نور الدين الهاشمي
التراث العربي هو ذاك التاريخ العريق بكلّ مكوّناته السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والذي ما زال يمتد فينا ويؤثر في حياتنا إلى هذه اللحظة الراهنة. وهو الذي يمنحنا الهوية الخاصة بنا بين الشعوب من خلال مظاهر الحياة التي نعيشها والسلوك الذي نتبناه، ويتجلّى في قيمنا وأخلاقنا.. في لغتنا وقواعدها وتراكيبها وفي أسمائنا وألقابنا.. في لباسنا وطعامنا وفي العادات والتقاليد وأشكال البناء والغناء والفنون والمهارات والحرف اليدوية.
ويمكننا أيضا أن نعطي للتراث مفهوما إضافيا آخر فنقول:
إن التراث هو ما يُؤثر عن أمة ما من تعبير غير مادي كالأغاني والموسيقى الشعبية والحكايات والفنون التقليدية والأمثال والحكم والعادات في الأفراح والأعياد والمآتم،
ومادي يتمثل في الآثار من قلاع وحصون ومدن بائدة وفي الوثائق والمخطوطات والنقود وطريقة البناء وأشكال الأواني والحلي والأسلحة القديمة.
والتراث ركيزة أساسية من ركائز الهوية الثقافية لأية أمة من الأمم لأنه عنوان اعتزازها بنفسها وذاتيتها الحضارية، وهو الذي يمكّننا من فهم أنفسنا والعالم الذي يحيط بنا لأنه يربط بين خبراتنا الراهنة ومعارفنا السابقة عن العالم.. وضياع تراث أية أمة يعني ضياع هذه الأمة وذوبانها في طي النسيان.
وتراثنا جزء أساسي وهامٌّ من التراث الإنساني، اكتسب خصوصيته من طبيعة الأرض التي عاش عليها الإنسان العربي أولا، ومن علاقاته مع الشعوب المجاورة على مر التاريخ بأشكال شتى من سلم وصراع وتجارة وجفاف وخصب ورحيل وتنقل.. ولهذا نرى تأثير الثقافة والتراث اليوناني والروماني والمصري القديم أكثر في بلاد الشام ومصر على سبيل المثال، ونرى تأثير الثقافة الفارسية أكثر في بلاد الرافدين وتأثير الثقافة الهندية والأفريقية أكثر في جنوب الجزيرة العربية، ونقول تأثيرًا، لأن هذه الشعوب العربية قد أنجزت أيضا ثقافتها العميقة التي أثّرت بها على تلك الحضارات فأعطتها وتفاعلت معها .
قِدَم التراث العربي وغناه
إن تراثنا العربي غنيٌّ ومتنوع، فهناك التراث العلمي والديني والفلسفي واللغوي والأدبي وهناك الأساطير والحكايا والقصص والسير الشعبية والأمثال التي تثير الخيال والفكر على أجنحة المتعة والمعرفة، بساط الريح.. الحصان الطائر.. مصباح علاء الدين.. المارد السجين داخل القمقم.. التماثيل المسحورة.. الكنوز المحروسة بالجن والعفاريت.. الحيوانات الناطقة.. مَنْ منا لا تسحره وتدهشه هذه الأشياء إلى الآن؟ وهي ليست سوى قطرات ماء صغيرة من نهر تراثنا الجميل العميق الذي ما زال يمتدّ ويؤثر في تفكيرنا وسلوكنا ومعتقداتنا. أليست هذه اللغة التي ننطقها ونكتبها ونفكّر من خلالها دليلًا ساطعًا على التأثير العميق لهذا التراث.
ومن الخطأ أن نحدّد تراثنا بتاريخ معين، فهو نهر متدفق منذ آلاف السنين صُبّت فيه روافد متنوّعة، مصرية قديمة- سومرية- بابلية- أكّادية- آشورية- آرامية، ثم جاءت الحضارة العربية لتصبغها بهويتها وتستقبل روافد جديدة من يونانية وفارسية وهندية، فالترجمات الأخيرة التي تمّت في السنوات الماضية لبعض الرُّقم المسمارية المكتشفة في سورية وبلاد الرافدين تشير إلى أنه قد كان عند سكان المنطقة القدماء من سومريين وبابليين وآراميين قصص وحكايات طريفة، ويمكننا أن نستشفّ منها قيمًا فنية واجتماعية وسياسية. يقول الدكتور علي القيم في كتابه إضاءات من الذاكرة القديمة :
(جلست البعوضة على ظهر الفيل فقالت له: أخي هل أزعجتك بركوبي على ظهرك؟ إذا كان الأمر كذلك فإني سأنزل عند مورد الماء فقال لها الفيل: لم أكن أعرف أنك جالسة على ظهري.. من أنت؟ على أيّة حال؟ وسوف لا أعرف عندما تنزلين ) (1).
ويقول الكاتب عبد التواب يوسف:
(ويطيب لي أن أذكر أنّ أول كتاب للعالم وجد في مصر قبل 5500 سنة واشتهر باسم (بردية إيبرس)، وعُثر عليه عام 1847م وهو محفوظ في المتحف البريطاني، والكتاب في 18 صفحة ويتضمن حكمًا ومواعظ لاثنين من الحكماء: الأول (قاقمنا) وزير الملك حوتي والثاني (بتاح حوتب) وهو وزير للملك آسي وقال فيه لابنه:
(وإذا سرتَ على نهج هذه الحكم السامية عمّرت طويلا وبلغت أوج الكمال وتدرّجت في مواطن العلا والمجد.. لا تغترّ بعلمك فإن العلم بحر لا شاطئ له، ولن يصل بحّار مهما خاض فيه وسبح.. والحكمة يا بنيّ أغلى من الزمرد لأن الزمرد يلقاه العمال بين الصخور أما الحكمة فإنها نادرة الوجود ولا يلتقطها أحد غير صاحب العقل الوضاء) (2) .
ومن المفيد أن نعلم أن أقدم أبجدية في العالم هي أبجدية رأس الشمرا التي وجدت في مدينة أوغاريت في شمال غرب سورية عام 1928، وقد استعملت عام 1500 قبل الميلاد، وتتكون من ثلاثين حرفا، وهي لغة سامية شمالية. كما قدمت هذه المدينة أقدم تدوين موسيقي عرفه العالم (3) وتلتها مدينة نينوى في شمال العراق.
إن هذا التراث الموغل في القدم قد منحنا تنوعًا وغنى، فهناك:
الأساطير والقصص الخيالية التي وردت في أخبار العرب: كقصصهم عن إرم ذات العماد والحيّة ذات الصفا وزرقاء اليمامة، والقصص التي وردت في كتابات الفراعنة والبابليين والسومريين كملحمة جلجامش السومرية وملحمة أقهات الكنعانية في أوغاريت (4).
الأدب العربي القديم: كالأمثال العربية، حيث تكمن قصة خلف كل مثل وأهم مصدر لها (مجمع الأمثال) للميداني.
قصص الشعراء القدامى الأبطال والعشاق: فلهم قصص جميلة تحويها كتب الأدب مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهناك كتاب البخلاء للجاحظ، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وكليلة ودمنة، وأخبار الحمقى والمغفلين لعبد الرحمن بن الجوزي.
سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة وقادة الفتح الإسلامي: خالد بن الوليد، سعد أبي وقاص، محمد بن القاسم الثقفي، قتيبة بن مسلم الباهلي، موسى بن نصير، طارق بن زياد،عبد الرحمن الغافقي.
الأبطال الذين دافعوا عن الأمة العربية والإسلامية ضد الغزو الخارجي: صلاح الدين الأيوبي، نور الدين زنكي، الظاهر بيبرس.
السير الشعبية: كقصص عنترة وأبي زيد الهلالي وحمزة البهلوان وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة.
قصص الحكماء والعلماء العرب والمسلمين: الفارابي، ابن الهيثم، جابر بن حيان، ابن سينا، ابن رشد، البيروني، ابن النفيس، الكندي، ابن زهر الأندلسي،عباس بن فرناس.
ولا يمكن أن نغفل أبدًا أعلام عصر النهضة: الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، رفاعة الطهطاوي، وأبطال التحرير والاستقلال: عمر المختار، سعد زغلول، محمد فريد، عبد القادر الجزائري.
ويمكننا أن نضيف أيضا التراث المرئي المتمثل في الآثار والأوابد الباقية والتراث المسموع من أغان وأهازيج.
تأثير واستخدام التراث
لقد وعى أدباؤنا القدماء تأثير هذه القصص والأمثال والحكم في السامع والقارئ، ولذلك فقد أوردوها في بعض أشعارهم، فهذا النابغة الذبياني يورد في إحدى قصائده قصة (الحيّة ذات الصفا)، ولا بدّ أن هذه القصة كانت متداولة بين الناس. وهي (تحكي عن أفعى لدغت رجلا فقتلته فجاء أخوه ليثأر منها، وبعد حوار وجدال بينهما اتفقت الأفعى أن تعطي الرجل صاحب الثأر دينارا كل يوم ويترك ثأره. وهكذا مضت الأيام والحيّة وفية بعهدها، وفي أحد الأيام شاهد الرجل الحية خارج جحرها فتذكر ثأر أخيه فقام بضربها بفأس لكنه أخطأها وأصاب ذنَبها فأثر فيه.. وجاء بعد أيام يريد الدينار فقالت له: هيهات.. لا يمكن أن نستمر على العهد، فأنت دائما حين تراني ستتذكر أخاك القتيل وأنا أيضا سأتذكر ذنَبي المقطوع).
يقول النابغة الذبياني :
كما لقيتْ ذاتُ الصفا من حليفها
وما انفكّت الأمثالُ في الناس سائرهْ
أبى لي قبرٌ لا يزال مقابلي
وضربةُ فأس فوق رأسي فاقره (5)
فالنابغة الذبياني يدرك تماما أن هذه الحكايا وما فيها من قيم وعبر ستظل سائرة بين الناس.
وحين يرى النابغة آثار تَدْمر العريقة المدهشة في بادية الشام يروي لنا كما سمع الناس يتداولون من خرافات وأساطير بأن الجنّ قد بنوا هذه المدينة العجيبة في قلب الصحراء حين أمرهم النبي سليمان بذلك:
إلا سليمانَ إذ قال الإلهُ له
قمْ في البرية فاحددْها على الفندِ
وخيّس الجنَّ إني قد أذنتُ لهم
يبنون تدمرَ بالصفّاح والعمَدِ (6)
ومما لاشك فيه أن الله سبحانه وتعالى يدرك تأثير القصص في الوعظ والإرشاد وغرس القيم المتنوعة في الإنسان ولذلك فقد ورد في القرآن الكريم العديد من القصص ونرى الغاية منها في قوله تعالى:
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكرون)(7)، كما ورد الحديث عن القصص في قوله تعالى مخاطبا النبي الكريم: (نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك …).(8)
وقد استخدم الشاعر أبو تمّام أسماء أعلام مشهورة كان يعرفها الناس آنذاك في صفاتها المميزة في مدحه للمعتصم وهو يدرك أنها أمثال سائرة بين الناس حين يقول :
إقدامُ عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنفَ في ذكاء إياس(9)
فقد اختار أبو تمام بطولة وشجاعة الفارس عمرو بن معد يكرب، وكرم حاتم الطائي، وحلم الأحنف بن قيس سيد بني تميم، وذكاء الحكيم إياس بن معاوية الذي كان قاضي البصرة زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، ليمدح بها الخليفة المعتصم.
وحين كتب المعري كتابه (رسالة الغفران) ندرك أنه كان على اطلاع تام بتاريخ الأدب العربي وسِيَر شعراء العصر الجاهلي والإسلامي فأحسن استخدام هذه المعرفة في سبيل هدف الكتاب الذي أراده.
أثر التراث في المسرح في العصر الحديث
كان التراث العربي بكل أشكاله منهلا غنيا لجميع الأدباء العرب وقد بدأ ذلك مع رائد المسرح أبو خليل القباني المتوفى في دمشق 1902، فقد قدّم القباني في سورية ومصر أكثر من أربعين مسرحية غنائية استمدّ معظمها من التراث العربي ومنها هارون الرشيد، عنترة بن شداد، الشاه محمود، أبو جعفر المنصور، ولّادة ..(10)
وتابع شوقي الطريق في كتابته للمسرح الشعري يستمدّ من التراث مسرحياته: مجنون ليلى، عنترة، علي بك الكبير، كما استمد شوقي من التاريخ المصري القديم والروماني مسرحية (مصرع كليوباترا). وكذلك فعل الشاعر عزيز أباظة فقد نهل من التراث العربي مسرحيات: قيس ولبنى، شجرة الدر، غروب الأندلس، شهريار، العباسة.
وفي مجال المسرح النثري كان التراث ذاك النهر الغزير الذي شرب منه جميع المسرحيين، فنراه في مسرح الكاتب الحضرمي المصري علي أحمد باكثير في مسرحياته (سر الحاكم بأمر الله)، (سلامة القس)، (سر شهرزاد)، (مسمار جحا)، وفي رواية (وا إسلاماه) عن معركة عين جالوت التي قادها السلطان المملوكي سيف الدين قطز ضد جحافل المغول على أرض فلسطين.
أما توفيق الحكيم فقد كان للتراث دوره في مسرحياته: سليمان الحكيم، أهل الكهف، شهرزاد، السلطان الحائر.
ونرى هذا التأثير في مسرح محفوظ عبد الرحمن: حفلة على الخازوق، عريس لبنت السلطان.
وفي مسرح سعد الله ونوس كان للتراث دور هام جدا في تشكيل مسرحه شكلا ومضمونا، فقد استمد من حكايات ألف ليلة وليلة (أبو الحسن المغفّل، وهارون الرشيد)، ومسرحية (الملك هو الملك)، ومن سيرة الملك الظاهر بيبرس الذي ناضل ضد المغول والصليبيين مسرحيته (مغامرة رأس المملوك جابر)، ومن تاريخ حصار القائد المغولي (تيمورلنك) لدمشق ومأساة العالِم ابن خلدون في هذا الحصار استمد مسرحية (منمنمات تاريخية)، ومن الحكايا الشعبية مسرحيته (الفيل يا ملك الزمان).(11)
ونرى تأثير التراث القوي أيضا عند الكتَّاب العُمانيين، فالأديب الدكتور صالح الفهدي يكتب مسرحيته (مرافعات في بلاط الحمداني)(12) متأثرا بحياة الشاعر المتنبي والأمير سيف الدولة. كما كتبت الدكتورة آمنة الربيع مسرحيتها (ديك الجن)(13)، وقد استمدتها من مأساة الشاعر ديك الجن الذي قتل ظلما الفتاة التي كان يحبها بدافع الغيرة فأصابه الحزن والندم طوال حياته.
كما قام السيد عبدالله البوسعيدي بإصدار عدة أعداد من مجلة أسماها (حوارات صالون الفراهيدي(14)، كانت معظم البحوث فيها تلقي ضوءها على تراثنا العربي.
أثر التراث في الشعر
واعتمد كثير من الشعراء العرب في العصر الحديث على الحكاية والأسطورة كرموز نابضة موحية سخّروها لإسقاطات سياسية واجتماعية وإنسانية، فالشاعر بدر شاكر السياب يكتب قصيدة بعنوان (مدينة السندباد)، يعبر فيها عن تحطم آماله وأحلامه في رحلة الحياة يقول فيها:
يا أيها الربيع متى تعود؟
يا أيها الربيع ما الذي دهاك؟
جئت بلا مطر
جئت بلا زهر
جئت بلا ثمر
وكأن منتهاك مثل مبتداك
يلفّه النجيع.
كما يستخدم السياب في القصيدة عددا من الرموز التراثية لسورية وبلاد الرافدين مثل: أدونيس- عشتار- بابل (15).
أما الشاعر أمل دنقل فهو يستخدم حكاية (زرقاء اليمامة)، المرأة التي كانت حادة البصر وتنذر قومها لدى ظهور الأعداء في الآفاق البعيدة، وحين لجأ الأعداء إلى الزحف والاختباء خلف أغصان الشجر أنذرت قومها حين قالت لهم إن الشجر يسير ولكنهم لم يصدقوها وسخروا منها، فباغتهم الأعداء واقتلعوا عيني زرقاء اليمامة. فيكتب الشاعر قصيدة بعنوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) محمّلا قصيدته كثيرا من المعاني السياسية في العلاقة المضطربة بين الفكر والسلطة:
أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ ما قلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار
قلت ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار(16)
ولم يكن تأثير واستخدام التراث مقتصرا على شعراء العرب في المشرق بل إن شعراء المهجر الذين رحلوا من أرض الشام باتجاه الأمريكتين قد استخدموا ووظفوا هذا التراث في أشعارهم كالشاعرين الأخوين فوزي المعلوف الذي كتب ملحمته (على بساط الريح )(17)، وأخوه شفيق المعلوف الذي كتب ملحمته (عبقر)، وهو واد مجهول المكان في شبه الجزيرة العربية كانت العرب تعتقد أن شياطين الشعراء تأوي إليه، إذ أن لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه بهذا البيان الساحر.
أثر التراث في القصة والرواية
ولم يقتصر تأثير التراث بكل أنواعه على الشعر والمسرح بل تعداه إلى القصة والرواية، فعلى سبيل المثال نجد نجيب محفوظ يستفيد من التراث المصري القديم فيكتب رواياته الأولى: كفاح طيبة- عبث الأقدار- رادوبيس. كما استفاد من التراث الديني للأديان الثلاثة، فكتب روايته المشهورة (أولاد حارتنا) التي نال عليها جائزة نوبل.
ويستمر هذا التأثير ولا يضعف أبدا، فنرى الكاتب يوسف زيدان يكتب روايته (عزازيل). وإذا تمعنا في هذه الرواية نرى أن الكاتب قد استمدّ الخطوط الأساسية للرواية من التاريخ المصري القديم، حيث مأساة العالمة المصرية هيباتيا التي قتلت في الإسكندرية زمن ظهور المسيحية وانتقال مصر من الوثنيّة الفرعونية إلى المسيحية. كما يتحدث في الوقت نفسه عن ظهور المذهب النسطوري وخلافه مع بقية الفرق المسيحية في طبيعة السيد المسيح.(18). وللكاتب أيضا رواية أخرى يتجلى فيها تأثير التراث العربي القديم وهي رواية (النبطي)(19)، يتحدث فيها عن فترة تاريخية في حياة العرب الأنباط الذين أقاموا مملكتهم في البتراء جنوبي الأردن على طريق القوافل التجارية .
واستخدم التراث بعمق ووعي الكاتب العماني محمود الرحبي في روايته (درب المسحورة- أوراق هاربة من سيرة فتاة عمانية)(20). وقد أخذ فكرة الرواية من حكاية شعبية عمانية قديمة عن فتاة أصيبت بالسِّحر، وقد وردت الحكاية في كتاب (تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان)، والأمر نفسه ينطبق على الكاتبة جوخة الحارثي في روايتها (سيدات القمر) فقد نهلت من عمق التراث العماني وتأثير الحضارة الحديثة في بناء المجتمع القديم وتركيبه.(21)
إن تأثير هذا التراث لا يقتصر على أدبائنا الذين نهلوا بغزارة منه، بل كان له تأثير كبير في آداب الأمم الأخرى. يقول الكاتب فاروق سعد في كتابه (وحي ألف ليلة وليلة):
لقد كان تأثير ألف ليلة وليلة واسعا في آداب الأطفال في العالم، فأصبح من النادر أن نجد طفلا في أي بلد من بلدان العالم لم يقرأ قصص علاء الدين أو علي بابا أو السندباد البحري. ففي اللغة الفرنسية وحدها نجد اليوم ما لا يقل عن مئة مجموعة من قصص الأطفال المستوحاة من ألف ليلة وليلة أقدمها مجموعة (لاروس) المعروفة باسم: (مؤلفات الناشئة ).(22)
والحقيقة أن التراث بكافة أنواعه يمثل إغراء كبيرًا للأديب والمبدع للأسباب التالية:
التراث يحمل قيمًا ورموزًا موحية ونابضة بالحياة لأنه يعالج أو يتحدث في كثير منه عن همّ إنساني قبل أن يكون محليًا أو خاصًا.
الاستفادة من الحبكة الجاهزة في الحكاية ومن الشخصيات التي أخذت بعدًا رمزيا عميقًا في وجدان الأمة وضميرها.
الهروب من المواجهة الصادمة مع السلطة بالهروب إلى التعبير السياسي بشكل غير مباشر.
أجواء المتعة التي تحويها هذه الحكايا بغنى خيالها وشخصياتها وغرابة وقائعها.
التراث يقدم الفكرة أو القيمة بشكل محسوس مما يجعل طريقها إلى الفكر أكثر سهولة ورسوخًا، فيمنح الكاتب أهم عنصرين في الأدب وهما، العاطفة والخيال.