محمد موهوب
يقول رولان بارت: ’’إن الأصعب والضروري، ونحن نحاول التأسيس لفكرة عن التاريخ، هو التأسيس للتاريخ على التاريخ، والاحتراز من أن تتسرَّب لهذا التأسيس أشكال من الغواية، من التبريرات وما قد يبدو من إسعافات الطبيعة‘‘.
(بارت، كتابات عن المسرح)
اليوتوبيا علاقةٌ بالزمن، ارتماءٌ في المستقبل، هروبٌ خارج الحاضر، الحاضر القائم، الحاضر المختلف فيه والمحدد كأيديولوجيا تُجووِزَت أو مطلوبٌ أن تُتجاوز. هي مكان، أو حتى لا-مكان، إذا شئنا رجع صدى لفظها اليوناني يو- توبيا، لا-مكان في التاريخ، في مجرى الزمن، الزمن المنساب. ومع أنها مفعمة بالأمل في أن الأيام القادمة هي بالضرورة أحسن من الأيام الخوالي، إلا أن اليوتوبيا تنبسط، مع ذلك، في نفس الوقت، منتصرة للزمن الماضي، منازعة الحاضر، هذا الحاضر أو ذاك، مشروعيته. باختصار يتحدد شكل وجود اليوتوبيا، دوما، كتأرجحٍ، جيئة وذهابا، بين ماضٍ هو بالنسبة لها مدعاة للفخر، وحاضر مفتقر للمشروعية.
في هذا الأفق سأقاربُ ما سمّاه مؤرّخو الإسلام تارة “دستور المدينة” وتارة “وثيقة المدينة”. يتعلق الأمر بصحيفة/ وثيقة، كما عرفت في المصادر الإسلامية (ابن هشام، 2019)، أرست قواعد تصور غريب لوجود جماعي، يتشكل من مسلمين، من يهود ونصارى، يكون فيه كل واحد، بما هو يهودي، نصراني أو مسلم، كطرف وعضو من هذا المسمى مجتمعا إسلاميا. منذئذ، وطيلة الخمسة عشر قرنا من تاريخ الإسلام، كل التمثلات، التأويلات، الترجمات، كل نوع من أنواع إضفاء الشرعية أو سحبها، تم انطلاقا من هذا المكان/ المنطلق، الذي لكثرة ما لِيكَ واستُعمل، ليقول الشيء وعكسه، صار مكانا خياليا، صار لا-مكانا على الحقيقة. الكلُّ يمتح، يحدد مشروعيته، يمنح نفسه مكانا/ توبوس داخل هذا اللامكان، داخل هذا المكان الصوري، الفارغ، المثالي، داخل هذه اليوتوبيا. ينضاف إلى هذا قصر عمر هذا المجتمع النموذجي/ اليوتوبي الذي انبثق عن هذه الوثيقة: أقل من ست سنوات، من هجرة محمد إلى المدينة سنة 622 وحتى طرد آخر يهودي سنة 627 من التاريخ الميلادي، ليقوي غرابة هذه الوثيقة/ الحدث. من هنا تأتي إثارتها لاهتمامنا للوقوف والإيقاف من خلالها على جدلية اليوتوبيا والتاريخ، اليوتوبيا كمُنتجة للتاريخ، مُصنعة له، للتاريخ الإسلامي في سياق موضوعنا في هذه المقالة.
يكاد المهتمون بالشأن الإسلامي يتفقون عموما، على أن الإسلام الأول، إسلام النبي وصحابته، يتشكل من مرحلتين كبيرتين2. ولقد حمل القرآن، الكتاب المؤسس لجماعة الإسلام، علامات هاتين المرحلتين في طبيعة/ موضوعات السور الـ 114 التي تكونه. فنزوله أولا بمكة يشهد على كل أشكال العداوات التي تعرض لها هذا الإسلام الناشئ: كل أشكال العسف، التضييق، والضغوطات، كل أشكال العداوات، التي طالت الدين الجديد والمتدينين الجدد، خاصة من طرف سادة قبيلة النبي محمد، صاحب الدعوة: سادة قريش3.
الهجرة طبعت المرحلة الثانية من الإسلام. إنها مرحلة الهروب من الوضعية الخانقة، اقتفاء أثر الرحيل/ المنفى والانفصال عن مسقط الرأس، عن مكة. وهو ما كان بمثابة بتر عضو يطول جسم المهاجر. هذا الفعل/ الحدث، الفعل/ الجلل، تكمن خطورته، “ففروا إلى الله” كما عبر القرآن نفسه، بالتلازم الذي أقامه بين النجاة بالنفس/ إنقاذ النفس وإنقاذ اختيار شكل الحياة/ الموت. وبذلك أسس لتصور جديد عن الحياة، عن الموت، عن جدلية الحياة والموت. تصور نتج عنه قيام مبدأ الانتماء للفكرة، الانتماء لفكرة الحرية، بدل جبرية الأرض، الدم أو علاقة القرابة. فقبل حدث الإسلام، وللتذكير، كان العربي، يُعرف أساسا بقبيلته.
على العكس من هذا تحددت الهجرة المؤسسة للإسلام الأول أساسا كقطع مع الانتماء القبلي المؤسس على علاقات الدم تلك. وهو ما يؤكده القول المأثور في هذا الباب: ’’لا يدخل الجنة من لم يهاجر‘‘. إلا أنه وخلافا لما يعتقده بادئ الرأي، فالهجرة لا تتم فقط في اتجاه مكان معين: المدينة. لو كان الأمر على هذا الشكل لتم تقديس المدينة. وهو ما يخالف روح الإسلام مطلقا. لم تكن الهجرة قط أحادية الاتجاه. فالمدينيون، أهل المدينة، مطالبون، على غرار بقية المسلمين، بأن يغادروا/ يهجروا/ يهاجروا مدينتهم، تجاه مكان آخر، مكان جديد، تجاه المدينة الرمزية الجديدة التي تتهيأ لتأسيس المدينة على الحقيقة، المدينة حصرا، أم القرى وأم المدن ومصدرها، مصدر شرعيتها.
يقول النسائي المتوفى سنة 275 للهجرة، وواحد من أصحاب الكتب الستة المشكلة للسنة النبوية في الإسلام الأغلبي، الإسلام السني، يقول إن يثرب، قبل الهجرة كانت “دار شرك” (رضوان السيد، 2011، 69). ومن ثم كان حقا وجب على المسلمين، من بينهم مسلمو المدينة، أن يولدوا ولادة ثانية مع حدث الهجرة. كلهم مطالبون بأن يتخلصوا من إرثهم قبل الإسلام. أن يتخلصوا من إرثهم معناه القطع مع نزوعات هذا الإرث أو ذاك في دعاوى التفاضل بين هذا الإرث أو ذاك، وبالتالي تجنيب الدين الناشئ لكل مبررات صراع التمثلات التي قد تأتي على الدين الجنيني. عدم تقديس المكان في الإسلام، جنس المكان، نابع من تساوي بقاع الأرض في الحرمة. فالمعابد في الإسلام بدعة، أغوت عمر، ثاني خلفاء الإسلام، أو كادت تفعل، بهدم الكعبة، مكان حج المسلمين وقبلتهم الأولى. وهو ما يزكيه الحديث النبوي الذي يقول: ’’وجعلت لي الأرض طهورا‘‘. فكل الأرض مقدس، ولا يُجتزأ مكان حكرا/ حصرا على المقدس، وعلى العبادة، بل تقوم العبادات فوق كل أبعاض الأرض لخلوها مطلقا من الدنس (وهو ما يذكرنا بالتقليد اليوناني: هرقليطس). لا غرو أن كل الحركات الإصلاحية في تاريخ الإسلام، قد ناوشت بطريقة أو بأخرى، هذه البدعة. فالوهابية، الأيديولوجية التي قامت عليها الدولة السعودية في أواسط القرن الثامن عشر، شكلت نموذجا مشهورا وصراعها مع الأولياء والأضرحة أشهر من أن يذكر.
ليس اعتباطا إذًا أن تسمى الوجهة الجديدة للدين الجديد، يثرب سابقا، الواقعة على بعد 320 كلم شمال مكة، اسما جديدا وأن تصبح، حصرا، المدينة، المدينة المنورة. والمقصود، المدينة التي تزود بالمعنى، العيش الجماعي، تزود ساكنيها ومرتاديها بمعنى العيش الجماعي. وهو بالمناسبة ما بقي مميزا للمدن العريقة في الإسلام حتى الأمس القريب التي ظلت مدرسة لتعلُّمِ مجموعٍ من السلوكيات التي يؤسسها الانتماء الجديد والتي تتميز بالمدنية، بالحضارة، وهما معا مشتقان من الاسم العربي: مدينة. وقد صارت هكذا مرادفا لسلوك مميز، راق ولطيف، بل وإنساني، تقوم المدينة-الدولة، المدينة، مهد الدولة الناشئة، تقوم جذريا ضد القبيلة وعلى أنقاض شكل الوجود القبلي، التاريخ الذي يقيم معه الدين الجديد قطيعة تامة، واصفًا إياه بالجاهلية: عصارة الجهل، الظلم، البغي وانعدام الإنسانية. ليس اعتباطا إذًا أيضا أن تاريخ الإسلام، التاريخ لمقدمه، يبدأ بالهجرة، يأخذها علامة عليه وينبسط كمعيار، كخاصية (شكل وطريقة في التأسيس لتجمع بشري، لربط السماء بالأرض، لربط العلوي بالدنيوي/ بالسفلي)، كإعلام بمقدم زمن الهجرة انتصارا للحرية، حرية الاعتقاد. إنه زمن آخر، علاقة أخرى بالزمن.
يشكل حدث الهجرة في تاريخ الإسلام حدثا هاما، حدثا جللا لدرجة أنه أفرز تاريخا، انبثقت عنه حضارة، إنسانية مميزة وأعلن قيام شكل وجود جماعي، ما زال حتى اليوم يجعل الكثيرين من ساكنة البسيطة يحملونه كحلم، وينتصرون له. شكل الوجود المجتمعي هذا، الذي عرفته المدينة/ يثرب، المدينة المضيافة، تجربة التعايش هذه كانت جد وجيزة وعابرة/ منفلتة، لحد صعوبة التصديق في وجودها، وجودها الفعلي، وأنها ليست وهما/ خيالا، أسطورة أو خرافة (يوتوبيا).
هكذا وخلافا لما اشتهر من قسوة الاغتراب، وتصور المنفى شرا، وشرا خالصا، فقد اتضحت أهميته في ما يتعلق بتجربة الإسلام، وبدا، على الأقل، أقل قسوة في حق المهاجرين من ذويهم. فصارت الهجرة، مكان الهجرة هذا مكانا أسطوريا: ففي المدينة سيتعايش الإسلام مع مضيفيه، الذين انتصروا له4، صاروا له نصارى، وهو ما يذكر بنصارى المسيح؛ في المدينة سيتزود الإسلام بماهيته، بهويته الأكثر طوباوية5. هذا ما سيمكننا من تحليل الوثيقة المشهورة عند المؤرخين بـ “دستور المدينة”، الوقوف/ والإيقاف عليه.
دستور المدينة
يقدم لنا ابن إسحاق (المتوفى سنة 152 للهجرة)، أقدم سلطة أوردت لنا نص هذه الوثيقة6، والذي لم يوقفنا عليها سوى شارحه ابن هشام (المتوفى سنة 218 للهجرة)، بالقول: ’’وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم‘‘. تشكل هذا الكتاب، حسب مونتغمري واط من 47 بندا، وحسب رضوان السيد من 53، وحسب المرحوم الجابري من 7 بنود (الجابري 1991: 94). نحتفظ منها لموضوعنا بالبنود التالية:
’’بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس (…) وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه (…) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه (…) وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم؛ وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم (…) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة؛ وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم (…) وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها؛ وإن بينهم النصر على من دهم يثرب (…) وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأن لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى‘‘. (ابن هشام 2019: 431-433)
إن قراءة هذه الوثيقة التي اقتطفنا منها بعض ما نصّت عليه مما يخدم موضوعنا، تطرح مجموعة تساؤلات: ما الشكل الذي كانت عليه المدينة في هذه الفترة؟ مما يتكون جسمها الاجتماعي؟ من هم الفاعلون داخلها، ما هي القوانين، العلاقات والأحلاف التي تشكل سدى جسمها الاجتماعي هذا؟ نقتصر، حتى لا يخرج مقالنا عن حجمه، على الأساس الذي يمكنه القاء الضوء على إشكالنا.
يتصدر الوثيقة وصف المدينة عشية استقبالها للمهاجرين، وصف القبائل والأفخاذ المشكلة لها: الأوس والخزرج، من أكبر القبائل، ثم الأفخاذ الثمانية المذكورة كل منها باسمه7: بنو عوف مع أحلافهم وواجباتهم، بنو ساعدة، بأحلافهم وواجباتهم… وفي هذا السياق يشير الألماني رودي باريت في كتابه “محمد والقرآن” خاصة إلى الحضور اليهودي بالمدينة قائلا: ’’(…) ولدينا شواهد على وجود جماعات يهودية صغيرة بالجزيرة منذ القرن الميلادي الأول (…) وتعود الشواهد على ذلك إلى النصف الأول من القرن السابع الميلادي، أي زمن النبي محمد، حيث تتحدث المصادر العربية المبكرة عنهم كما يتحدث القرآن عنهم (…) وفي يثرب (المدينة)، بالذات كان اليهود يشكلون نصف عدد السكان، قبل أن يطردهم النبي أو تتضاءل أعدادهم لسبب أو لآخر‘‘. (باريت، 2009: 15). عدا الخصائص المميزة للمجتمع المديني، والفاعلين الكبار الذين يشكلونه مما يهم موضوعنا، تبرز الصحيفة عنصرين مهمين بالنسبة لنا: تأسيس الأمة، من جهة، ومنزلة الرسول (الإمامة/ الخلافة)، من جهة أخرى. نذكر بأن هذه الأخيرة لم تلغَ إلا بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى (1918) وقبل نشأة تركيا الحديثة (1924). لنبدأ في هذا الصدد بما يقوله واط:
’’مع الهجرة، برز مفهوم الأمة كتجمع على أساس ديني. أكثر المشاكل استعجالا بالنسبة لهذا المجتمع هو إحلال السلم بين مختلف أحلاف المدينة. هذا الإشكال لم يكن إشكالا خاصا بالمدينة، ولكنه يهم الجزيرة العربية كلها. وبما أن محمدا أقام بنجاح ميثاق السلام بالمدينة بين القبائل المجاورة، فلقد كان من الطبيعي أن تتطلع قبائل أخرى لتستفيد من هذا النظام‘‘. (واط: 1959: 381)8
إلى أن يقول واط عند تقديمه للوثيقة: ’’لقد احتفظ ابن إسحاق بوثيقة قديمة عرفت باسم “دستور المدينة “. وعدا بعض الكلمات التي وردت في مقدمته، فهو لا يقول لنا شيئا عن الوثيقة، ولا بأي شكل حصل عليها، ولا متى ولا كيف دخل هذا الدستور حيز التطبيق‘‘. (م. س.: 479). ثم يخلص إلى القول: ’’عموما تم اعتبار هذه الوثيقة أصلية، رغم أنها لم تعر دوما ما تستحقه وثيقة من هذا القدر من الاهتمام. أسباب أصالتها قدمها بإيجاز فلهاوزن. لم يكن باستطاعة أي مُدَّع/ مُزور فيما بعد، سواء أكتب في العهد الأموي أو العهد العباسي، أن يضم غير المسلمين ضمن الأمة؛ لم يكن باستطاعته أن يمنح محمدا مكانة جد صغيرة/ صغيرة الأهمية. زيادة على أن أسلوب كتابة الوثيقة كلاسيكي، وبعض تعابيره مثل المؤمنين للتعبير عن المسلمين، المستعملة في كل بنود الوثيقة، كل هذا ينتمي للمرحلة الأولى من الفترة المدينية‘‘. (م. س.: 479)
ما أتى على الإشارة إليه واط كعلامة على أصالة الوثيقة، حتى وسط المجتمع العلمي اليوم، يقدم ويعضد في رأينا [السند] الأساس لطوبا الإسلام، عناصر طوباويته، طوباوية التجربة والتاريخ منذ مقدم الإسلام. العنصران اللذان أشار إليهما واط، يبرزان ما اعتبر وما لا يزال يعتبر من طرف المسلمين كعناصر طوباوية، كعلامة مميزة للمثالية الإسلامية/ للنموذج الإسلامي، الذي لم يتحقق قط خارج بدايات الإسلام هذه، والتي ما فتئت تنتصر لها كل الأطراف المختلفة كمميز لتجربة المدينة.
ما تم التحقق منه هنا، التأشير عليه من طرف سلطة العلم الاستشراقي، “فقهاء الغرب” على حد قول واط (م. س.: 449)، واحد من أعضاء هذا السلك، يثير الانتباه إلى المشترك لكل النحل الطوباوية في الإسلام. بطريقة أخرى، بطريقة مقتضبة، فالعنصران الاثنان المتحدث عنهما هما: أولا، غير المسلم جزء لا يتجزأ من الوحدة، الوحيدة والفريدة، المسماة أمة؛ ثانيا، المكانة شبه المنعدمة التي أقعدها مؤسس الأمة، واقتطعت للنبي وخليفة الله، وللذين سيتتالون بعده لشغل هذا المنصب الرمزي في يوتوبيا الإسلام. هو إذًا المنصب نفسه، الخلافة، الذي يكاد يقال في حقه، إنه شبه مكان، شبه منصب، منصب “تنفيذي”، على حد قول ماسينيون، وأن من يشغله لا يعدو أن يكون “مدبرا/ مديرا”.
عنصرا “دستور المدينة” هذان سيستمران/ سيتأبدان في تاريخ الإسلام. وهو ما سيذكرنا به ماسينيون في واحد من نصوص 1920. وهو يقدم ما يسميه “جردا للعناصر الملموسة لسياسة إسلامية موضوعية على الحقيقة ” (ماسينيون، 1925: 5)، يكتب: ’’إنها نتيجة لعهد الأخوة الذي أفرز الإسلام (يوم العقبة)، إنها الأساس الموضوعي/ الوضعي/ الملموس للأمة الإسلامية، كما أسسها في المدينة النبي محمد وحافظ عليها خليفته أبو بكر على الرغم من النزوعات الجهوية للأنصار (يوم السقيفة) […] هذا المفهوم الديمقراطي المؤسس على المساواة ببن الناس/ العادل عبر مفهوم المؤاخاة بين كل المسلمين، وبالخصوص عدم الحجر المبدئي على المسلم المتعلم في الالتزام بأرض/ وطن معين، جعل الجغرافية اللانهائية لتشريع العلماء مبدئيا وأساسيا؛ إنه لا ينبثق من نزعة بابوية خرافية، بابوية إسلامية، ولا تجليا لسلطان خيالي/ موهوم للروح‘‘. (م. س.: 4). قبل أن يضيف ماسينيون:
’’نصل الآن إلى الخصيصة الأخيرة والأكثر تعبيرية عن الإسلام، الاستقلالية التامة والبسيطة للخلافة. […] هذا هو المعنى العميق للخلافة بالنسبة للإسلام ماضيا وحاضرا. كما أن آدم أقيم خليفة لله على الأرض، كما أن الخلفاء الأربعة، الذين تولوا بعد محمد، فيجب ضرورة أن يكون هناك دائما خليفة في هذه الدنيا، دلالة حية على وجود الإسلام، جهاز تنفيذي يحكم بمقتضى القرآن، والذي يسترشد بنصيحة العلماء. […] فحتى بالنسبة لرعاياه المباشرين، لم يكن الخليفة السني أكثر من منفذ/ مدبر قابل للرفض، وصي مخول من طرف الجماعة/ الأمة. ليس له لا أخذ المبادرة في التشريع (التي تعود للقرآن) ولا السلطة القضائية (التي هي من صلاحيات العلماء). له فقط سلطة تنفيذية زمانية. […] وهذا كاف ليقوم بالمقابل كل مسلم صادق بالدعاء له علنا في المساجد‘‘. (م. س.: 12-13)9
إننا بتأكيدنا في نفس الوقت على كون اليهود جزءا من الأمة المسلمة، وليس وحدهم اليهود، ولكن هم بالخصوص، وعلى المنزلة الهامشية/ المنزلة الرمزية للخليفة والخلافة، يكون دستور المدينة قد خلط الأوراق على كل التصنيفات الجاهزة ذات الأصول الدينية/ اللاهوتية أو العنصرية، وأطلق العنان للانتصارات العديدة لليوتوبيات الإسلامية المتعددة. وهذا ما يسمح لنا بإعادة النظر عن قرب في قراءة واط للوثيقة المتعلقة بالعنصرين المثيرين في الدستور الجديد، في “أول دستور في العالم” على قول حميد الله، مترجم هذه الوثيقة إلى الإنجليزية، والناشر لواحدة من صيغتين محققتين لحياة النبي، التي سبق اعتمادها/ ذكرها، سيرة ابن إسحاق (حميد الله، 2017: 4213 – 4215).
في قراءة واط للتجربة التي وثقتها الصحيفة قيد الدرس، أكد في مرحلة أولى على الأساس الديني للأمة الجديدة، ثم في مرحلة ثانية، على أهمية الأرض في عملية التأسيس هذه. هكذا تكون الأرض والدين قد قاما، بالنسبة له، بدل علاقة القرابة وعلاقة الدم التي كانت القبيلة تقوم عليها قبل أن يأتي عليها الإسلام ويطيح بها.
لا شيء يؤكد في تصورنا أن المجتمع الجديد قد تأسس على الدين، ولا على اصطفاء أرض وتقديسها، رغم أنه سيتم فيما بعد، وعلى قدر ما ستتسع مساحة اللاتسامح، كما يقول ماسينيون10 ، تغيير في التصور الإسلامي في هذا الاتجاه. ستؤكد حدس ماسينيون هذا دراسة خصبة ودقيقة لرضوان السيد في مجموع بعنوان: “الأمة، الجماعة والسلطة” (2009)، وبعد بحث مفصل في مفهوم الأمة في المتن العربي الإسلامي، وبعد حده للاستعمالات في ثمانية كرسها التقليد الجاري لهذا المفهوم، يخلص رضوان السيد: ’’ إن هذا التفسير المشهور للأمة الذي يربطها بالدين، والدين الإسلامي بالذات، هو تفسير متأخّر متأثّر بالواقع التاريخي للقضية في مطلع القرن الثاني للهجرة ‘‘. (2011: 51)
بل إن واط نفسه، في تطور تصوره، كما سنقف عليه، وقد اضطره لذلك أكثر من بند من بنود الوثيقة، هو من أعطانا العناصر الواجبة للابتعاد عن تصور متذبذب بل خاطئ كهذا.
عن ترجمة الأمة، وعن
معناها السياسي
كما أتينا على الوقوف على ذلك للتو، فقد سبق لواط أن استخدم تعبيرين سبقت الإشارة اليهما: تأسيس الأمة الجديدة على الدين وإضفاء طابع القداسة على الأرض، أرض المدينة التي أصبحت حرما. ’’بمعنى ما، يقول، فالجديد الأساس الذي أتى به محمد لم يكن البتة جديدا. فما أتى به هو إقامة نوع جديد من التجمع البشري الذي هو التجمع الإسلامي، أو الأمة، المؤسس لا على أواصر الدم، بل على بيعة دينية مشتركة‘‘. (واط، 1958: 528). ويحدد ذلك قائلا: ’’يمكننا القول إن محمدا قد حافظ عموما على المبادئ التي يعتمدها جهاز الأمن العربي السالف كأسس، واجتهد لإصلاح المناحي المشتطة منه‘‘؛ ويضيف: ’’نكتشف في نفس الوقت أن هذه الإصلاحات لا تشكل في الحقيقة جدة فعلية، بقدر ما هي تكييف لأفكار وسلوكات موجودة سلفا‘‘. (م. س.: 524)
في مستوى ثان من تطوره، يشير واط إلى أن سوء الفهم هذا، بين العلم الأوروبي، العلم الاستشراقي، من جهة، وبين -من جهة أخرى- المسلمين، موضوع هذا الفهم الغربي، والذين بالنسبة لهم يحيل المعنى اللغوي المبثوث في جذر مفهوم الأمة/ أم، يحيل على المستقبل11- إن سوء الفهم هذا مصدره الترجمة، بالخصوص ترجمة ما يقصد بالدين، وفهمه في اللغتين معا: لغة الاستشراق ولغة موضوع علم الاستشراق. هكذا، وبما أن ’’العناصر الدينية والسياسية لم تكن مفصولة بعضها عن بعض‘‘، يلاحظ واط أن ما يمكن أن يظهر ’’لعين المحلل الأوروبي (…) قبل كل شيء حركة سياسية‘‘، هو، في الحقيقة، ’’في الحقيقة الشاملة للأحداث‘‘ (م. س.: 385) أكثر تعقيدا، وأكثر غنى من أن يبتسر في واحد من مكوناته. وهو ما يعني أن اختزال الواقع السياسي الديني للإسلام إلى واحد من مكوناته (هنا البعد السياسي)، يوشك أن يمسخه ويجعله غير قابل لأن يعرف على حقيقته، على ما هو عليه.
هذا ما يوقفنا عليه واط انطلاقا/ اعتمادا من مثال آخر، من تمرين آخر على الترجمة: استقاه من مثال الردة، حروب الردة، ردة مجموعة من المسلمين بعد وفاة النبي وتنكرهم لعقيدة الإسلام:
’’في الاتجاه نحو الإسلام، وفي الردة، كانت العناصر السياسية والدينية متداخلة بشكل غير قابل للفصل. فالمؤرخون المسلمون كانوا إذًا على حق في فهمهم للردة كحركة/ موقف من الدين؛ في حين أن العلماء الأوروبيين هم الذين أخطأوا في فهمهم لـ”الدين” بالمعنى الأوروبي وليس بالمعنى العربي. لقد كانت الردة حركة انفصالية عن الجهاز الديني، الاجتماعي، الاقتصادي والسياسي للإسلام، وبالتالي كانت حركة موجهة ضد الإسلام‘‘. (م. س.: 385-386)
هكذا وفي دهشة من القارئ، سيستدرك واط فهم الاختلاف حول جدّة الاسلام، درجة الجدة، درجة العمق التي تسمح أو لا تسمح بالحديث عن جدة على شكل قطيعة أو على شكل استمرار، للإسلام داخل سياقه، سيقرأ حصيلة محمد داخل سياقه وسيلاحظ: ’’فما قام به محمد قد يبدو شيئا بسيطا، ولكن لو فهم في سياق الظروف الخاصة بزمانه، لتبدت عندها التحولات التي أتى بها أنها كانت من الفعالية بحيث أصابت الهدف منها والذي كان تثبيت السلم أقصى ما يمكن داخل المجتمع الجديد‘‘. (م. س.: 530).
ويضيف: ’’(…) قد تبدو إصلاحات محمد في ما يتعلق بهذه القضايا بسيطة الأهمية. إلا أنها، بالأوكد لم تكن ضعيفة المردودية، بل كانت على الحقيقة، عالية الفعالية؛ فعوضا عن فترات الهدوء الحذر وغير الآمن هاهو جهاز يؤمن السلم للمجتمع ويتيح للعرب أن يشتغلوا معا لمدة قرن من الزمن في تدبير مناطق شاسعة، قبل أن تدور دورة الحياة من جديد وتصير الدماء المهدورة أقوى من الإحساس الديني الذي أتى ليحقنها‘‘. (م. س.: 536-537).
ثم يأتي واط في النهاية ليحيي ’’التركيبة الذي عرف محمد كيف يحقق بتوليفها بين التقاليد القديمة والإنجازات الجديدة‘‘ والذي ’’جعل من الطريقة التي اعتمدها محمد في حل هذه المشاكل، ودون أن تكون ثورية، إلا أنه كان لها فعل الثورة ووسمت بداية عهد من الأمان‘‘. (م. س.:537).
هكذا نكون قد وصلنا، لما نعتقد أنه يشكل ضعفا فلسفيا-علميا، نصل لأكبر ما يمكن أن يعاب على القراءات الاستشراقية: ضعف أساسها العلمي. محمد مجدد، محمد مصلح؟ فقط مصلح؟ لم يصل إلى مرحلة التجديد، مرحلة الثورة؟ نقاش لا بد من توضيحه، وإن ليس بالإمكان التفصيل فيه، توضيح أهمية عرضه على سلطة كانط في هذا الباب12؟ الثوار الحقيقيون، من هم؟ هم الذين كثيرا ما يضيعون القضايا الكبرى والنبيلة التي يدافعون عنها جراء تحليلاتهم المختزلة (تبعيضهم وتجزيئهم، بل وتفقيرهم للواقع الذي يتطلعون إلى التأثير فيه) وابتسار تصورهم للتغيير (تغيير لرأس الهرم، للرئيس، للبنية التحتية…)؟ في النهاية افتقاد تحليلهم أن يأخذ في الحسبان غنى الواقع وتعقد الواقع الإنساني، وبالتالي “شمولية الظاهرة” التي أشار إليها واط نفسه؟ أم أن الإصلاحيين هم الثوار والمصلحون على الحقيقة، الذين يمدون أنفسهم بالأدوات الضرورية، متوسلين التربية والتعليم لاستئصال الشرّ وسوء الفهم، والتهيؤ لبروز الأحسن/ الخير (= اليوتوبيا، الفهم الذي يجعل سوء الفهم عرضا يستدعي التجاوز، كأيديولوجيا، كتاريخ)؟ يبدو لنا أنه في هذا الإطار يمكن فهم تردد واط في وصفه لمحمد بالمجدد تارة والذي لم يعدُ أن يكون مصلحا تارة أخرى. ’’فكلّ مؤرّخٍ، يقول باريت، يتناول موضوع بحثه انطلاقًا من تصوّرٍ أساسٍ يستند إلى شخصيته وإلى زمانه، ومن وجهة نظرٍ يعتبرها مهمةً وواعدةً على الخصوص‘‘. (باريت 2009: 245)
لنذكر فقط، على سبيل المثال، أنه لاستئصال جرثومة الثأر النقدية للمجتمعات ما قبل الإسلامية، والتي ورثها الإسلام، كان يلزم كل “البصيرة”، “حس التربية”13 لدى محمد ليتم حظر هذا السلوك، وجعله يخبو من تلقاء نفسه ويختفي. يلخص واط هذا التدرج قائلا: ’’منذ البداية إذًا، وهذه ستكون خلاصتنا، فالنظام الأمني الساري في المدينة يعتمد مبدأ الثأر للدم بالدم (…) قاعدتان اثنتان تم إعلانهما أو إعادة إعلانهما، فكان الالتزام الصارم بهما كافيا للحؤول دون تراكم الأحقاد التي تغري بالثأر وبتكاثره (…) لقد كان من الفضيلة، كما أعلن، أن يتم الاكتفاء بعقوبة أضعف من الخطأ، بل إن الأفضل منهما معا هو العفو التام. في هذا المستوى كانت المثالية الإسلامية على طرفي نقيض مع المثالية العربية ما قبل الإسلامية. علاوة على أن المثالية الإسلامية تتضمن في ثناياها مفهوم المساواة بين أعضاء المجتمع‘‘. (واط، 1958: 532).
إن الحل البيداغوجي الذي اعتمده نبي الإسلام لقطع دابر الثأر، يؤكد على فضيلة العفو والمغفرة، التي يسعى كل مسلم أن يتمثل بها ليتشبه ويقترب من واحدة من 99 صفة التي تخص الله، ألا وهي فضيلة العفو. وقد ورد في الأثر الحضّ على هذه الفضيلة بالتذكير: “ألا تحبون أن يعفو الله عنكم”! غير أن العفو ما كان ليتم لولا ما يستوجبه من المسؤولية الفردية، وهو ما يميز جذريا الأخلاق الإسلامية عن أخلاق القبيلة. في الإسلام لا أحد يؤخذ بجريرة أحد، كما نص على ذلك واحد من بنود دستور المدينة. وبالمناسبة فهذا البند، الذي يؤكد على الإخلاص في العلاقات واحترام الكلمة المعطاة، “إن العهد كان مسؤولا” كما ورد في القرآن، والتي تكرّرت في الوثيقة على وجازتها أكثر من مرة، ستؤدي إلى سوء فهم كبير بين المؤرخين في فهم تأويل قام به النبي ونتج عنه ارتكاب مذبحة في حق اليهود (بين 500 و700) 14 قبل النفي النهائي لهم أو لمن بقي منهم خارج المدينة.
إذًا ما يبدو لنا في توافق تام مع منطق بحث واط وليس مع نتائجه، أن الحس التربوي العالي هو ما سمح لمحمد أن يكون قيمة مضافة في عالم القيم، وفي أعلى رتبة لتحقيق الإنسانية فينا15. هذا ما يعتقده المسلمون على الأقل. هذه الحكمة العملية كمنت في عدم المواجهة الصدامية مع جرثومة الثأر، وهي سلوك مقوض لكل تجمع بشري. نفسها هذه الحكمة، مدار الخلاف بين المؤرخين، وقد أملاها سياق آخر، ستكون صارمة تجاه خيانة اليهود، حلفاء المسلمين بمقتضى دستور المدينة. عن التباس تأويلات المحدثين، نحن المحدثين، لرد فعل النبي (رد فعل برره واط وباريت16 )، وسلوكه تجاه اليهود، تجاه خيانة اليهود، نقترح ختم هذه المقالة.
نهاية التعايش مع اليهود ونشأة اليوتوبيا
مر تعايش المسلمين مع اليهود، كعضو أساس في التحالف، زمن النبي، عموما بثلاثة مراحل: في البداية كان هناك أمل في إقامة فيدرالية المؤمنين، أبناء إبراهيم، والتي كانت مؤشرات عليها استعمال كلمة “مؤمنين” بدل مسلمين في وثيقة الدستور. لقد كان هذا الأمل من الكبر، بحيث إن عمق الإحباط من الموقف العدائي لليهود، في أعين النبي، انتهى بتفجير التحالف وإنهاء الوجود اليهودي بالمدينة. لقد كان الامتناع عن المساهمة في مصاريف الحرب كما نص عليه دستور المدينة، النقطة التي أفاضت الكأس.
’’ففي عين النبي، يلخص واط، كان اليهود والمسلمون إخوة في الدين ومن ثمة كان لزاما عليهم أن يقدموا مساهمتهم العينية المباشرة من أجل نصرة قضية النبي. وإذ لم يكن ذلك كذلك، فعلى الأقل توقع قرضه المال دون سؤال الفائدة. بهذه الطريقة، صارت مسألة الفائدة وجها من أوجه الخلاف الذي أقام محمد ضد اليهود، هؤلاء الذين لم يعترفوا بنبوته‘‘. (واط، 1958: 568)17
في الحقيقة، ونحن لا نريد أن نغرق موضوعنا في التفاصيل، يبدو لنا أن حقيقة الصراع هو أن محمدا بقدر ما صار حضوره يتقوى ومساحة الإنصات له تكبر وتتسع، بقدر ما صار اليهود يتخوفون على رصيدهم من المشروعية التي شكلها لهم سبقهم الديني والأخلاقي. وبالتالي فلقد كان شبه طبيعي أن يبدؤوا في التحايل والغش18 في تأويل بنود الاتفاق مع المسلمين19. بدأت هذه المرحلة الحرجة مع بني قينقاع (624)20 الذين تحالفوا مع قريش عدو محمد الأول. قريش التي ضربت حصارا على المسلمين لمدة شهر، حسب ابن إسحاق21، والذي كاد أن يأتي على الدين الجديد والمجتمع الناشئ. ومن ثمة كانوا أول من أخرج من المدينة، بعد انتصار المسلمين، في معركة بدر، على قريش حليف بني قينقاع. أعقبهم، سنة بعد ذلك (625) خروج بني النضير22. في الحالتين معا لم تكن هناك حرب، وإنما كان هناك حصار ضربه النبي على كل من القبيلتين. على إثره وقفت القبيلتان معا على قوة الدين الناشئ، فقبلت مغادرة المدينة. خلافا لهذا المثال، ستكون نهاية الحلف مع بني قريظة23 مأساوية: كلهم مروا بحد السيف، باستثناء النساء، إلى جانب الأطفال، من بينهم واحدة ستصير زوجة للنبي. غير أن باريت يشير: ’’وما اتخذ النبيّ محمّد القرار بشأنهم بنفسه‘‘ وإنما ’’عهد بذلك إلى سعد بن معاذ، وهو رجل محترمٌ من الجميع ومن زعماء قبيلة الأوس، الذين كانوا حلفاء لبني قريظة في الجاهلية‘‘ (2009: 198)24 على ما تقتضيه أعراف البدو في ذلك العصر. وهو ما تؤكده التفاصيل التي يمدّنا بها المؤرخون، واط من ضمنهم.
لا يمكننا إلا أن نقتفي أثر واط في تأملاته عن مجرى آخر للتاريخ، لهذا التاريخ، لهذا التحالف بين اليهود والمسلمين. هكذا وهو يختصر ما كان من خلاف عقائدي غير قابل للتجاوز بين المسلمين واليهود25، يتساءل واط، ونحن معه: ماذا لو أن الشعب المختار قَبِل اليد الممدودة له من طرف الإسلام الأول، مرغما المسلمين بهذا السلوك، أن يكونوا وسيلته لتحقيق النموذج اليهودي (الأيديولوجيا، المثالية اليهودية)، ممكنا بذلك الإنسانية أن تكون كلها شعب الله المختار، جزءا من شعب الله المختار26؟ يوتوبيا! لا شيء أكثر من يوتوبيا تمكن التاريخ من أن يكون ما هو عليه كتاريخ، مجلى للصراعات.
الهوامش
مقالة نشرت أول مرة بالفرنسية في مجلة ديوجين:
Maouhoub, Mohamed. « Utopie et histoire. Esquisse du cas de l’Islam », Diogène, vol. 273-274, no. 1-2, 2021, pp. 147-161.
لا يتّفق الباكستاني فضل الرحمن (2013: 261) مع هذا الرأي:
’’فالمصدر الأساسي والإرباكي في النظر للسيرة النبوية والقرآن نظرة تفصل فصلًا قاطعًا بين فترتين، الفترة المكية والفترة المدنية، التي أضحى معظم الباحثين المعاصرين مدمنين عليها… ذلك أن الدراسة المُعمقة للقرآن تكشف عن تطوّر تدريجي وانتقال سلس…‘‘.
Grünbaum (1962: 86): «les particularités et le langage de ses visions, des phrases courtes, rythmiques, rimant pour la plupart, pleins de mots rares et d’images d’intrigantes».
يقول إيجناس جولدتسيهر: ’’ما أعظم الفرق بين سجع السور المكية وسجع السور المدنية‘‘ (22)، ’’بدهي أن التغيير الذي حدث في الطابع النبوي لمحمّد؛ قد أثّر في أسلوب القرآن الأدبي‘‘ (21)؛ ’’والبحث النقدي والبلاغي للقرآن يُبرّر هذا التمييز بوجهٍ عام‘‘ (21).
(العقيدة والشريعة في الإسلام، تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي، نقله إلى العربية وعلق عليه: محمد يوسف موسى وآخرون، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013)
’’تمّت دعوة النبي للقدوم إلى يثرب بشمال مكة‘‘. (غرونباوم، 1962: 89)
’’شكّلت العشر سنوات التي قضاها النبي في المدينة، وربما الثلاثون سنة التي تلت موته أيضًا، العصر الذي اقترب فيه المجتمع الإنساني من الكمال بقـدر ما يُمكننا أن نُمنّي النفس‘‘. (نفسه: 158)
تمت العودة إلى سيرة النبي محمد المكتوبة من طرف ابن إسحاق في النشرات الآتية:
سيرة ابن إسحاق، المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق محمد حميد الله، تقديم محمد الفاسي، سلسلة معهد الدراسات والأبحاث والتعريب، فاس/ المغرب، 1976؛
السيرة النبوية لابن إسحاق، في جزأين، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004.
في النشرتين معا، لا تظهر صحيفة دستور المدينة. ابن هشام، الذي سبق ذكره، هو الذي أورد نص ابن إسحاق، السابق عليه والمتوسط سنة ١٥١ للهجرة.
’’[…] كانت المدينة في طور الانتقال من حياة الرحل إلى سلوكيات مجتمع فلاحي، وإنه لمن اليقين افتراض افتقاد معين للتجانس‘‘. (واط، 1958: 390).
ويقول واط عن الوثيقة: ’’نجد في الوثيقة عموما في هذا النص الوصف البياني للمجتمع في طور الانتقال من سلوكيات تعتمد أواصر الدم إلى سلوكيات مشكلة انطلاقا من محليات/ مناطقية‘‘. (1958: 400).
’’يحتاج المسلمون معرفة، الإعلان وإظهار أن هناك في محل ما على هذه الأرض خليفة للمسلمين، لا يتعلق إلا بالله (…) ليس بالضرورة أن يصبحوا من رعاياه، ولكنهم يحرصون على الدعاء له، حتى تبقى حقيقة رمزية خلافة معتقدهم قائمة، في نظر الجميع على هذه الأرض‘‘. (ماسينيون، 1920: 12-13).
«اتسع حرم مكّة (والمدينة) تدريجيًا مع تفـشّــي اللاتسـامح» (نفسه: 18).
«في أفق تحقق مفتوح ومستمر» (57)؛ «الأفق الجديد للمسألة» (59).
يُنهي كانط صراع الكليات بالاستراحة التالية: ’’تتولى الدولة إصلاح نفسها بنفسها، وهي في محاولتها تلك عبر التطور لا الثورة، تتقدم باستمرار. […] أما في ما يمكن أن ينتظر من الناس في هذا المضمار، فلا يمكن أن يعتمد، من أجل السير نحو هذه الغاية، سوى على حكمة سالبة/ مقاومة (…) محاولة جعل الحرب (…) أولا أكثر فأكثر إنسانية/ أقل فأقل حيوانية، ثم ثانيا جعلها أكثر فأكثر ندرة، وأخيرا تحريمها مطلقا كحرب هجومية‘‘. (كانط، 1990: 221)
’’لقد كان محمد رجل دولة على قدر كبير من الحكمة (…) وكان صاحب استراتيجية سياسية استشرافية (…) كما كان إداريا محنكا‘‘. (واط، 1958: 614)
قال ابن إسحاق: ’’(…) ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق به خنادق، ثمّ بعث إليهم، فضرب أعناقهم (…) وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة (…)‘‘. (ج.2، ص. 415)
’’لم تتم دراسة شخصية محمد، حتى الآن، إلا انطلاقا من المبادئ الأخلاقية لزمانه، إلا أن هناك مع ذلك طريقة أخرى في الحكم عليه عبر القواعد الأخلاقية الكونية‘‘. (واط، 1958: 611). ويتساءل واط أيضا: ’’هل يعطي نبي المسلمين بسيرته نموذجا ممكنا للإنسان المثالي الذي يعيش في عالم بقيم أخلاقية موحدة؟‘‘. (ن. م.: ص. 612)
’’وقبل كلّ شيء، يؤكّد باريت، يكون علينا باعتبارنا مؤرخين ألا نقع في خطأ قياس النبيّ على المسيح […]‘‘. (باريت: 2009: 248)؛ ’’من وجهة النظر الأخلاقية فإن هذه العمليات [التي قام بها محمّد] تستحقّ الاستنكار والإدانة. لكننا نستطيع أن نتساءل أيضًا عن ردّة فعل المعاصرين للنبيّ، وهل استنكروا تلك الفِعلة كما نستنكرها نحن؟ الغالب أنّهم لم يفعلوا ذلك‘‘. (ن. م.: 252-253).
أما بالنسبة لواط، فهو يؤكد: ’’في كل ما يبدو من شطط مرتكب من طرف النبي، باستثناء أحداث النخلة، لا شيء أمكنه أن يقض ضمير أصحابه. لا يمكن لهذا الإقرار إلا أن يبدو صعب التصديق بالنسبة للأوروبيين، إلا أنه يمكننا بهذه الطريقة أن نقف على المسافة التي تفصل بيننا وبين المثال الأخلاقي في الجزيرة العربية القديمة. (…) لقد كانوا في جهل تام بقانون أخلاقي كوني على طريقة كانط‘‘. (واط، 1958: 605)
’’هناك ما يبرر التفكير بأنه في لحظة ما، إبان السنة الأولى أو الثانية بالمدينة، (ليس بالضرورة في الشهور الاولى)، يكون قد خطر ببال محمد تشكيل مجتمع ديني وسياسي يعطي وحدة للأمة الإسلامية، دون أن يوجب على اليهود ترك عقيدتهم أو يعترفوا بمحمد نبيا مُرسلا برسالة إلهية‘‘. (ن. م.: 449-450)
’’انطلاقا من خيبر استمر بعض اليهود في مناوشة أهل المدينة، ولعبوا دورا كبيرا في إقامة حلف كبير أتى لمحاصرة المدينة في أبريل 627 (السنة الخامسة للهجرة)‘‘. (ن. م.: 464)
’’ حتى غزوة بدر، فإن حظوظ نجاح محمد كانت ضعيفة ولربما اعتقد اليهود أن وضعهم كان سيكون أحسن لو عاد الأمر لما كان عليه قبل مجيء محمد‘‘. (ن. م.: 451)
’’الحدث الأول المسترعي للانتباه هو حصار ونفي حلف بني قينقاع. وبرجوعه من معركة بدر (…) لعب بعض اليهود مقلبا لامرأة عربية (…) مشغولة ببيع بضاعتها (…) تمكن يهودي من تثقيف جانب من كسوتها حتى إذا ما قامت ظهرت مؤخرتها‘‘. (ن. م.: 459-460)؛ يتحدث واط عن ’’مناورات دبلوماسية أُقيمت ضد محمد‘‘ (ن. م.: 470)
’’فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأقام عليه المشركون بضعًا وعشرين ليلة قريبًا من شهر‘‘. (السيرة النبوية، مرجع سابق، ج.2، ص. 399).
’’منذ الشهر الثالث من السنة الرابعة للهجرة، منذ نهاية غشت، أو بداية شتنبر 625، تم نفي حلف يهودي آخر، حلف بني النضير، من المدينة‘‘. (ن. م.: 462)
’’لقد اتجه محمد، أول ما تخلص من أعدائه، إلى الهجوم على بني قريظة ليظهر أن الدولة الإسلامية الناشئة لا يمكنها السماح بموقف مريب بهذا الشكل‘‘ (ن، م.: 465)
«أحسن في مواليك» بعبارة ابن إسحاق (2019، ج. 2، 214).
’’(…) كان السبب الأساسي للصراع بين اليهود والمسلمين سبب عقدي‘‘. (واط، 1958: 473)
’’يمكننا أن نخمن ما كان يمكنه أن يكون لو أن اليهود تحالفوا مع محمد، بدل أن يجعلوا من أنفسهم أعداء له. في مراحل معينة، كان بإمكانهم أن ينالوا منه تنازلات جد مهمة بالنسبة لهم، بما فيها الاستقلال الديني، وعلى هذا الأساس كان يمكن أن تقوم امبراطورية عربية، وكان اليهود سيشكلون جزءا منها، وكان الإسلام سيكون نحلة يهودية. كم كان وجه العالم سيكون الآن مخالفا لما هو عليه! (…) فرصة ثمينة ضاعت‘‘. (ن. م.: 472)