1- فاتحة العودة
إذا كان معلوماً أن المخلوق في نقصه لا يستطيع أن يتحدى الخالق في كماله، له الأسماء الحسنى، فلا معنى أن يطلب الخالق من خلقه أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولا بأقل منه على سبيل الإعجاز والتحدي، وهو يعلم، جلَّت قدرته، نقص خلقه وعدم قدرتهم علي تحدي كماله دحضاً لإعجازه. وإنما الذي كان منه، سبحانه وتعالى وسع كل شيء رحمة وعلماً، هو الدعوة إلى التأمل، والحض على التدبر في آياته، والدفع إلى التفكر في آلائه تفكر القانتين غير المتكبرين. إذ بمثل هذه الدعوة، وذلك الحض، وهذا التفكر يتسنى للإنسان أن يلتحم بالقرآن فيتواشج معه، وينصهر فيه، ويتحول بوساطته من كائنه الشخصي إلى كائنه النصي. وبذلك تحدث قطيعة تامة بينه وبين قيم ما قبل الإسلام. فهذه كانت قيم الشخص، في حين أن قيم الإسلام هي قيم النص.
ولقد نعتقد أن هذا التحول إذا ما تم إنجازاً وحل في الإنسان حلولاً تاماً، فسيفضي حتماً إلى سقوط النسق الأسطوري المرتبط بالشخص وقيم الشخص، وصعود النسق النصي المرتبط بالقرآن وقيم القرآن. وهذا ما حدث بالفعل، وامتد على مدى قرنين من الزمان بالتاريخ الهجري. إذ ما كان أحد في القرن الأول والقرن الثاني للهجرة، يحكّم كائنه الشخصي ويعطيه الأولوية على كائنه النصي. ذلك لأن الكائن الشخصي، بنسقه الأسطوري، قد أفل وجوداً وغاب حضوراً عن الحياة، وحل محله الكائن النصي بنسقه القرآني. وبالفعل، فقد شكل الناس بالقرآن أمة القرآن وكائن القرآن.
وأما الذي حصل بعد ذلك، فهي لعبة لعبها المعتزلة، وهم، آنذاك، أعظم الناس عقلاً، وأكملهم فهماً، وأكثرهم دهاء، فعلوه وهم في علياء يشمخون، فقد كان يدفعهم إلى ذلك سببان: سبب ظاهر، وسبب عميق:
1 – أما الظاهر، فينقسم إلى قسمين:
– الأول , معرفي وثقافي. فهم كانوا يقتاتون معرفياً وثقافياً على ما يجنون من اتصالهم بالفلسفة اليونانية. وهي فلسفةٌ الشخصُ هو عمدها وأساسها، وهو معيار ممكنها في وجودها وحضورها.
– الثاني سياسي. فهم كانوا يتطلعون، إن لم يكن إلى الاستحواذ على السلطة، فعلى الأقل إلى المشاركة فيها بوصفهم النخبة العالمة والمثقفة، وبذلك يمكنهم أن يفرضوا من خلالها نسقهم الفكري والإيديولوجي الجديد. وهو نسق يحيل إلى الشخص فيما به يقوم الاعتقاد لأنه يجب أن يكون على مثاله، وليس إلى النص فيما به يقوم الاعتقاد لأنه يجب أن يكون على مثاله.
إنهم، إذن، في المعرفة والثقافة، كما في السياسة، كانوا مدفوعين بنسق الشخص الذي خفت صوته على مدى قرنين بخفوت صوت النسق الأسطوري، ليعود مجدداً فيظهر فيهم بثوب جديد تحت مظلة إسلامية. هذا، وقد اتبعت كل الفرق الإسلامية تقريباًً اللعبة التي لعبها المعتزلة. فمنهم من كانت لهم نفس أسبابهم، وهؤلاء وعوا وعرفوا المغزى والمقاصد من حركة الاعتزال، ومنهم من لم يعِ حقيقة هذه المغازي والمقاصد ولم يعرفها، ولكنه جاراهم وسار على آثارهم مدفوعاً بأسباب أخرى في المعرفة، والثقافة، والسياسة، والسلطة.
2 – وأما العميق، فينقسم أيضاً إلى قسمين:
– الأول، ويتعلق بقوة الأنساق وتخفِّيها. فقوة الأنساق، تكمن حقيقة، في تخفيها وكمونها، وربما أيضاً في مكرها، قدر ما تكمن في تجليها وظهورها، وكذلك في براعة التفافها. وقد يحصل لنسق أن يتوارى، بسبب ضغوط تمارسها عليه أنساق أخرى، أو بسبب تحولات اجتماعية كبرى مثل مجيء الإسلام وانتشاره في الجزيرة العربية وبقية الديار الإسلامية، حيث أدى هذا إلى هلاك أنساق واختفائها، وتعايش أخرى مع النسق الجديد، ولكنه أدى أيضاً إلى تواري نوع ثالث من الأنساق وكمونها انتظاراً للحظة تاريخية معينة تعاود الظهور فيها.
وتحمل الشعوب، في الحقيقة، أنساقها في لا وعيها. فتكون بها، وتعيش من خلالها، وترتحل بوساطة مخيالها عبر الزمان. فإن تواري اليوم عنها نسق، فلعله يعاود الظهور غداً. ويمكن للمرء أن يعتقد أن المجتمع الإسلامي ليس بدعاً في هذا. فالمعتزلة كانوا لا يزالون تجري فيهم، خفية منهم وفي لا وعيهم، آثار نسق الشخص ما قبل الإسلامي ومؤثراته. ولما كان دفع الأنساق والخلاص من حاكميتها أمراً صعباً، وغير ميسور أو سهل، إذ ربما تبقى متوارية مستورة، وكامنة خفية أجيالاً وأجيالاً، ثم تعاود الظهور بقوة في شكل جديد، فقد عادت إلى الظهور قوية مع المعتزلة في نسق عقدي وفكري جديد، لا يبدو في ظاهره ضديداً للنسق العقدي والفكري الإسلامي. وقد كان هذا الظهور، على هذا الوجه، هو ما سميناه كذلك «فكر الأنساق.» ولذا، يمكن التأكيد أن هذه الأنساق بعودة ظهورها في الإسلام، مع ابتعاده النسبي عن زمن مجيئه، قد جعلها تندفع به لكي يتخذ وجهة أخرى لصالح «الكائن – الشخص»، كما هو من خصائص النسق الأسطوري، بعيداً عن وجهة «الكائن – النص» كما هو من خصائص النسق الإسلامي.
– الثاني، ويتعلق بتغير وعي الكائن وتبدله. فالإنسان لا يكون دائماً موضوعاً لفعل خارجي يحكمه ويوجه وعيه ولا وعيه، وإنما يكون أيضاً موضوعاً لفعل خارجي يحكمه ويوجه وعيه ولا وعيه، كما يكون أيضاً موضوعاً لفعل داخلي وذاتي يحكمه ويوجه وعيه ولا وعيه. ولعل المعتزلة كانوا من هذا النفر من البشر، مع احتمال تأثرهم بالعامل الخارجي الذي هو اتصالهم بالفلسفة اليونانية. فقد أرادوا أن ينتصروا إلى كائنهم الشخصي، الذي توارى خلف الكائن النصي بعد مجيء الإسلام وهيمنة نسقه الخاص. فاستندوا إلى النسق الإسطوري الذي كان قبل الإسلام، وعملوا على استدعائه بثوب إسلامي دون أن يسموه أو ينظّروا إليه. وقد كان هذا الاستدعاء منهم لأن النسق الأسطوري نسق يقوم بالشخص لا بالنص. وحاولوا أن يجعلوا منه معتقداً يحكم حتى كينونتهم غير الواعية. وقد انجرفوا وراء ذلك، معزِّزين بهذا كأنهم الشخصي في المدى الأسطوري على حساب الكائن النصي في المدى القرآني.
2- محمود شاكر: موقف من التحدي والإعجاز
التحدي والإعجاز علامتان، إلى جانب أخرى، تشهدان على عودة النسق الأسطوري وتدلان عليه.
وتعزيزاً لما نحن فيه، سنقف -بدءاً مع محمود شاكر (رحمه الله) على هاتين العلامتين، لأن له فيهما رأياً يصح في العلم أن يكون بياناً وهدى. ثم سنذهب بعد ذلك بحثاً عن علاقة هاتين العلامتين بالأسطورة وعودتها:
– أما عن العلامة الأولى، فيقول:
«إن لفظ (الإعجاز) في قولنا (إعجاز القرآن) ولفظ (المعجزة) في قولنا (معجزات الأنبياء)، كلاهما لفظ محدث مولَّد. وبيقين قاطع لا نجدهما في كتاب الله، ولا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أجدهما في كلام أحد من الصحابة، ولا في شيء من كلام التابعين ومَنْ بَعْدَهم، إلى أن انقضى القرن الأول من الهجرة، والقرن الثاني أيضاً، ثم نجدهما فجأة يظهران على خفاء في بعض ما وصلنا من كلام أهل القرن الثالث، ثم يستفيضان استفاضة ظاهرة غامرة في القرن الرابع وما بعده إلي يومنا هذا. فكلاهما إذن مُحْدَث مُولَّد»(1).
– وأما عن العلامة الثانية، فيقول:
ثمة «لفظ آخر مقترن اقتراناً لا فكاك منه بلفظ (الإعجاز)، وهو لفظ (التحدي) في قولهم: إن النبيَّ يتحدى أهل زمانه بما يظهر على يديه من (المعجزات). وهذا اللفظ محدث مولَّد، ليس في كتاب الله ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نجده في كلام أحد من الصحابة أو التابعين ومَنْ بَعْدَهم، إلى أن يظهر بعض الظهور في كلام أهل القرن الثالث، ثم يستفيض هو أيضاً استفاضة غامرة في القرن الرابع وما بعده إلى يومنا هذا»(2).
وبعد أن وقف محمود محمد شاكر -رحمه الله- على هاتين العلامتين، ولَّى وجهه شطر البحث في التاريخ الدقيق لظهورهما، وذلك على طريقة المنهج التاريخي في البحث اللغوي. ومن ثم، فقد سار وراءهما بمنظور تعاقبي (دياكروني).
وهذا الوجه، على أهميته، لا يرضينا ولا يكفينا. فنحن نتغيَّا الوقوف على ما هو كامن وراء هاتين العلامتين. وما هو كامن هو التحولات العميقة، ذات المغزى الأنتروبولوجي والثقافي والحضاري، التي اعترت البنية الشخصية لوجود المسلم، ولابستها ونفذت إليها وأثرت فيها تأثيراً عظيماً. غير أن التاريخ الذي وقف عليه، وهو القرن الثالث الهجري، هو قرن دال لبدء هذه التحولات. فما الذي حدث في هذا القرن؟ وما هي الدلالات التي استطاع محمود محمد شاكر أن يتبينها؟
سنعود مرة أخرى إلى محمود محمد شاكر إذن، لا لنسير على خطاه في تتبعه، ولكن لنقف معه على أمر نفسر به كيفية حدوث هذه التحولات، ونبين الفكرة المحفزة لهذه التحولات. ولذا، سنأخذ مما قال قولاً ننزله بوعينا نحن لا بوعيه هو، مع عميق وعيه وأصالته، فذلك يعيننا أكبر العون في الوصول إلى هذا المقصد الذي حددناه في التحولات ذات المغزى الأنتروبولوجي والثقافي والحضاري التي اعترت البنية الشخصية لوجود المسلم وأثرت فيها. إنه يقول:
«ولكن المتكلمين حين بلغوا هذا المبلغ، وهم في طريقهم إلى استخراج لفظ (إعجاز القرآن) للدلالة على صفة موجزة لهذا الموقف المركَّب، لم يلبثوا طويلاً حتى أخرجوه عن حيِّزه، لسبب ظاهر كلَّ الظهور. فهم أهل كلام وجدل وتشقيق، ويرون أنفسهم أصحاب فحص وتقص واستنباط وتعليل، فلا تقنعهم صفة الموقف، بل لا بد أن يطلبوا السبب الذي من أجله كان (التحدي) مُظهراً (عجز) العرب عن فعل طولبوا به فنظروا في القرآن نفسه يتطلبون فيه الوجوه التي يمكن أن تكون سبباً في إظهار (عجز) العرب بعد أن تحداهم بما تحداهم به. فلما ظفروا ببعض ما ظنوا أنهم أصابوه من هذه الوجوه، التمسوا له اسماً جامعاً، فكان أقرب شيء أن يسموه (إعجاز القرآن). فنقلوا اللفظ من حيِّزه الأول، وجعلوه صفة للقرآن نفسه، وهو كلام الله الذي أنزله ليكون (آيةً) لنبيه صلى الله عليه وسلم، لا صفة للموقف المركَّب من (التحدي) وظهور العجز»(3).
ولقد نود أن نقول إعادة لتأسيس الفهم الذي يبني أصله في قراءة ما قرأناه: كان الإعجاز «صفة للموقف المركَّب من (التحدي) وظهور العجز. ولما كان هذا هكذا، فقد كان أقرب شيء أن يسموه (إعجاز القرآن). وبهذا يكون اللفظ قد انتقل من الدلالة على الموقف إلى دلالة أخرى يكون فيها صفة للقرآن نفسه.
ثم تلت مباشرة هذه الخطوة خطوة أخرى، مغايرةً للهدف الذي كانت عليه في الخطوة الأولى فقد صار نزول القرآن علامة دالة ليس على إعجازه فقط، ولكن أيضاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد يعني هذا أننا أمام مشهد مركَّب من صور ثلاث، تعبِّر كل صورة منها عن مرتبة من مراتب التحول:
– الأولى، وكان فيها التحدي والإعجاز صفة للموقف.
– الثانية، وصار فيها التحدي والإعجاز صفة للقرآن.
– الثالثة، وانتهى فيها التحدي والإعجاز إلى كونه علامة على النبوة أو دليلاً من «دلائل النبوة»
وبهذا يكون التدرج قد تم انتقالًآ من الوقوف على الموقف إلى الوقوف على النص، ومن الوقوف على النص إلى الوقوف على الشخص ممثلاً في الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد نرى أن في هذه التحولات، وفي هذا التدرج من الانتقالات تكمن بداية الخروج من النسق نصاً والدخول في النسق شخصاًً فأسطورة.
ولكن، قبل الغوص في هذا الأمر، نريد أن نتابع محمود شاكر. فهو يعود بعد ذلك، فيطرح القضية مجدداً، ويطرح فيها ظنه وشكّه. إنه يقول:
«ما كاد المتكلمون، ومعهم القرآن، يدخلون معمعة النظر والاستدلال بهذا (التحدي) كما سمَّوْه، وبما توهموه ضامناً لتمام شرطهم في آيات الأنبياء وهو (العَجْزُ)، حتى وجدوا نظرهم لا يكاد يلتئم. فسُنَّة هؤلاء المتكلمين في النظر والفحص، كانت توجب عليهم أن ينظروا نظراً فاحصاً في حقيقة هذا (العجز) الذي جعلوه شرطاً في الآية، وهو (عجز الخليقة). وأنا لم أزل في ريبة من أمر هؤلاء المتكلمين، ومنذ خالطتُ كلامهم وأنا أشدُّ ارتياباً في الذين وضعوا هذا الشرط منهم. أَنظروا في حقيقة معنى (العجز) نظراً فاحصاً، فرأوا ما فيه من الغموض والإبهام والفساد، ثم حملهم الهوى أن يتكاتموا بينهم ذلك المغمزَ الخفيَّ في حقيقته – أم هم كانوا أسلمَ حالاً وطوية، إذ غمرهم الجدل بهذا الشرط المُبْهَم الغامض، فأغفلتهم نشوة الظفر به عن ضروراتهم في الفحص والنظر، وعن غموضه وإبهامه وفساده، فتجاوزوه ومرُّوا عليه مرور المطمئن الذي لا يرتاب في صحته وسلامته؟»(4).
ولقد قاده هذا النظر المبني على الشك والظن والريبة لكي يقرر بخصوص هذه القضية ما يأتي:
«وإذن، فالأمر ليس (عجزاً) من الخلائق عن فعل طولبوا بمثله فعجزوا، أو يتوهمون توهماً أنهم لو أرادوه لعجزوا عنه – بل هو (إبلاس) محض من جميع الخلائق، ودَهَشٌ وسكون ووجوم وإطراق أحدثته مباغتة (الآية) عند المعاينة، ثم تسليم قاطع تستيقنه النفوس، بأنها فعل ممتنع أصلاً على هذا النبي وعلى جميعهم، بلا ريب يخامرهم في ذلك. وإذن فالشرط الذي وضعه المتكلمون، وهو (مدار الآية على عجز الخليقة)، شرط فاسد المعنى، غيرُ دال على حقيقة الآية – والشرط الصحيح هو أن نقول: (مدار الآية على إبلاس الخليقة)، ليس غير»(5).
ولما قامت هذه الفكرة لدى محمود شاكر، ونضجت واشتد عودها، وأصبحت مدار رؤيته معقولاً وإدراكاً، فقد ذهب إلى المقارنة مفاضلاً بين (العجز)و(الإبلاس). وقد جاء عنده مما قال في تعريفهما:
«العجز ضعف يدركه المرء من نفسه عن بذل جهد ومعالجة، والإبلاس إحساس غامر بالحيرة والدهش والانقطاع، تمنع المرء عن كل جهد ومعالجة. فهذا فرق ما بين (العجز) و(الإبلاس).»(6)
وتنتهي المقارنة والمفاضلة به، وهو واقف في فناء الآية القرآنية: (أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). يونس:/38/، إلى اتخاذ «الإبلاس» سبيلاً في النظر إليها، وفي فهمها ومعاينتها. ولقد قال:
«وإذن، فإن (الإبلاس) هو أصدق اللفظين دلالة على ما يأخذ المشاهد عند معاينة (الآية)، بغتة، وهو أحق اللفظين بأن يكون عليه مدار (الآية)، وهو أحرى اللفظين بأن يدخل في شرط (الآية) فيقال: (مدار الآية على إبلاس الخليقة) – وباطل أن يقال: (مدار الآية على عجز الخليقة)»(7).
ومع أن هذا الذي قر واستقر عند محمود محمد شاكر -رحمه الله- عظيم وكبير، إلا أنه يبقى وجهة أخرى غير ما نسعى إليه وما كشفنا عن مدارجه ومسالكه. فاتخاذ معنى (العجز) دليلاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، هو ما يعنينا، لا لأننا نريد أن ننفي الدليل الذي قام فيه برهاناً على نبوته، فهو نبي، ولكن لأننا نرى فيه، كما قلنا سابقاً، (بداية الخروج من النسق نصاً والدخول في النسق شخصاً فأسطورة)، وذلك من باب جديد هذه المرة هو باب النبوة.
ولقد يعني هذا من منظورنا، على نحو أدق، أن الثقافة العربية، وعلى رأسها ثقافة الاعتزال أولاً، ثم ثقافة الأشاعرة ثانياً، ثم ثقافة البقية الباقية من الفرق التي لم تبدع إبداعهم ولكنها حاكتهم وقلدتهم ثالثاً، قد اتخذت من الرسول صلى الله عليه وسلم جسراً يمكن العبور من خلاله إلى نسق الشخص والأسطورة، بعد أن كان الإسلام الأول، إسلام القرن الأول والقرن الثاني الهجريين، قد أحدث قطيعة معها، ونقل المجتمع من مجتمع الشخص إلى مجتمع النص، وفك عرى أسطورة الشخص عروة عروة وبددها وأفقدها وجودها.
3- عودة النسق الأسطوري
لقد دك الإسلام حصون الأسطورة، فبدد أنساقها ومحا تجلياتها. وهذا هو القصد من إنشاء معنى التوحيد فيه. وهو لم يكن، في هذا، بدعاً بين الأديان. فقد جاءت هذه مثلة لتنجز ما أنجز، كما جاءت كلها لتحرير الإنسان من أهواء ذاته، ومن تسلط الأساطير التي يحكمها هوى ذاته على ذاته. ولذا، فقد أمكن للإنسان، بوساطة الإسلام، أن يكون كائناً مختاراً، كما أمكنه أن يكون كائناً حراً باختياراته.
وإذا كان هدف الإسلام هو تحرير الإنسان ليكون مختاراً وحراً باختياراته، وهذا هو هدف كل الأديان التوحيدية أيضاً، فإن الوجه النقيض والمقابل للإسلام، هو الأسطورة أو النسق الأسطوري. فالأسطورة في حقيقة الأمر وجوهره العميق، تقوم على إلغاء الاختيار، وإلغاء الحرية التي يكون الإنسان بها كائناً مختاراً. ألا وإن للأنساق الأسطورية مكرها، ومن مكرها هو تعالقها بالمقدس لكي توهم الإنسان بأنه إذا امتلكها عن طريق الولوج فيها، فقد امتلك المقدس وقوة المقدس. وهكذا قد كان، وهذا ما ترويه قصة الإنسان وحكايته الأنتروبولوجية عن انتقاله وتردده بين الدين والتوحيد من جهة، وبين الأسطورة والمقدس من جهة أخرى.
يرى ميشال ميسلان أن الأسطورة مطية للمقدس، ويرى أيضاً أن «الارتباط الوظيفي بين الأساطير والطقوس هو وسيلة الإنسان للاقتراب من المقدس وللولوج باتجاه امتلاك قوته»(8).
وكذلك، يجب أن يُعرف أن الفعل الأسطوري ليس على الدوام فعلاً مفكَّراً فيه، أو يحتل مساحات بارزة تسكن في وعينا. ولذا، فقد كان ليفي ستروس لا يبحث عن «كيف يفكر البشر في الأساطير إذ يفكرون، ولكن كيف تكون الأساطير مفكَّرة فيهم من دون علمهم»(9).
ولمعرفة هذا الكيف، نجدنا مدفوعين إلى طرح السؤال السببي، مستعملين العبارة نفسها التي استعملها كلود ليفي ستروس: لماذا تكون الأساطير مفكَّرة في البشر دون علمهم؟ ويستتبع هذا السؤال سؤالان لأنهما من لوازمه. أما الأول، فهو: كيف كانت الإسطورة مفكَّرة في الإطار الإسلامي؟ وأما الثاني، فهو: مَن هم هؤلاء البشر -طبقتهم ومهنهم ومكانتهم الاجتماعية- الذين كانت الأسطورة مفكَّرة فيهم في الإطار الإسلامي؟
يمكن تقديم إجابات بدئية وأولية في الموضوع. وهي إجابات نستلها من أطروحة «هاينس هالم» لوجاهتها. فهو يرى أن الغلوَّ هو السبب، وأنه يشكل، وهذا في غاية الأهمية، «ديانة خلاص ذات نموذج أسطوري». ولذا، فهو يرى الغلوَّ بوصفه «ديانة قائمة بذاتها»، وأنها قد «نشأت ضمن إطار الإسلام، ولكنها سرعان ما خرجت من نطاقه»(10). وأما عن هذه الديانة والبشر الذين يؤمنون بها، فإنه يقول: إنها «ديانة الناس البسطاء، الحدادين، والحاكة، وتجار الحبوب، وباعة التبن من أهل الكوفة، والبقالين، والصيارفة من أهل كناسة، والفلاحين، ومربي النحل في الجبال»(11). وإنه ليرى أن سبب ارتباط هؤلاء بهذه الديانة التي خرجت من نطاق الإسلام، فلأنهم بها «يعوضون ما يُعوِزُهم من المهارة الفقهية والصقل الأدبي بفنطازيتهم التي لا تفنى وميلهم المستحب إلى الخرافات التي سوف تواجهنا في القصص والأقاصيص ذات السمات الخرافية، حول عليٍّ المؤلَّه والأئمة المقدسين وأعدائهم السيئين».(12) «إنها ديانة المنبوذين والمعوزين الذين لم يشاركوا في الحكم السياسي مطلقاً، ديانة من بخرت الثورة العباسية أحلامهم بانقلاب قريب وبسيادة العالم، ليغدوا بعد ذلك منشغلين في نهاية العالم، بنزول المهدي المنقذ أو القائم، إن ذلك الشعب الذي سنتناوله مسالم، وحتى أن لخيالات الانتقام المتعطشة لسفك الدماء التي تبالغ أحياناً في الحكي عن أعداء علي، وقع هزلي أكثر مما هو تهديدي»(13).
ثم إنه، نقلاً عن القمي، يضرب لنا مثلاً بإحدى الفرق الغالية. ولعلنا سنلاحظ، في مثله وفي النص الذي سنقرأ، مقدار التحول الهائل من الأنا النصي إلى الأنا الشخصي، كما سنلاحظ أثر هذا التحول في الخروج من التجريد والتوحيد إلى الشخصنة والتجسيد. وكذلك سنلاحظ، ثالثاً وأخيراً، أن النسق الأسطوري، الذي من خصائصه التضخيم، كيف يسهم في تشكيل الشخصيات الرمزية وتضخيمها وتحويلها مفهوماً، وكينونة، ووظيفة، وإخراجها عن بشريتها، وجعلها آلهة، أو جعل الإله منحلاً فيها ومتمظهراً من خلالها. إنه يقول: «والمخمسة هم أصحاب أبي الخطاب، وإنما سموا المخمسة لأنهم زعموا أن الله جل وعز هو محمد، وأنه ظهر في خمسة أشباح وخمس صور مختلفة. ظهر في صورة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وزعموا أن أربعة من هذه الخمسة تلتبس لا حقيقة لها، والمعنى شخص محمد وصورته، لأنه أول شخص ظهر وأول ناطق نطق، لم يزل بين خلقه موجوداً بذاته يتكون في أي صورة شاء. يظهر نفسه لخلقه في صور شتى من صورة الذكران والإناث والشيوخ والشبان والكهول والأطفال. ويظهر مرة والداً، ومرة ولداً، وما هو بوالد ولا بمولود (قرآن 3:112)، ويظهر في الزوج والزوجة. وإنما أظهر نفسه بالإنسانية والبشرانية لكي يكون لخلقه به أنس ولا يستوحشوا ربهم»(14).
ويقول أيضاً، نقلاً عن القمي كذلك:
«وزعموا أن محمداً كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، لم يزل ظاهراً في العرب والعجم. وكما أنه في العرب ظهر كذلك، هو في العجم ظاهر في صورة غير صورته في العرب، في صورة الأكاسرة والملوك الذين ملكوا الدنيا، وإنما معناهم محمد لا غيره – تعالى الله علواً كبيراً. وأنه كان يظهر نفسه لخلقه في كل الأدوار والدهور، وأنه تراءى لهم بالنورانية فدعاهم إلى الإقرار بوحدانيته، فأنكروه، فتراءى لهم من باب النبوة والرسالة فأنكروه، فتراءى لهم من باب الإمامة (أي بصورة الأئمة) فقبلوه. فظاهر الله عز وجل عندهم الإمامة، وباطنه الذي معناه محمد يدركه من كان في صفوته بالنورانية ومن لم يكن من صفوته بدرجة بالبشرانية اللحمية الدموية. وهو الإمام وإنما هو بغير جسم. وبتبديل اسم فيصيروا كل الأنبياء والرسل والأكاسرة والملوك من لدن آدم إلى ظهور محمد صلى الله عليه وسلم مقامهم مقام محمد. وهو الرب، وكذلك الأئمة من بعده مقامهم مقام محمد صلى الله عليه وسلم.. وكذلك فاطمة، زعموا أنها هي محمد وهي الرب، وجعلوا لها سورة التوحيد (قل هو الله أحد) (السورة 112)، إنها واحدة مهدية (لم يلد) الحسن (ولم يولد) الحسين (ولم يكن له كفواً أحد). كذلك نزلهم في خديجة أم سلمة من بين أزواجه، إنه كان يظهر في صورة والزوج الزوجة، كما ظهر في الوالد والولد»(15).
ونريد أن نقف على ملاحظتين قبل أن نذهب إلى أبعد من هذا في تمثيلات الشخص داخل الإطار الإسلامي:
– الأولى، وهي أن الجهاز المفاهيمي، الذي ابتدعه المعتزلة بداية، في القرن الثاني الهجري أو بعده كما بينّا سابقاً، والمكون من مفهومي التحدي والإعجاز من جهة، ومفهومي البلاغة والمجاز من جهة الأخرى، وذلك للنظر في القرآن والتعامل معه، قد كان يحمل (وهو يحمل دائماً) محفزات الانحراف في جذوره وأصوله وفروعه. ألا وإنه لبسبب هذا، قد انفتح الباب واسعاً أمام تحولات خطيرة، انتهت به بالخروج من النص إلى الشخص، ومن الشخص إلى كونه إلهاً. ولعل مما يؤكد هذا، مع أنه قد رأيناه مؤكداً في الأعلى، هو ما جاء في الترنيمة الثالثة لقداس الإشارة عند إحدى الفرق الإسلامية:
كلمــــا نابني مــن الدهــــر خطــــبٌ
صحـــــت يا جعــــفرَ إلــه الأنـــــــــامِ
أنـت ربي، وخـــــــالــقي، ومليـــــك
وأنت ذو الكـــبريــــــاء وليّ النعـــــام
وأنت فوق السما على العرش تعـــلو
وأنت في الأرض حاضر على الكلام
وأنت أسمـــاؤك الحسـنى ومـــوســى
وعلـــــياً، وأنـت محــــيي العـظـــــــام
– الثانية، وهي أن مفاهيم التحدي والإعجاز، والبلاغة والمجاز، قد فتحت الأرحام واسعة أمام تكون الشخص المعجز، أو المعجزة، وميلاده. فصار لدينا بشر ليسوا كالبشر في ولادتهم، وفي قدراتهم، وفي علمهم ومعرفتهم، وفي أشياء أخرى كثيرة يتفوقون بها على جميع البشر.
ومما يجب أن يُعلم، وذلك قبل أن نلج إلى فقرة أخرى، هو أن النسق الأسطوري، سواء في ملاحظتنا الأولى أم في ملاحظتنا الثانية، كان محركاً ومولداً نستطيع أن نقف به على وجه آخر، بوصفه ناتجاً له، من وجوه تمثيلات الشخص المعجز، والذي ليس إلهاً كما رأينا، ولكنه لا يقل رتبة عن رتبة الإله المصنوع والمخترع في تحديه وإعجازه، وفي بلاغته ومجازه.
4- النسق الأسطوري ومعيارية الإعجاز
الأساطير التي نروم الحديث عنها هي قصص ومرويات ابتدعها المخيال الشعبي عن شخصيات رمزية، حقيقية وواقعية، ثم أعاد هذا المخيال ابتداعها وصوغها من جديد لتحل محل الشخصيات الحقيقية والواقعية.
ولكن لما لم تكن كل الأساطير في الإطار الإسلامي سواء، فقد رأينا أن نجعل لأنفسنا معياراً نفرق به بينها ونميز. والسبب الدافع لهذا الأمر، هو أن التحول الذي مس عميقاً كينونة الكائن في الثقافة الإسلامية، وأدى إلى انتقاله من كائن النص إلى كائن الشخص، لم يكن درجة واحدة وإنما درجات. ولقد رأينا، في الفقرة السابقة، أن هذا التحول قد بلغ بالشخص درجة التأليه، وهي أعلى درجة من درجات التحول. وإذا كنا لا نريد أن نعود إلى هذه الدرجة هنا، مكتفين بما قلناه عنها، فلأننا نريد أن نقف على الدرجة الأقل منها مرتبة، أي أن نقف على الشخص المعجز، للتعرف كيف يكون مُفكَّراً به إذ يكون كذلك، وكيف يجب أن يكون لكي يكون كذلك ويحوز على هذه الدرجة.
وإنجازاً لهذا الأمر وبياناً، نضع إذن معياراً نميز به بين نوعين من أنواع الأساطير، ونقول فيه:
1- إذا كانت الأساطير مكوِّنة للعقيدة ومؤسِّسة لها، فإن نفيها هو نفي للعقيدة نفسها. وهذا أمر يوجب التكفير ويدل عليه عند أصحاب هذا التوجه. وقد ذهب الكليني هذا المذهب، فروى سلسلة من الأقوال، أرجعها لآل البيت ونسبها إليهم، رضوان الله عليهم. وهي أقوال تكفر من لا يتخذهم أئمة، كما تكفر من يتبع غيرهم. ولقد يعني هذا، وبحسب هذا الفكر الأسطوري، أنهم جزء من العقيدة والإيمان، فمن أنكرهم أنكر العقيدة وخرج من الإيمان. وسنتلوا بعض هذه الأقوال المنسوبة إليهم:
– عن جابر قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً.
l – وفي قول نسبه إلى أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: «ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً.» وهو يقصد بالثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
– وفي قول نسبه إلى أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله».، ويقول أيضاً في نفس الحديث «:من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل، ظاهر عادل، أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق»(16).
ولقد نلاحظ في هذه الأقوال شيئين:
– نلاحظ أولاً، غياب الرسول وحلول الإمام محله. وكأن الشهادة في الإسلام هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن الإمام هدى الله. وهذا إعلاء أسطوري لقيمة الشخص، وتغييب مقصود لقيمة النص.
– ونلاحظ ثانياً:، أن هذه درجة تُظهر كيف تكون الأساطير مُفكَّرةً لدى من يحملونها ويفكرون بها، تبعاً لرأي كلود ليفي ستروس الذي ذكرناه سابقاً، كما تُظهر أيضاً أن الشخص في إعجازه هو معيار صحة العقيدة والدليل عليها. وهذا هو كمال الأسطورة وتمامها من منظورنا ورأينا.
2- إذا لم تكن الأساطير مكوِّنة للعقيدة ومؤسِّسة لها، فهي في هذه الحال قصص عجائبي ومرويات غرائبية. وإن نفيها وعدم التصديق بها، لا يعد في هذه الحال نفياً للعقيدة، وهو إذن لا يوجب التكفير. وكذلك، فإن عدم نفيها وعدم التصديق بها لا يوجب الإيمان ولا يستلزمه.
ونُلاحظ أن هذه درجة تُظهر أيضاً كيف تكون الأساطير مفكرةً لدى من يحملونها، كما تظهر أن الشخص في إعجازه ليس معياراً لصحة العقيدة، كما هو في الأولى، ولكنه قيمة لتعزيزها، وشاهد على صحتها. وهذا نقص في كمال الأسطورة وتمامها.
ولقد نرى، بناء على ذلك، أن ثمة فرقاً بين نوعي الأسطورة وأثرها على عقائد من يفكرون من خلالها. ولما كان الأمر كذلك، فسنهمل النموذج الثاني، وهو نموذج أهل السنة عموماً، وذلك لثلاثة أسباب:
– أولاً، لأنه غير منتج أسطورياً، بمعنى أنه يقف عند حدود القصة، ولا يتعداها إلى نظام فكري وإيديولوجي، أي لا يجعل منها نسقاً حاكماً يهيمن على كل الإنتاج الفكري والتصوري والمتخيل للخاضعين له، وسيقابل من لدن التيار الأصولي بوصفه خرافة وخروجاً عن الدين.
– ثانياً، لأن وجوده عند من يقولون به ليس عقيدة بها يؤمنون، وعليها يُبعثون ويحاسبون ويُسألون، بمعنى أنه لا يشكل عقيدة للآخرة، أو عقيدة للخلاص الأخروي.
– ثالثاً، ولأن إهماله لا يترتب عليه نقص في العقيدة يستوجب التكفير، بمعنى أن من لا يؤمن عندهم بأن لعمر بن الخطاب مثلاً أو لعلي بن أبي طالب أو لغيرهما معجزات، فهو يكفرها ولا يرضى بها ولا يؤمن، فإن موقفه هذا لا يضعه خارج الإيمان وخارج الأمة المؤمنة.
وإذا كان هذا هو معيار الفرز بين نوعي الأساطير، فإن السؤال الذي يُطرح عادة بهذا الخصوص: متى يكون القصص مكوناً للعقيدة ومؤسساً لها، ومتى لا يكون، قد أجيب عليه على نحو من الأنحاء، وإن كنا سنعود إليه إشارة في دراسة قادمة.
وفي خاتمة هذه الدراسة نقول: لقد تبين لنا أن «النسق الأسطوري نسق بالشخص يقوم، لا بالنص». ورأينا أن هذا النسق كان هو المحرك الأبرز لنوازع المعتزلة، أولاً، ولمن حاكاهم ثانياً، وخصوصاً بعض الفرق الإسلامية التي انتصرت به لكائن الشخص على حساب كائن النص وإلغائه.
وبالفعل، فقد فتحت هذه المحاكاة الباب واسعاً أمام الشخص ليعيد قدسيته، وهيمنته، وحاكميته، حتى لقد أزاح الله وحل محله، عند بعضهم، أو حل فيه واتحد معه، عند بعضهم الآخر، أو تقاسم معه الأدوار، عند فريق ثالث. وثمة تجليات أكثر من هذه أيضاً، ومختلفة عن هذه لدى فرق إسلامية أخرى.
صحيح أن التوحيد ما زال قائماً، وهو اليوم دين الغالبية العظمى من المسلمين وعقيدتهم. ولكن إلى جانب هذا، فقد قامت الفرق المختلفة، تشخصن، وتجعل الإسلام دين أسطورة، يتبارى فيه الأشخاص أيهم أشد إعجازاً وأصلب تحدياً، حتى لقد صار الإسلام عندهم ديناً لأشخاص المعجزين لا ديناً لله رب العالمين.
المراجع
-1محمود محمد شاكر: مداخل إعجاز القرآن. دار المدني. جدة.
2002م. 1423هـ. ص/19-20/.
-2المرجع السابق. ص/20/.
-3المرجع السابق. ص/31/32.
-4المرجع السابق. ص/42-43/.
-5المرجع السابق. ص/45/.
-6المرجع السابق. ص/46/.
-7المرجع السابق. ص/46-47/.
-8ميشال ميسلان: علم الأديان. تر: عز الدين عناية.
9- Claude Levi-Strauss: Mythologique: Le cru et le cuit. Ed,:lon. Paris, 1964. P200.
-10هاينس هالم: الغنوصية في الإسلام. منشورات الجمل. متر: رائد الباش. مراجعة: د. سالمة الصالح./2003/. 18-19/.
-11المرجع السابق. ص/19/.
-12المرجع السابق. ص/19/.
-13المرجع السابق. ص/19/.
-14المرجع السابق. ص/153/.
-15المرجع السابق. ص/153-154/.
-16محمد بن يعقوب الكليني: أصول الكافي. دار المرتضى. بيروت /2005/م. ص/128-131/.
منذر عياشي
باحث وأكاديمي من سورية