كان لظهور نظريات النقد الحديثة وديناميكيتها، الأثر الأكبر في تطور الفن السردي في الرواية وتعدد أنماطها، وأساليبها وتقنياتها، رغم اختلافاتها المنهجية في حالات كثيرة، تحديداً لكيفية قراءة النص؛ فمنها ما ترى ضرورة التعامل مع النص من الداخل فقط، مثل مدرسة الشكلانيين الروس ومَن ناصرها؛ أمثال جاك دريدا، ورولان بارت وغيرهما. أو تلك التى تستصحب العوامل الأخرى المحيطة بالمؤلف والحدث؛ كالظروف الإقتصادية، الاجتماعية، النفسية، السياسية، والثقافية وغيرها. بل وتعتبرها ذات أهمية قصوى في قراءة النص وكشف سير أحداثه. وهي بذلك تحمل النقّاد والكتّاب مسؤولية البحث عن أطر معرفية أخرى، يكون القارئ معها جزءا من النص المكتوب، وله القدرة على التعامل معه فنيا وتحليليا.كان لظهور نظريات النقد الحديثة وديناميكيتها، الأثر الأكبر في تطور الفن السردي في الرواية وتعدد أنماطها، وأساليبها وتقنياتها، رغم اختلافاتها المنهجية في حالات كثيرة، تحديداً لكيفية قراءة النص؛ فمنها ما ترى ضرورة التعامل مع النص من الداخل فقط، مثل مدرسة الشكلانيين الروس ومَن ناصرها؛ أمثال جاك دريدا، ورولان بارت وغيرهما. أو تلك التى تستصحب العوامل الأخرى المحيطة بالمؤلف والحدث؛ كالظروف الإقتصادية، الاجتماعية، النفسية، السياسية، والثقافية وغيرها. بل وتعتبرها ذات أهمية قصوى في قراءة النص وكشف سير أحداثه. وهي بذلك تحمل النقّاد والكتّاب مسؤولية البحث عن أطر معرفية أخرى، يكون القارئ معها جزءا من النص المكتوب، وله القدرة على التعامل معه فنيا وتحليليا.عند قراءة رواية «توترات القبطي» للكاتب السوداني أمير تاج السر، نجد أنه لابد لنا أن نستصحب مجموعة من المناهج والمقاربات النظرية، لنتعرف ونحلل الرواية فنياً وجمالياً، والأهم من كل ذلك زمنياً؛ ذلك لأن الجدل القائم حالياً حول قراءة النص الذي يسبح داخل الفضاء التاريخي ويتسم ببعض سمات السرد التاريخي، يجعلنا في حاجة ماسة إلى التعرف على سمات التخييل ومظاهره في الرواية التى يصنفها المتلقي بأنها سرد تاريخي قد يتفق معه أو يختلف. استخدمنا مصطلح الفضاء التاريخي لتوضيح دور التخييل التاريخي في سير أحداث الرواية. ونعني به هنا، المسرح الروائي الذي يعده المؤلف ويجهزه بكامل أدواته الفنية والمعرفية، التي يحتاجها لتحقيق منجزه السردي. حيث يحوي الفضاء التاريخي أمكنة وأزمنة وحركة شخوص، وفوق كل ذلك أحداثا تاريخية. يشحذ المؤلف أدوات سرده ويبدأ عمله. بذلك يمكن القول إن الكاتب يعمل أولاً على توفير الفضاء التاريخي قبل أن يشرع في الكتابة، أي أنه يوضع خطاطة توضيحية لدور الفضاء التاريخي المستهدف بالحكي والسرد.يعتبر الكثير من النقاد والباحثين أن الزمن التاريخي يعني الاعتماد على عنصر التاريخ في إعادة إنتاج بعض الأحداث بطريقة إبداعية، خيالية. أما في غير ذلك، يكون السرد ميّالاً إلى الحقيقة ويسرد الأحداث التي يمكن التحقق من واقعيتها أو مطابقتها للوقائع الموثقة، وهنا لا تعتمد الرواية على التخييل كعنصر أساسي في العمل السردي؛ لأن المؤلف يكون مقيداً بمرجعية ماضوية وبنقل الأحداث وتقديم الحقائق فقط، وبذلك يكون أكثر قرباً إلى المؤرخ منه إلى الراوي(1). لكن يرى لوكاش أن هذا النوع من السرد يثير الحاضر، ويعيشه المعاصرون بوصفه تاريخهم، كما يرى تقارباً بين الراوي والمؤرخ؛ إذ أن كلاهما يعتمد على التاريخ كمرجعية، وإن اختلفا في الهدف والتقنية الكتابية، ففي اللحظة التى يكون فيها المؤرخ تقريرياً، يصبح الراوي تصويرياً تخيلياً(2). بالنسبة لوجهة نظر عبد المالك مرتاض التى تحيل مجمل العمل السردي الروائي إلى الزمن مثل الموسيقى بالقياس للفنون التى تحتاج إلى حيز(3)، فهي وجهة نظر يؤكدها العديد من الباحثين، الذين لا يرون في العمل الروائي إلا حالة زمنية صرفة.من خلال هذا التعريف ثمة نظرة لزمن السرد ترى أنه يظل عند طرفي الرواية، أي البداية والنهاية، وبالتالي فهو موضوعيا مرتبط بالزمن التاريخي وما يحتويه من موضوعات اجتماعية. إنه التوقيت القياسي للأحداث التي تجري الآن … ويكون هذا الزمن إطاراً خارجياً لكامل الرواية(4).يرى الروائي السوداني أمير تاج السر أن التاريخ يتضمن ملاحم عديدة يمكن إنتاجها أدبياً. إلا أنه يحدد طريقتين لتناول التاريخ؛ الأولى هي كتابة التاريخ بوثائق، أو كما حدث، أما الثانية فهي إختراع تاريخ مواز للتاريخ الحقيقي، عبر أشخاص آخرين عاشوا في خيال المبدع. يؤكد في نهاية الأمر على أهمية الطريقة الثانية في أعماله السردية(5).تأتي القراءة لرواية «توترات القبطي» الصادرة عن دار ثقافة للنشر، في طبعتها الأولى 2009م، التى تتكون من 286 صفحة من الحجم المتوسط، تأتي من خلال فضاء روائي يشير ضمنياً إلى بعض أجزاء التاريخ باعتبارها مسرحا تخيليا لعرض الأحداث وحركة الشخوص. تقع الرواية في سبعه فصول، معنونة بعناوين داخلية، تسرد رحلة خيالية لتاريخ وسيرة حياة « ميخائيل بك، أو ميخائيل القبطي، أو سعد المبروك»، وحدد لها المؤلف مدينة «السور» وأطرافها كحيز أو فضاء مكاني تدخل الشخوص إليه وتخرج منه حسب الأدوار التى رسمها المؤلف في تلك الصفحات. وضعت الرواية هدفا لحياة بطلها «ميخائيل/سعد» هو محاولة الصمود في وجه الموت من خلال ذاكرة ممتلئة بالحب والرغبة في «خميلة» محبوبتة وخطيبتة التى يتخيل أن الكل يتآمر ضده للحصول عليها، لاسيما قائده «طلسم» الذي يحاصره بالأسئلة الصعبة. خلال هذه الرحلة كان «ميخائيل/سعد» هو البطل الأوحد في الرواية؛ إذ أنه هو الراوي العليم، الذي يتحدث بضمير المتكلم «أنا» ويحاول السيطرة على كل سطر في الرواية، و لايكون خارج أي حدث أو تحول ما في مسار السرد.مظاهر التخييل في الرواية:«هذا النص رواية وليس تاريخاً.لذا لزم التنوية»(6). اعتبر هذا التنويه من الكاتب عتبة أساسية للدخول إلى النص، ولربما هي العتبة التى حملت النص الى التاريخ، حسب نظرية المتلقى، التي لا ترى في النص- وإن نوه المؤلف بعدم مطابقته للوقائع التاريخية- إلا نصا تاريخياوالتخييل هو محاولة بناء كائنات وعوالم معارضة وصادمة للجاهز، في حالات كثيرة يعمل على التمظهر في شكل واقعي يوهمنا بمماثلة مجريات واقعية يومية أو تاريخية، كما أن في حالة التخييل تتمرد فيه العناصر السردية لتجنح إلى غرائبية متحررة من أي شكل ماضوي، الأمر الذي يجعله مفتوحا لأكثر من تأويل(7). سنحاول أن نركز على مظاهر التخييل في الرواية.ويقسم الكتاب والباحثون والنقاد الفضاء التخيلي إلى :فضاء تخيلي تماثلي: ويعمل هذا الجزء على أن يخلق الروائي فضاء تماثليا يتماهى مع الواقع أو التاريخ أو الذاكرة الجمعية للقارئ، ساعياً إلى توريطه كمدخل للرواية. نجد في رواية (توترات القبطي) أن المؤلف استخدم هذا النوع من التخييل، منذ السطور الأولى للرواية، حيث حاول أن خلق فضاء مكانيا وزمانيا، شخوصا، وأن يبتكر لها لغة ومصطلحات. مثلاً «ناداني الأمير عبادي طلسم، قائد كتيبة الجهاديين التى عينت فيها طباخاً قبل خمسة عشر يوماً فقط…»(8)، هنا نجد أن الرواية ومن خلال ملفوظات واقعية كـ»الأمير» أو «كتيبة الجهاديين» في طريقها لإدخال القارئ في قفصها السردي التخيلي.فضاء تخيلي فوق التماثلي: وهنا بعد أن تم جذب القارئ من خلال الفضاء التماثلي، تأتي المرحلة التى يصطدم فيها التخيلي بالواقعي، ويتقاطع فيه الممكن بالأسطوري الخارق، والمعقول باللا معقول. في الرواية نجد أن الشخوص أخذت أدوارا مختلفةأ تداخل فيها المعقول باللامعقول بصورة كبيرة. فالمعقول أن تقوم ثورة بطلها المتقي، واللامعقول أن لايظهر هذا الثائر بوصفه أو شكله، طقوسه، رغباته ومكبوتاته إلى آخر الرواية، «أين المتقى؟ أسأل تشوشي، وأنا أنقاد بسيوف كتيبة صقور إلى مصير غامض. أين المتقي؟ وأسمع همساً مجاوراً.. المتقي في أحد أحياء المدينة، يوجه الثورة لتلتهم المدن كلها»(9). كما نجد أن «خميلة» حبيبة البطل لم تظهر في حوار حقيقي مع البطل، يتعلق بأمر الحب والعاطفة إذا استثنينا حوار الحرب « – نحن محاصرون يا ميخائيل؟- نعم.- وهل سنموت؟- ربما.- أين الحكومة المركزية يا ميخائيل؟ ..هل يتركونا هكذا لمصيرنا؟-لا ادري…لايوجد أي خبر ..لايوجد أمل…»(10). ويأتي السؤال هنا هل (خميلة) التى في الحوار هي ابنة التاجر تلك المعروف أم هي التى في لوحة ما ترقد في غرفته؟ الأمر الذي يعد أسطرة لها، وربما أدرجها حب البطل لها في دائرة اللامعقول أيضاً.
أما أكثر مظاهر التخييل في الرواية فتتمظهر في الآتي:أ- تحوير الزمن: ويقصد به تحديد مسار السرد بين زمن القصة أو الحكاية وبين زمن السرد أو الخطاب السردي كما يصفها توماشفسكي بالمتن الحكائي والزمن الحكائي، وهنا يأتي التسلسل والترتيب والتتابع للقصة المسرودة، فالبعض يرى أن لا أهمية في تتابع السرد في زمن الخطاب السردي كما في زمن الحكاية؛ فمثلاً إذا اعتبرنا أن زمن الحكاية هو بهذا التسلل «ا،ب،ج،د» فإن خطاب السرد قد يأخذ أشكالا مختلفة (ج،ب،أ،د) أو غير ذلك، فإنه لا يتقيد بالتتابع المنطقي للوقائع، وهنا يأتي دور المؤلف في استخدام مهاراته السردية بفنية عالية للتعامل مع زمن الخطاب السردي.في رواية (توترات القبطي) لعبت تقنية تداخل زمن السرد مع زمن الخطاب السردي دوراً كبيراً في ظهور جماليات التخييل في الرواية من حيث تقديم الحدث وتأخيره حسب مقتضيات الحكي، كان الفصل الأول مثلاً تمهيدا لحركة الشخوص، ليأتي في الفصول التالية التعرف على النقاط التى كانت مسار تساؤل، فيعطينا جرعة معرفية، ومن ثم يدخلنا في دائرة التساؤل من جديد وهكذا إلى نهاية الرواية؛ نجد مثلاً في بداية الرواية «تعال يا سعد..تعال يا مبروك.»(11). كان عبارة عن تقديم وإسراع للحدث الذي كان لربما بدأه (..اسمي ميخائيل لكن هؤلاء الحمقى عندما تم أسري اسموني بسعد المبروك)، هنا الفنية في استخدام زمن الخطاب الروائي بالصورة التى تجعل من التخييل عاملا أكثر أهمية في إدارة دفة الرواية من خلال عنصري المفارقة الزمنية من استرجاع واستباق للحدث.ب- أنسنة المكان: وهو أيضاً أحد العوامل التى تظهر دور التخييل في البناء السردي، لا سيما الفضاء المكاني؛ إذ أن الفن السردي عموما يترك للمكان الدور الأكبر في ديناميكية السرد، من حركة الشخوص عبر الزمن لتخلق أحداثها وتتفاعل معها, إذ يعمل المكان على صناعة الأحداث وتوليدها. على ذلك أصبح المكان في الرواية يمثل مطابقا للإنسان وأهوائه النفسية ورغباته العاطفية. فأنسنة المكان تعتبر ظاهرة جمالية تحاول فرض الرؤية الخاصة للأشياء والظواهر، ليأتي دور الإسقاط النفسي لمشاعرها، عواطفها على الموضع التى تؤنسنه بفخرها وكرمها، تحولها، قسوتها وجفوتها ونسيانها، مما يجعها تتماهى مع الذات العاقلة(12).
نجد أن رواية توترات القبطي في أجزاء كثيرة منها احتفت بالمكان وأنسنته بصورة واضحة، مما جعل أكثر فصول الرواية تساير المكان وتحولاته التى ماهي إلا تحولات ساكنيه أو مرتاديه. ولاننسى أن الرواية استخدمت كل أنواع الأمكنة المفتوحة كالأسواق، الساحات، المدن، القرى، الخلاء، والصحراء، وأماكن مغلقة مثل الغرف الداخلية، المكاتب، والمنازل، وعمل بالتناوب في صناعة الواقعة، من خلال التمهيد لها أو بجعلها هي الحدث ذاته، كما في مقهى خزي العين «الأخبار بشرها ويأسها في مقهى «خزي العين» الشهير في وسط المدينة…»(13).يمكن توضيح دور المكان التخييلي بصورة أكثر وضوحا في الأمثلة التالية من الرواية. المكان المفتوح: فيه يجد الخيال متعته في التحرك من خلال الحدث وعدد الشخوص المشاركة فيه، وفاعليتها وتفاعلها معه. فمدينة «السور» مثلاً تعبر عن المكان المفتوح «مدينة السور في الرمق الأخير. جدباء ويابسة، مريضة بالحمى والتباريح، والتخمة الكاذبة…»(14). يظهر الخيال في أنسنة المدينة بعد أن وصفها بصفات شخص مريض يعاني الأمراض التى تفتك به.ومثال آخر للمكان المفتوح: « لم تكن الساحة آمنة، لكن شركاً ولعنة، حيث هتك الجهاديون عفتها وتناثروا داخلاً وخارجاً…»(15). المكان المغلق: استخدم في الرواية لوصف أحداث أكثرها سرية وخصوصية، تمثلها علاقة بطل الرواية «سعد المبروك» والقائد «عبادي طلسم» في أسئلته المستمرة عن «خميلة» كما لو أنها أسرار حرب. وتمثل تلك الأمكنة: الخيام، الغرف، المكاتب، والبيت.يقول الراوي «جهزت لي خيمة على عجل، خيمة صغيرة من قماش كان أزرق داكناً في أحد الايام، وتبخر لونه، بجوار خيمة القائد. كانت في الواقع ملتصقة بالخيمة الكبيرة، بحيث يمكنني أن أعد أنفاسه العزيزة، وأتلذذ بكوابيسه التى كانت ممتلئة بالغزوات ونضال السيوف..»(16).مجلس المدينة كان مثالا آخر لدور التخييل في أنسنة المكان المغلق، حين يقول الراوي «وصلت مبنى مجلس المدينة بصعوبة، ولم يكن ثمة مجلس لمدينة ولكن ذكرى لقاعات ومكاتب وأوراق، الآن مجلودة بسياط النار وتحترق..»(17) . على الرغم من أن الرواية في عموميتها استخدمت المكان المفتوح والمغلق إلا أنه يظهر لنا مكان آخر يجمع مابين الاثنين. ومثال على ذلك مقهى خزي العين «كان خزي العين، مزدحماً كعادته في كل مساء، مضاء بفوانيس الجاز ذات اللهيب المتراقص، زبائن بسحنات شتى، يشغلون الموائد المصنوعة من خشب الزان المغطى بوبر الإبل…»(18).ج- توليد الوقائع: مع اختلاف الوقائع وطرائق الحصول عليها وإدراجها في عمل أدبي سردي يلعب التخييل الدور الأساسي في ذلك، نسبة لمحدودية الحدث، يتطلب الأمر شحذ الخيال بصورة أكثر حدة ليشمل عناصر أخرى، ولا سبيل إلى ذلك عن طريق توليد الوقائع أو الأحداث والموضوعات، وخلق نوع من التوازي بين الحدث المذكور و الحدث التخيلي.في هذه النقطة بالتحديد، عملت الرواية على خلق خطاب مواز لأحداث تمثلت في رسائل المتقي الخمسة المرسلة إلى المجاهدين والأتباع في مدينة السور، وتلك الرسائل التى أخذت في ظاهرها وريقة فقط، أما في ملفوظها فهي تغير في سير مجرى الأحداث وحركة الشخوص غياباً وحضوراً.فالرسالة الأولى التى جاء فيها «من الإمام المتقي.. قائد ثورة الجهاد، وناصر الحق، والمنادي بعزة الوطن ورفع هامته، وراياته الشماء إلى التركي، ذليل الكفار في مدينة من أنقى المدن في البلاد..»(19) ربما تذكر الافتتاحية للرسالة بخطابات تاريخية، أو وثائق تاريخية محفوظة ومعروفة، إلا أن قمة التخييل هي استحضار مثل هذه الأحداث ومحاولة توليد عدد من الوقائع والأحداث الخيالية. والرواية في أول رسالة ومن محتواها الملفوظ أرسلت إلى الحاكم التركي في مدينة السور لتسليمها «سلمونا مدينة السور بخيرها وشرها.»أما الرسالة الثانية فجاء في مقدمتها «من المتقي.. إمام المجاهدين، وسيد المحصنين، وحاصد رقاب الكفار وأذيالهم.. والشاهد على دحرهم وفرارهم في القريب العاجل.. إلى المرتد خائن مدينة السور…»(20). وكانت عبارة عن رد لرسالة الحاكم التركي بمدينة السور بعد أن بصق على رد الرسالة الأولى فجاء فيها «.. خيطوا أكفانكم لترتدوها، واحفروا قبوركم لتدفنوا فيها».في رسالته الثالثة يكتب المتقي «من الإمام المتقي، ناصر الحق وحارس الدين، وغارس الخوف في قلوب الواجفين، إلى أحبابه حاملي رايات الجهاد…»(21). كانت رسالة تهنئة لفتح مدينة السور .اما الرسالة الرابعة التى قُدِّر لها أن تكون خطابا موجها من مُلثّم اعتقد أنه المتقي، افتتحت بـ«اقرئكم مني خالص السلام يا أحباب وأحيي دماءكم الأصيلة وأنتم تجودون بها دفاقة لنصرة الحق، وإجتثات الباطل. وقد أخبرنا وكررنا، أننا لم نقم بثورتنا من أجل دنيا تجرفنا ولكن للدين، لإجتثات الكفر، وغرس العزة في كل شبر..من منا لا يريد العزة من منا لا يود نصرة الحق .. من…»(22). والتى لم تكن إلا تبريراً للثام الذي يرتديه المتقي وبذلك لا يتعرف المجاهدون والأحباب والمريدون على وجهه؛ مما جعل كل من يسأل عن المتقي تأتي الإجابة :كلهم المتقي.. كلهم المتقي. تأتي الإجابة من المتقي حين يقول: «لانضن عليكم بوجهنا طوعاً يا أحباب.. لكن نتبع الرؤيا… نتبع الأمر..حتى يتم الخير»الرسالة الخامسة «من الإمام المتقي خادم الدين، ومروع المنافقين، والحادب على العزة والكرامة في كل شبر من أشبار الأرض، إلى أحبابه المجاهدين في كل مكان…»(23). وكانت رسالة لتعيين ابنه الأمير مقهور المتقي أميراً للجيش.عموماً تأتي عملية التخييل في توليد الوقائع إلى الربط بين كل أجزاء الرواية في الأحداث وربط القارئ أكثر بواقع التخييل في الرواية لإعتبارها واقعا متماهياً مع التخييل.د- السرد الساخر: هي تقنية تخييلية تحاول الرواية عن طريقها إلباس بعض الأحداث روح الخفة والرشاقة، والتلاعب باللغة، ورفع الضغط عن الحدث ومحو الأسطرة عنه. فنجد مثلاً عندما يقول الراوي: « لم أرحمه، اخترعت له قصة، حشرت فيها اسماً لعجوز غسل ذات مرة لشهرين كاملين في بيت برهاني، لأنه كان يثني على المتقي وشمّ الحاضرون ريحاً، اشتبهوا انها خرجت من تحته، وخرج من الغسيل كسيحاً…»(24).في موضع آخر يقول الراوي:» تم انتقاء عدد كبير من أولئك النازحين، باعتبارهم مشاريع مجاهدين يمكن أن يساهموا في انتصار الثورة، عين البعض حراساً لعورات أهلهم الحريم، حتى لا يسعى إلى كشفها أحد من الجنود الممتلئين بالغرائز والرغبة، والمقيدين إلى بنات حور مؤجلات…»(25).الخلاصة:من القراءة السابقة لرواية(توترات القبطي) نجد الآتي:- إن رواية (توترات القبطي) لا يمكن إدراجها بتلك البساطة في قائمة الروايات التاريخية، ومحاكمتها بجريرة إهمال أو توظيف و إفراغ محتوى حدث من الأحداث، كما لايمكننا أن نستبعد الدور التاريخي المتمثل في الفضاء التاريخي، الذي اعتمدته الرواية كمسرح لعرض الأمكنة والأزمنة والشخوص وسير الأحداث.- اعتمدت الرواية بصورة أساسية على عنصر التخييل في الخطاب السردي مع الإشارة الصريحة أو الضمنية لزمن الحكاية التى تمثلها الأمكنة والشخوص واللغة.- عمل التخييل في كل من تحوير الزمن، أنسنة المكان، توليد الوقائع، والسرد الساخر، وذلك لفك قيود السرد من الوقائع التاريخية التى حاولت الرواية ان تأخذها كمسرح فقط.- في حركة الرواية الفنية، عملت على تقنية القص داخل القص كما يظهر العلاقة بين الرواية والمسرحية من خلال تداول الراوي لمقولات في الرواية مثل»..لم أكن مسؤولاً عن شيء داخل النص من دون إذن من قائده..»(26) . وفي أماكن أخرى نجد « كانت فقرة غريبة جداً بلاشك؟ في ذلك النص الغريب من بدايته وحتى هذه اللحظة التى نقف فيها ضائعين، لانعرف إن كنا سنصل إلى غاية أم لا..»(27).- لعب ضمير المتكلم والراوي العليم الدور الأكبر في سير التخييل بالصورة التى تظهر فيها الأماكن صالحة لحركة الشخوص وسير الأحداث.- لم تعمد الرواية إلى استخدام الحوار كثيراً، واللحظة التى يستخدم فيها يكون قصيراً، ومجرد عنوان لحالة حكائية ومفتاح يسمح للراوي العليم بضمير المتكلم بالسرد،»ماذا لديكم يا أحباب؟»(28). أو «إلى أين نحن ذاهبان سيدي الأمير؟»(29).المصار والمراجع: 1- سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة الوجود والحدود، الدار العربية للعلوم، ط1، الرباط، 2012.2 – جورج لوكاش الرواية التاريخية، تر: صالح جواد الكاظم، دار الشعوب الثقافية، بغداد،ط2،1986.3 – عبدالمالك مرتاض، في نظرية الرواية، عالم المعرفة، سبتمبر 1993.4 – دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنية ، مصطفى التواتي ، دار الفارابي ، بيروت ، ط3 ، 2008.جريدة العرب، عدد9855، السنة37، الجمعة13.3.2015.5 – أمير تاج السر، توترات القبطي، ثقافة للنشر والتوزيع، ابوظبي،ط1، 2009.6 – أوستن وارين ورونيه وليك، نظرية الادب، تر: محي الدين صبحي، دمشق، 1972. 7 – جنات بلخن، نظرية السرد التاريخي عند بول ريكور، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر،2010.8 – سليمة عزاوري، الرواية والتاريخ-دراسة في العلاقات النصية رواية العلامة لبن سالم حميش نموذجاً، جامعة بن يوسف بن خدة، الجزائر،2006.9 – أ.أ. مندولا، الزمن والرواية، تر: بكر عباس، دار صادر، بيروت، 1997.
الهوامش1 -سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة الوجود والحدود، الدار العربية للعلوم، ط1، الرباط، 2012، ص159.2 -جورج لوكاش الرواية التاريخية، تر: صالح جواد الكاظم، دار الطليعة، بيروت، ص89.3 -عبدالمالك مرتاض، نظرية الرواية، ص173.4 – دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنية ، مصطفى التواتي ، دار الفارابي ، بيروت ، ط3 ، 2008 ، 129 .5 -جريدة العرب، عدد9855، السنة37، الجمعة13.3.2015، ص15.6 – امير تاج السر، توترات القبطي، ثقافة للنشر والتوزيع، ابوظبي،ط1، 2009، ص7.7 – انظر: اوستن وارين ورونيه وليك، نظرية الادب، تر: محي الدين صبحي، دمشق، 1972، ص277.8 – الرواية، ص13.9 – الرواية، ص109.10 – الرواية، ص98.11 – الرواية، ص13.12 -مرشد احمد، انسنة المكان في روايات عبدالرحمن منيف، دار التكوين، دمشق، 2002، ص41.13 – الرواية، ص29.14 – الرواية، ص99.15 – الرواية، ص107.16 – الرواية، ص139.17 – الرواية، ص107.18 19 – الرواية،ص80.20 – الرواية، ص10421 – الرواية، ص134.22 – الرواية، ص154.23 – الرواية، ص234.24 – الرواية، ص21625 – الرواية، ص224.26 – الرواية، ص254.27 – الرواية، ص274.28 – الرواية، ص278.29 – الرواية، ص167.
خليل جمعة جابر*