ستدركين حالما تحط عيناك على النافذة كفراشة بليدة بأنه لابد أن يكون الخريف، عيناك مغرمتان بتلك الهشاشة التي يثيرها الريح في الأنحاء: هشاشة روحك الخاوية وأنت ترممينها في أعياد الميلاد، وجهك وأنت تصلبينه في المرآة كل صباح، جسدك أيضا، أشياءك المعلقة في الجدار..
ستضطرين وأنت تحصين ما ولده الريح فيك من انفعالات بذكر كثير من الأشياء التي رفضت لاحقاً الحديث عنها للنساء المتجمهرات حولك، لكن هذه الهشاشة المفرطة تستحق الإطراء في مساءاتك حين لا تجيدين سوى الإنصات للانبعاث الغريب لذكرى ما أجهدت في إخفائها لسنين طويلة.
تصيخين السمع لفرز الأصوات وتنضيدها في مخيلتك. يدهشك الاتساق المربك لتدفق الرؤية بين عينيك ومخيلتك ووجوم آخر الخريف، بين ما عشته وتلك الرؤى المتدافعة لحياة كان يجب أن تكون كاملة، ثم كزفرات تنفثينها مع أعقاب سجائرك كلما داهمك الحزن وحيدة..
مجدداً ترفعينه بجهد إضافي خارق: رأسك لأعلى قليلاً لرؤية الأشياء البعيدة وهي تأخذ في الخفوت التدريجي والذوبان من زاوية النظر، تثير فيك لعبة التحديق من أسفل لأعلى حنيناً طفولياً كتحديقك من أسفل السلم لغرفة العلية ورؤية الأشياء الكبيرة وهي تصغر في عينيك، يربكك تضاءل الأشياء، لكن رأسك الآن متذمر من كم الدبابيس التي تعقص شعرك المتجعد، فهو مثبت بإحكام الدبابيس وربما العادة إلى أسفل تماماً، تقاومين هذا التعب اليومي وتجبرينه على الاستقامة لتثبيت عينيك جيدا بموازاة النافذة..
لكن منذ متى وأنت هنا أيتها الأم؟!
منذ متى والجدار هنا وعينيك؟
منذ متى والأشياء على تكرارها اللطيف تحفر نتوءاً في عقارب وقتك؟
حسب أقوال المرأة التي لا تكف عن الصراخ بأنك هنا منذ أمد طويل، في خريف قديم ربما حين تساقطت أوراق الشجرة « التي لا تعرفين اسمها» والمتجذرة أسفل نافذتك، أحضرك سامي دفعة واحدة مع أشيائك: الباكورة، صرة الثياب، المسواك، والحناء، معتذراً عن إساءات قديمة، وبين عتب عينيه المحببتين وحزنهما تقبلت هذا الوضع الذي لم يعد الآن طارئا، وبخفه رحت تغرقين كل شيء يخصه: كلامه، صوته، عينيه، توسلاته الصبيانية، صمته الممتلئ برائحة اليتم، دافعة كل الأصوات التي سمعتها إلى منطقة ما من الذهول، فجأة أصبحت تخلطين الأشياء « التي رأيتها « مع الأسماء» التي سمعتها، مع الملامح « التي تعرفينها» مع الحوادث « التي عشتها» مع تاريخ العائلة الذي يخصك كخلطة عجيبة وفريدة، فتطلقين الأسماء دفعة واحدة ثم تضحكين من كل المصادفات التي قادتك إلى الخبل.
هل بكى سامي وهو يحضرك معتذراً عن وجوم آخر الخريف لأن الطقس ملائماً كثيراً للبكاء والهجران؟ أنت لم تريه يبكي. أم تراه ابتسم وهو يشيح عينيه عن النافذة التي بدأت مهجورة وحزينة مثلك في آخر النهار؟ أنت لم تشاهديه يبتسم !، لم تستقر عينيك على شيء، كانت تدور في زمن قديم، زمن كان العالم فيه يدور حولك، ومن أجلك، ولأن الأشياء بدت صغيرة وبعيدة كفاية أهملت النظر في رخاوة المشهد، متخففة من ثقل الاحتفاظ بالذكرى لذا كنت تنقرين بعصبية على عمود السرير كحركة باتت مضحكة لي وأنا أحدق بك من أعلى.
كان سامي يحملك بين يديه – هذا ما احتفظت به جيداً كل تلك السنين وأنت تستذكرينها كدرس بليد- وكان جسدك مسرورا- هذا ما ستظلين ترددينه أيضا لسنوات لاحقة- كشيء قابل للحمل والاحتفاظ. الغبطة التي تولدت فيك خدرت أناملك، وساقك، وقلبك، جعلتك مبهوتة الأنفاس كطفل مدلل يحب الأعالي ويريد الرفقة.
ثم وأنت في منتصف المسافة بين الأرض وسماء الغرفة فكرت بأن الحياة قد تكون معقولة قليلاً إذ استمرت على هذا النحو إلى مالا نهاية، روعة رؤية الأشياء من منتصف المسافة|الحياة، ومن آخر العمر تبدو القناعة هانئة وبسيطة كبساطة جلوسك أمام دارك في صباح القرية تحدقين في فنجان القهوة وتهشين أغنامك، كبساطة حياتك كلها التي انفرطت الآن كعقد، لكن بعد مضي وقت شعرت بالريبة من تهالك عروقه النافرة كيد تحاول جرك إلى هوة ما تعرفينها جيداً « هل يكرهك سامي إلى حد طمرك».
ربما كنت تخافين ارتجاجك وسقوطك دفعة واحدة كتلك الأوراق، حاولت جاهدة أن تساعديه كأم ممتنة لابنها قليلاً زفرت الهواء الذي اتسع لرئتيك المعطوبتين بالدخان، زفرة وأخرى كنت تحملين جسدك الرخو محاولة عدم الاسترخاء كثيراً حتى لاترتطمين بالخريف دفعة واحدة.
قلبك الذي يعلم الله كم كان يخفق في تلك اللحظة، يشعرك بالحرج أكثر وبالثقل، هذا الثقل الذي أصبحت تخافينه الآن، وترتهنين لنزواته وهو يشدك من قلبك، هذا الثقل الذي جعلك كائناً هشاً وفائضاً عن كل ما حولك، هذا الثقل الذي يعيد لك ضجر النهايات التعيسة، تربتين على قلبك وتتوسلين هموده..
همودك الطويل جعلك تفكرين بكم الأشياء التي كانت متاحة من حولك والتي أصبحت الآن بعيدة، ومن علوك البعيد بدت الأشياء خافتة في آخر العمر، وبحاجة للقرب، هذا القرب الذي لم تفكري به مطلقاً قبل الآن على الأقل، تحددين مسافة ما، أرضية مدهشة للخذلان حتى تقيك من هذه العزلة..
كان سامي بعيداً، لم ير خوفك المتدافع كومضات دماء مرتجة في عروقك النافرة، ثم في تغضنات جسدك كآلة عظيمة تصنع الخوف، كل حواسك المجهدة تحتشد في ذلك الضخ الآلي للخوف، تتآزر بقوة وتتناهض مدومة في أوصالك، تسمعين ضجيجها القادم نحوك بثقة، لكنك تحتمين بسامي تلتصقين به خوفاً من اختفاء آخر الأشياء الجميلة التي لن ترينها، هل كان سامي يدرك ذلك الخوف، تلك القشة التي تتمسكين بها حتى لاتفقدين البوصلة..
«ما أقسى الالتصاق بشخص نحبه وكأننا نجعله النسخة الأخيرة للحياة».
هكذا فكرت وأنت تحشرين جسدك أكثر بين يديه، كان جسدك الخائف يحاول الصمود لأطول وقت قد يستغرقه غريق ما في محاولة للامساك بقشة.
جسدك مرة أخرى يصدر تلك الرائحة التي تصيبك بالدوار والهلع، تلك الرائحة التي لايعرفها سواك والتي تزفرينها في حالات مماثلة حين تكون رغبة الموت هي دفاعك الأخير لقليل من الكرامة والحياء. بدأ جسدك يهتز مرتجاً بين يديه، والخوف يقطر من منابت جذورك حتى أقصى المناطق المظلمة في قلبك ثم يسح ويحتشد بسيل بارد من العرق تسد عينيك وأذنيك.
تجرأت على النظر لعينيه اللتان تعرفينهما منذ أول انبجاس لهما حين كانتا تعقصانك كفرح، التفت له: توسلت المكوث هنا لما تبقى من العمر، كان الالتصاق بالجسد الذي خرج من الجسد الأول أشبه بالاحتماء بآخر ومضة من الحياة ترفعك الآن عالياً كنجمة.
إذن حاولي الالتصاق أكثر وأكثر !..
وبتعبك العادي، تجاسرت يديك على التشبث بمرفقيه والالتصاق به للأسباب التالية: الاحتماء من النكران، من الهلع، من اللامبالاة، من السبات، من الصمت، من الليل، من العزلة، من الفراغ، من الخوف، من النسيان، من الوحدة، من الجنون، من الخبل، والموت هكذا وحيدة وفارغة، لكزت يديه بدلال أمومي لم تعتادي عليه فطفرت من عينيه نظرة ما: شفقة مضاعفة ممزوجة بقرف قديم لشخصك والتي ستذكرينها لسنوات لاحقة، جعلتك تلك النظرة بلهاء قليلاً، وكانت على حدتها كافية لانطفائك بين يديه، لكن صبرك حاول أن يكون مشجعاً، صبرك المدرب على الخذلان الطويل كان يجرب معركته الأخيرة في البلادة، لذا تجاسرت وأنت تحبسين أنفاسك، وتعبك، وقلبك، وكمية هائلة من الخوف الذي بدأ ينسرب كقطرات متعرقة من ابطك المتجعد بأن تشكريه على هذا الترف.
التشبث، أوه كم هو مخيف يا سامي، مخيف ومقرف؟
هل تريد أن تعرف هذا القرف بدافع الفضول والحب؟
للحظة فقط تدرك أنك جئت في الزمن اللامتعين الحدوث، في الزمن المستقطع من حياة أخرى، ربما حياة ما بعد الموت، هذه الحياة الغير قابلة للتصنيف والتي لا تدخل في جدولة الزمن العادي لأنها تبدأ من نقطة منتهية الصلاحية حيث لاحياة وتستمر في النقصان ما أمكن، أو أنك تفكر مثلاً أنك جئت فور انتهاء حفلة عيد الميلاد، بعد توزيع الهدايا، ونوم الأطفال، أو أنك سرت في الاتجاه الخاطئ فعبرك القطار وحيداً ولم يلتفت لذهولك.
ما هذا المكان يا سامي؟
أعرفه، أذكر رائحته، وهدوءه، وأذكر أنني هنا، منذ كم من الخريف، لا أعرف، لكنه خريف قديم، هذه الدار ليست سيئة تماماً، هنا كمية أكبر من الهواء المنعش لمتطفلين مثلنا لحياة ما عادت تكفي، كل شيء مرتب بعناية وضع اللمسات الأخيرة للحياة، كل شيء في وقته المحدد: النوم، الاستيقاظ، الدواء، التلفاز، النكات، وهشهشات الجدات، كل شيء يحدث بالتكرار الأليف للرتابة، بل أنه مدهش بانضباطيته المرهقة.
أعتدت على الحياة هنا، في المكان ذاته، في الغرفة ذاتها، وفي السرير المنزوي أسفل النافذة، دون تذمر أقضي ساعات طويلة في الاستلقاء والبحلقة وردم السجائر، لم أعد أضحك من المرأة التي لا أعرف اسمها وهي تهدهدني بأنك ستأتي، أصبح كل شيء مألوفاً ومنتهياً، وفارغاً.. «ولكن.. حبيبي منذ متى وأنت لا تأتي؟!».
بشــــــــــــــــرى المقطري
كاتبة من اليمن