبين كل أعمدة النسب الموجودة بين أيدينا لا نجد إلا شخصا واحدا اسمه "أدد بن زيد" وهو "أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان " "وقد أورد ابن الكلبي أن لـ"عدنان " أخا اسمه بنت وهو الأشعر، وحين نرجع الى نسب " نبت الأشعر" نجد أنه ابن "أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان " وعليه فإن عدنان هو ابن أدد المذكور وبما أنه أخو الأشعر فهو بالتالي أخو مرة ومذ حج وطيء اخوة الأشعر.
وجدير بالذكر ايضا ان الاسمين "يشجب ويعرب " الواردين فى نسب "الاشعر" يتكرران فى معظم أعمدة النسب المضطربة التي وضعت كمحاولة لوصل عدنان بإسماعيل .
ومن أجل تدعيم مقولة إن عدنان الحفيد العاشر لقحطان نقدم مزيدا من الأدلة :
ا-الواقع الجغرافي :
تم تكريس مفهوم أن القحطانيين هم عرب الجنوب أي اليمن ، وأن العدنانيين هم عرب الشمال أي الحجاز وماجا ورها، ونشأ هذا المفهوم من نزول إسماعيل في مكة ، ومن تحدر عدنان من نسله ، وعليه فقد افترض حكما أن يكون عدنان قد استوطن مكة .
لكن الواقع يعكس مفهوما آخر تماما وهو مفهوم التنقل المستمر في أرجاء الجزيرة العربية ، ومن اليمن واليها بشكل خاص .
يقول "الطبري" : "كان محك انطلق إلى سمران من أرض اليمن ، وترك أخاه معدا، وذلك أن أهل حضور لما قتلوا شعيب بن ذي مهدم الحضوري بعث الله عليهم بختنصر عذابا ، فخرج أرميا وبوخيا، فحملا معدا إلى حران فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة ، فوجد معد إخوته وعمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن ، وتزوجوا فيهم ، وتحلقت عليهم اليمن بولادة جرهم إياهم ، واستشهدوا في ذلك قول الشاعر :
تركنا الديث إخوتنا وعكة***إلى سمران فانطلقوا سراعا
وكانوا من بني عدنان حتى***أضاعوا الأمر بينهم فضاعا
271/ 2الطبري
وواقع الأمر أن الفترة التي تواجد فيها عدنان واخرته وأولاده كانت تمور بالتنقل ، ولابد أن تواجدهم في اليمن كان أكثر من تواجدهم في الحجاز ، يقول "ابن الكلبي".
"ولد أدد بن زيد : عدنان ونبتا، ونبت هو أبو الأ شعريين ، وعمرا درج ، فولد نبت شقرة ، وهم في مهرة بالشحو، وشقحبا وهم في وحاظة من زي الكلاع ". 17/ 1 جمهرة النسب .
إن الأعلام (مهرة – شحو – وحاظة – ذو كلاع ) كلها في اليمن كما أن الضمير "هم" يعود على «أدد بن زيد» وأولاده (عدنان – نبت -عمرو) ، وقد اجتزأ "ابن الكلبي" هذا القسم من أولاد "الأشعر" ليشير إلى المكان ، لأنه لم يورد سلالة "الأشعر" كاملة هنا، بل ذكرها في موطن آخر.
ويورد «الطبري» في معرض ذكره لأولاد "عدنان " ما يلي :
… وعدن بن عدنان ، فزعم بعض أهل الأنساب أنه صاحب عدن ، واليه تنسب ، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا ، وأبين – وزعم بعضهم أنه صاحب أبين وأنها اليه تنسب ، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا …»
270/ 2الطبري.
وواضح أيضا أن العلمين (عدن – أبين ) هما في اليمن .
ولا أدل على هذا التنقل الجغرافي من المصاهرات العديدة مع القبائل اليمنية والانتماء المزدوج إلى عدنان وقحطان ، كما في أنساب (قضاعة – محك – أنصار – اراش … الخ ).
2-الأجيال والزمن :
ألمح العديد من المصنفين إلى وجود علاقة بين عدد الآباء في نسب ما والفترة الزمنية التي تفصل بين الشخص المنسوب وأجداده ، ونجد هذه الإلمحات مبثوثة في عدد من المراجع التراثية ، وقد استخدم "ابن عنبة " في كتابه «عمدة الطالب»، هذه العلاقة لتصحيح نسب «عدنان» إلى «إسماعيل» نورد فقرة منها على سبيل المثال : "… ففي هاتين الروايتين قد بلغ ما بين عدنان وابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أر بعين رجلا، وفي الرواية الأولى تسعة رجال وربما روي ستة رجال إلى أكثر من ذلك ، فربما وصل إلى خمسة عشر وإلى عشرين، ويشبه أن تكون الروايات التي دلت على ماقل عن الأر بعين مختصرة أو مصنوعة، فإن بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين عدنان عشرين أبا وبعضا، فروايات المقلين تقتضي أن يكون بين رسول الله (ص) وبين ابراهيم (ع) اقل من اربعين ابا، وبعضها يوجب اقل من ثلاثين ، وبين وفاة اسماعيل عليه السلام ومولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألفان وستمائة وبضع عشرة سنة ، وتناسق هذه الولادات في مقدار هذه المدة مستنكر…»
لكن أهم من تطرق إلى هذا الموضوع بشكل شبه علمي هم المؤرخون وعلى رأسهم «ابن الأثير» و «ابن خلدون ».
يورد " ابن الأثير" في كتابه "أسد الغابة " في معرض ترجمته لـ«أسماء بنت عميس » ما يلي: «… قلت : قد نسب ابن منده أسماء كما ذكرناه عنه ، ولا شك قد أسقط من النسب شيئا، فإنه جعل بينها وبين معد تسعة آباء ، ومن عاصرها من الصحابة – بل من تزوجها – بينه وبين معد عشرون أبا، كجعفر وأبي بكر، وعلى . وقد يقع في النسب تعدد وطرافة ، ولكن لا إلى هذا الحد ! إنما يكون بزيادة رجل أو رجلين ، وأما أن يكون أكثر من العدد فلا، والتفاوت بين نسبها ونسب أزواجها كثير جدا.» 15/ 6 أسد الغابة .
أما «ابن خلدون » فهو أول من أورد علاقة محددة وهي وجود ثلاثة أجيال في القرن الواحد.
ولقد قادتنا التجارب المعمقة التي أجريناها على مئات أعمدة النسب إلى هذه العلاقة ، وذلك قبل الاطلاع على ماكتبه «ابن خلدون ».
وكبرهان على صحة هذه العلاقة نقدم المثالين التاليين :
1- بين الرسول (ص) وبين معد تسعة عشر أبا، وهذا يعني 3÷19 = 3,6 قرن ، أي 633 سنة ، وهذا قريب جدا مما ذكر من أن معد عاش أيام المسيح ، فالهجرة النبوية جرت عام 622 للميلاد.
2- بين «الملك حسين » والإمام "علي " 42 أبأ ، وبتطبيق العلاقة نخرج بما يلي 3 ÷42= 14 قرنا ونحن الان تجاوزنا القرن الرابع عشر للهجرة بقليل .
كيف نفسر وجود ثلاثة اجيال في القرن الواحد، وماهي الثوابت والاستثناءات ؟
تمثل علاقة وجود ثلاثة أجيال في قرن واحد وحدة قياس تقريبية ، وليس من الضروري أن تنطبق على جميع الحالات ، وإن الشذوذ عن هذه القاعدة ينجم عن ثلاثة أسباب .
الأول : الخطأ والتصحيف في أعمدة النسب من حذف أو اضافة عدد من الأباء من وإلى أعمدة النسب .
الثاني : الالتحاق ببطن آخر أو بقبيلة أخرى مما يؤدي إلى حذف أو إضافة عدد من الأباء.
الثالث : وجود حالات استثنائية كعمود نسب الخلفاء العباسيين مثلا، فقد لاحظنا أنه يزيد على بقية أعمدة الأنساب العباسية بحوالي ستة اباء، وذلك في حدود القرن السابع الهجري، وسبب ذلك هو الزواج المبكر للخلفاء، ومحاولة إنجاب ولي للعهد بشكل مبكر للحد من النزاع حول الخلافة ، وحدث أكثر من مرة أن الفرق بين عمر الخليفة وعمر ابنه لم يكن يتجاوز 15 سنة ، وقد رافق هذه الظاهرة الشاذة لأنساب الخلفاء العباسيين ظاهرة شاذة أخرى هي أن وسطى أعمار الخلفاء العباسيين كان 42 سنة في حين أن وسطى أعمار العباسيين من غير السلالة الحاكمة كان 68 سنة .
ثمة استثناء معاكس لأجيال الخلفاء العباسيين وهو الإنجاب المتأخر، وقد تركز في بعض عائلات المحدثين والقضاة في فترة استقرار نسبية أدت إلى الاعتناء بالصحة والرفاه، وقد مرت معنا حالات كان الفرق فيها بين أخوين 80 سنة ، أي أن الأب كان منجبا في عمر يقارب 100 سنة ، ولعل «النسائي» لشهرته كأحد مؤلفي الكتب الستة يصلح كمثال عن الفكرة ، فقد مات عن 88 سنة نتيجة الضرب في دمشق ، وكان له أربع نساء وعدد من الجواري، حيث كانت تسمن له نوع من الديوك المخصية تساعد على مده بالصحة والقوة .
لعل أنصع مثال على علاقة الأجيال بالزمن هو نسب قريش ، فمعظم الصحابة القرشيين لهم أعمدة نسب متوازية ، فالرسول (ص) الهاشمي، والزهير بن العوام الأسدي ، وأبو بكر الصديق التيمي، وعبدالرحمن بن عوف الزهري، وأبو سفيان بن حرب الأموي، وخالد بن الوليد المخزومي، جميعهم الأحفاد العشرون لـ «عدنان » ، أما عمر بن الخطاب العدوي فهو الحفيد واحد وعشرون بزيادة جيل واحد، مع لحظ وجود فرق بعشر سنوات في العمر بينه وبين الرسول (ص) .
هذه الحالة النمطية جديرة بالتأمل فعلا، والسبب الرئيسي في تكونها يعود إلى دقة النسب ، فعمود النسب القرشي لا يمكن حذف اسم منه أو إضافة إسم اليه ، لأن هذا يعنى حذف بطون بأكملها.
لكن هذا لايعنى أن جميع البطون التي تحدرت من قريش حظيت بهذه الدقة في النسب ، فالفروع التي لم تلعب دورا مهما أصابها بعض الخلل كنسب "أبو عبيدة بن الجراح" الذي ينقص أربعة آباء عن نسب الرسول (ص) وأترابه ، وقد انقرض عقب «أبو عبيدة بن الجراح» وعقب إخوته جميعا، وكد ليل على خمول نسبه ساقاله «ابن سعد» في «طبقاته ».
"اومن بني فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وهم آخر بطون قريش ، أبو عبيدة بن الجراح " 409/ 3.
هذا الخلل الطفيف في أنساب تريش يقابله خلل كبير في أنساب الأنصار يصل إلى حد وجود فرق يصل إلى 12 أبا في أعمدة نسب صحابيين من فخذين مختلفين ، والسبب يعود إلى التحاق بطن ببطن آخر مما يؤدي إلى حذف عدد من الآباء ، أو إضافة أسماء عدد من الآباء الوهميين لإضفاء نوع من العراقة على النسب ، ففي نسب «سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم ..» يمكن حذف عدد من الآباء دون أن يصاب أي بطن من البطون بأي خلل.
وبعد إجراء دراسات معمقة على مختلف أنساب بطون الأنصار تبين لنا أن وسطي طول نسب الصحابة منهم هو 30 أبا لـ «قحطان » وينطبق هذا أيضا على معظم القبائل التي تنتسب إلى «قحطان » وهذا يعنى أن وسطى الفرق بين النسب العدناني والنسب القحطاني هو عشرة آباء، وهذا دليل واضح على أن «عدنان » هو الحفيد العاشر لـ «قحطان ».
بندر عبدالحميد : كاتب من سوريا.